خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع - كتاب الوقف [2]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونسخ التوراة والإنجيل وكتب زندقة، وكذا الوصية، والوقف على نفسه، ويشترط في غير المسجد ونحوه أن يكون على معين يملك، لا ملك وحيوان وقبر وحمل، لا قبوله ولا إخراجه عن يده.
فصل: فيما يشترطه واقف في وقفه.
ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم، وضد ذلك، واعتبار وصف وعدمه، وترتيب ونظر وغير ذلك، فإن أطلق ولم يشترط استوى الغني والذكر، وضدهما، والنظر للموقوف عليه، وإن وقف على ولده أو ولد غيره ثم على المساكين فهو لولده الذكور والإناث بالسوية، ثم ولد بنيه دون بناته، كما لو قال: على ولد ولده وذريته لصلبه].
تقدم لنا شيء من أحكام الوقف، وقبل ذلك تكلمنا عن شيء من جهات إثبات النسب، فتكلمنا عن جهة الاستلحاق وجهة البينة وجهة القافة، ثم بعد ذلك شرعنا في أحكام الوقف، وذكرنا: تعريفه في اللغة والاصطلاح، وأنه تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وذكرنا معنى ذلك, وهل الوقف مما اختص به المسلمون؟ وتكلمنا عن هذه المسألة، وعن أول وقف.
وهل يشترط أن يكون الوقف في العقارات, أو يصح حتى ولو كان في المنقولات؟ وكذلك أيضاً هل يشترط بقاء الوقف؟ -بمعنى: أن يكون البقاء دائماً أو بقاء المنفعة دائمة- أو أنه يصح أن توقف الأعيان التي تفنى باستيفاء المنفعة منها؟ وكذلك أيضاً تكلمنا عن وقف المنفعة، كما لو قال: سكنى هذه البيت، أو منفعة هذا الدكان لمدة سنة أو لمدة سنتين وقف على طلبة العلم، فهل يصح وقف المنافع أو لا يصح؟
ذكرنا كلام أهل العلم رحمهم الله في ذلك, وأن الصواب: أن وقف المنفعة صحيح، وأنه لا يشترط أن يكون الوقف عيناً، فيصح حتى ولو كان منفعة.
وكذلك أيضاً هل يشترط أن يكون على بر وقربة؟ تكلمنا في هذه المسألة, وأن هذا فيه تفصيل.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ونسخ التوراة والإنجيل، وكتب زندقة).
لا يصح الوقف على مثل هذه الأشياء؛ لأنها من المحرمات، والله عزّ وجلَّ يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].
قال المؤلف رحمه الله: (وكذا الوصية).
يعني: فكما أنه لا يصح الوقف على الكنائس، وعلى نسخ التوراة والإنجيل، وكتب الزندقة ونحو ذلك، أيضاً لا تصح الوصية لهذه الأشياء.
قال المؤلف رحمه الله: (والوقف على نفسه).
هذا الشرط الثالث من شروط صحة الوقف: ألا يكون الوقف على نفسه، قال الإمام أحمد رحمه الله: لا أعرف الوقف إلا ما أخرجه لله تعالى أو في سبيله، فإذا وقف على نفسه كما لو قال: هذا البيت وقف علي إلى أن أموت، ثم بعد ذلك يصرف لأولادي، أي: وقف على أولادي, أو يصرف على الفقراء أو على المساكين, فهل يصح هذا الوقف؟.
المؤلف رحمه الله تعالى يقول: بأن هذا لا يصح، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو قول أكثر أهل العلم.
والرأي الثاني وهو رأي أبي حنيفة : أن هذا الوقف صحيح.
وأما الحنابلة ومن وافقهم -كما ذكرنا- وهو مذهب الشافعية والمالكية أنه لا يصح الوقف على نفسه، واستدلوا على ذلك بحديث عمر فإنه لما وقف وقفه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ). فقوله عليه الصلاة والسلام: (تصدقت بها) أيكون المقصود بها الصدقة على النفس أم الصدقة على الغير؟ المقصود الصدقة على الغير، يعني: هو يريد الآن أن يخرجها، فقال له: ( إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها ).
والرأي الثاني: رأي أبي حنيفة : أنه يصح الوقف على النفس، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ويدل لذلك عمومات أدلة الوقف.
وكذلك أيضاً يدل لذلك أن عثمان رضي الله تعالى عنه اشترى بئر رومة وجعل دلوه فيها مع دلاء المسلمين.
وكذلك أيضاً عمر رضي الله تعالى عنه وقف بيتاً وسكنها إلى أن مات.
ومثل ذلك أيضاً الزبير رضي الله تعالى عنه.
ولأن هذا فيه مصلحة للواقف، وما هي مصلحة الواقف؟
الواقف مصلحته من وجهين:
الوجه الأول: أنه يمنع نفسه من التصرفات في هذا العقار، مثلاً: إذا قال: هذا البيت وقف علي، ثم على الفقراء أو على المساكين أو على أولادي فيمنع نفسه من التصرف فيه، فلا يتمكن من بيعه ولا هبته. وهذا الوجه الأول فيه مصلحة له.
والمصلحة الثانية: أنه يستفيد منه في حياته وبعد مماته، ويكون قربة وصدقة جارية له، ففيه مصلحة له في الحياة وفي الممات, وما دام أن فيه مصلحة فإن الشارع لا يمنع ما فيه مصلحة العباد؛ إذ أن الشريعة بنيت على مصلحة العباد. فالصواب في ذلك: أنه إذا وقف على نفسه فقال مثلاً: هذا البيت وقف علي ثم بعد ذلك على أولادي أو على الفقراء أو على المساكين أو نحو ذلك فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به ولا محذور شرعي فيه, بل فيه كما ذكرنا مصلحة, وأيضاً فيه ترغيب في فعل الخير، كما ذكر المرداوي رحمه الله، والترغيب في فعل الخير: يعني: هو الآن يستفيد منه؛ لأن بعض الناس قد يشح بالمال في حال حياته، فيوقفه الآن على نفسه، ثم على الفقراء أو على طلاب العلم أو على جمعيات البر، فيستفيد منه في حياته، ثم بعد مماته يكون صدقة جارية له.
قال رحمه الله: (ويشترط في غير مسجد ونحوه أن يكون على معين يملك لا ملك وحيون وقبر وحمل).
هذا الشرط الرابع: إذا كان الوقف على غير جهة بأن كان الوقف على معين كما لو وقف على زيد وعمرو أو على أولاده فإذا كان الوقف على معين وليس على جهة فقال: لابد أن يكون معيناً وأن يملك، فقولنا: (معين) يخرج المبهم، فإذا كان مبهماً فإنه لا يصح الوقف، كما لو قال: هذا وقف على أحد هذين الطالبين، أو أحد هذين الإمامين، أو وقف على أحد طلاب العلم، ما يصح، يقول المؤلف: لابد أن يكون معيناً، وهذه المسألة تقدم الكلام عليها, فهذا الأمر الأول: أن يكون على معين.
الأمر الثاني: يملك، يعني: لابد أن يكون هذا المعين ممن يملك، وعلى هذا إذا كان هذا المعين لا يملك فإنه لا يصح الوقف عليه. ومثل المؤلف رحمه الله فقال: (لا ملك). الملك أحد الملائكة، والملك لا يملك، وعلى هذا لو قال: هذا وقف على جبريل أو على ميكائيل أو إسرافيل ونحو ذلك فنقول: الوقف هنا غير صحيح.
الوقف على الحيوان
القسم الأول: أن يكون على جهة وعلى سبيل العموم، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به، كما لو قال: هذا وقف على خيل الجهاد، أو وقف على خيل طلاب العلم أو خيل الفقراء أو إبل الفقراء ونحو ذلك فنقول: هذا جائز ولا إشكال في ذلك؛ لأن المقصود هنا الجهة.
القسم الثاني: أن يكون على سبيل التعيين، مثلاً: قال: هذا وقف على بقرة زيد أو جمل عمرو ونحو ذلك، فالمؤلف رحمه الله تعالى يقول: بأنه لا يصح.
والرأي الثاني: اختاره الحارثي من علماء الحنابلة، والحارثي له شرح على المقنع، ولكنه ليس موجوداً، ولكن له اختيارات قوية، أورد كثيراً منها المرداوي رحمه الله تعالى في الإنصاف، فـالحارثي رحمه الله يختار: بأن هذا جائز ولا بأس به، ويقول: ينفق على هذا الحيوان من هذا الوقف. وهذا والله أعلم هو الأقرب؛ لما تقدم أن قررنا أن الوقف فعل خير وقربة فلا يمنع منه إلا لدليل، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وفي كل كبد رطبة أجر ). والله سبحانه وتعالى غفر للبغي التي سقت كلباً.
فالصواب في ذلك والأقرب ما اختاره الحارثي رحمه الله.
الوقف على القبور
وأما القسم الثاني: وهو إذا كان على معين، على قبر زيد أو قبر فلان فهذا إن كان المقصود من ذلك محذوراً شرعياً كما تكون الأوقاف على قبور الأولياء والأضرحة كأهل البدع الذين يستعينون بمثل هذه الأوقاف على المحذور الشرعي فنقول: بأن هذا لا يصح، وهذا وقف باطل، وإن كان الوقف ليس المقصود منه المحذور الشرعي فالمؤلف رحمه الله يقول: أيضاً لا يصح.
والأقرب في مثل هذا والله أعلم: أنه لو وقف على القبر أو وقف على الميت فإن الميت يحتاج إلى الثواب فيصرف في طرق الخير التي يعود أجرها على هذا الميت. هذا الذي يظهر والله أعلم.
الوقف على الحمل
الحالة الأولى: أن يكون تبعاً، كما لو قال: وقف على زيد وعلى أولاده، فهذا يصح تبعاً، فهو وقف على زيد، فربما أن زيداً ليس له إلا ولد واحد، فنقول: يصح الوقف على زيد وعلى أولاده ويدخل في ذلك الحمل. والقاعدة: أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
القسم الثاني: أن يكون على وجه الأصالة، كما لو قال: وقف على هذا الحمل، فالمؤلف رحمه الله تعالى يرى أنه لا يصح. وهذا قول أكثر أهل العلم، يعني: هذا قول الحنابلة والحنفية والشافعية، أي: أنه لا يصح الوقف على الحمل؛ لأن الحمل ليس أهلاً للتملك.
والرأي الثاني: أنه يصح الوقف على الحمل أصالة. وهو رأي المالكية؛ لأن الحمل يرث المال، وإذا كان كذلك فيصح الوقف عليه وهذا القول هو الصواب.
وقوله كذلك: (لا حيوان), يعني: يقول المؤلف: لا يصح الوقف على الحيوان؛ لأن الوقف يشترط فيه كما ذكر المؤلف وقرر أن يكون ممن يملك، وعلى هذا إذا كان ممن لا يملك فإنه لا يصح، فيقول المؤلف رحمه الله: الواقف لو قال: هذا وقف على ناقة زيد ما يصح؛ لأن الناقة لا تملك، والوقف على الحيوان ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أن يكون على جهة وعلى سبيل العموم، فنقول: بأن هذا جائز ولا بأس به، كما لو قال: هذا وقف على خيل الجهاد، أو وقف على خيل طلاب العلم أو خيل الفقراء أو إبل الفقراء ونحو ذلك فنقول: هذا جائز ولا إشكال في ذلك؛ لأن المقصود هنا الجهة.
القسم الثاني: أن يكون على سبيل التعيين، مثلاً: قال: هذا وقف على بقرة زيد أو جمل عمرو ونحو ذلك، فالمؤلف رحمه الله تعالى يقول: بأنه لا يصح.
والرأي الثاني: اختاره الحارثي من علماء الحنابلة، والحارثي له شرح على المقنع، ولكنه ليس موجوداً، ولكن له اختيارات قوية، أورد كثيراً منها المرداوي رحمه الله تعالى في الإنصاف، فـالحارثي رحمه الله يختار: بأن هذا جائز ولا بأس به، ويقول: ينفق على هذا الحيوان من هذا الوقف. وهذا والله أعلم هو الأقرب؛ لما تقدم أن قررنا أن الوقف فعل خير وقربة فلا يمنع منه إلا لدليل، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( وفي كل كبد رطبة أجر ). والله سبحانه وتعالى غفر للبغي التي سقت كلباً.
فالصواب في ذلك والأقرب ما اختاره الحارثي رحمه الله.
وقوله رحمه الله: (وقبر). يقول: لا يصح الوقف على القبر؛ لأن القبر لا يملك، وهذا كما تقدم إن كان على جهة مثلاً: على مقابر المسلمين فهذا جائز ولا إشكال في ذلك، فتصلح فيها القبور وترمم، وتحفر القبور يعني: في مصالح المقبرة فهي تحتاج إلى نفقات، فنقول: بأن هذا جائز.
وأما القسم الثاني: وهو إذا كان على معين، على قبر زيد أو قبر فلان فهذا إن كان المقصود من ذلك محذوراً شرعياً كما تكون الأوقاف على قبور الأولياء والأضرحة كأهل البدع الذين يستعينون بمثل هذه الأوقاف على المحذور الشرعي فنقول: بأن هذا لا يصح، وهذا وقف باطل، وإن كان الوقف ليس المقصود منه المحذور الشرعي فالمؤلف رحمه الله يقول: أيضاً لا يصح.
والأقرب في مثل هذا والله أعلم: أنه لو وقف على القبر أو وقف على الميت فإن الميت يحتاج إلى الثواب فيصرف في طرق الخير التي يعود أجرها على هذا الميت. هذا الذي يظهر والله أعلم.
وقوله رحمه الله: (وحمل). الوقف على الحمل له حالتان:
الحالة الأولى: أن يكون تبعاً، كما لو قال: وقف على زيد وعلى أولاده، فهذا يصح تبعاً، فهو وقف على زيد، فربما أن زيداً ليس له إلا ولد واحد، فنقول: يصح الوقف على زيد وعلى أولاده ويدخل في ذلك الحمل. والقاعدة: أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.
القسم الثاني: أن يكون على وجه الأصالة، كما لو قال: وقف على هذا الحمل، فالمؤلف رحمه الله تعالى يرى أنه لا يصح. وهذا قول أكثر أهل العلم، يعني: هذا قول الحنابلة والحنفية والشافعية، أي: أنه لا يصح الوقف على الحمل؛ لأن الحمل ليس أهلاً للتملك.
والرأي الثاني: أنه يصح الوقف على الحمل أصالة. وهو رأي المالكية؛ لأن الحمل يرث المال، وإذا كان كذلك فيصح الوقف عليه وهذا القول هو الصواب.
قال المؤلف رحمه الله: (لا قبوله).
يعني: يقول المؤلف رحمه الله: ليس من شروط صحة الوقف قبول الموقوف عليه للوقف، والموقوف عليه لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن يكون جهة من الجهات فهذا لا يشترط فيه القبول، مثل: لو قال: هذا وقف على المساجد أو على جمعيات البر أو على جمعيات تحفيظ القرآن أو وقف على هذا المسجد، ونحو ذلك، هنا لا نشترط القبول وينعقد الوقف بمجرد اللفظ.
القسم الثاني: أن يكون الوقف على معين، كما لو قال: هذا وقف على زيد أو على عمرو أو على طلبة العلم في هذا المسجد -وهم معينون- فهل يشترط أن يقبلوا، أو نقول: بأنه ينعقد الوقف من حين اللفظ؟ المؤلف رحمه الله تعالى يقول: بأن هذا ليس شرطاً، وأنه بمجرد اللفظ يكون وقفاً، فمثلاً: لو قال: هذا وقف على زيد سواء قبل زيد أو لم يقبل نقول: بأنه وقف، إن أخذه زيد فالحمد لله، وإن لم يأخذه يكون لمن بعده، ويصير هذا منقطعاً. وسيأتينا إن شاء الله الوقف المنقطع، وأنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: منقطع الابتداء, ومنقطع الوسط, ومنقطع الانتهاء.
فإذا قال: هذا وقف على زيد فنقول: بأنه ينعقد بمجرد الوقف ولو لم يقبل زيد، حتى ولو رده زيد، ولا يشترط قبوله كالميراث وكإسقاط الدين، فالعلماء رحمهم الله يتوسعون في التبرعات ما لا يتوسعون في المعاوضات؛ لأن التبرعات فعل إحسان فيتوسع فيها ما لا يتوسع في المعاوضات، فنقول: لا يشترط قبوله. هذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.
والرأي الثاني: أنه يشترط قبوله، كالهبة وكالوصية، فالوصية لو لم يقبل الموصى له ما صحت، والهبة لو لم يقبل الموهوب له فنقول: بأن الهبة لم تصح. فالمؤلف رحمه الله يرى أنه لا يشترط القبول في الوقف.
والأقرب في مثل هذا أن يقال: أنه ينظر إن كان الموقوف عليه يلحقه ضرر بمنة أو نحو ذلك فنقول: يشترط القبول، أما إذا كان لا يلحقه ضرر فنقول: لا يشترط القبول.
قال: (ولا إخراجه عن يده).
يقول المؤلف رحمه الله: لا يشترط أن يخرج الوقف عن يده، فيصح أن يقول: هذه السيارة وقف وهو يركب السيارة، كما لو قال: هذه وقف علي، أو قال مثلاً: هذه السيارة وقف، أو هذا البيت وقف -وهو ساكن في البيت- علي ثم بعد ذلك للفقراء والمساكين، هنا ما أخرج الوقف عن يده. فهل يشترط لصحة الوقف أن يخرجه عن يده؟
جمهور أهل العلم أنه لا يشترط كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله كالبيع، كما إذا باع السلعة أو باع البيت صح البيع وانعقد البيع, حتى ولو كان ساكناً للبيت، أو مثلاً: باع السيارة نقول: بأن البيع صحيح حتى ولو كان راكباً للسيارة وهذا الرأي الأول في المسألة.
والرأي الثاني رأي المالكية: أن إخراج الوقف عن اليد أو عن الواقف إلى الموقوف عليه شرط لتمام الوقف، يعني: لا يعتبرونه شرط صحة، وإنما يعتبرونه شرط تمام بحيث لو حصل مانع من الموانع قبل إخراجه عن يده فإن الوقف يرون أنه يبطل ولا يصح.
والصحيح في ذلك: ما ذهب إليه أكثر أهل العلم رحمهم الله أن الوقف لا يشترط إخراجه من اليد، فيصح حتى وإن كان في يد الواقف.
وبقيت مسألة مهمة وهي انقطاع الوقف. فالوقف من حيث الانقطاع يقسمه العلماء رحمهم الله تعالى إلى ثلاثة أقسام، ومن العلماء من يقسمه إلى خمسة أقسام، ولكنها ترجع إلى الثلاثة, فالوقف ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: منقطع الابتداء، وحكمه أنه يصرف إلى من بعده، وهو أن يقف ابتداء على من لا يصح الوقف عليه، فنقول: بأنه لا يصح الوقف ابتداء, ونقول: بأنه منقطع الابتداء وينتقل إلى من بعده، فمثلاً: لو قال: هذا وقف على المغني زيد ثم بعده عمرو أو على طلاب العلم، فماذا نقول هنا؟ نقول: بأن الوقف هنا منقطع الابتداء. وما حكم الوقف هنا؟ ينتقل إلى من بعده. هذا القسم الأول.
القسم الثاني: أن يكون الوقف منقطع الوسط، كما لو قال: هذا وقف على زيد، ثم بعد ذلك على المغني فلان، ثم بعد ذلك على طلاب العلم، فنقول: يصح الوقف ابتداء فيأخذه زيد، ثم بعد أن يأخذه زيد ويموت ينتقل إلى طلاب العلم، أما الوقف على المغني فنقول: بأنه لا يصح.
القسم الثالث: أن يكون الوقف منقطع الانتهاء، وأكثر الأوقاف اليوم هي من هذا النوع. ومثله: لو قال: هذا وقف على نفسي، ثم أخذه إلى أن مات ولم يذكر جهة بعده فهو منقطع الانتهاء. وهذا موضع خلاف كثير بين العلماء رحمهم الله، فيما يتعلق بمنقطع الانتهاء، يعني: لنفرض أنه قال هذا وقف على زيد ثم عمرو، فأخذه زيد ومات، وأخذه عمرو ومات، فماذا نفعل بالوقف الآن؟ أو قال مثلاً: هذا وقف على طلاب العلم في هذا المسجد، وطلاب العلم في هذا المسجد ذهبوا وراحوا انتهوا، فما حكم هذا الوقف؟ نقول: هذا يسمى عند العلماء بمنقطع الانتهاء.
وكما ذكرنا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً.
فالرأي الأول: أن منقطع الانتهاء يصرف إلى ورثة الواقف نسباً على قدر إرثهم وقفاً عليهم فهذا هو المذهب، وليس ملكاً وإنما وقفاً على قدر إرثهم, مثال ذلك: زيد وقف هذا البيت، فقال: هذا البيت وقف على العالم كذا, ثم العالم كذا، فأخذه العالم الأول، وأخذه العالم الثاني وهلكوا، أو مثلاً قال: هذا وقف على طلاب العلم في هذا المسجد، ثم انتهى طلاب العلم في هذا المسجد وانقرضوا. فما حكم الوقف؟ المذهب أنه يكون لورثة الواقف نسباً على قدر ميراثهم وقفاً عليهم، فإذا فرضنا أن هذا زيداً الذي وقف هذا البيت هلك وله زوجة وله أولاد، فمن يكون له الوقف؟ يكون للأولاد. والزوجة ليس لها شيء؛ لأنها ترث عن طريق الزوجية، ولا ترث عن طريق النسب، أو مثلاً: نفرض أن زيداً هذا هلك وله معتق وزوجة، هل للمعتق شيء؟ ليس له شيء؛ لأنه يرث عن طريق الولاء. والزوجة هل لها شيء من الوقف؟ لا؛ لأنها ترث عن طريق الزوجية.
ويكون وقفاً عليهم أيضاً على قدر مواريثهم، فمثلاً الأولاد يكون للذكر مثل حظ الأنثيين. هذا هو الرأي الأول وهو مذهب الحنابلة.
والرأي الثاني: أنه يصرف على المساكين. وهذا اختيار ابن قدامة رحمه الله؛ لأن أغلب مصارف الأوقاف يكون للمساكين.
والرأي الثالث: أنه يصرف في مصالح المسلمين. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
والرأي الرابع: أنه يصرف في بيت المال, يروى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أنه يكون في بيت المال.
والأقرب في هذه المسألة -والله أعلم- أن يقال: مثل هذا الوقف الذي انقطع ينظر إلى جنس الوقف، مثلاً: إذا كان وقف على زيد لكونه طالب علم ثم مات ثم عمرو ثم مات فنقول: ننظر إلى جنس الوقف, فيصرف في جنس الوقف؛ لأن هذا أقرب إلى شرط الواقف.
وكذلك أيضاً يصرف في المصالح، مثل ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
نقول: نبدأ بجنس الوقف، ثم بعد ذلك أيضاً المصالح. فلو كان مثلاً جنس الوقف غير موجود فنقول: يصرف في مصالح المسلمين. ومما يدخل في المصالح أقاربه إذا كان فيهم فقراء, فإذا كان فيهم فقراء فنبدأ بأقاربه.
قال المؤلف رحمه الله: (فصل: ويجب العمل بشرط الواقف في جمع وتقديم، وضد ذلك).
يقول المؤلف رحمه الله: يجب العمل بشرط الواقف، ويدل لذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]. والأمر بإيفاء العقد يتضمن إيفاء أصله ووصفه، ومن وصفه الشرط فيه.
وحديث عقبة : ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج )، وحديث أبي هريرة معلقاً في البخاري : ( المسلمون على شروطهم ).
فيجب العمل بشرط الواقف.
ولأن عمر رضي الله تعالى عنه وقف وقفاً واشترط فيه شروطاً ولو كان العمل بشرط الواقف ليس جائزاً ما كان هناك فائدة من اشتراط عمر رضي الله تعالى عنه. بل يجب العمل بشرط الواقف، والعلماء رحمهم الله تعالى يقولون: شرط الواقف كنص الشارع، يعني: في وجوب العمل.
وقوله رحمه الله: (في جمع) ذكر المؤلف رحمه الله قاعدة، أنه يجب العمل بشروط الواقف. لكن ما هي شروط الواقفين؟
شروط الواقفين أنواع:
النوع الأول: في الجمع، فلو قال: هذا الوقف على أولادي، فهذا يشمل كل أولاده فهذا شرط ما خصص أحداً دون أحد، مع أنه لا يجوز التخصيص لكن الفقهاء يجوزونه، لكن نقول الصحيح: أنه لا يجوز، ولكن لو قال: هذا وقف على أولاد زيد فيجب العمل بهذا الشرط, ويكون الوقف لجميع أولاد زيد، فإذا وقف على أولاده بأن قال: على أولادي أو أولاد زيد نقول: هنا يكون الوقف شاملاً لجميع الأولاد.
وقوله رحمه الله: (وتقديم) هذا النوع الثاني من شروط الواقفين، التقديم كما لو قال: هذا وقف على طلاب العلم في هذا المسجد ويقدم الحافظ، أو يقدم الجاد، كيف يتم التقديم؟ نبدأ به فنعطيه الكفاية، ولنفرض أن الدكان مثلاً ريعه يساوي عشرة آلاف، وقال: هذا وقف على الطلاب, والطلاب قرابة خمسين مثلاً أو مائة، والمائة ما تكفيهم عشرة آلاف، قال: يقدم الجاد, أو يقدم الحافظ, فنبدأ بالجاد ونعطيه الكفاية، فكفايته في السنة مثلاً: خمسة آلاف فنعطيه خمسة آلاف وتبقى الخمسة الباقية لبقية الموقوف عليهم. هذا التقديم, يعني: إذا قدم أحداً فهو شرط وعلينا أن نتبع هذا الشرط.
قوله رحمه الله: (وضد ذلك) ضد الجمع الإفراد. هذا هو النوع الثالث: الإفراد. كما لو قال: هذا وقف على طالب العلم زيد، ثم بقية الطلاب، ففي التقديم لو قال: يقدم زيد فنعطي زيداً الكفاية, لكن هنا نعطيه جميع الوقف، فلو قال: هذا وقف على زيد ثم بقية الطلبة فنعطي الوقف كله لزيد، ثم إذا هلك زيد نعطي الوقف لبقية الطلبة فنقسمه على الجميع.
وضد التقديم التأخير, وهذا النوع الرابع: التأخير، كما لو قال: هذا وقف على الطلاب ويؤخر الكسلان، فنعطي الطلاب كفايتهم فإن فضل شيء نعطى الكسلان، وإذا ما فضل شيء ما له شيء.
قال رحمه الله: (واعتبار وصف وعدمه).
هذا النوع الخامس, كما لو قال: وقف على طلبة العلم الفقهاء أو القراء فهذا وصف, أنعتبر الفقهاء أو نعتبر القراء, أم نعتبر المحدثين؟ فإذا قال: هذا وقف على طلبة العلم المحدثين فنعطيه للمحدثين، وهم الذين يشتغلون بالحديث، أو قال: الفقهاء فنعطيه للذين يشتغلون بالفقه, أو الدعاة باعتبار الوصف, فإذا اشترط وصفاً فنطبق هذا الوصف.
وقوله رحمه الله: (وعدمه), يعني: عدم وصف. لو قال مثلاً: هذا وقف على الطلاب غير الكسالى، فنقول: الكسالى هؤلاء لا يعطون من الوقف.
قال رحمه الله: (وترتيب). النوع السادس, يعني: أن يأتي بأداة من أدوات الترتيب، مثلاً لو قال: هذا وقف على زيد ثم عمرو فهنا ترتيب، أو قال مثلاً هذا وقف على أولادي، ثم أولادهم، فالترتيب يقتضي أنه لا يستحق البطن الثاني شيئاً حتى ينتهي وينقرض البطن الأول، فإذا قال: هذا وقف على زيد ثم عمرو نقول: نبدأ بزيد فيأخذه حتى يموت ثم عمرو.
أو قال مثلاً: هذا وقف على طلاب العلم ثم المساكين فنبدأ بطلاب العلم إلى أن ينتهوا, ثم نشرع بالمساكين.
قال رحمه الله: (ونظر).
هذا النوع السابع النظر، فلو قال: الناظر فلان كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه، فإن عمر رضي الله تعالى عنه جعل وقفه إلى حفصة ، تليه ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من أهله. أو قال: الناظر زيد أو عمرو أو بكر، فنقول: نرجع إلى شرط الواقف؛ لحديث ( المسلمون على شروطهم ).
قال رحمه الله: (وغير ذلك).
وغير ذلك من الشروط, فالمهم هذه أمثلة كما ذكرنا, وغير ذلك من الشروط التي يشترطها الواقفون، لكن يشترط في هذه الشروط ألا تخالف الشرع.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] | 2821 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] | 2740 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] | 2681 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] | 2652 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] | 2642 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] | 2560 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] | 2558 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] | 2528 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] | 2525 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] | 2501 استماع |