أرشيف المقالات

من لغو الصيف:

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
إلى الإسكندرية.
للأستاذ سيد قطب إلى الإسكندرية.
لابد من تغيير الهواء في هذا العام.

فها هي ذي أعصابي تعلن الثورة، وتعلنها وتعلنها، ثم تمل من هذا الإعلان فتضرب إضرابا تاما وتنام!.

وها هو ذا الطبيب والطبيب والطبيب، لا يجدون في جعبتهم - بعد أن أتناول نصف ما في صيدلية حلوان من الأدوية حقنا وتجرعا وبلعا - إلا أن يقولوا: غير الهواء! لا بد من تغيير الهواء في هذا العام.

فقد انقضت سبع سنوات عجاف ولم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا إلا أياما في الصعيد - في مطلع الصيف - (للتفتيش)! التفتيش لحساب وزارة المعارف (ولا أدري متى تغير هذا العنوان، ومتى تغير - تبعا لهذا - وظيفته فتجعلها مثلا (التوجيه) اسما ومعنى (. لم يكن تفتيشا في الواقع.
لقد كان نفيا! كانت الحرب، وكانت الأحكام العرفية، وقال الوزير: لا بد أن يفصل هذا الموظف أو ينفي من الأرض أو يشرد فيها.
فقد أبلغتني إدارة الأمن العام عنه أشياء! إدارة الأمن العام؟ أي إدارة الأمن العام!.

وأبلغتني أنه يعمل لحساب المعارضة.

ثم إن (دوسيهه) ليس نظيفا.
فيه إنذاران على كتابته في الصحف مقالات سياسية وهو موظف! موظف.
أي عبد.
لا رأي له في قضية بلده، ولو لم يكن لهذا الرأي صفة الحزبية! وأبلغت أنني منفي من الأرض.
وقررت أن أستقيل! وأباها الرجل الأريحي الدكتور طه حسين.
وقال: لن تصنعها وأنا هنا في الوزارة! قلت: ولكنني لن أخضع لأهواء الوزراء.
واجهوني بما يقال عني، ثم اصنعوا ما تشاءون.
وسأصنع كذلك ما أشاء! قال: وإذا استقلت فماذا تصنع وأنا أعرف أعباءك الثقال؟ قلت: أصنع ما يتيهأ لي، فلست من عجزة الديوان! قال: لن تستطيع أن تصنع شيئا في هذه الأيام.
فالأحكام العرفية تملك أن تنقلك إلى أي مكان، وأن تلزمك الإقامة في هذا المكان، حتى لو استقلت من الحكومة! فخير لك أن تقيم فيه موظفا، ولا تقيم فيه منفيا! قلت: معذرة يا سيدي الدكتور؛ فإني أفضل أن أقيم هناك منفيا! ثم.

ثم.

إنني سأكون بطلا في عهد الوزارة القادمة! (ولم لا؟ ألم تتدهور البطولة عندنا حتى صارت تكتسب بالنقل إلى جهة نائية في عهد من العهود، أو بالتخلف عن درجة استثنائية كالزملاء!). وقال الرجل: - أتنفي لي أنك أتيت ما نسب إليك؟ - قلت: وهل أدري ما ينسب إلي؟ - قال: أشياء، جلست في بار اللواء، وقلتها لبعض الجالسين والأصدقاء عن بعض الوزراء! ومعارضات سرية للعهد الحاضر تنفيذا لخطة حزبية معينة. - قلت لقد اعتدت أن أنشر آرائي، وأن أوقعها بإمضائي.
فليس من عادتي أن أثرثر في المجالس بشيء! أو أن أعمل في الخفاء!. - قال: وأنت عندي مصدق.
فدع لي الأمر.
وسأحدث أزمة من أجلك لو اقتضى الحال!. ووفق الرجل بين أريحيته الكريمة وتشدد الوزير.
فكلفني أن أقوم بمهمة تفتيشية في الصعيد لمدة شهرين اثنين، أختار فيها من الجهات والمدارس ما أشاء، وأكتب له تقريرا شاملا عن دراسة اللغة العربية في المدارس على اختلافها، وأفصل اقتراحاتي في إصلاح هذه الدراسة بصفة عامة!. ووجدت في ذات المهمة ما يغري، وفي أريحية الرجل ما يخجل.

فنفت التكليف. نفذته متناسيا - بل ناسيا - تلك المهزلة، مهزلة الاتهام.
لقد أخطأ الوزير.
أخطأ، فلم أعد أجد في حزب من هذه الأحزاب ما يستحق عناء الحماسة له والعمل من أجله.
كلهم سواء أولئك الرجال! رجال الجيل الماضي.
للجميع عقلية واحدة لا تصلح لهذا الجيل - عقلية أنصاف الحلول - كلهم نشأوا وفي قرارة نفوسهم أن إنجلترا دولة لا تقهر؛ وأن الفقر مرض مستوطن.
.
وكلهم يؤمن - إن كانت قد بقيت لأحد منهم طاقة الإيمان بشيء - أن الله خلق الدنيا في ستة أيام!. هؤلاء جميعا لم يعودوا يصلحون لقيادة الجيل.
أعصاب منهوكة.
وقلوب خاوية من الإيمان الحار بشعبهم وأمتهم.
كلهم يستحقون (المعاش)، كلهم سواء، لا يستحقون من الجيل الجديد الحماس! إلى الإسكندرية.
فقد انقضت سبع سنوات عجاف لم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا، إلا لهذا (التفتيش)! ولم أبصر فيها وجه البحر يسفر، ولم أستمع فيها إلى صوته يجيش.

وكيف؟ ولم أكن (غنى حرب!) بل موظفا وصاحب قلم؟! موظفا في وزارة المعارف.
لا في وزارة التموين، ولا في وزارة التجارة، ولا حتى في الأشغال أو المواصلات!.
وصاحب قلم للأدب أو السياسة القومية؛ لا للدعاية الإنجليزية والأمريكية ولا للسياسة الحزبية فأنى لي بوجه البحر في تلك السنوات العجاف؟! وهبني كنت أجد المال الذي أجارى به أغنياء الحرب ومأجوري الدعاية أو الحزبية، فما يحملني على أن أكون من أهداف طيارات المحور، ولست ضابطا ولا جنديا في الجيش المصري الذي احتمل ضحاياه في أثناء الحرب، دون أن يفوز بشرف الحرب!. لقد كان موقف الساسة المصريين حرجا حقا! فهم لا يعلنون الحرب على المحور - ولهم العذر - فلم يعلنونها؟ ليقاوموا احتلالا متوقعا، وهم في احتلال واقع؟! لينصروا الديمقراطية، والديمقراطية تفعل بهم الأفاعيل؟.

أم لا يعلنون الحرب، ومصر تحتمل ويلاتها بلا مقابل، وتهدد في النهاية بأنها إذا لم تعلن الحرب فستحرم من مؤتمر الصلح.
(ثم تعلنها وتحرم من مؤتمر الصلح أيضا!). أم لا تعلن الحرب، ولا تساهم فيها؟.

هناك معاهدة الشرف والاستقلال، وهناك الشيخوخة الروحية، وهي أشد (شرفا) من معاهدة الشرف والاستقلال!!!. إنهم رجال الجيل الماضي! أولئك الذين لا يعرفون متى يحسن اللاعب أن ينسحب من الميدان. إلى الإسكندرية.
فقد انقضت سبع سنوات عجاف لم أغادر فيها حلوان شتاء ولا صيفا إلا لذلك (التفتيش) السياسي العجيب! ولكن ما هذا؟ أهذه محطة القاهرة؟ أم ذلك يوم الحشر الأكبر؟ ما بال الناس هكذا يتدافعون بالمناكب، ولا يعرف حميم حميما؟ أهذا قطار؟ أم حمام الثلاثاء! وإن كنت لا أعرف حمام الثلاثاء.
ولعل الدكتور زكي مبارك يعرفه فله قصيدة عن ليلة الثلاثاء.
لا بد أنها كتبت هناك! فلنزاحم، على شدة ما أكره الزحام! الحمد لله! لقد وجدت مكانا.

مكانا للحقيبة في (طرقة) العربة.
في الممر.

وهل ذلك شيء هين؟ إن السعيد من يجد لحقيبته مكانا في هذا الممر.
إنه بعد أن يهدأ القطار ويروق، وينزل المودعون الذين يكظون الفراغ كظاً، يستطيع أن يتخذ من حقيبته مقعداً، بينما الآخرون يقفون طول الطريق خفافًا أو ثقالا يحملون بعض متاعهم، ما لم يريحوه على أقدام المسافرين!!! وجلست بعد فترة ووقف الآخرون.
وسار القطار.
.
وفي الزحام الشديد وقعت عيناي على سيدة شابة جميلة واقفة تحمل شيئا، شيئا أثمن من كل ما يحمل المسافرون.

تحمل جنينا! وبمقدار ما يثير في نفسي منظر الشابة الحامل من الأسى، يثير في نفسي كذلك الاحترام والإشفاق. فأما الأسى، فعلى ذلك الجمال الضائع.
كلما تخيلت هذه الشابة في رشاقتها الفاتنة، ثم في هذه الكظة التي عير بها ابن الرومي - سامحه الله - إحدى المغنيات! إنه أسى يكمد نفسي ويؤذيها بقدر ما ترتفع في هذه الشابة درجة الجمال!. وأما الاحترام والإشفاق فلهه التضحية النبيلة التي تبذلها الفتاة للحياة - أرادت أم لم ترد.
وشعرت أم لم تشعر - التضحية بالجمال - أعز شيء في هذه الحياة - وبالراحة، وبالذاتية كلها في النهاية التضحية إلى حد الفناء! أقول وقعت عيناي على هذه السيدة الشابة الجميلة تحمل كنزها وكنز الحياة في حرص وإشفاق.
وتحركت في نفسي كل هذه المعاني، فوقفت متنازلا عن مقعدي الخاص - على ما برجلي من ألم وما بأعصابي من تعب - لهذه السيدة المضحية.

فجلست شاكرة.
وفجأة همس في أذني أحد الواقفين: خسارة! إنها لا تستحق، إنها من بنات صهيون!. وتفرست في ملامحها فرجحت رأى الزميل - الزميل في الوقوف - وكدت أنا الآخر أندم ما صنعت لولا نظرة إلى الحمل الثمين! قلت: ليت الصهيونيين يعلمون ماذا يفعلون! إنهم بموقفهم الإجرامي في قضية فلسطين يكادون يجردون نفوسنا حتى من العطف الإنساني، والروح الآدمي على أبناء صهيون، وبناته الملاعين! ماذا يكسب أولئك الصهيونيون من عداء العرب؟ العرب الذين عطفوا عليهم وآووهم.

على مدى التاريخ - والعالم كله يسومهم سوء النكال؟! ماذا يكسب أولئك الصهيونيون من خطتهم الحمقاء التي تثير عليهم سبعين مليونا من العرب، ومائة مليون على الأقل من المسلمين الآخرين في مشارق الأرض ومغاربها، دون أن تكسبهم صداقة حقيقية من أحد في هذا الكوكب الأرضي - ولا في كواكب السماء -! فهذه أمريكا التي تشتري أصواتهم الانتخابية ونفوذهم المالي بتصريحات جوفاء، لا ترضى بأن تبيح لهم الهجرة إلى بلادها الواسعة الغنية، بدل هذه التصريحات الجوفاء.
وهذه إنجلترا التي تحميهم بالمدافع والدبابات لا تشارك في تخفيف محنتهم بإيوائهم في مستعمراتها الواسعة! لقد كان لهم من صدور العرب الكرام حصن رفيق رحيم في عهود التشريد المديدة، ففقدوا بحماقتهم في النهاية هذا الحصن الرفيق الرحيم. هذا كل ما جنوه من سياستهم الأثيمة الحمقاء. إلى الإسكندرية.
وها هي ذي مشارفها تبدو.
الركاب يتحركون.
يتحركون - ولا مؤاخذة - حركة بغلة الشاعر القاهري الظريف - البها زهير - أو بغلة صديقه على الأصح: لك يا صديقي بغلة ...
ليست تساوي خردلة تمشي فتحسبها العيو ...
ن على الطريق مشكلة تهتز وهي مكانها ...
فكأنما هي زلزلة وتخال مدبرة إذا ...
ما أقبلت مستعجلة مقدار خطوتها الطوي ...
لة حين تسرع: أنملة أشبهتها بل أشبه ...
تك كأن بينكما صلة! إلى الإسكندرية.
فقد أوصيت زميلا كصديق البها زهير! أن يختار لي منزلا هادئاً فاختاره - حفظه الله - على هواه. أما قصة ذلك المنزل.

فإلى حديث آخر من (لغو الصيف) الذي اخترته في هذا الأوان بعداً بنفسي وبالقراء عن معارك النقد الحامية، وعن مضايقة عباد الله المؤلفين، وكفى الله المؤمنين القتال!!! سيد قطب

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير