خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [3]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فصل: الثاني: رضاهما إلا البالغ المعتوه والمجنونة والصغير والبكر ولو مكلفة لا الثيب، فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجهم بغير إذنهم، كالسيد مع إمائه وعبده الصغير، ولا يزوج باقي الأولياء صغيرةً دون تسع، ولا صغيرًا ولا كبيرةً عاقلة، ولا بنت تسعٍ إلا بإذنهما، وهو صمات البكر ونطق الثيب.
فصل: الثالث: الولي، وشروطه: التكليف والذكورية والحرية والرشد في العقد، واتفاق الدين سوى ما يذكر والعدالة، فلا تزوج امرأة نفسها ولا غيرها، ويقدم أبو المرأة في إنكاحها، ثم وصيه فيه، ثم جدها لأب وإن علا، ثم ابنها ثم بنوه وإن نزلوا، ثم أخوها لأبوين ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم عمها لأبوين ثم لأب، ثم بنوهما كذلك، ثم أقرب عصبته نسبًا كالإرث، ثم المولى المنعم، ثم أقرب عصبته نسبًا، ثم ولاء، ثم السلطان، فإن عضل الأقرب أو لم يكن أهلًا أو غاب غيبةً منقطعةً لا تقطع إلا بكلفة ومشقة زوج الأبعد، وإن زوج الأبعد أو أجنبي من غير عذر لم يصح ] .
تقدم لنا ما يتعلق بأركان النكاح، وذكر المؤلف رحمه الله أن أركانه ركنان:
الأول: الزوجان، والثاني: الصيغة (الإيجاب والقبول) وقلنا: هل يشترط في لفظ الإيجاب أن يكون بلفظ الإنكاح أو التزويح؟
ثم بعد ذلك شرعنا في ذكر شروط صحة النكاح، وأن الشرط الأول: تعيين الزوجين وذكرنا دليل ذلك، وأن التعيين يحصل بواحد من أمورٍ أربعة ذكرها المؤلف رحمه الله تعالى: إما أن يسمها باسمها، أو أن يصفها بما تتميز به، أو أن يشير إليها، أو أن يكون التعيين بالواقع، تقدم الكلام على هذه المسائل.
ثم بعد ذلك شرعنا في الشرط الثاني: وهو رضا الزوجين، وذكرنا ذلك، وأن الفقهاء رحمهم الله تعالى يستثنون بعض الأزواج ممن لا يشترط رضاه، وأخذنا الأول: وهو البالغ المعتوه فلا يشترط رضاه، وكذلك المجنون فرضاه غير معتبر، وكذلك المجنونة ورضاها غير معتبر أيضاً، والصواب أن هؤلاء يزوجون عند الحاجة، وأن التزويج ليس خاصًا بالأب ووصيه في النكاح.
رضا الصغير
هذا هو القسم الرابع ممن لا يعتبر رضاه، والمراد به من دون البلوغ، فهذا الصغير إذنه غير معتبر، إذ إن عبارته ملغاة، وجمهور أهل العلم على أن الصغير يزوج، واستدلوا على ذلك بما ورد أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما زوج ابنه وهو صغير، فاختصموا إلى زيد فأجازه.
والرأي الثاني: أنه إذا كان مراهقاً -يعني: قارب البلوغ- لا يجبر على النكاح ولا يزوج إلا برضاه، والصواب في هذه المسألة أن يقال: تزويج الصغير جائز ولا بأس به، بل ذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى بأنه لا يعلم خلافًا بين أهل العلم أن لأبيه أن يزوجه، فالصواب أنه يزوج لكن يقيد ذلك بما إذا كان عند الحاجة، ويستثنى من ذلك ما إذا راهق وقارب البلوغ فإنه لا يزوج إلا برضاه كما هو الرأي الثاني عند الحنابلة رحمهم الله تعالى.
وهل التزويج خاصٌ بالأب ووصيه أو لا؟ المؤلف يقول: (فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم) ظاهر كلام المؤلف أن التزويج خاص بالأب ووصيه في النكاح، والرأي الثاني رأي الحنفية وهو أنه ليس خاصًا، وأن سائر الأولياء يزوجان الصغير، وهذا القول هو الصواب شرط أن يكون هناك حاجة.
رضا البكر
هذا هو القسم الخامس ممن لا يعتبر رضاه، والبكر تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن تكون صغيرة دون تسع سنوات فهذه لا إذن لها ولا رضا؛ لأن عبارتها ملغاة، وجمهور أهل العلم على أنه لا بأس أن تزوج هذه الصغيرة، حتى ولو كان لها سنة أو سنتان ونحو ذلك، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] يعني: أن التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، ويشمل هذا ما إذا كانت لم تحض لصغر، واستدلوا أيضًا بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وعقد عليها ولها ست أو سبع سنوات، وهذه صغيرة بلا شك.
والرأي الثاني: أن الصغيرة لا تزوج، وهذا حكاه ابن حزم عن ابن شبرمة رحمه الله تعالى، وأنها لا تزوج حتى تبلغ وتأذن، ودليل ذلك ما تقدم من الأدلة على أنه يعتبر رضا المرأة، وإذا كان كذلك فإنه لا يمكن الرضا وهي صغيرة، وأما قول الله عز وجل: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] فهذا لا يلزم أن تكون صغيرة، فقد تكون بلغت السن المعتبر للبلوغ وهي لم تحض، فإذا طلقت من بلغت -مثلاً- عشرين سنة وهي لم تحض فإن عدتها بالأشهر كما في الآية.
وأما زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله تعالى عنها فهذا أجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة، منها أن هذا كان في أول الأمر قبل المنع من اعتبار رضا البكر، أو أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له خصائص، وخصوصًا فيما يتعلق بالنكاح، فله أن يتزوج المرأة بالهبة، وله أن يتزوج أكثر من أربع، وله أن يتزوج الصغيرة.
وما ذهب إليه ابن شبرمة رحمه الله تعالى يظهر -والله أعلم- أنه أحوط للمرأة، وأبعد عن التلاعب؛ لأنه قد يحصل شيء من التلاعب في تزويج الصغيرات، فنقول: ينتظر حتى تبلغ، أو حتى تعرف مصالح النكاح، فإذا عرفت مصالح النكاح فإنه يعتبر رضاها حينئذٍ، وهذا الذي يظهر في هذه المسألة والله أعلم.
والجمهور يستدلون بوروده عن بعض الصحابة، فـعلي رضي الله تعالى عنه زوج عمر بن الخطاب أم كلثوم وهي صغيرة، وكذلك أيضًا قدامة بن مظعون تزوج ابنة الزبير ، لكن يفرق بين حال الصحابة وبين الحال في مثل هذه الأزمان، ففي هذه الأزمان قد يكون ذلك محلًا للتلاعب بالنساء ونحو ذلك.
القسم الثاني: أن تكون البكر قد بلغت، وأكثر أهل العلم على أن رضاها لا يعتبر، وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة في الجملة، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها ما تقدم من زواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي صغيرة، قالوا: هذا دليل على أنه لم يعتبر رضا عائشة ، وإلا لانتظر ذلك إلى أن تبلغ، واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس في مسلم : ( الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن )، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( الأيم أحق بنفسها من وليها ) يفهم منه: أن ولي البكر أحق بها من نفسها.
وهذا رأي الجمهور في الجملة، وإن كانوا يشترطون بعض الشروط.
الرأي الثاني: رأي الحنفية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن البكر البالغة لا بد من رضاها وإذنها، واستدلوا على هذا بأدلة منها: حديث خنساء بنت خدام : ( أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فرد نكاحها ) ، وكذلك أيضاً حديث عبد الله بن بريدة : ( أن فتاةً جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها من ابن أخيه لكي يرفع بها خسيسته، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها ) وهذا في السنن.
فيظهر -والله أعلم- أنه لا بد من رضا البكر، لكن لو زوجت البكر بدون رضاها، فالذي يظهر -والله أعلم- من حديث عبد الله بن بريدة أن العقد صحيح، وأننا نجعل الخيار للمرأة فيكون هذا من باب تصرف الفضولي، إن أجازت المرأة النكاح نفذ، وإن لم تجزه لا ينفذ.
القسم الثالث من أقسام البكر: التي بلغت تسع سنوات، وقد تقدم أن الجمهور يرون أنها تزوج؛ لأنهم يرون أن من دون التسع تزوج فهذه من باب أولى، والرأي الثاني رأي ابن شبرمة : أنها لا تزوج حتى تبلغ وتأذن، لكن إذا قلنا بأنها تزوج فالذي يظهر -والله أعلم- أن رضاها معتبر، وأما المذهب فإنه لا يعتبر رضاها كما تقدم، وهذا رأي أكثر أهل العلم رحمهم الله.
والصواب في هذه المسألة: أنه يعتبر رضاها إذا عرفت مصالح النكاح.
رضا الثيب
هذا هو القسم السادس ممن لا يعتبر رضاه وهو: الثيب، وهي التي زالت بكارتها بوطءٍ في القبل إما في نكاح صحيح أو بزنا مع رضا، يعني: ليست الثيب من زالت بكارتها مطلقًا؛ لأن البكارة كما قال العلماء رحمهم الله قد تزول بشدة الحيضة، وقد تزول بسبب المرض، وقد تزول بعبث المرأة، وقد تزول بالجناية على المرأة، المهم: أن البكارة قد تزول بعدة أشياء، فليست كل من زالت بكارتها بأنها ثيب، وأما التي زالت بكارتها بسبب الزنا مع الإكراه أو بسبب أمر آخر كما ذكرنا فهذه في حكم البكر.
والثيب تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يتم لها تسع سنوات، فهذه لا يجوز أن تزوج إلا بإذنها، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس كما تقدم: ( الأيم أحق بنفسها من وليها ) .
القسم الثاني: أن يكون لها أقل من تسع سنوات، كما لو كان لها سبع سنوات أو لها ثمان سنوات، فالمشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله: أنه لا يعتبر رضاها، وأن لأبيها أن يزوجها بلا رضاها، والصواب في هذه المسألة: أن الثيب يعتبر رضاها، وأن أباها لا يزوجها إلا برضاها، وعلى هذا نقول: إذا كان لها أقل من تسع سنوات فإنها لا تزوج حتى تعرف مصالح النكاح، فإذا عرفت مصالح النكاح فإنه يعتبر رضاها وإذنها.
رضا الرقيق
هذا هو القسم السابع ممن لا يعتبر رضاه: السيد مع إمائه، فيؤخذ من كلام المؤلف رحمه الله: أن السيد مع إمائه له أن يجبر إماءه على النكاح وأنه لا يعتبر رضا الإماء، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى. وظاهر كلامه أن الأمة سواء كانت بكراً أو ثيباً فلسيدها أن يجبرها على النكاح، وعلتهم في ذلك: أن الإماء عبارة عن مال وأن السيد يملك تمام التصرف في ماله.
والرأي الثاني وهو قول الإمام مالك رحمه الله في آخر أمره: أنه لا يملك أن يجبرهن، بل لا بد من رضاهن، وهذا أيضًا قول الظاهرية، وهو الصواب للعمومات، وقد سبق أن ذكرنا قاعدة وهي الأصل تساوي الأحرار والأرقاء في الأحكام البدنية المحضة إلا لدليل، وسبق أن ذكرنا أن أوسع الناس في تطبيق هذه المسألة هم الظاهرية.. فهم دائماً يلحقون الرقيق بالحر، إلا ما دل الدليل على استثنائه.
قال رحمه الله: ( كالسيد مع إمائه وعبده الصغير ).
هذا هو القسم الثامن ممن لا يعتبر رضاه: السيد ما رقيقه الصغير، فله أن يزوجه بلا رضاه، وإذا كان الأب يملك أن يزوج ابنه وهو صغير فلأن يملك السيد أن يزوج رقيقه الصغير من باب أولى، وتقدم أن قلنا: إن الأب له أن يزوج ابنه الصغير كما يقوله جمهور أهل العلم بناء على فعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأن ابن قدامة حكى أنه لا يجد في ذلك خلافًا بين أهل العلم رحمهم الله.
وذكرنا الرأي الثاني في هذه المسألة: وأن الصغير إذا راهق فإن أباه لا يملك أن يجبره، لكن أمر الرقيق أخف من أمر الولد؛ لأن كلفة الرقيق المادية على سيده، بخلاف الصغير إذا زوجه أبوه فإن كلفته المادية تكون على أبيه.
وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في قوله: (وعبده الصغير) أن السيد لا يملك أن يجبر عبده الكبير البالغ على النكاح إلا بإذنه، وهذا هو الصواب؛ لأنه لا بد من الرضا كما تقدم، وسبق أن أشرنا إلى القاعدة.
رضا الصغير بالنسبة لباقي أوليائه
يعني بباقي الأولياء: غير الأب ووصيه في النكاح، كما لو كانت هذه المرأة يتيمة، فهذه لا تجبر على النكاح ولا بد من رضاها، ولهذا قال المؤلف: ( صغيرةً دون تسع ) هذه واحدة.
وباقي الأولياء كالأخ والعم والجد وغير ذلك ليس لهم أن يزوجوا الصغيرة دون تسع سنوات.
قال رحمه الله: ( دون تسع ).
يؤخذ من كلامه: أن الأولياء يزوجون اليتيمة إذا بلغت تسعاً، فاليتيمة إذا كانت أقل من تسع فلا تزوج بالنسبة لباقي الأولياء، لكن إذا بلغت تسع سنوات فلأخيها.. ولجدها.. ولعمها وباقي الأولياء أن يزوجوها، لكن بشرط: أن تعرف مصالح النكاح، وإلا فالأحوط ألا تزوج حتى تبلغ؛ لأن اليتيمة قد منع النبي صلى الله عليه وسلم من تزويجها إلا بإذنها؛ لحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تستأمر اليتيمة في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها، وإن أبت لم تكره ) .
إذاً: الصغيرة دون تسع لا تزوج مطلقًا ما دامت يتيمة، فإذا بلغت تسعًا فيفهم من كلام المؤلف أنه يعقد عليها، لكن الصواب أنه لا بد أن تعرف مصالح النكاح، أو ينتظر حتى تبلغ.
قال رحمه الله: (ولا صغير).
يعني: دون البلوغ مطلقًا، فلا يملك الأولياء أن يزوجوا الصغير الذكر ولو كان محتاجاً كمن ماتت أمه فيحتاج إلى من يرعاه، والصحيح أنهم عند الحاجة يملكون التزويج، لكن قال بعض العلماء: لا بد من إذن القاضي، وهذا أحوط.
رضا الكبيرة بالنسبة لباقي الأولياء
هذا الثالث ممن لا يملك الأقارب تزويجه بدون رضاه، يعني: إذا كانت التي توفي أبوها كبيرة قد بلغت وليست مجنونةً فهذه لا تزوج إلا بإذنها ولا يملك بقية الأولياء أن يجبروها، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في قوله: ( عاقلة ) إلى آخره: أن المجنونة يمكن لبقية الأولياء أن يزوجوها، وهذا ظاهر؛ لأنها قد تحتاج إلى النكاح.
قال رحمه الله: ( ولا بنت تسع إلا بإذنها ).
وهذا قد تكلمنا عنه لكن اشترطنا أن تكون بنت التسع ممن يعرف مصالح النكاح، وهم يقيدون الأمر ببلوغ تسع سنوات؛ لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: ( إذا بلغت الجارية تسع سنوات فهي امرأة ) لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن يقيد ذلك بأن تعرف مصالح النكاح.
كيفية معرفة رضا المرأة
يعني: الإذن فيمن يعتبر إذنها وهي البكر أن تصمت، ودليل ذلك حديث أبي هريرة في الصحيحين: ( قالوا: يا رسول الله! وكيف إذنها؟ قال: أن تسكت ).
ولو تكلمت البكر هل هو إذن أو ليس إذنًا؟ نقول: نعم هو إذن، ومثل ذلك أيضًا: لو دلت القرائن على الرضا، المهم أن القاعدة في ذلك: أن تسكت سكوتًا يدل على الرضا، فلا بد أن تقوم القرينة على أنها راضية بهذا الزوج، لأنها قد تسكت وهي غير راضية؛ لما عندها من الحياء، وقد تتكلم، المهم أنه لا بد من الدليل على الرضا، فإن كان هذا السكوت فيه ما يدل على أنها راضية اعتبر، وإلا فإنه لا يكون دليلًا على الرضا.
ومثله أيضاً لو بكت أو ضحكت أو نحو ذلك، فهذا كله نرجع فيه إلى القرائن؛ لأنها قد تكون بكت رضًا بالزوج وليس ردًا له وإنما كراهة مفارقة بيتها ونحو ذلك.
قال رحمه الله: ( ونطق الثيب ).
يعني أن الثيب لا بد أن تنطق، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تستأمر اليتيمة )، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تنكح الأيم حتى تستأمر ) من حديث أبي هريرة في الصحيحين، يعني: تشاور ويؤخذ أمرها في الزواج، فنقول: الثيب لا بد من نطقها، والفرق بين الثيب وبين البكر: أن الثيب قد جربت الرجال فزال عنها شيء من الحياء، بخلاف البكر.
ومما يعتبر في الاستئذان عندما تستأذن المرأة: أن يسمى الزوج تسميةً تقع به المعرفة، فلا يقال: خطب فلان فقط، بل يقال: خطب فلان ابن فلان ابن فلان، وهو من الأسرة الفلانية، ومتعلم أو غير متعلم، ويعمل كذا أو ليس عنده عمل إلى آخره، وخلقه كذا، ودينه كذا، فلا بد من بيان ذلك على وجهٍ تقع به المعرفة.
ثم قال رحمه الله تعالى: ( والصغير ).
هذا هو القسم الرابع ممن لا يعتبر رضاه، والمراد به من دون البلوغ، فهذا الصغير إذنه غير معتبر، إذ إن عبارته ملغاة، وجمهور أهل العلم على أن الصغير يزوج، واستدلوا على ذلك بما ورد أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما زوج ابنه وهو صغير، فاختصموا إلى زيد فأجازه.
والرأي الثاني: أنه إذا كان مراهقاً -يعني: قارب البلوغ- لا يجبر على النكاح ولا يزوج إلا برضاه، والصواب في هذه المسألة أن يقال: تزويج الصغير جائز ولا بأس به، بل ذكر ابن قدامة رحمه الله تعالى بأنه لا يعلم خلافًا بين أهل العلم أن لأبيه أن يزوجه، فالصواب أنه يزوج لكن يقيد ذلك بما إذا كان عند الحاجة، ويستثنى من ذلك ما إذا راهق وقارب البلوغ فإنه لا يزوج إلا برضاه كما هو الرأي الثاني عند الحنابلة رحمهم الله تعالى.
وهل التزويج خاصٌ بالأب ووصيه أو لا؟ المؤلف يقول: (فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم) ظاهر كلام المؤلف أن التزويج خاص بالأب ووصيه في النكاح، والرأي الثاني رأي الحنفية وهو أنه ليس خاصًا، وأن سائر الأولياء يزوجان الصغير، وهذا القول هو الصواب شرط أن يكون هناك حاجة.
قال رحمه الله: (والبكر ولو مكلفةً).
هذا هو القسم الخامس ممن لا يعتبر رضاه، والبكر تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن تكون صغيرة دون تسع سنوات فهذه لا إذن لها ولا رضا؛ لأن عبارتها ملغاة، وجمهور أهل العلم على أنه لا بأس أن تزوج هذه الصغيرة، حتى ولو كان لها سنة أو سنتان ونحو ذلك، واستدلوا على ذلك بقول الله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] يعني: أن التي لم تحض عدتها ثلاثة أشهر، ويشمل هذا ما إذا كانت لم تحض لصغر، واستدلوا أيضًا بحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وعقد عليها ولها ست أو سبع سنوات، وهذه صغيرة بلا شك.
والرأي الثاني: أن الصغيرة لا تزوج، وهذا حكاه ابن حزم عن ابن شبرمة رحمه الله تعالى، وأنها لا تزوج حتى تبلغ وتأذن، ودليل ذلك ما تقدم من الأدلة على أنه يعتبر رضا المرأة، وإذا كان كذلك فإنه لا يمكن الرضا وهي صغيرة، وأما قول الله عز وجل: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4] فهذا لا يلزم أن تكون صغيرة، فقد تكون بلغت السن المعتبر للبلوغ وهي لم تحض، فإذا طلقت من بلغت -مثلاً- عشرين سنة وهي لم تحض فإن عدتها بالأشهر كما في الآية.
وأما زواج النبي صلى الله عليه وسلم من عائشة رضي الله تعالى عنها فهذا أجاب عنه العلماء رحمهم الله بأجوبة، منها أن هذا كان في أول الأمر قبل المنع من اعتبار رضا البكر، أو أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم له خصائص، وخصوصًا فيما يتعلق بالنكاح، فله أن يتزوج المرأة بالهبة، وله أن يتزوج أكثر من أربع، وله أن يتزوج الصغيرة.
وما ذهب إليه ابن شبرمة رحمه الله تعالى يظهر -والله أعلم- أنه أحوط للمرأة، وأبعد عن التلاعب؛ لأنه قد يحصل شيء من التلاعب في تزويج الصغيرات، فنقول: ينتظر حتى تبلغ، أو حتى تعرف مصالح النكاح، فإذا عرفت مصالح النكاح فإنه يعتبر رضاها حينئذٍ، وهذا الذي يظهر في هذه المسألة والله أعلم.
والجمهور يستدلون بوروده عن بعض الصحابة، فـعلي رضي الله تعالى عنه زوج عمر بن الخطاب أم كلثوم وهي صغيرة، وكذلك أيضًا قدامة بن مظعون تزوج ابنة الزبير ، لكن يفرق بين حال الصحابة وبين الحال في مثل هذه الأزمان، ففي هذه الأزمان قد يكون ذلك محلًا للتلاعب بالنساء ونحو ذلك.
القسم الثاني: أن تكون البكر قد بلغت، وأكثر أهل العلم على أن رضاها لا يعتبر، وهذا مذهب المالكية والشافعية والحنابلة في الجملة، واستدلوا على ذلك بأدلة، منها ما تقدم من زواج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة وهي صغيرة، قالوا: هذا دليل على أنه لم يعتبر رضا عائشة ، وإلا لانتظر ذلك إلى أن تبلغ، واستدلوا أيضاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس في مسلم : ( الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن )، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( الأيم أحق بنفسها من وليها ) يفهم منه: أن ولي البكر أحق بها من نفسها.
وهذا رأي الجمهور في الجملة، وإن كانوا يشترطون بعض الشروط.
الرأي الثاني: رأي الحنفية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن البكر البالغة لا بد من رضاها وإذنها، واستدلوا على هذا بأدلة منها: حديث خنساء بنت خدام : ( أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فرد نكاحها ) ، وكذلك أيضاً حديث عبد الله بن بريدة : ( أن فتاةً جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فذكرت أن أباها زوجها من ابن أخيه لكي يرفع بها خسيسته، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر إليها ) وهذا في السنن.
فيظهر -والله أعلم- أنه لا بد من رضا البكر، لكن لو زوجت البكر بدون رضاها، فالذي يظهر -والله أعلم- من حديث عبد الله بن بريدة أن العقد صحيح، وأننا نجعل الخيار للمرأة فيكون هذا من باب تصرف الفضولي، إن أجازت المرأة النكاح نفذ، وإن لم تجزه لا ينفذ.
القسم الثالث من أقسام البكر: التي بلغت تسع سنوات، وقد تقدم أن الجمهور يرون أنها تزوج؛ لأنهم يرون أن من دون التسع تزوج فهذه من باب أولى، والرأي الثاني رأي ابن شبرمة : أنها لا تزوج حتى تبلغ وتأذن، لكن إذا قلنا بأنها تزوج فالذي يظهر -والله أعلم- أن رضاها معتبر، وأما المذهب فإنه لا يعتبر رضاها كما تقدم، وهذا رأي أكثر أهل العلم رحمهم الله.
والصواب في هذه المسألة: أنه يعتبر رضاها إذا عرفت مصالح النكاح.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] | 2818 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] | 2731 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] | 2677 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] | 2644 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] | 2640 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] | 2558 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] | 2555 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] | 2528 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] | 2521 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] | 2498 استماع |