شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [10]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وله الدفع بعد نصف الليل وقبله فيه دم، كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله، فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فيرقاه أو يقف عنده، ويحمد الله ويكبره، ويقرأ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] الآيتين. ويدعو حتى يسفر، فإذا بلغ محسِّراً أسرع رمية حجر، وأخذ الحصى وعدده سبعون بين الحمص والبندق، فإذا وصل إلى منى، وهي من وادي محسر إلى جمرة العقبة رماها بسبع حصيات متعاقبات، يرفع يده حتى يرى بياض إبطيه، ويكبر مع كل حصاة ولا يجزئ الرمي بغيرها ولا بها ثانياً ولا يقف ويقطع التلبية قبلها، ويرمي بعد طلوع الشمس ويجزئ بعد نصف الليل، ثم ينحر هدياً إن كان معه، ويحلق أو يقصر من جميع شعره وتقصر منه المرأة أنملة، ثم قد حل له كل شيء إلا النساء، والحلاقة والتقصير نسك لا يلزم بتأخيره دم، ولا بتقديمه على الرمي والنحر].

تقدم لنا ما يتعلق بالوقوف بعرفة، وذكرنا وقته ومدته، وما يستحب فيه، وأن وقته يبدأ من بعد طلوع الفجر الثاني من يوم عرفة على المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وعند الحنفية والشافعية أنه يبدأ من بعد الزوال، وعند الإمام مالك رحمه الله أن وقت الوقوف الركن يبدأ من بعد غروب الشمس، بمعنى أن من دفع قبل أن تغرب الشمس ولم يرجع حتى طلع الفجر الثاني من يوم النحر فقد فاته الحج، وذكرنا أن الأقرب في هذه المسألة أن وقت الوقوف بعرفة يبدأ من بعد الزوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما زالت الشمس انتقل من نمرة إلى بطن عرنة، وبطن عرنة ليس من عرفات، كما جاء في الحديث وكما ثبت ذلك أيضاً عن الصحابة بأسانيد صحيحة، أن بطن عرنة (الوادي) ليس من عرفات.

وذكرنا أيضاً خلاف أهل العلم رحمهم الله تعالى في نمرة، هل هي من عرفات أو ليست من عرفات، وأن جمهور أهل العلم أنها ليست من عرفات، وأن الإمام مالك رحمه الله يرى أنها من عرفات، وذكرنا أن الصواب أنها ليست من عرفات؛ لأنها بعد بطن عُرنة، وبطن عُرنة كما أسلفنا ليس من عرفات.

كذلك آخر وقت الوقوف هو طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، وهذا بالإجماع، كما دل على ذلك حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي رضي الله تعالى عنه.

كذلك أيضاً ما يتعلق بالجمع بين الصلاتين، بين الظهر والعصر .. إلخ. تكلمنا على هذه المسألة، وما هي علة الجمع، وما هي علة القصر، وهل يجمع أهل مكة ويقصرون، أو أنهم لا يجمعون ولا يقصرون، سبق الكلام على هذه المسائل.

وكذلك أيضاً ذكرنا أن مدة الوقوف بعرفة ولو لحظة واحدة، ويشترط أن يكون محرماً، حتى ولو كان جاهلاً أنها عرفة، كما دل على ذلك حديث عروة بن مضرس رضي الله تعالى عنه. إذا وقف فيها وهو نائم، أو وقف فيها وهو مغمى عليه، هل يصح وقوفه أو لا يصح، تقدم الكلام على هذه المسائل.

قال المؤلف رحمه الله: (ويبيت بها).

الضمير يرجع إلى مزدلفة، والبيتوتة بمزدلفة واجبة من واجبات الحج، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، خلافاً للحنفية، فإن الحنفية يرون أن البيتوتة بمزدلفة سنة بالنسبة للضعفاء، وواجبة على الأقوياء.

والرأي الثالث في هذه المسألة: أن البيتوتة في مزدلفة سنة، وهذا قال به بعض الشافعية.

وذكرنا أن الصواب في هذه المسألة أن البيتوتة بمزدلفة واجبة من واجبات الحج. ويدل لذلك قول الله سبحانه وتعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]، هذا أمر والأصل في الأمر الوجوب، ومن ذكره البيتوتة، كما بات النبي صلى الله عليه وسلم.

ومن الأدلة على الوجوب: حديث عروة بن المضرس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى ندفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً، فقد تم حجه وقضى تفثه)، يدل على أنه لا بد من هذه الصلاة والوقوف بمزدلفة، فدل ذلك على وجوب البيتوتة بمزدلفة.

أما بالنسبة للحنفية الذين قالوا: بأن البيتوتة بمزدلفة سنة للضعفاء، فكما سيأتينا أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للضعفاء، كما في حديث ابن عمر وحديث ابن عباس. فكون النبي صلى الله عليه وسلم رخص له في الدفع فيدل ذلك على أنها سنة، وهذا الاستدلال فيه نظر، بل ترخيص النبي صلى الله عليه وسلم بالدفع يدل على الوجوب؛ لأن مقابل الرخصة عزم، فهذا يدل على الوجوب، فالصحيح في ذلك هو ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.

هذا وذهب الحسن البصري والنخعي والشعبي وكذلك أيضاً علقمة والأسود إلى القول بالركنية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. لكن الصواب في ذلك أن ما ذهب إليه الجمهور وهو وسط بين الركنية والقول بالسنية، وأما قول الله عز وجل: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. فإجماع العلماء على أنه لو لم يذكر الله في المشعر الحرام فإن حجه تام.

قال رحمه الله: (قبله فيه دم) الشافعية والحنابلة يرون أن بدء الأنساك بيوم النحر؛ لأن يوم النحر يشرع فيه رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة والسعي والحلق والدفع من مزدلفة إلى منى، فهذه خمسة أنساك: رمي جمرة العقبة، وطواف الإفاضة، والسعي، والدفع من مزدلفة إلى منى، والحلق أو التقصير. وهذه الأنساك الخمسة كلها تبدأ من بعد نصف الليل.

هذا المشهور من مذهب الإمام أحمد ومذهب الشافعي، والصواب أن هذه الأنساك، تبدأ من بعد دخول وقت الدفع من مزدلفة إلى منى، وسيأتينا إن شاء الله بيان ذلك بإذن الله عز وجل.

الدفع من مزدلفة للضعفة ومن في حكمهم

المؤلف رحمه الله تعالى يقول: (وله الدفع بعد نصف الليل).

يعني: إذا انتصف الليل فله أن يدفع، سواء كان قوياً أو ضعيفاً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول الشافعية.

المالكية يرون أن له أن يدفع إذا جلس بمزدلفة قدر حط الرحال، فإذا جلس في مزدلفة قدر حط الرحال فله أن يدفع، سواء كان ذلك في أول الليل أو في وسطه، أو في آخره.

الحنفية يقولون: لا بد أن يقف بمزدلفة بعد طلوع الفجر ولو لحظة واحدة.

والذي يظهر والله أعلم هو ما ذهب إليه ابن القيم وغيره، وهو أن يقال: أما بالنسبة للضعفاء فالمستحب لهم أن يمكثوا إلى غروب القمر، كما ورد عن أسماء رضي الله تعالى عنها أنها كانت تصلي بالمزدلفة وتسأل عن غروب القمر، فإذا أخبرت بغروبه دفعت.

وأما بالنسبة للأقوياء فنقول: السنة في حقهم أن يمكثوا بمزدلفة إلى طلوع الفجر، وأن يذكروا الله عز وجل بعد طلوع الفجر؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والأقوياء الذين يكونون تابعين للضعفاء يأخذون حكم الضعفاء، فلهم أن يتعجلوا، فبما أن السنة في حق الضعفاء أن يتعجلوا فنقول: بالنسبة للأقوياء الذين يقومون بشؤون الضعفاء، مثل: قائدي السيارات، والخدم، والموظفين الذين يعنون بشؤونهم .. إلخ. هؤلاء حكمهم حكم الضعفاء يدفعون بعد غروب القمر.

قول المؤلف رحمه الله تعالى: (وقبله فيه دم).

يعني: لو دفع قبل نصف الليل فعليه دم، لأنه يجب عليه أن يمكث إلى نصف الليل كما تقدم.

خلافاً للمالكية؛ فإن المالكية كما سلف لنا إذا مكث بمزدلفة قدر حط الرحل فله أن يدفع ولو كان ذلك في أول الليل.

أقل المبيت بمزدلفة

قال المؤلف: (كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله).

إذا وصل بعد طلوع الفجر، يقول المؤلف رحمه الله تعالى: يلزمه دم؛ لأنه انتهى وقت الليل، فليلة المزدلفة ينتهي وقتها بطلوع الفجر، فإذا طلع الفجر انتهى وقت الليل. فيقول المؤلف رحمه الله: إذا وصل إلى مزدلفة بعد الفجر فات وقت البيتوتة بمزدلفة، ويلزمه دم؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج. هذا عند الشافعية والحنابلة.

وعند الحنفية كما سلف لنا، لا يلزمه شيء؛ لأن البيتوتة الواجبة قدر لحظة بعد طلوع الفجر.

وعند المالكية أيضاً يلزمه دم؛ لأنهم يقولون: البيتوتة الواجبة قدر حط الرحل سواء كان ذلك في أول الليل أو في وسطه أو في آخره.

والذي يظهر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عروة بن المضرس أنه إذا جاء بعد طلوع الفجر، في وقت صلاة الفجر فإنه لا شيء عليه، وأنه قد أدرك؛ لأن عروة رضي الله تعالى عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المزدلفة في صلاة الفجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه، وقضى تفثه).

ويظهر والله أعلم، أنه إذا جاء بعد طلوع الفجر، وصلى مع الناس، أن حجه تام وأنه لا يلزمه شيء.

وهذه المسألة يقع فيها كثير من الناس اليوم، خصوصاً بسبب زحام السيارات، فتجد أنه لا يأتي إلا بعد طلوع الفجر، فنقول: إذا جاء في وقت الصلاة وصلى مع الناس فهذا حاله كحال عروة رضي الله تعالى عنه.

صلاة الصبح بمزدلفة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فرقاه أو يقف عنده، ويحمد الله ويكبره، ويقرأ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]).

يقول المؤلف رحمه الله: السنة أن يصلي الصبح بغلس، وهل يوتر في تلك الليلة أو لا يوتر، أو هل يقوم في تلك الليلة، أو نقول: بأنه لا يقوم الليل؟

جابر رضي الله تعالى عنه ذكر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم الطويل الذي أخرجه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نام حتى طلع الفجر. فظاهر حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحيي تلك الليلة بالقيام؛ لأن الحاج سيستقبل يوم الحج الأكبر، وفيه الرمي والحلق والطواف والسعي والتقصير .. إلخ، سيستقبل هذه الأنساك العظيمة، فلا بد أن يستريح في تلك الليلة، ولكن يبقى الوتر، فهدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحافظ على الوتر في السفر والحضر، فنقول: لا يمنع ذلك أن يوتر، ثم بعد ذلك ينام.

وكذلك أيضاً دل حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس، يعني: صلاها في أول الوقت.

الوقوف عند المشعر الحرام

وقال المؤلف رحمه الله: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام)، المشعر الحرام هذا اختلف فيه على قولين:

القول الأول: أن المراد بالمشعر الحرام كما في قول الله عز وجل: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. أن المراد بذلك هو سائر مزدلفة.

والرأي الثاني: أن المراد بالمشعر الحرام هو جبل في مزدلفة يقال له: قزح، والآن المسجد المبني بمزدلفة، هو المشعر الحرام الخاص، ومزدلفة هي مشعر حرام على سبيل العموم، لكن على سبيل الخصوص، هناك مشعر خاص، وهو ما يسمى بجبل قزح، لكن هذا الجبل الآن هو الذي بني عليه مسجد مزدلفة الآن.

على كل حال: السنة إذا طلع الفجر أن يصلي صلاة الفجر بغلس، وأن يستقبل القبلة، وأن يحمد الله ويكبره ويهلله، إلى أن يسفر جداً.

قول المؤلف: (ويقرأ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] الآيتين. ويدعو حتى يسفر).

قراءة هاتين الآيتين: هذا لا دليل عليه، فالذي جاء في حديث جابر : حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا وكبر، وهلل ووحد، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، ثم دفع قبل طلوع الشمس، أما قراءة هاتين الآيتين فهذا لم يرد فيه شيء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً ما وقفت على شيء من آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم في قراءة هاتين الآيتين.

وقت الدفع من مزدلفة لعامة الناس

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويدعو حتى يسفر، فإذا بلغ محسِّراً أسرع رمية حجر).

يدعو حتى يسفر، قال محمد بن الحسن من الحنفية، يظل واقفاً إلى أن يبقى على طلوع الشمس قدر ركعتين، فإذا بقي على طلوع الشمس قدر ركعتين، فإنه يدفع من مزدلفة إلى منى.

وهذا التحديد بركعتين اجتهاد منه رحمه الله تعالى وإلا فالذي جاء في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل وافقاً حتى أسفر جداً.

والدفع قبل طلوع الشمس، هذا فيه مخالفة لأهل الجاهلية؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، كي لا نغير. فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفع قبل طلوع الشمس.

قوله رحمه الله: (فإذا بلغ محسراً).

ومحسر هو واد: بين مزدلفة ومنى.

يقول المؤلف رحمه الله: (أسرع رمية حجر) يعني: قدر رمية حجر، وقد ذكر الأزرقي رحمه الله أن قدر محسر هذا خمسمائة وخمسة وأربعون ذراعاً.

وقول المؤلف رحمه الله: (قدر رمية حجر) هذا ثابت عن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه يسرع قدر رمية بإسناد صحيح.

واختلف العلماء رحمهم الله ما الحكمة من الإسراع، فقيل: لأنه محل هلاك أصحاب الفيل. وهذا ضعيف؛ لأن أصحاب الفيل أهلكوا في مكان يقال له: المغمس، قبل الحرم، يعني: قبل أن يدخلوا الحرم.

وقيل: إن هذا المكان مكان تفقه النصارى.

وقيل: إن أهل الجاهلية يقفون في هذا المكان، ويذكرون أحسابهم وأنسابهم ويتفاخرون.. إلخ. وهذا القول هو أقرب الأقوال، أنه مكان تقف فيه أهل الجاهلية، والقرآن أشار إلى هذا: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]. فالذي يظهر والله أعلم: أنه مكان تقف فيه الجاهلية يفتخرون بأحسابهم وأنسابهم .. إلخ.

أخذ الحصى من مزدلفة

قال رحمه الله: (وأخذ الحصى).

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: يأخذ الحصى من حيث شاء، أخذها من الحل أو من الحرم، هذا كله جائز، لكن ورد عن بعض السلف كـابن عمر رضي الله تعالى عنه وسعيد بن جبير أنهم كانوا يتزودون من مزدلفة؛ لأن رمي جمرة العقبة هو تحية منى؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع من مزدلفة إلى منى أخذ الطريق الوسطى التي تخرج على جمرة العقبة، ولم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم عن راحلته، ولم يعرج على رحله بمنى حتى رمى جمرة العقبة؛ لأن رمي جمرة العقبة هو تحية منى، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أنه يستحب أن تؤخذ الحصى من مزدلفة لما ذكرنا لئلا يشتغل بأخذ الحصى في منى، ولأن هذا أيضاً وارد عن بعض السلف كـابن عمر وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما.

والذي يظهر من حديث ابن عباس -إن ثبت الحديث-: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحصيات من عند الجمرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث قال له غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى، قال: فلقطت له سبع حصيات كحصى الخذف، فيظهر والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من عند الجمرة.

لكن هذا الحديث وإن صححه الحاكم إلا أن فيه مقالاً، وعلى كل حال من أي مكان أخذها أجزأ.

المؤلف رحمه الله تعالى يقول: (وله الدفع بعد نصف الليل).

يعني: إذا انتصف الليل فله أن يدفع، سواء كان قوياً أو ضعيفاً، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وهو قول الشافعية.

المالكية يرون أن له أن يدفع إذا جلس بمزدلفة قدر حط الرحال، فإذا جلس في مزدلفة قدر حط الرحال فله أن يدفع، سواء كان ذلك في أول الليل أو في وسطه، أو في آخره.

الحنفية يقولون: لا بد أن يقف بمزدلفة بعد طلوع الفجر ولو لحظة واحدة.

والذي يظهر والله أعلم هو ما ذهب إليه ابن القيم وغيره، وهو أن يقال: أما بالنسبة للضعفاء فالمستحب لهم أن يمكثوا إلى غروب القمر، كما ورد عن أسماء رضي الله تعالى عنها أنها كانت تصلي بالمزدلفة وتسأل عن غروب القمر، فإذا أخبرت بغروبه دفعت.

وأما بالنسبة للأقوياء فنقول: السنة في حقهم أن يمكثوا بمزدلفة إلى طلوع الفجر، وأن يذكروا الله عز وجل بعد طلوع الفجر؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، والأقوياء الذين يكونون تابعين للضعفاء يأخذون حكم الضعفاء، فلهم أن يتعجلوا، فبما أن السنة في حق الضعفاء أن يتعجلوا فنقول: بالنسبة للأقوياء الذين يقومون بشؤون الضعفاء، مثل: قائدي السيارات، والخدم، والموظفين الذين يعنون بشؤونهم .. إلخ. هؤلاء حكمهم حكم الضعفاء يدفعون بعد غروب القمر.

قول المؤلف رحمه الله تعالى: (وقبله فيه دم).

يعني: لو دفع قبل نصف الليل فعليه دم، لأنه يجب عليه أن يمكث إلى نصف الليل كما تقدم.

خلافاً للمالكية؛ فإن المالكية كما سلف لنا إذا مكث بمزدلفة قدر حط الرحل فله أن يدفع ولو كان ذلك في أول الليل.

قال المؤلف: (كوصوله إليها بعد الفجر لا قبله).

إذا وصل بعد طلوع الفجر، يقول المؤلف رحمه الله تعالى: يلزمه دم؛ لأنه انتهى وقت الليل، فليلة المزدلفة ينتهي وقتها بطلوع الفجر، فإذا طلع الفجر انتهى وقت الليل. فيقول المؤلف رحمه الله: إذا وصل إلى مزدلفة بعد الفجر فات وقت البيتوتة بمزدلفة، ويلزمه دم؛ لأنه ترك واجباً من واجبات الحج. هذا عند الشافعية والحنابلة.

وعند الحنفية كما سلف لنا، لا يلزمه شيء؛ لأن البيتوتة الواجبة قدر لحظة بعد طلوع الفجر.

وعند المالكية أيضاً يلزمه دم؛ لأنهم يقولون: البيتوتة الواجبة قدر حط الرحل سواء كان ذلك في أول الليل أو في وسطه أو في آخره.

والذي يظهر من سنة النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث عروة بن المضرس أنه إذا جاء بعد طلوع الفجر، في وقت صلاة الفجر فإنه لا شيء عليه، وأنه قد أدرك؛ لأن عروة رضي الله تعالى عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المزدلفة في صلاة الفجر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (من شهد صلاتنا هذه، فوقف معنا حتى ندفع، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه، وقضى تفثه).

ويظهر والله أعلم، أنه إذا جاء بعد طلوع الفجر، وصلى مع الناس، أن حجه تام وأنه لا يلزمه شيء.

وهذه المسألة يقع فيها كثير من الناس اليوم، خصوصاً بسبب زحام السيارات، فتجد أنه لا يأتي إلا بعد طلوع الفجر، فنقول: إذا جاء في وقت الصلاة وصلى مع الناس فهذا حاله كحال عروة رضي الله تعالى عنه.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام فرقاه أو يقف عنده، ويحمد الله ويكبره، ويقرأ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198]).

يقول المؤلف رحمه الله: السنة أن يصلي الصبح بغلس، وهل يوتر في تلك الليلة أو لا يوتر، أو هل يقوم في تلك الليلة، أو نقول: بأنه لا يقوم الليل؟

جابر رضي الله تعالى عنه ذكر في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم الطويل الذي أخرجه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم نام حتى طلع الفجر. فظاهر حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحيي تلك الليلة بالقيام؛ لأن الحاج سيستقبل يوم الحج الأكبر، وفيه الرمي والحلق والطواف والسعي والتقصير .. إلخ، سيستقبل هذه الأنساك العظيمة، فلا بد أن يستريح في تلك الليلة، ولكن يبقى الوتر، فهدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحافظ على الوتر في السفر والحضر، فنقول: لا يمنع ذلك أن يوتر، ثم بعد ذلك ينام.

وكذلك أيضاً دل حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس، يعني: صلاها في أول الوقت.

وقال المؤلف رحمه الله: (فإذا صلى الصبح أتى المشعر الحرام)، المشعر الحرام هذا اختلف فيه على قولين:

القول الأول: أن المراد بالمشعر الحرام كما في قول الله عز وجل: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ [البقرة:198]. أن المراد بذلك هو سائر مزدلفة.

والرأي الثاني: أن المراد بالمشعر الحرام هو جبل في مزدلفة يقال له: قزح، والآن المسجد المبني بمزدلفة، هو المشعر الحرام الخاص، ومزدلفة هي مشعر حرام على سبيل العموم، لكن على سبيل الخصوص، هناك مشعر خاص، وهو ما يسمى بجبل قزح، لكن هذا الجبل الآن هو الذي بني عليه مسجد مزدلفة الآن.

على كل حال: السنة إذا طلع الفجر أن يصلي صلاة الفجر بغلس، وأن يستقبل القبلة، وأن يحمد الله ويكبره ويهلله، إلى أن يسفر جداً.

قول المؤلف: (ويقرأ: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ [البقرة:198] الآيتين. ويدعو حتى يسفر).

قراءة هاتين الآيتين: هذا لا دليل عليه، فالذي جاء في حديث جابر : حتى أتى المشعر الحرام، فاستقبل القبلة، فدعا وكبر، وهلل ووحد، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً، ثم دفع قبل طلوع الشمس، أما قراءة هاتين الآيتين فهذا لم يرد فيه شيء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك أيضاً ما وقفت على شيء من آثار الصحابة رضي الله تعالى عنهم في قراءة هاتين الآيتين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويدعو حتى يسفر، فإذا بلغ محسِّراً أسرع رمية حجر).

يدعو حتى يسفر، قال محمد بن الحسن من الحنفية، يظل واقفاً إلى أن يبقى على طلوع الشمس قدر ركعتين، فإذا بقي على طلوع الشمس قدر ركعتين، فإنه يدفع من مزدلفة إلى منى.

وهذا التحديد بركعتين اجتهاد منه رحمه الله تعالى وإلا فالذي جاء في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل وافقاً حتى أسفر جداً.

والدفع قبل طلوع الشمس، هذا فيه مخالفة لأهل الجاهلية؛ لأن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، كي لا نغير. فخالفهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفع قبل طلوع الشمس.

قوله رحمه الله: (فإذا بلغ محسراً).

ومحسر هو واد: بين مزدلفة ومنى.

يقول المؤلف رحمه الله: (أسرع رمية حجر) يعني: قدر رمية حجر، وقد ذكر الأزرقي رحمه الله أن قدر محسر هذا خمسمائة وخمسة وأربعون ذراعاً.

وقول المؤلف رحمه الله: (قدر رمية حجر) هذا ثابت عن عمر رضي الله تعالى عنه، أنه يسرع قدر رمية بإسناد صحيح.

واختلف العلماء رحمهم الله ما الحكمة من الإسراع، فقيل: لأنه محل هلاك أصحاب الفيل. وهذا ضعيف؛ لأن أصحاب الفيل أهلكوا في مكان يقال له: المغمس، قبل الحرم، يعني: قبل أن يدخلوا الحرم.

وقيل: إن هذا المكان مكان تفقه النصارى.

وقيل: إن أهل الجاهلية يقفون في هذا المكان، ويذكرون أحسابهم وأنسابهم ويتفاخرون.. إلخ. وهذا القول هو أقرب الأقوال، أنه مكان تقف فيه أهل الجاهلية، والقرآن أشار إلى هذا: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا [البقرة:200]. فالذي يظهر والله أعلم: أنه مكان تقف فيه الجاهلية يفتخرون بأحسابهم وأنسابهم .. إلخ.

قال رحمه الله: (وأخذ الحصى).

يقول المؤلف رحمه الله تعالى: يأخذ الحصى من حيث شاء، أخذها من الحل أو من الحرم، هذا كله جائز، لكن ورد عن بعض السلف كـابن عمر رضي الله تعالى عنه وسعيد بن جبير أنهم كانوا يتزودون من مزدلفة؛ لأن رمي جمرة العقبة هو تحية منى؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع من مزدلفة إلى منى أخذ الطريق الوسطى التي تخرج على جمرة العقبة، ولم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم عن راحلته، ولم يعرج على رحله بمنى حتى رمى جمرة العقبة؛ لأن رمي جمرة العقبة هو تحية منى، ولهذا ذكر بعض أهل العلم أنه يستحب أن تؤخذ الحصى من مزدلفة لما ذكرنا لئلا يشتغل بأخذ الحصى في منى، ولأن هذا أيضاً وارد عن بعض السلف كـابن عمر وسعيد بن جبير رضي الله تعالى عنهما.

والذي يظهر من حديث ابن عباس -إن ثبت الحديث-: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الحصيات من عند الجمرة. أن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الحديث قال له غداة العقبة وهو على ناقته: القط لي حصى، قال: فلقطت له سبع حصيات كحصى الخذف، فيظهر والله أعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من عند الجمرة.

لكن هذا الحديث وإن صححه الحاكم إلا أن فيه مقالاً، وعلى كل حال من أي مكان أخذها أجزأ.