خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [15]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك وإن تضرر الأصل، وإن تلفت بآفة سماوية رجع على البائع، وإن أتلفه آدمي خير مشترٍ بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف. وصلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان. وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر، وفي العنب أن يتموه حلواً، وفي بقية الثمر أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله. ومن باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المشتري، فإن كان قصده المال اشترط علمه وسائر شروط البيع، وإلا فلا، وثياب الجمال للبائع، والعادة للمشتري.
باب السلم: وهو عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض بمجلس العقد، ويصح بألفاظ البيع والسلم والسلف بشروط سبعة: أحدها: انضباط صفاته، بمكيل وموزون ومذروع، وأما المعدود المختلف كالفواكه والبقول والجلود والرؤوس والأواني المختلفة الرؤوس، والأوساط كالقماقم والأسطال الضيقة الرؤوس والجواهر والحوامل من الحيوان. وكل مغشوش وما يجمع أخلاطاً غير متميزة كالغالية والمعاجين، فلا يصح السلم فيه. ويصح في الحيوان والثياب المنسوجة من نوعين وما خلطه غير مقصود كالجبن وخل التمر والسكنجبين ونحوها، الثاني: ذكر الجنس والنوع وكل وصف يختلف به الثمن ظاهراً، وحداثته وقدمه، ولا يصح شرط الأردأ أو الأجود بل جيد ورديء، فإن جاء بما شرط أو أجود منه من نوعه ولو قبل محله ولا ضرر في قبضه لزمه أخذه].
تقدم لنا ما يتعلق ببيع الدور وما يدخل في بيع الدار وما لا يدخل، ثم بعد ذلك ذكر المؤلف رحمه الله تعالى ما يتعلق ببيع الأراضي، ثم انتقل إلى ما يتعلق ببيع الأشجار، فإذا باع شجرة أو أشجاراً كالنخل أو شجر التوت أو الزيتون ونحو ذلك، فما الذي يدخل تحت هذا البيع؟ وما الذي لا يدخل؟ ثم بعد أن أنهى الكلام على بيع الأشجار انتقل إلى القسم الرابع وهو ما يتعلق ببيع الثمار، وأن الثمرة لا يجوز بيعها قبل بدو صلاحها، ثم بعد ذلك تكلم عن أحكام بيع الثمار، ثم تكلم أيضاً عن أحكام بيع الزروع وأن الزروع لا تخلو من أمرين:
الأمر الأول: زروع تجز مرة واحدة، فهذه لا يجوز أن تباع قبل أن تشتد.
والأمر الثاني: الزروع التي تجز مراراً كزرع البرسيم، والكراث، ونحو ذلك، أو تلقط مراراً كالباذنجان، والخيار، والطماطم.. إلخ، وذكر المؤلف رحمه الله تعالى ما يتعلق ببيع هذه الأشياء التي تجز مراراً أو تلقط مراراً، وهل يجوز بيع الجزة أو اللقطة التي لم تظهر؟ وذكرنا أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: وهو رأي جمهور أهل العلم، أن هذا لا يجوز.
والقول الثاني: وهو رأي مالك ، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، أن هذا جائز ولا بأس به.
قال المؤلف رحمه الله: (ويلزم البائع سقيه إن احتاج إلى ذلك، وإن تضرر الأصل).
إذا بيعت الثمار بعد بدو الصلاح فإن المشتري يحتاج إلى أن يبقي هذه الثمار إلى أوان أخذها؛ لأن بدو الصلاح كما سيأتينا مثلاً في النخيل: أن تحمر أو تصفر، فإذا بدأ فيها الاحمرار أو بدأ فيها الاصفرار بدا صلاحها، لكن هذا ليس وقت الأخذ، فيحتاج المشتري إلى أن يتركها فترة إلى أن يأتي وقت أخذها، وتحتاج الثمرة على النخل في هذه الفترة إلى سقي، فمن الذي يلزم بالسقي؟ قال المؤلف رحمه الله: الذي يلزم بالسقي هو البائع، وهذا قول جماهير العلماء رحمهم الله تعالى؛ لأن البائع يجب عليه تسليمه كاملاً فلزمه أن يسقيه، وقال المؤلف: (وإن تضرر الأصل) يعني الأشجار، فقد يحصل لهذه النخلة شيء من الضرر، فنقول: يجب على البائع أن يسقيه ولو تضرر الأصل.
بقي عندنا مسألة وهي: أن المؤلف رحمه الله تعالى قرر أن الثمار لا يجوز أن تباع حتى يبدو صلاحها، والزروع لا يجوز أن تباع حتى تشتد، لكن الفقهاء رحمهم الله يستثنون ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا باعها بشرط القطع في الحال، فإن هذا جائز ولا بأس به إذا كان المشتري ينتفع بها، مثلاً: باع التمر ولا يزال أخضر، أو باع البرتقال ولا يزال أخضر، وباعه بشرط أن يقطعه المشتري في الحال فإن هذا جائز ولا بأس به؛ لأن المنع من البيع قبل بدو الصلاح كان خشية العاهة، وهذا منتفٍ، فإذا شرط القطع في الحال والمشتري ينتفع به كعلف ونحو ذلك، فهذا جائز ولا بأس به.
المسألة الثانية: إذا بيعت الثمرة مع الأصل، فلا يشترط أن يبدو صلاحها، مثلاً: هذا النخيل عليه ثمار لم يبدُ صلاحها حتى الآن فالبسر أخضر، أو البرتقال أخضر، فلم يبد صلاح هذه الأشياء، فإن هذا جائز ولا بأس به، وعندنا قاعدة وهي أنه: يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، يعني الثمرة في حال الاستقلال لا يصح أن تباع قبل بدو صلاحها، لكن في حال التبع، أي: إذا بيعت مع الأصل، فإنه يصح أن تباع قبل بدو الصلاح.
المسألة الثالثة: إذا بيعت الثمار أو الزروع قبل الاشتداد إلى مالك الأصل، مثلاً: لنفرض أن رجلاً يملك النخيل، ورجل آخر يملك الثمرة عن طريق الوصية مثلاً، فهل يجوز لمن يملك الثمرة أن يبيع هذه الثمرة على من يملك الأصل وهي الأشجار، أو لا يجوز؟ يعني هذا زيد يملك النخل وعمرو يملك الثمرة، ولنفرض أن عمراً أوصي له بهذه الثمرة، حيث قال الرجل قبل أن يتوفى: هذه الثمرة لعمرو، توفي فوصى ابنه زيداً، فالآن زيد له النخيل، أي: له الأصل، لكن الثمرة أوصي بها لعمرو، فهل يجوز لعمرو أن يبيع الثمرة قبل بدو صلاحها على مالك الأصل زيد أم لا يجوز؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يجوز؛ لأنهم يقولون: قد حصل التسليم على وجه الكمال، ما دام أنه الآن مالك للأصل فإن هذا لا بأس به، ولكن إذا نظرنا إلى عموم الأدلة، (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، وعن بيع الزرع حتى يشتد) يظهر -والله أعلم- أن هذا غير جائز، وعلى هذا نقول في هذه المسألة: لا يجوز بيع الثمرة قبل بدو صلاحها حتى لو باعها على مالك الأصل، ولا يجوز بيع الزرع أيضاً قبل اشتداد حبه حتى ولو على مالك الأصل، ونظير ذلك ما تقدم لنا في بيع المبيع قبل قبضه، والصحيح أنه لا يجوز حتى ولو باعه على بائعه، وذكرنا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه المسألة أنه يجوز لك أن تبيع السلعة قبل قبضها إذا بعتها على مالكها، والصواب في هذه المسألة -كما قلنا- أنه في عمومات الأدلة لا يوجد ما يدل على التخصيص.
قال رحمه الله: (وإن تلفت بآفة سماوية، رجع على البائع).
إذا تلفت الثمرة التي بيعت قبل بدو صلاحها بآفة سماوية وهذا يحصل اليوم لكثير من الناس، فيبيعون تمر النخيل مثلاً بعد أن يحمر أو يصفر، والمشتري يحتاج إلى أن يبقي هذه الثمرة إلى وقت الأخذ، فتأتي الآفات السماوية، والآفة السماوية هي: ما لا صنع للآدمي فيها، مثل: الأمطار التي تفسد الثمار، والحر الشديد، والبرد، والعطش، والجراد.. إلخ، فإذا تلفت بآفة سماوية، يقول المؤلف: (رجع على البائع).
أقسام الجوائح باعتبار الضمان
القسم الأول: أن يكون التلف قبل التخلية، يعني قبل أن يخلي البائع بين الأشجار والثمرة، فالضمان هنا يكون من مال البائع.
القسم الثاني: أن يكون التلف بعد الجذاذ، يعني بعد أن جذ المشتري الثمرة تلفت، مثلاً: جاءت أمطار وأفسدتها، أو جاءت، رياح أو غبار فأفسدت هذه الثمار، فنقول: بأن الضمان من مال المشتري.
القسم الثالث: أن يكون التلف ما بين التخلية والجذاذ، يعني البائع خلى بين المشتري وبين الأشجار، لكن المشتري حتى الآن لم يجذ هذه الثمرة، فحصلت آفة سماوية أفسدت هذه الثمار، فهل يكون ذلك من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب مالك أن ذلك من ضمان البائع؛ ويدل لذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابتها جائحة فلا تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟! ). رواه مسلم في صحيحه أو كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً حديث جابر في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح). هذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي الحنفية والشافعية أن الجوائح لا توضع، وعلى هذا يكون الضمان من مال المشتري، واستدلوا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد (أن رجلاً أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه ). فلو كان وضع الجوائح مشروعاً لوضع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجائحة، فجعل الضمان من مال البائع ولم يجعله على المشتري، لكن هذا الحديث يحتمل أن هذا الدين الذي أصابه أنه بسبب الجائحة، ويحتمل أنه بسبب آخر غير الجائحة، فلا يلزم أن يكون هذا الدين الذي لحق هذا المشتري يلزم أن يكون بسبب الجائحة، والحديث ليس فيه تصريح في ذلك، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
فالصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه الإمام مالك وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو القول بوضع الجوائح.
مقدار ما يوضع من الجوائح
يقولون: لا توضع ما دام أن الجائحة أقل من الثلث، فلا توضع الجائحة إلا إذا بلغت الثلث، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك رحمه الله.
وأما ظاهر كلام المؤلف رحمه الله وهو مذهب الإمام أحمد : أنه لا فرق بين القليل وبين الكثير وهذا هو الصواب، إلا ما كان في الأشياء اليسيرة التي يصعب الاحتراز عنها ولا يمكن ضبطها، مثلاً: الإنسان اشترى هذا النخيل، فوجد بعض التمر أصابته الجائحة مثلاً: لم يأته الماء .. إلخ، فمثل هذه الأشياء اليسيرة نقول: لا توضع، لكن الأصل أنه يوضع القليل والكثير.
ومع أن السنة واضحة في هذا، إلا أنك تجد أن بعض البائعين أو كثيراً من البائعين يبيعون الثمار بعد بدو الصلاح وتصيبه الجوائح، وبعد ذلك يأبى البائع أن يضع هذه الجائحة أو أن يضمن هذه الثمرة، وهذا خلاف لما جاء في السنة.
ما يختص بوضع الجوائح
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى ومذهب المالكية أن وضع الجوائح خاص بالثمار، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس خاصاً بالثمار، يعني: يشمل الثمرة، ويشمل الزرع، فالحنابلة يقولون: خاص بالثمار، حتى لو كانت الثمرة مما يلقط تدخلها الجائحة كثمرة الطماطم أو نحو ذلك، ولا يشمل الزروع.
وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يشمل الثمار ويشمل الزروع، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعمم المسألة، وهذه مسألة مهمة، لا يرى أن وضع الجوائح خاص، بل يتعدى ذلك حتى في الإجارة، وهذا يحصل الآن كثيراً، فمثلاً: لو أن رجلاً استأجر دكاناً بعشرة آلاف ريال، ثم بعد ذلك أصيبت بضائعه وتلفت، فهل نلزمه بعقد الإجارة؟ أو نقول: توضع عنه الجائحة؟
ومثله أيضاً: لو أنه استأجر هذا الدكان، ثم انصرف الناس عن هذا المكان، يعني كان إيجار الدكان عندما كان الناس موجودين في هذا المكان عشرة آلاف، الآن ارتحل الناس عن هذا المكان فأصبح الإيجار خمسة آلاف، فهذه جائحة أصابته، أو مثلاً: هذا المحل حصل عنده حفريات -كما يوجد اليوم- وأصبح الناس لا يشترون ولا يتمكنون من الوصول إلى هذا المحل، فهذه جائحة أصابت هذا المحل، وواجب أن توضع هذه الجائحة وأن المؤجر يخفض الأجرة، ومثل ذلك أيضاً: ما يحصل اليوم من احتراق المصانع ونحو ذلك.
فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى العموم في وضع الجوائح خلافاً لما عليه الفقهاء من المالكية والحنابلة الذين قالوا بوضع الجوائح ويخصونها بالثمار فقط، أما شيخ الإسلام يعممها في الزروع وغير ذلك كما ذكرنا في الإجازة ونحو ذلك، والمهم أن القاعدة في ذلك هي كما جاء في حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح) وهذا يشمل الزروع والثمار والإيجارات والشركات ونحو ذلك.
وهذه المسألة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يكون التلف قبل التخلية، يعني قبل أن يخلي البائع بين الأشجار والثمرة، فالضمان هنا يكون من مال البائع.
القسم الثاني: أن يكون التلف بعد الجذاذ، يعني بعد أن جذ المشتري الثمرة تلفت، مثلاً: جاءت أمطار وأفسدتها، أو جاءت، رياح أو غبار فأفسدت هذه الثمار، فنقول: بأن الضمان من مال المشتري.
القسم الثالث: أن يكون التلف ما بين التخلية والجذاذ، يعني البائع خلى بين المشتري وبين الأشجار، لكن المشتري حتى الآن لم يجذ هذه الثمرة، فحصلت آفة سماوية أفسدت هذه الثمار، فهل يكون ذلك من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب مالك أن ذلك من ضمان البائع؛ ويدل لذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا بعت من أخيك ثمراً فأصابتها جائحة فلا تأخذ منه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟! ). رواه مسلم في صحيحه أو كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأيضاً حديث جابر في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح). هذا الرأي الأول.
والرأي الثاني: رأي الحنفية والشافعية أن الجوائح لا توضع، وعلى هذا يكون الضمان من مال المشتري، واستدلوا على ذلك بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد (أن رجلاً أصيب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمار ابتاعها، فكثر دينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تصدقوا عليه ). فلو كان وضع الجوائح مشروعاً لوضع النبي صلى الله عليه وسلم هذه الجائحة، فجعل الضمان من مال البائع ولم يجعله على المشتري، لكن هذا الحديث يحتمل أن هذا الدين الذي أصابه أنه بسبب الجائحة، ويحتمل أنه بسبب آخر غير الجائحة، فلا يلزم أن يكون هذا الدين الذي لحق هذا المشتري يلزم أن يكون بسبب الجائحة، والحديث ليس فيه تصريح في ذلك، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال.
فالصواب في هذه المسألة: ما ذهب إليه الإمام مالك وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو القول بوضع الجوائح.
ومع أنهم قالوا بوضع الجوائح إلا أنهم جعلوا ذلك إلى الثلث، فالثلث فما فوق يوضع، مثلاً: لنفرض أن رجلاً اشترى ثمرة ألف نخلة بعد أن بدا فيها صلاحها، أي: بعد أن بدأ فيها الاحمرار، أو الاصفرار، ثم بعد ذلك أجيحت بعض هذه النخل، فعندنا مائة نخلة أصابها العطش فتلفت ثمارها، فهل توضع الجائحة على رأي المالكية أو لا توضع؟
يقولون: لا توضع ما دام أن الجائحة أقل من الثلث، فلا توضع الجائحة إلا إذا بلغت الثلث، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك رحمه الله.
وأما ظاهر كلام المؤلف رحمه الله وهو مذهب الإمام أحمد : أنه لا فرق بين القليل وبين الكثير وهذا هو الصواب، إلا ما كان في الأشياء اليسيرة التي يصعب الاحتراز عنها ولا يمكن ضبطها، مثلاً: الإنسان اشترى هذا النخيل، فوجد بعض التمر أصابته الجائحة مثلاً: لم يأته الماء .. إلخ، فمثل هذه الأشياء اليسيرة نقول: لا توضع، لكن الأصل أنه يوضع القليل والكثير.
ومع أن السنة واضحة في هذا، إلا أنك تجد أن بعض البائعين أو كثيراً من البائعين يبيعون الثمار بعد بدو الصلاح وتصيبه الجوائح، وبعد ذلك يأبى البائع أن يضع هذه الجائحة أو أن يضمن هذه الثمرة، وهذا خلاف لما جاء في السنة.
وقول المؤلف رحمه الله تعالى: (وإن تلفت بآفة سماوية رجع البائع) هل وضع الجوائح خاص بالثمار أو أنه يشمل الثمرة والزروع؟
المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى ومذهب المالكية أن وضع الجوائح خاص بالثمار، وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ليس خاصاً بالثمار، يعني: يشمل الثمرة، ويشمل الزرع، فالحنابلة يقولون: خاص بالثمار، حتى لو كانت الثمرة مما يلقط تدخلها الجائحة كثمرة الطماطم أو نحو ذلك، ولا يشمل الزروع.
وعند شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أنه يشمل الثمار ويشمل الزروع، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يعمم المسألة، وهذه مسألة مهمة، لا يرى أن وضع الجوائح خاص، بل يتعدى ذلك حتى في الإجارة، وهذا يحصل الآن كثيراً، فمثلاً: لو أن رجلاً استأجر دكاناً بعشرة آلاف ريال، ثم بعد ذلك أصيبت بضائعه وتلفت، فهل نلزمه بعقد الإجارة؟ أو نقول: توضع عنه الجائحة؟
ومثله أيضاً: لو أنه استأجر هذا الدكان، ثم انصرف الناس عن هذا المكان، يعني كان إيجار الدكان عندما كان الناس موجودين في هذا المكان عشرة آلاف، الآن ارتحل الناس عن هذا المكان فأصبح الإيجار خمسة آلاف، فهذه جائحة أصابته، أو مثلاً: هذا المحل حصل عنده حفريات -كما يوجد اليوم- وأصبح الناس لا يشترون ولا يتمكنون من الوصول إلى هذا المحل، فهذه جائحة أصابت هذا المحل، وواجب أن توضع هذه الجائحة وأن المؤجر يخفض الأجرة، ومثل ذلك أيضاً: ما يحصل اليوم من احتراق المصانع ونحو ذلك.
فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يرى العموم في وضع الجوائح خلافاً لما عليه الفقهاء من المالكية والحنابلة الذين قالوا بوضع الجوائح ويخصونها بالثمار فقط، أما شيخ الإسلام يعممها في الزروع وغير ذلك كما ذكرنا في الإجازة ونحو ذلك، والمهم أن القاعدة في ذلك هي كما جاء في حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح) وهذا يشمل الزروع والثمار والإيجارات والشركات ونحو ذلك.
قال رحمه الله: (وإن أتلفه آدمي، خير مشترٍ بين الفسخ والإمضاء ومطالبة المتلف).
هذه الثمرة أتلفها آدمي، مثلاً: شب حريق بهذه النخيل أو بأشجار التفاح والبرتقال ونحو ذلك، هنا الآن التلف بفعل آدمي، فنقول للمشتري: لك الخيار؛ إما أن تفسخ وتطالب البائع بالثمن، والبائع يطالب المتلف، وإما أن تطالب المتلف مباشرة فأنت بالخيار.
ولماذا فرقنا بين الآفة السماوية وبين ما أتلفه الآدمي؟ الآفة السماوية تضمن -كما قال المؤلف- من مال البائع، وهنا إذا أتلفه الآدمي لم يقل من مال البائع بل قال للمشتري: أنت مخير بين أن تطالب البائع وبين أن تطالب المتلف، لماذا؟ سبق أن هذا من باب التوسيع على المشتري؛ لأن البائع قد تكون مطالبته شديدة فلا يتمكن منه فيرجع على المتلف، وقد تكون مطالبة المتلف شديدة فيرجع على البائع، فكوننا نوسع عليه نقول: أنت بالخيار أيها المشتري، إن شئت أن تطالب البائع، وإن شئت أن تطالب المتلف، فهذا أوسع له.
قال رحمه الله: (وصلاح بعض الشجرة، صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان).
لما ذكر المؤلف أن بيع الثمار لا يجوز قبل بدو الصلاح، الآن شرع في بيان ضابط بدو الصلاح، فقال: أولاً: (صلاح بعض الشجرة صلاح لها ولسائر النوع الذي في البستان) مثلاً: النخل صلاحه كما جاء في الحديث أنه يحمر أو يصفر، فإذا صلح بعض الثمر ولو بسرة واحدة جاز البيع، مثلاً: عندك ألف نخلة من السكري، وهناك بسرة واحدة بدأ فيها الاحمرار أو بدا فيها الاصفرار، فنقول: هنا يجوز لك أن تبيع ثمرة هذا السكري؛ فقال: (صلاح لها ولسائر النوع) ولنفرض أن البستان فيه أنواع: فيه سكري، وفيه برحي، وفيه شقر، وفيه عجوة.. إلخ، يعني فيه أنواع كثيرة، فإذا بدا صلاح بعض الثمرة، نقول: هذا صلاح لها ولسائر النوع، وهذا المشهور في المذهب، فمثلاً: إذا كان عندنا سكري، وبدأ الآن في نخلة احمرار أو اصفرار، فنقول: الصلاح لهذه النخلة ولسائر النوع؛ فيصح لك أن تبيع هذه النخلة ويصح أيضاً أن تبيع سائر النوع، والقاعدة: أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، وعلى هذا إذا أردت أن تبيع ثمرة نخل السكري كلها، فإذا بدأت ثمرة بسرة واحدة بالاحمرار أو الاصفرار صح، لكن إذا أردت أن تبيع بعض النخل، مثلاً: تبيع عشر .. إلخ. فنقول: لابد أن يبدو الصلاح في كل نخلة، أما إذا أردت أن تبيع كل النوع، فنقول: يكفي ولو صلاح بعض ثمرة؛ فيثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، وهذا هو المشهور من المذهب، وهو الرأي الأول.
وعلى هذا الأنواع الأخرى لا يصح لك أن تبيعها؛ لأن بعض الثمار يختلف، فبعضه يتسارع صلاحه، وبعضه يتأخر صلاحه، فصلاح هذا النوع ليس صلاحاً للنوع الآخر، فتبيع السكري إذا بدا فيه الصلاح، لكن البارحي ليس لك أن تبيعه حتى يبدو فيه الصلاح، وهذا هو المشهور من المذهب.
الرأي الثاني: أن صلاح بعض الثمرة صلاح لها وصلاح لسائر الجنس، وعلى هذا إذا بدا صلاح الثمرة في أي نوع من الأنواع كالبارحي أو السكري نقول: هذا الصلاح لسائر الجنس، أي: صلاح لسائر التمر، فكل التمر يكون هذا صلاحاً له، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو مذهب المالكية والشافعية وهذا القول هو الأقرب، وعلى هذا إذا بدا الصلاح في بسرة واحدة، نقول: بدا الآن الصلاح في سائر الأنواع، وأن الغالب في أنواع الجنس أن طيبه وصلاحه يتقارب عادة.
قال المؤلف رحمه الله: (وبدو الصلاح في ثمر النخل أن تحمر أو تصفر، وفي العنب أن يتموه حلواً، وفي بقية الثمرات أن يبدو فيه النضج ويطيب أكله).
ما هو بدو الصلاح؟ قال المؤلف رحمه الله: إن هذا لا يخلو من أمرين:
الأمر الأول: أن تكون الثمرة نخلاً، فنقول: بأن بدو الصلاح فيها أن يحمر أو يصفر ويدل لذلك (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى تحمار أو تصفار).
الأمر الثاني: ما عدا ذلك من الثمار، مثل: ثمرة البرتقال والتفاح والعنب ونحو ذلك، نقول: بدو الصلاح فيها كما قال المؤلف: أن يبدو فيه النضج وأن يطيب أكله، فإن بدأ فيها النضج وطاب أكلها فهذا هو صلاح الثمرة.
قال رحمه الله: (ومن باع عبداً له مال فماله لبائعه إلا أن يشترطه المبتاع).
ودليل ذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من باع عبداً له مال فماله لبائعه، إلا أن يشترط المبتاع).
ثم قال المؤلف: (فإن كان قصده المال، اشترط علمه، وسائر شروط البيع وإلا فلا).
ويعني: إذا كان قصده المال الذي مع هذا الرقيق، فإنه يشترط أن يعلم المشتري بهذا المال.
وقوله: (وسائر شروط البيع) يعني كأنه الآن اشترى سلعة أخرى، كما أنه لو اشترى هذا الرقيق، كذلك أيضاً كأنه الآن اشترى سلعة أخرى، ولهذا قال: (اشترط علمه، وسائر شروط البيع).
وقوله: (وإلا فلا) إذا كان ليس قصده المال فإن هذا لا يشترط.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] | 2818 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] | 2731 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] | 2678 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] | 2645 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] | 2640 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] | 2558 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] | 2555 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] | 2528 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] | 2521 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] | 2498 استماع |