التحذير من خطر قسوة القلوب - عبد الله بن صالح القصير
مدة
قراءة المادة :
7 دقائق
.
إنَّ شرَّ ما أُصِيبت به النُّفوس، وضُرِبت به القلوب ، وهلَكَت به الأبدان الغَفلَة عن الهدى، والإِعراض عن مَسلَك الرشد، اتِّباعًا للهَوَى وإيثارًا للحياة الدنيا ، وكم ذَمَّ الله الغافِلين ووصَفَهم بشرِّ الصفات ووعَدَهم بشَدِيد العُقُوبات؛ قال - تعالى - في محكم الآيات: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس: 7 - 8].وقال - تعالى -: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].
فهم أضلُّ من الأنعام، وجَزاؤهم على غَفلَتهم النار ُ وبئس المقام؛ لأنهم قصَرُوا هممهم على الطعام والشراب وتحصيل الملذَّات، واشتَغلُوا باللهْو والتمتُّع بمحرَّم الشهوات عن طاعة ربِّ الأرض والسماوات، فأسماعُهم عن الخير مُقفَلة، وأبصارُهم عن النظر في العَواقِب مُعطَّلة، وقلوبهم في وجْه الحقِّ مُغلَقة، تُتلَى عليهم الآيات وبَراهِين الحقِّ وهم عنها غافِلون، وتمرُّ بهم عظيمُ العِبَر ويبلغهم شرُّ الخبر فلا يعتَبِرون، وتطرقهم القوارع وتَنزِل بساحتهم الفَواجِع، وهم بلهْوهم وملذَّاتهم وتجارتهم مُشتَغِلون، خدَعَهُم طولُ الأمل، فشغَلَهم عن صالح العمل، والاعتِذار عن الزَّلَل، وفجَأَهم العذاب وهم على المعصية مُصِرُّون.
يقول - تعالى -: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ * فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 4 - 5].
فاعترفوا بالخطيئة، ولم يُبادِروا بالتوبة؛ {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 43 - 45].
أيُّها المسلمون:
إنَّ من أعظم مَظاهِر قَسوَة القُلُوب، والغَفلة عن مُراقَبة علاَّم الغيوب - أنَّ الناس في هذا الزمان قد أحاطَتْ بهم الأخطار، وتَوالَتْ عليهم نُذُرُ الجبَّار، وصارُوا يتوقَّعون شديدَ العقوبات ومُوجِبات الهلاك في أيِّ ساعةٍ من الليل أو النَّهار، ومع ذلك كثيرٌ منهم لا يَزالُون مُقِيمين على مُوجِبات غضبِ الله العظيم القهَّار، فالربا الذي آذَن الله أهلَه بالحرب تَتعامَل به البنوك، ويَتعاطَاه الصعاليك والتجَّار، ويَحتالُون على أكلِه بطرق ملتويَة جهارًا واستِهتارًا، وآخَرون من الناس جاهَرُوا بترْك الصلاة، وعطَّلوا المساجد من حضور الجماعات، وطائفة واطَؤُوا أنفُسَهم على منع الزكاة ، وبذَلُوا الأموال في المحرَّم من الشهوات، وكم في بيوت الكثيرين من الصُّوَر وقبيح الأفلام، وأصوات الغناء الماجنة التي تُبعِد الملائكة الكرام، وناهِيكَ بما عليه كثيرٌ من النِّساء من التبرُّج والسُّفور، وغير ذلك من مُنكَرات الأمور، وكم في البيوت من الكفَّار، وأصناف الأشرار، ونحوها ممَّا هو كفيلٌ بالعقوبة بخسْف الدار، وكم نسمع من وَقائِع بيْع الذِّمَم بالرشوة يَتبارَى فيه أغنِياء الجيوب، فُقَراء النفوس والقلوب، وكم من مُؤسَّسة تُنافِس الأخرى بالدعاية للباطل، وتهيئة وسائل الرَّذيلة وذرائع انتِشار الجريمة! وكم في نواحي المجتمع وجهاته ممَّا فيه الإغراء بالفتنة، والحث على السَّير في رِكاب الشيطان من أنواع المجاهَرة بالعصيان، الدالَّة على عظيم الاستِخفاف بوَعِيد الملك العظيم الديَّان! أمَا يخشون علاَّم الغيوم؟! أمَا يحذَرُون عواقب الذنوب ؟!
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ * أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [الأعراف: 96 - 100].
بغَتَ القومَ أمرُ الله، وما أخَذَ الله قومًا إلا عند غفلَتِهم وسلوَتِهم، وحال غرَّتهم ونعمتهم، فإذا رأيتَ الله يُعطِي العِباد من الدنيا ما يحبُّون، وهم على معصيته مُقِيمون، فاعلَمْ أنَّه يستَدرِجهم من حيث لا يعلَمُون؛ {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف: 183].
أيها المسلمون:
إنَّ الجرأة على اقتِراف الخطيئة والمجاهَرة بالمعصية، والإِصرار على تكرار الذنوب، والاستهانة بوَعِيد الله للظالمين - طُغيَانٌ ليس وراءَه طُغيَان؛ ولذلك عظَّم الله الجزاء لعِظَم الذنب، وتوعَّد المجاهِرين بالمعصية بحرمان النِّعَم، وضَرُورة المؤاخَذة بجريرة المجاهَرة، وربما حِيلَ بين المصرِّ على الخطيئة وبين المغفرة؛ {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [ النساء : 18]، فالمُصِرُّ على الخطيئة حتى يفجأه الموت والكافر إلى ساعة الموت، التوبة عنهم منفيَّة.
وفي الحديث الصحيح يقول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: «كلُّ أمَّتي مُعافًى إلا المجاهرون»، فالمجاهِر ليس في عافية، والمصرُّ على الخطيئة مرتكبٌ لكبيرة، وكلاهما عرضة لعَذاب الله ونقمته وشدَّة غضبه، وعظيم مُؤاخَذته؛ جزاءَ جُرأَتهم عليه، واستَهانتهم بما لديه.
فاتَّقوا الله عِبادَ الله، واعمَلوا جاهِدين بطاعته، وحَذارِ من المجاهَرة بمعصيته، أو الاستِخفاف بعقوبته؛ فإنَّ تلكم من أسباب الهلكة، وإنْ زلَّت بكم القدَم فبادروا فإعلان النَّدَم، وأسرِعوا بالتوبة وصِدقِ الأوبة قبل فَوات الأوان، فكلُّ ابن آدَم خطَّاء وخير الخطَّائين التوَّابون، فأصلَحوا فساد قلوبكم، واسلكوا نهج السداد في أقوالكم وأعمالكم ومعامَلاتكم، يُصلِح الله لكم أحوالَكم، ويحفَظ نعمَه عليكم، وإلاَّ فإنَّ المعاصي على أهلها مشؤومة، فإنها تقصم الأعمار، وتمحو الآثار، وتُسَلِّط الأشرار، وتجلب الأخطار، وتُحدِث في الأرض أنواعًا من الفَساد في المياه والهواء والثمار والدِّيار، وتجلب الحوادث المروِّعة، والمصائب الفاجعة، والأمراض الفتَّاكة، وهي تضرُّ بالقلوب أعظم من ضرر السموم في الأبدان، وكلَّما أحدَثَ الناس ذنبًا أحدَثَ الله لهم عقوبةً تَلِيقُ به عدلاً من المَلِك الديَّان؛ {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 281].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَنا جميعًا بما فيه من الآيات والذكر والحكيم.
__________________________________________________________
الكاتب: الشيخ عبدالله بن صالح القصيِّر