سورة آل عمران - الآية [156]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء السابع عشر في الآية السادسة والخمسين بعد المائة من سورة آل عمران، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156].

سبب نزول الآية

هذه الآية في سياق الحديث عن غزوة أحد، لما قتل من المسلمين سبعون عليهم من الله الرضوان فإن المنافقين بدءوا يشككون المسلمين، ويحاولون أن يلقوا الندم في قلوبهم، يقولون لهم: لو كان هؤلاء الذين خرجوا للقتال لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، وهذه الفرية التي يروجها المنافقون، فرد الله عز وجل عنها في سورة النساء فقال: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].

وهنا في هذه الآية قال الله عز وجل: يا مؤمنون! لا تتشبهوا بهؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بقضاء الله وقدره، أنتم مؤمنون قد أنزل الله عليكم قرآناً، وفي هذا القرآن بيان: أن الآجال محدودة، وأن الأنفاس معدودة، وأنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأنه (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها)، ولا أحد يموت قبل الساعة التي عينها رب العالمين جل جلاله لقبض روحه.

دعوى حرص الكفار على حياة المؤمنين

وقوله: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:156]، أي: لا تكونوا كالمنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه.

وقوله: وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ [آل عمران:156]، (اللام) هنا بمعنى (عن) أي: عن إخوانهم، والمقصود بالإخوة هنا: إخوة النسب. أو اللام لام التعليل، وقالوا لأجل إخوانهم كما في قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء:51]، أي: لأجل الذين كفروا.

فقوله: وَقَالُوا لإِخْوَانِهِمْ [آل عمران:156] أي: إخوانهم في النسب.

وقوله: إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ [آل عمران:156]، أي: خرجوا مسافرين للتجارة أو لغيرها.

وقوله: أَوْ كَانُوا غُزًّى [آل عمران:156]، أي: خرجوا للغزو والجهاد في سبيل الله.

ثم قال: لَوْ كَانُوا [آل عمران:156]، تقديره: مقيمين، أي: لو كانوا باقين عِنْدَنَا [آل عمران:156]، أي: في الظلال وفي البيوت وحيث هم.

مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156]، (ما ماتوا) أي: في السفر، (ولا قتلوا) أي: في الغزو.

وقول الله عز وجل: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، أي: نجعل هذا الاعتقاد الفاسد مسيطراً عليهم ومستبداً بهم ليزدادوا حسرة على موتاهم وقتلاهم.

واللام في قوله: (ليجعل) كما يقول أهل اللغة: لام العاقبة، أي: عاقبتها الحسرة كما في قوله سبحانه: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8]، أي: لتكون العاقبة لهم: الحزن والحسرة في قلوبهم والعداوة.

وهنا أيضاً: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:156]، والحسرة هي: الندامة على فوات المحبوب، وهؤلاء المنافقون جلسوا يتحسرون ويقولون: إخواننا هؤلاء ضيعوا الحزم، وما أحسنوا الرأي ولا أبرموا الأمر، فقد خرجوا للغزو وما كان ينبغي لهم أن يخرجوا، وما زالوا متلهفين على ما فاتهم صنيع من لا يؤمن بقضاء الله وقدره.

الحياة والموت بيد الله

قال الله عز وجل: وَاللَّهُ يُحْيِ وَيُمِيتُ [آل عمران:156]، الحياة بيده جل جلاله والموت بيده، قد يحيي من خرج للغزو مع تعرضه للحتوف، وقد يكون الإنسان في معمعة، أو قد يكون في سفينة مع قوم فيغرقون جميعاً ويسلمه الله عز وجل، وهكذا يكون الإنسان في مكان يشب فيه حريق، أو قد يهدم بيت على من فيه، لكن الله عز وجل ينجي من شاء.

وقد يكون الإنسان آمناً في سربه وعلى فراشه، وفي ريعان شبابه، ويفعة صباه، واكتمال قوته، ووفرة صحته، ثم يختطفه الموت؛ ولذلك خالد بن الوليد رضوان الله عليه، هذا البطل المجاهد الذي عقمت النساء أن يلدن مثله، والذي قال فيه الصديق أبو بكر : إن أسدكم قد عدا على أسد الفرس فغلبه على خراذيله. أي: قطع اللحم التي بين يديه.

وقد بدأ خالد يفتح الفتوح في بلاد فارس، وتعرض هذا البطل الأشم والأسد الضرغام رضي الله عنه للشهادة مراراً حتى بلغ من حاله أنه في بعض بلاد الروم وجد كيساً فاستخرجه من وقبة ثم سأل ملك الروم، ما هذا؟ قال: إنه لم يكن شيء أبغض إلي من شر أدخله على قومي، وإني قلت: لو كان هؤلاء الناس أهل شر أحتسي هذا السم فأموت. يعني: هيأ هذا السم من أجل أن ينتحر.. وهذا صنيع الكفار في كل زمان. فقال خالد رضي الله عنه: بسم الله خير الأسماء الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء. ثم أخذ السم ليتناوله، فأسرع إليه المسلمون ليمنعوه، لكنه غلبهم رضي الله عنه وابتلع السم، فقال ملك الروم: والله إن قوماً فيهم هذا لن يغلبوا. وما حدث لـخالد شيء رضي الله عنه، وهذه من كراماته.

لكن هذا البطل مات على فراشه، وقال وهو على فراش الموت: ما من موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة، وها أنا أموت كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء.

هذا كلام خالد رضي الله عنه، وهذه سنة الله عز وجل، قد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد، وإن كان تحت ظلال النعيم.

وقوله: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران:156]، أي: بصره نافذ لا تخفى عليه خافية. قال أهل التفسير: وهذا تهديد للمؤمنين أن يماثلوا المنافقين في هذا الاعتقاد الفاسد.

دأب المنافقين في تثبيط المؤمنين عن الجهاد

ونظير هذه الآية قول الله عز وجل: الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:168]، وكذلك كان المنافقون يقولون للمؤمنين: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81]، قال الله عز وجل: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة:81].

وكذلك قول الله: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72]، وقوله سبحانه: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا [الأحزاب:18]، فهذا حال المنافقين، يثبطون المؤمنين عن القتال قبل أن يقع القتال، ثم إذا وقع القتال وقتل ناس جرياً على سنة الله عز وجل التي قال الله عنها: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [آل عمران:146]، فهذه سنة الله عز وجل، وهؤلاء الحمقاء المغفلون السفهاء يقولون: لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا [آل عمران:156].

ضرورة الإيمان بقضاء الله وقدره

وهذه الآية تشير إلى عقيدة لا بد أن تنطوي عليها قلوبنا، وهي: الإيمان بقضاء الله وقدره، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا وقد وكتب عند الله، قال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]، أي: من قبل أن نخلقها، وقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ [التغابن:11]، وقال صلى الله عليه وسلم: ( واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ).

ولذلك الإنسان المسلم إذا نزلت مصيبة فإنه يستسلم لقضاء الله وقدره، فلو أصابه حادث، أو نزل به نقص في المال، أو هلك له ولد أو والد أو زوج فلا يجوز أن يقول: والله لو فعلت كذا لما حدث كذا، ولو أني ما أتيت من هذا الطريق لما وقع هذا الحادث ونحو ذلك، بل المسلم يرضى بقضاء الله وقدره، قال تعالى: قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا [التوبة:51] ؛ وينسب للشافعي رحمه الله أبيات صور فيها هذا المعنى فقال:

تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر

فكم من فتى أمسى وأصبح ضاحكاً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري

وكم من عروس زينوها لزوجها وقد نزعت أرواحهم ليلة القدر

وكم من صغار يرتجى طول عمرهم وقد أدخلت أجسادهم ظلمة القبر

وكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر

فهذه هي سنة الله عز وجل.

هذه الآية في سياق الحديث عن غزوة أحد، لما قتل من المسلمين سبعون عليهم من الله الرضوان فإن المنافقين بدءوا يشككون المسلمين، ويحاولون أن يلقوا الندم في قلوبهم، يقولون لهم: لو كان هؤلاء الذين خرجوا للقتال لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، وهذه الفرية التي يروجها المنافقون، فرد الله عز وجل عنها في سورة النساء فقال: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78].

وهنا في هذه الآية قال الله عز وجل: يا مؤمنون! لا تتشبهوا بهؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بقضاء الله وقدره، أنتم مؤمنون قد أنزل الله عليكم قرآناً، وفي هذا القرآن بيان: أن الآجال محدودة، وأن الأنفاس معدودة، وأنه إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وأنه (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها)، ولا أحد يموت قبل الساعة التي عينها رب العالمين جل جلاله لقبض روحه.