خطب ومحاضرات
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [3]
الحلقة مفرغة
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومن حج من أهل مكة فمنها وعمرته من الحل، وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.
باب في الإحرام والتلبية وما يتعلق بهما:
الإحرام نية النسك، سن لمريده غسل أو تيمم لعدم، وتنظف وتطيب وتجرد عن مخيط في إزار ورداء أبيضين، وإحرام عقب ركعتين، ونيته شرط، ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي، وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، وأفضل الأنساك التمتع، وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها، ثم يحرم بالحج في عامه، وعلى الأفقي دم].
تقدم لنا ما يتعلق بمواقيت الحج، وذكرنا أن مواقيت الحج تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: مواقيت مكانية، وقد بينها المؤلف رحمه الله تعالى، وهي ذي الحليفة لأهل المدينة، والجحفة لأهل الشام والمغرب ومصر، ومن أتى من تلك النواحي، وقرن لأهل نجد والطائف ومن أتى من تلك الجهات، ويلملم لأهل اليمن، وذات عرق لأهل المشرق، وبقينا فيمن كان دون تلك المواقيت فميقاته من أهله، كأهل خليص وعسفان ووادي فاطمة ونحو ذلك، فهؤلاء يحرمون من أماكنهم.
ثم بعد ذلك قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ومن حج من أهل مكة فمنها).
المكي إما أن يحرم للحج، وإما أن يحرم للعمرة، فميقاته بالنسبة للحج من مكة، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى أهل مكة من مكة)، وهذا بالاتفاق.
وأما بالنسبة للعمرة فقال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعمرته الحل]، بمعنى: أن المكي إذا أراد أن يعتمر فإنه يخرج إلى الحل، إلى التنعيم، أو إلى عرفات، ونحو ذلك من الحل، فسواء أن يحرم من التنعيم، أو من عرفات، أو غير ذلك من الحل، وهذا ما عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
والرأي الثاني: أن عمرة المكي أيضاً تكون من مكة، وهذا ظاهر صنيع البخاري رحمه الله تعالى، وذهب إليه الصنعاني ، ولكل منهم دليل.
أما الجمهور الذين يقولون: بأن المكي يحرم من الحل، فاستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها، أنها لما أرادت أن تعمل عمرةً بعد نهاية الحج، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بها إلى التنعيم، وأن تحرم من التنعيم.
فلو كان ميقات المكي مكة لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن أن يحرم بها من التنعيم.
والذين قالوا: بأن عمرة المكي تكون من مكة، استدلوا بعموم حديث ابن عباس : (حتى أهل مكة من مكة)، وقالوا: هذا يشمل الحج والعمرة.
والصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى، وأن المكي إذا أراد العمرة فإنه يخرج إلى الحل، ودليل ذلك ما سلف من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها، فإن قيل: بأن عائشة ليست مكية وإنما هي آفاقية؛ لأن عائشة أتت من المدينة، نقول: صحيح هي آفاقية، لكنها لما أحرمت عند مرورها بالميقات وتحللت بمكة أخذت حكم أهل مكة، بدليل أن من كان متمتعاً من الصحابة رضي الله تعالى عنهم لما مروا بالميقات أحرموا ثم تحللوا، ولما أرادوا الحج أحرموا من مكة مع أنهم آفاقيون، وإنما أحرموا من ميقات أهل مكة للحج وهي مكة، فيدل كون الإنسان يمر بالميقات، ثم بعد ذلك يحرم ثم يتحلل بمكة، فإنه يأخذ حكم أهل مكة بالنسبة للنسك التالي، بدليل فعل الصحابة السابق ذكره، فكذلك عائشة رضي الله تعالى عنها أحرمت من ميقات أهل مكة بالنسبة للعمرة؛ لأنها أخذت حكمهم، ويدل لذلك أيضاً ما في مصنف ابن أبي شيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: لا يضركم يا أهل مكة ألا تعتمروا، فإن أبيتم فاجعلوا بينكم وبين الحرم بطن الوادي؛ ولأن العمرة هي الزيارة، ولا تكون زيارة حتى يكون قادماً، وأيضاً قال العلماء رحمهم الله: باستقراء المناسك نجد أن من أحرم بأي نسك من المناسك فإنه يجمع في نسكه بين الحل والحرم، حتى أهل مكة إذا أحرموا بالحج من مكة فإنهم يجمعون بين الحل والحرم؛ لأنهم في الحج يخرجون إلى عرفات، وعرفات من الحل، فكذلك أيضاً في العمرة يخرجون إلى الحل لكي يجمعوا في عمرتهم في نسكهم بين الحل والحرم، فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه جماهير أهل العلم رحمهم الله تعالى.
قال المؤلف رحمه الله: (وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة).
لما بين المؤلف رحمه الله تعالى المواقيت المكانية، ذكر الميقات الزماني للحج، فقال: بأن أشهر الحج هي: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وكذلك من مذهب أبي حنيفة .
والرأي الثاني: مذهب الإمام مالك : أن أشهر الحج ثلاثة: شوال وذو القعدة وشهر ذي الحجة كاملاً، فالمالكية يرون أن أشهر الحج ثلاثة كاملة.
والرأي الثالث: رأي الشافعية وهو أضعف الأقوال: أن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة، ولكل منهم دليل، أما من قال: بأن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، كما مشى عليه المؤلف رحمه الله تعالى، فاستدلوا بالآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهذا وارد عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وكذلك أيضاً وارد عن ابن مسعود بإسناد صحيح كما في الدارقطني ، وكذلك أيضاً وارد عن عمر رضي الله تعالى عنه، فهو وارد عن هؤلاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم.
وأما الذين قالوا: بأن أشهر الحج ثلاثة أشهر: شوال وذو القعدة، وذو الحجة كاملاً فاستدلوا بظاهر الآية: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، وكذلك أيضاً قالوا بأنه وارد عن عمر وابن عمر وابن عباس، وأثر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وأثر ابن عمر في المحلى وأيضاً إسناده صحيح، وأيضاً وارد عن عمر رضي الله تعالى عنه.
وأما مذهب الشافعية فقالوا: بأن اليوم التاسع هو ركن الحج الأعظم؛ لحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحج عرفة)، فبغروب شمس اليوم التاسع يكون انتهى ركن الحج الأعظم، فتنتهي أشهر الحج، وأيضاً الشافعية يقولون بأن أشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة، بمعنى: أن آخر الأيام كما ذكرنا هي يوم عرفة، لكن لما كان الوقوف بعرفة يمتد إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، قالوا بأن أشهر الحج تمتد إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر، لما أسلفنا أن الوقوف بعرفة هو ركن الحج الأعظم.
والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه المالكية رحمهم الله تعالى؛ لأن هذا هو ظاهر القرآن، وكما رأيتم الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فيها اختلاف، فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه المالكية رحمهم الله تعالى.
وقبل أن ننتقل إلى ما يتعلق بباب الإحرام وآدابه والأنساك بقي عندنا مسألتان أو ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: هل يجوز دخول مكة بلا إحرام، أو أن مكة لا تدخل إلا بإحرام؟
جمهور العلماء يرون أن مكة لا تدخل إلا بإحرام إلا في مواضع، يعني من أراد أن يذهب إلى مكة فإنه لا يدخل مكة إلا محرماً، واستدلوا على ذلك بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ [المائدة:2]، وكونه يدخل مكة بلا إحرام هذا من إحلال شعائر الله، وقد جاء أيضاً في حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً في الطبراني الكبير، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجاوز أحد الميقات إلا محرماً)، ولكن هذا الحديث ضعيف لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والرأي الثاني وهو للشافعية: أنه لا بأس أن يجاوز الميقات بلا إحرام، إلا من كان مريداً للحج أو العمرة فإنه لا يجوز له أن يجاوزه إلا بإحرام، ويدل لذلك ما تقدم من حديث المواقيت، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج والعمرة).
فالصحيح في هذه المسألة وعليه عمل الناس اليوم، أن الإنسان له أن يتجاوز الميقات إذا لم يكن مريداً للحج أو العمرة، واستثنى الفقهاء رحمهم الله ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: في حال القتال المباح، لا بأس أن يتجاوز الميقات بلا إحرام.
والمسألة الثانية: في حال الخوف.
والمسألة الثالثة: في حال الحاجة التي تكرر، كالحطاب وصاحب البريد ونحو ذلك، فيقولون في هذه المسائل لا بأس أن يدخل مكة بلا إحرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعليه المغفر، ولما يترتب على ذلك من المشقة في حال الخوف، وكذلك أيضاً في حال الحاجة التي تتكرر.
وبقي عندنا مسألة يفعلها كثير من الناس اليوم، وهو أنه يكون مريداً للحج والعمرة فيتجاوز الميقات لحاجة، ثم بعد ذلك يرجع ويحرم من الميقات، فهل هذا جائز أو ليس جائزاً؟
نقول: نعم، هذا جائز، يعني: لو أن الشخص يريد الحج والعمرة وتجاوز الميقات، وهو يريد أن يرجع إليه فنقول: لا بأس بهذا، فقد يكون له حاجة في مكة، أو لا يريد العمرة الآن، أو لا يريد الحج الآن فلا بأس أن يتجاوز ثم بعد ذلك يرجع إليه مرةً أخرى، وعلى هذا يكون قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ممن يريد الحج والعمرة)، يعني: أراد الحج والعمرة عند مروره بالميقات، أو بعد مروره ورجوعه إليه.
المسألة الثانية: حكم الإحرام قبل الميقات المكاني، مذهب جمهور أهل العلم أن إحرامه ينعقد، لكن منهم من يقول: بالكراهة، ومنهم من يقول: بالتحريم، فالحنفية ينصون على التحريم، وجمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى يقولون: بالكراهة، وعند الظاهرية أن هذا محرم ولا ينعقد، والصحيح في هذه المسألة أن الإحرام قبل الميقات المكاني مكروه كما هو عليه جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
وقد ورد عن بعض السلف الإحرام قبل الميقات المكاني، وفسر كثير من السلف قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، بأن إتمام الحج والعمرة هو أن تحرم بها من دويرة أهلك، لكن الصواب في هذه المسألة أن المراد بالآية هو إتمام الحج والعمرة بعد الشروع فيهن، وهذا كما سلف أن ذكرنا أن من خصائص الحج والعمرة أن من أحرم بهما أو أحرم بنفلهما فإنه يلزمه أن يتمهما، وعلى هذا يكون الأقرب في هذه المسألة ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من أن الإحرام قبل الميقات المكاني مكروه.
المسألة الثالثة والأخيرة: الإحرام بالحج قبل ميقاته الزماني، ذكرنا أن أشهر الحج تبدأ بدخول شهر شوال، فلو أنه أحرم في رمضان بالحج، فهل يصح إحرامه وينعقد، أو نقول: بأن إحرامه غير صحيح؟
جمهور العلماء يقولون: بأن إحرامه صحيح وينعقد، لكنهم يقولون: بالكراهة.
ويقابل ذلك الظاهرية وهم يقولون: بأن إحرامه ملغى، وعند الشافعية: أن إحرامه صحيح لكنه ينقلب إلى عمرة، بمعنى أنه يتحلل بعمرة، ولكل منهم دليل.
أما الذين قالوا: بأن إحرامه صحيح، استدلوا بقول الله عز وجل: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، وهذا يشمل كل الأهلة، فدل ذلك على أن كل الأهلة الموجودة في السنة أنها مواقيت للحج، ويدل ذلك على أنه يصح أن تحرم بالحج في أي وقت من السنة.
وهذا الاستدلال رده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وقال: هذا الاستدلال لا يصح؛ لأنا لو قلنا بأن كل الأهلة مواقيت للحج فلن يكون هناك فائدة من خروج الهلال وعدم خروجه، ولا فائدة في قول الله عز وجل: مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، فلم يعد خروج الهلال ميقاتاً؛ لأنه يصح كل السنة، وأصبح خروج الهلال في رمضان ميقاتاً لرمضان، نعرف به أن رمضان دخل أو نكمل شعبان.
فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رد هذا الاستدلال وقال: هذا عام أريد به الخاص، يعني بعض الأهلة هذه ميقات للحج، والأهلة هذه ميقات للناس، فهم يوقتون بالأهلة فيما يتعلق بآجال الديون، وأثمان المبيعات المؤجلة والديات ونحو ذلك.
وأما الظاهرية الذين قالوا بأن إحرامه يكون ملغى، قالوا: بأن هذا عمل ليس عليه أمر الله ولا أمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في البخاري معلقاً بصيغة الجزم، أن ابن عباس قال: (من السنة ألا يحرم بالحج إلا في أشهره).
وكذلك أيضاً جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما سئل: أيصلح الإحرام بالحج قبل أشهره؟ فقال: لا. وهذا أخرجه الدارقطني ، وإسناده صحيح.
والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الشافعي ، نقول: بأن الإحرام قبل ميقاته الزماني غير صحيح كما جاء في حديث ابن عباس ، وكما جاء عن جابر رضي الله تعالى عنهما، ولكنه ينقلب إلى عمرة، فينقلب إلى حج أصغر؛ لأنه لما تعذر وقت الحج الأكبر نصير إلى وقت الحج الأصغر، والسنة كلها ميقات للعمرة ما لم يكن الإنسان محرماً بالحج، مع أن العلماء رحمهم الله يقولون: تصح العمرة بين التحللين، يعني لو أن الإنسان تحلل التحلل الأصغر، فرمى جمرة العقبة وحلق رأسه يصح أن يعتمر.
فالمهم السنة في الجملة كلها ميقات للعمرة، فإذا تعذر الحج الأكبر نصير إلى الحج الأصغر، ونظير ذلك ما نص عليه الفقهاء رحمهم الله في كتاب الصلاة، قالوا: إذا أحرم بالفرض قبل دخول الوقت ولو بلحظة واحدة فإن فرضه ينقلب إلى نفل، فكذلك أيضاً نقول: إذا أحرم بالحج قبل أشهره فإن إحرامه ينقلب إلى عمرة، وحينئذ يتحلل من هذه العمرة، ثم بعد ذلك يشرع بالحج.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (باب في الإحرام: قال: الإحرام نية النسك).
الإحرام في اللغة: هو الدخول في التحريم؛ لأن الإنسان يحرم على نفسه بنيته ما كان مباحاً له قبل الإحرام، من النكاح، والطيب، وحلق الشعر، وقتل الصيد.. ونحو ذلك.
وأما في الاصطلاح فعرفه المؤلف رحمه الله تعالى بقوله: نية الدخول في النسك، لا نية أن يحج ويعتمر؛ لأن نية الحج والعمرة هذه موجودة مع الإنسان من حين خروجه من بلده، وقد تكون موجودة قبل خروجه من بلده، ولكن المقصود بالإحرام هو النية الخاصة لا النية العامة، والنية الخالصة هي نية التلبس بنسك الحج أو نسك العمرة.
الأدب الأول: الاغتسال أو التيمم
الإحرام له آداب، ومن آداب الإحرام ما سلف: أنه يسن أن يكون الإحرام في الميقات المكاني، وأنه لا يشرع أن يحرم قبل الميقات المكاني، وكذلك أيضاً من آدابه أن يحرم في ميقاته الزماني كما سلف للحج، وأن الإحرام قبل الميقات الزماني للحج خلاف السنة.
كذلك أيضاً من آدابه قال رحمه الله: (سن لمريده غسل)، ودليل ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
وقد جاء في حديث زيد بن ثابت : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل)، فيسن الغسل.
وكيفية الغسل كالغسل لصلاة الجمعة كما سلف لنا.
قال رحمه الله: (أو تيمم لعدم).
يعني: إذا لم يتيسر له الماء إما لعدم الماء، أو لحصول الضرر باستعماله، أو المشقة الظاهرة باستعماله فإنه يتيمم، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وهو مذهب الشافعية.
والرأي الثاني: مذهب الحنفية والمالكية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن التيمم غير مشروع للإحرام؛ لأن الغسل يراد به التنظف، والتيمم ليس فيه نظافة حسية، وإنما نظافته وطهارته معنوية، وعلى هذا نقول: إذا لم يجد ماءً، أو لم يتمكن من استعماله لضرر أو مشقة ظاهرة، فإنه لا يشرع له أن يتيمم.
الأدب الثاني: التنظف
المقصود بالتنظف يتعلق بقطع الروائح الكريهة، وهنا ما يتعلق بسنن الفطرة من قص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وتقليم الأظفار ونحو ذلك؛ قالوا: لأنه ربما يحتاج إلى مثل هذه الأشياء في أثناء الإحرام ولا يتمكن منها، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.
والرأي الثاني: أن أخذ مثل هذه الأشياء ليس من خصائص الإحرام، فلا يقال: إذا أردت أن تحرم قلم أظافرك، وانتف إبطك، واحلق عانتك، وقص شاربك.. إلى آخره، فهذا ليس من خصائص الإحرام، ولا من سننه؛ لأن هذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة: أن كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنة، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وعلى هذا نقول: بأن هذا الأدب فيه نظر، فالصواب: أنه لا يشرع، اللهم إلا إذا كانت مثل هذه الأشياء كثيرة فنقول: يشرع له أن يأخذها، ليس لأنه من خصائص الإحرام، ولكن لأنه يشرع لك أن تأخذ مثل هذه الأشياء كلما طالت، وأخذها هو السنة، لا أنها من آداب الإحرام.
الأدب الثالث: التطيب
أيضاً من سنن الإحرام وآدابه: الطيب، والطيب يكون في اللحية والرأس، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم، ولحله قبل أن يطوف بالبيت)، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: (كنت أرى وبيص المسك -يعني لمعان المسك- في مفارق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وكذلك أيضاً في صحيح مسلم تطييب اللحية، فنقول: المشروع أن يتطيب في رأسه وفي لحيته، أما تطييب ثياب الإحرام فهذا ليس مشروعاً، بل عند المالكية أن هذا لا يجوز، والحنابلة يقولون: إذا طيب ثياب الإحرام ثم أحرم فإن له أن يستديمها، لكن إذا خلعها فإنه لا يعيد لبسها مرةً أخرى حتى تغسلها أو تبدلها.
الأدب الرابع: التجرد من المخيط
هذا أيضاً من آداب الإحرام، ومعنى ذلك: أنه لا يدخل في النسك حتى يخلع المخيط الذي عليه، وإلا لو أحرم وعليه الثياب صح إحرامه، ونقول: انزع الثياب التي عنك، ولا يلزمه فدية، إلا إذا توانى وتركها، فإذا توانى وتركها لزمته الفدية، لكن الفقهاء يقولون: إذا أحرم وعليه الثياب فإن إحرامه صحيح ومنعقد، ولا يلزمه أن يشق هذا الثوب، وإنما يخلعه بالمعتاد، فالسنة ألا يدخل في النسك حتى يتجرد من المخيط؛ لأن هذا هو فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي عليه الصلاة والسلام تجرد لإهلاله واغتسل، وأيضاً في صحيح البخاري أو في الصحيحين حديث يعلى بن أمية رضي الله تعالى عنه، (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أحرم وعليه جبة أن يخلع عنه جبته).
وقول المؤلف رحمه الله: (تجرد من مخيط)، هذا سيأتينا إن شاء الله في محظورات الإحرام.
قال رحمه الله: (ويحرم في إزار ورداء أبيضين).
من آداب الإحرام: أن يحرم في إزار ورداء، في هذين الثوبين، ولو أحرم في غيرهما صح ذلك، فلو أخذ ثوبه ولفه عليه وستر به الجانب الأسفل من بدنه، وأخذ ثوباً آخر ولفه عليه نقول: هذا جائز ولا بأس به، ولكن السنة -كما ذكر المؤلف رحمه الله-: أن يحرم في إزار ورداء، هذا إذا تيسر ذلك، ولكن لو أحرم بغير الإزار والرداء نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به، ويدل لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين)؛ ولأن هذا أيضاً فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي عليه الصلاة والسلام أحرم بإزار ورداء.
وقوله رحمه الله أيضاً: (أبيضين) لقول النبي عليه الصلاة والسلام: (البسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم)، وإلا لو أحرم بإزار ورداء أخضرين أو نحو ذلك، فإن هذا جائز ولا بأس به.
الأدب الخامس: الصلاة قبله ركعتين
يعني يستحب أن يكون إحرامه، يعني: دخوله في الإحرام عقب ركعتين، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن هاتين الركعتين سواء كانت فريضةً أو نافلة، يعني: يستحب أن يحرم دبر الصلاة، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أهل دبر الفريضة، ويدل لذلك حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، فإن ابن عمر كان يركع بذي الحليفة ركعتين، ثم إذا استوت به ناقته قائمةً عند مسجد الحليفة أهل.
وأيضاً حديث عمر رضي الله تعالى عنه قال: (أتاني الليلة آت من ربي، فقال: صل في هذا الوادي المبارك، وقل: عمرةً في حجة)، ولكن هل للإحرام سنة خاصة، أو لا؟ هذا موضع خلاف بين أهل العلم رحمهم الله تعالى، ولهم في ذلك قولان:
الرأي الأول: أن الإحرام له سنة خاصة، تسمى سنة الإحرام، وعلى هذا يصلي ركعتين إذا لم يكن وقت فريضة، ينوي بهما سنة الإحرام، وهذا ما ذهب إليه الشافعية رحمهم الله تعالى وغيرهم، بل هو قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى.
والرأي الثاني: أن الإحرام ليس له سنة خاصة، وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وابن القيم ، والذي يتأمل سنة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أن النبي عليه الصلاة والسلام أهل دبر صلاة الظهر، ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاةً خاصة للإحرام، ولو كان مشروعاً لصلى النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، وقصد بهما سنة الإحرام، ثم أهل دبرها، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أهل دبر صلاة الضحى، وعلى هذا نقول: يهل دبر صلاة مشروعة، وليس للإحرام صلاة خاصة، فإن كان الوقت وقت فريضة أهل دبر الفريضة، وإذا لم يكن الوقت وقت فريضة فإن كان من عادته أن يصلي الضحى أو من عادته أن يصلي ركعتي الوضوء أو الوتر ونحو ذلك مما يشرع للمسافر فإنه يهل دبره.
قال رحمه الله: (ونيته شرط).
يعني: نية الدخول في النسك شرط، بمعنى أن الإنسان لا يكون محرماً بمجرد تجرده من المخيط، بل لا بد أن ينوي الدخول في النسك: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى).
الأدب السادس: الاشتراط في الإحرام
أيضاً هذا من آداب الإحرام، والمؤلف رحمه الله يرى أن الاشتراط سنة من سنن الإحرام، والشافعية يرون أنه جائز، والظاهرية يرون أنه واجب، وعند الحنفية والمالكية أنه غير مشروع، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: يشرع عند الخوف، فالذي يخاف ألا يتم نسكه فإنه يشرع له أن يشترط، وأما إذا كان لا يخاف فإنه لا يشرع له أن يشترط، وهكذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الوارد في ذلك عن ضباعة بنت الزبير ، وكذلك الآثار عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تؤيد ما ذهب إليه الحنابلة، فالاشتراط وارد عن جمع من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقد ورد عن عمر وعثمان وعلي وعمار وابن مسعود .
و ابن حجر رحمه الله يقول: صح عن عمر وعلي وعثمان وعمار وابن مسعود وعائشة وأم سلمة ، هؤلاء جمع من الصحابة كلهم يرون الاشتراط كما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى.
ولكن إذا تأملنا السنة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة ضباعة بنت الزبير كما في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وهي شاكية، فقالت: يا رسول الله! إني أريد الحج وأجدني وجعة، فقال: حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني).
وهذه الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم يخالفهم فيها ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حيث كان ينكر الاشتراط ويقول: حسبكم سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم أنه لم يشترط.
فيظهر والله أعلم أن ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله من التفصيل أن الإنسان إذا كان خائفاً فإنه يشترط، وأما إذا كان غير خائف فإنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترط، يظهر أن هذا هو الصواب.
قال المؤلف رحمه الله: (سن لمريده غسل).
الإحرام له آداب، ومن آداب الإحرام ما سلف: أنه يسن أن يكون الإحرام في الميقات المكاني، وأنه لا يشرع أن يحرم قبل الميقات المكاني، وكذلك أيضاً من آدابه أن يحرم في ميقاته الزماني كما سلف للحج، وأن الإحرام قبل الميقات الزماني للحج خلاف السنة.
كذلك أيضاً من آدابه قال رحمه الله: (سن لمريده غسل)، ودليل ذلك: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
وقد جاء في حديث زيد بن ثابت : (أن النبي صلى الله عليه وسلم تجرد لإهلاله واغتسل)، فيسن الغسل.
وكيفية الغسل كالغسل لصلاة الجمعة كما سلف لنا.
قال رحمه الله: (أو تيمم لعدم).
يعني: إذا لم يتيسر له الماء إما لعدم الماء، أو لحصول الضرر باستعماله، أو المشقة الظاهرة باستعماله فإنه يتيمم، وهذا ما ذهب إليه المؤلف رحمه الله تعالى، وهو مذهب الشافعية.
والرأي الثاني: مذهب الحنفية والمالكية، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أن التيمم غير مشروع للإحرام؛ لأن الغسل يراد به التنظف، والتيمم ليس فيه نظافة حسية، وإنما نظافته وطهارته معنوية، وعلى هذا نقول: إذا لم يجد ماءً، أو لم يتمكن من استعماله لضرر أو مشقة ظاهرة، فإنه لا يشرع له أن يتيمم.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] | 2818 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] | 2732 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] | 2678 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] | 2646 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] | 2640 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] | 2558 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] | 2555 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] | 2528 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] | 2521 استماع |
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8] | 2498 استماع |