شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [5]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القاعدة الثانية والعشرون: العين المنغمرة في غيرها إذا لم يظهر أثرها، فهل هي كالمعدومة حكماً أو لا؟ فيه خلاف وينبني عليه مسائل].

سلف لنا في الدرس السابق جملة من القواعد، فمن ذلك: ما يتعلق بتداخل العبادات، وذكرنا القاعدة في ذلك، وكذلك من القواعد النماء المتولد من العين، والنماء المتولد من الكسب، وكذلك أيضاً من القواعد التي مرت معنا إمكان الأداء، هل هو شرط أو ليس شرطاً؟ وإمكان القضاء، وإمكان الفعل المنذور.. إلى آخره.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (القاعدة الثانية والعشرون: العين المنغمرة في غيرها).

قوله: (المنغمرة)، أي: العين المستهلكة.

معنى هذه القاعدة أن نقول: العين المستهلكة في حكم العدم.

وهذه القاعدة يترتب عليها مسائل، من هذه المسائل: إذا وقعت نقطة بول في ماء، فإن كان الماء كثيراً، وهو قلتان فأكثر، واستهلكت، ولم تؤثر في طعمه، ولا لونه، ولا رائحته فإن الماء طهور.

وإذا وقعت هذه النقطة في ماء قليل دون القلتين، واستهلكت -يعني: انغمرت وتلاشت- ولم تؤثر في الماء لا في طعمه، ولا في لونه، ولا في رائحته، فإن الماء -على المذهب- نجس؛ لأنهم يرون أن القليل ينجس بمجرد الملاقاة، لكن على الصحيح: ما دام أن هذه النجاسة استهلكت الآن، ولم تؤثر في هذا الماء فإن الماء طهور.

ومن الأمثلة على ذلك: لو وقعت نقطة خمر في ماء، ثم بعد ذلك هذه النقطة استهلكت في هذا الماء، ولم يظهر أثر الخمر في هذا الماء، فَشرِبَ شخص هذا الماء، هل تجب عليه عقوبة الخمر أو لا تجب عليه؟ الجواب: لا تجب عليه، لكن لو أخذ النقطة هذه، وشربها، هل تجب عليه عقوبة الخمر أو لا تجب عليه؟ نقول: تجب عليه، لقوله عليه الصلاة والسلام: ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ).

أيضاً: لو أن امرأة حلبت من صدرها ووضعته في طعام، وأكله الصبي، أو وضعته في حليب آخر، وأكله الصبي، فهذا الحليب استهلك -يعني: تلاشى ولم يظهر له أثر- فهل يؤثر هذا الحليب في المحرمية، أو لا يؤثر؟ نقول: لا يؤثر ما دام أنه استهلك.

ومثل ذلك: مرق الإبل على القول بأن مرق الإبل ينقض الوضوء، كما قال بعض أهل العلم، فلو أن هذا المرق طُبخ مثلاً في البر أو في الرز ولم يظهر طعم هذا المرق وأُكل هذا الرز أو أُكل هذا البر، فهل ينقض الوضوء أو لا ينقض الوضوء؟ نقول: لا ينقض الوضوء.

ومثل ذلك ما يسأل عنه اليوم بعض الناس، عن بعض الأدوية فقد يوجد فيها نسبة من الكحول، فهذه النسبة أحياناً تكون قد تلاشت واضمحلت، فهل تؤثر هذه، أو لا تؤثر؟ نقول: بأنها لا تؤثر.

ومن الأمثلة على ذلك -يعني: من أمثلة هذه القاعدة-: لو خلط زيته بزيت آخر، فالآن صاحب الزيت زيته قد تلاشى، واضمحل، فهذا يكون بمنزلة الإتلاف، فيضمن مثل هذا الزيت؛ ولهذا قلنا: العين المستهلكة في حكم العدم، فهذا الزيت الذي خلطه في زيت آخر أصبح الآن في حكم العدم ما دام أنه انغمر في الزيت الآخر.

قال المؤلف رحمه الله: [القاعدة الثالثة والعشرون: من حرم عليه الامتناع من بذل شيء سئله فامتنع، فهل يسقط إذنه بالكلية، أو يعتبر ويجبره الحاكم عليه؟ هذا نوعان:

أحدهما: أن يكون المطلوب منه إذناً مجرداً، ويندرج تحته صور.

والنوع الثاني: أن يكون المطلوب منه تصرفاً لعقد أو فسخ أو غيرهما، ويندرج تحته صور].

هذه القاعدة الثالثة والعشرون في الإذن في التصرف وسقوط الإذن. متى يسقط هذا الإذن ومتى لا يسقط؟

الامتناع من الإذن المجرد اللازم

وذكر المؤلف رحمه الله أن هذه القاعدة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون المطلوب إذناً مجرداً، فيمتنع من طلب منه هذا الإذن اللازم له، فيسقط استئذانه.

ولمن له الحق في التصرف يتصرف ولا حاجة إلى إذنه.

ويتفرع على هذا القسم مسائل:

منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ).

الجار إذا احتاج إلى أن يتصرف في جدار جاره بأن يغرز فيه خشبه، هذا كان في الزمن السابق، لكن في وقتنا الآن يحتاج أن يحفر في الجدار ليضع فيه مواصير الماء، وأسلاك الكهرباء، ويغرز فيه أشياء يحتاجها.. إلى آخره، هل يجوز للجار أن يمنع جاره من هذا التصرف أو لا يجوز؟ نقول: الشارع لم يجوز ذلك، لكن لا يجوز له أن يمتنع من ذلك بشرطين: أن الجار محتاج، ولا ضرر على جدار الجار.

إذا توفر الشرطان يجب على الجار أن يمكن جاره بالشرطين: أن يكون الجار محتاجاً، وألا يكون هناك ضرر على الجار.

مثلا: جاء الجار واستأذن جاره، قال: ائذن لي أن أعمل على جدارك، أريد أن أحفر فيها، وأضع فيها مواصير الكهرباء، ومواصير المياه.. فلم يأذن، الإذن هنا لازم، نحن نريد منه أن يأذن لكنه لم يأذن، فنقول: سقط إذنه، وللجار أن يتصرف وإن لم يأذن.

كذلك أيضاً من الأمثلة على ذلك: حج الزوجة، الزوجة إذا توفرت لها شروط وجوب الحج -الاستطاعة، والمحرم.. إلى آخره- فتستأذن الزوج، فإن لم يأذن الزوج لها سقط إذنه، ولها أن تخرج ما دام أنه امتنع عن الإذن اللازم له، والمطلوب منه مجرد إذن فقط.

أيضاً من الصور المترتبة على ذلك: إذا امتنع الزوج من النفقة، أو امتنع الأب من أن ينفق على أولاده، يُستأذن في بيع شيء من المال، أو أخذ شيء من المال للنفقة، يعني: يستأذن في الإنفاق، فإذا امتنع الأب، أو امتنع الزوج من الإنفاق، فإنه يؤخذ المال وينفق على زوجته وعلى أولاده ويسقط إذنه.

إذاً: القسم الأول: أن يكون المطلوب إذناً مجرداً ممن يجب عليه أن يأذن، لكنه يمتنع من هذا الإذن، فنقول: إن إذنه يسقط.

الامتناع من الإذن والتصرف

القسم الثاني: أن يُستأذن ليتصرف في عقد أو فسخ، فيمتنع من التصرف أو من الإذن، فنقول: يسقط استئذانه.

من الأمثلة على ذلك: الراهن إذا لم يسدد للمرتهن حقه.

مثلاً: زيد اقترض من عمرو ألف ريال، وأعطاه رهناً، عمرو مرتهن، وزيد راهن لكنه لم يسدد الألف، والرهن موجود ثوب مثلاً أو سيارة، فجاء وقت السداد وما سدد، نقول له: سدد للمرتهن -عمرو-، حقه رفض! نقول: ائذن لنا في البيع. رفض! يسقط إذنه، وتباع العين المرهونة، ويسدد للمرتهن حقه، وما فضل يرد عليه إن بقي شيء، وإن لم يبق شيء أو نقص عليه أن يدفعه.

أيضاً من الأمثلة على ذلك: إذا طلب من المدين أن يبيع ماله لكي يوفي الدين، فرفض أن يبيع، ورفض أن يأذن بالبيع، يسقط إذنه.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: إذا رفض الولي أن يزوج موليته، فيقال له: ائذن لنا أن نزوجها بأن تنتقل الولاية إلى من بعدك، فإذا رفض أن يأذن، فهذا حينئذ يكون عاضلاً فيسقط إذنه، ويزوج من بعده.

أيضاً: المولي إذا رفض، والمولي: هو الذي يحلف على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر فنقول له: تعود للفيئة -تفيء وتعاشر بالمعروف- فإذا رفض ذلك، يأمره الحاكم أن يطلق إذا لم يفئ أو يفسخ، فإذا رفض ولم يأذن يسقط استئذانه، والحاكم له أن يطلق أو يفسخ عليه حسب ما يراه.

فالخلاصة في هذا: من وجب عليه إذن مجرد، أو وجب عليه تصرف، ولم يأذن في هذا الإذن المجرد، ولم يأذن بهذا التصرف فإنه يسقط استئذانه.

وذكر المؤلف رحمه الله أن هذه القاعدة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: أن يكون المطلوب إذناً مجرداً، فيمتنع من طلب منه هذا الإذن اللازم له، فيسقط استئذانه.

ولمن له الحق في التصرف يتصرف ولا حاجة إلى إذنه.

ويتفرع على هذا القسم مسائل:

منها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره ).

الجار إذا احتاج إلى أن يتصرف في جدار جاره بأن يغرز فيه خشبه، هذا كان في الزمن السابق، لكن في وقتنا الآن يحتاج أن يحفر في الجدار ليضع فيه مواصير الماء، وأسلاك الكهرباء، ويغرز فيه أشياء يحتاجها.. إلى آخره، هل يجوز للجار أن يمنع جاره من هذا التصرف أو لا يجوز؟ نقول: الشارع لم يجوز ذلك، لكن لا يجوز له أن يمتنع من ذلك بشرطين: أن الجار محتاج، ولا ضرر على جدار الجار.

إذا توفر الشرطان يجب على الجار أن يمكن جاره بالشرطين: أن يكون الجار محتاجاً، وألا يكون هناك ضرر على الجار.

مثلا: جاء الجار واستأذن جاره، قال: ائذن لي أن أعمل على جدارك، أريد أن أحفر فيها، وأضع فيها مواصير الكهرباء، ومواصير المياه.. فلم يأذن، الإذن هنا لازم، نحن نريد منه أن يأذن لكنه لم يأذن، فنقول: سقط إذنه، وللجار أن يتصرف وإن لم يأذن.

كذلك أيضاً من الأمثلة على ذلك: حج الزوجة، الزوجة إذا توفرت لها شروط وجوب الحج -الاستطاعة، والمحرم.. إلى آخره- فتستأذن الزوج، فإن لم يأذن الزوج لها سقط إذنه، ولها أن تخرج ما دام أنه امتنع عن الإذن اللازم له، والمطلوب منه مجرد إذن فقط.

أيضاً من الصور المترتبة على ذلك: إذا امتنع الزوج من النفقة، أو امتنع الأب من أن ينفق على أولاده، يُستأذن في بيع شيء من المال، أو أخذ شيء من المال للنفقة، يعني: يستأذن في الإنفاق، فإذا امتنع الأب، أو امتنع الزوج من الإنفاق، فإنه يؤخذ المال وينفق على زوجته وعلى أولاده ويسقط إذنه.

إذاً: القسم الأول: أن يكون المطلوب إذناً مجرداً ممن يجب عليه أن يأذن، لكنه يمتنع من هذا الإذن، فنقول: إن إذنه يسقط.

القسم الثاني: أن يُستأذن ليتصرف في عقد أو فسخ، فيمتنع من التصرف أو من الإذن، فنقول: يسقط استئذانه.

من الأمثلة على ذلك: الراهن إذا لم يسدد للمرتهن حقه.

مثلاً: زيد اقترض من عمرو ألف ريال، وأعطاه رهناً، عمرو مرتهن، وزيد راهن لكنه لم يسدد الألف، والرهن موجود ثوب مثلاً أو سيارة، فجاء وقت السداد وما سدد، نقول له: سدد للمرتهن -عمرو-، حقه رفض! نقول: ائذن لنا في البيع. رفض! يسقط إذنه، وتباع العين المرهونة، ويسدد للمرتهن حقه، وما فضل يرد عليه إن بقي شيء، وإن لم يبق شيء أو نقص عليه أن يدفعه.

أيضاً من الأمثلة على ذلك: إذا طلب من المدين أن يبيع ماله لكي يوفي الدين، فرفض أن يبيع، ورفض أن يأذن بالبيع، يسقط إذنه.

ومن الأمثلة على ذلك أيضاً: إذا رفض الولي أن يزوج موليته، فيقال له: ائذن لنا أن نزوجها بأن تنتقل الولاية إلى من بعدك، فإذا رفض أن يأذن، فهذا حينئذ يكون عاضلاً فيسقط إذنه، ويزوج من بعده.

أيضاً: المولي إذا رفض، والمولي: هو الذي يحلف على ترك وطء زوجته أكثر من أربعة أشهر فنقول له: تعود للفيئة -تفيء وتعاشر بالمعروف- فإذا رفض ذلك، يأمره الحاكم أن يطلق إذا لم يفئ أو يفسخ، فإذا رفض ولم يأذن يسقط استئذانه، والحاكم له أن يطلق أو يفسخ عليه حسب ما يراه.

فالخلاصة في هذا: من وجب عليه إذن مجرد، أو وجب عليه تصرف، ولم يأذن في هذا الإذن المجرد، ولم يأذن بهذا التصرف فإنه يسقط استئذانه.

قال المؤلف رحمه الله: [القاعدة الرابعة والعشرون: من تعلق بماله حق واجب عليه فبادر إلى نقل الملك عنه صح، ثم إن كان الحق متعلقاً بالمال نفسه لم يسقط، وإن كان متعلقاً بماله لمعنى زال بانتقاله عنه سقط، وإن كان لا يزول بانتقاله لم يسقط على الأصح، ويدخل تحت ذلك صور].

لكي تتضح هذه القاعدة نقول بأنها تنقسم إلى ضوابط:

تعلق الحق بالمال لا يمنع من نقل الملك فيه

الضابط الأول: أن تعلق الحق بالمال لا يمنع من نقل الملك فيه.

يعني: تعلق بمالك حق من الحقوق، كونه تعلق بهذا المال حق من الحقوق يصح في الجملة أن تنقل الملك فيه، يعني: نقل الملك فيه بالبيع، أو بالهبة.. إلى آخره، وكونه تعلق به حق من الحقوق لا يمنع أن ينقل الملك في هذا المال، والحق هذا يكون باقياً.

ومن الأمثلة على ذلك: المشتري إذا باع الشقص قبل الطلب بالشفعة فهل هذا البيع صحيح مع أنه يتعلق بهذا المال حق الشريك (وهو الشفعة)؟

نقول: صورة المسألة: زيد وعمرو شريكان في أرض، ثم إن زيداً باع نصيبه على صالح، فصار صالح مالكاً لنصيب زيد، فهل له أن ينقل الملك؟ مع أنه قد يأتي عمرو ويشفع، أي يريد أن يأخذ الشقص بحق الشفعة؛ لأن حق عمرو -الشريك- باقٍ ومتعلق بهذا المال، فنقول: لا بأس ويصح أن يبيع صالح على محمد، وعمرو على شفعته إذا جاء ووجد أن شريكه قد باع -الذي هو زيد- نقول: له أن يشفّع، فيشفّع ثم يُعطي صالحاً، يعني: يأخذ بالبيعة الأولى، وفي البيعة الثانية يشفّع.

المهم أن تعلق الحق بالمال لا يمنع نقل الملك، فالمشتري الذي هو صالح الآن ملك شقص زيد، وتعلق به حق عمرو وهي الشفعة، ومع ذلك نقول: يصح تصرف المشتري الذي هو صالح، مع أن حق عمرو في الشفعة لا يسقط.

إذاً: الضابط الأول: تعلق الحق بالمال لا يمنع نقل الملك فيه، ولهذا قال المؤلف: (من تعلق بماله حق واجب فبادر إلى نقل الملك عنه صح).

نقل الملك لا يسقط الحق المتعلق به

الضابط الثاني: أن نقل الملك لا يُسقط الحق المتعلق به، وهذا كما مثلنا في الصورة السابقة: صالح المشتري كونه باع على محمد، هل يُسقط شفعة عمرو أو لا يسقطها؟ نقول: لا يسقط شفعة عمرو.

ومن أمثلته بالنسبة للرهن إذا قلنا بجواز بيع العين المرهونة: لو أن زيداً أقرض عمراً، وعمرو أعطى زيداً سيارة رهناً مقابل القرض، فالآن عمرو يسمى راهناً وزيد يسمى مرتهناً لأخذه السيارة، فلو أن عمراً -الراهن- جاز له أن يبيع العين المرهونة، هل يؤدي هذا إلى إسقاط حق زيد من التوثق، أو لا يؤدي إلى إسقاط حقه؟ نقول: لا يؤدي إلى إسقاط حقه، فنقل الملك هذا لا يُسقط الحق المتعلق بهذا الملك، أو نقل المال بالملك لا يُسقط الحق المتعلق بالمال.

فلو أنا جوزنا للراهن أن يبيع العين المرهونة، فحق المرتهن من التوثق لا يزال باقياً لا يسقط.

تعلق الحق بالمال لمعنى يتعلق بالمالك

الضابط الثالث: إذا كان الحق المتعلق بالمال لمعنى يتعلق بالمالك، فإن كان يزول عنه بانتقال الملك فإنه يسقط، وإن كان لمعنى يتعلق بالمال فإنه لا يسقط.

نذكر مثالين على هذا الضابط:

المثال الأول: العلماء يقولون: الذمي ليس له أن يرفع بناءه على المسلم، ولو رفعه فإنه يجب عليه أن يهدمه.

فالآن أصبح الجار مسلماً، فهل يسقط هذا الحق الذي تعلق أو لا يسقط؟ نقول: بأنه يسقط، ما دام أنه معنى يتعلق بالمالك، ويزول عنه بانتقال المالك.

فلو أن ذمياً رفع بيته على مسلم، نقول: يجب الهدم؛ لأن الحق الذي يتعلق بالمال -وهو الهدم لمعنى في المالك وهو الذمي- لكن لو باع الذمي بيته على مسلم فهنا انتقل الملك، فهل الحق المتعلق بالمال يسقط أو لا يسقط؟ نقول: يسقط؛ لأن هذا يتعلق بالمالك، وهو كونه ذمياً، والآن ما أصبح ذمياً بل أصبح مسلماً فيسقط.

لكن إذا كان يتعلق بالمال فإن الحق لا يسقط، مثاله: الغال، وهو الذي يسرق من الغنيمة قبل القسمة، ومن سرق من الغنيمة قبل القسمة فإن جزاءه أن يحرّق رحله، فلو أنه باع رحله فنقل الملك فيه، لكن هل الحق وهو التحريق يسقط أو لا يسقط؟ يقولون: لا يسقط؛ لأن معنى تحريق الرحل يتعلق بالمال.

في المثال السابق يتعلق بالمالك وهو الذمي، والآن ما عندنا ذمي، لكن هنا يتعلق بالمال وهو تحريق الرحل.

إذاً الغال وهو الذي يسرق من الغنيمة قبل أن تُقسم عقوبته أنه يحرّق رحله، لكن إذا أخذ رحله وباعه، فهل يُسقط هذا الحق الذي تعلق بماله، أو لا يسقطه؟ نقول: بأنه لا يسقطه، ويبقى حق التحريق.

وهذه الضوابط موجودة في القاعدة، لكن نحن فصّلنا حيث قال المؤلف: (من تعلق بماله حق واجب عليه فبادر إلى نقل الملك عنه صح، ثم إن كان الحق متعلقاً بالمال نفسه لم يسقط، وإن كان متعلقاً بماله لمعنى زال بانتقاله عنه سقط..) إلى آخره.

الضابط الأول: أن تعلق الحق بالمال لا يمنع من نقل الملك فيه.

يعني: تعلق بمالك حق من الحقوق، كونه تعلق بهذا المال حق من الحقوق يصح في الجملة أن تنقل الملك فيه، يعني: نقل الملك فيه بالبيع، أو بالهبة.. إلى آخره، وكونه تعلق به حق من الحقوق لا يمنع أن ينقل الملك في هذا المال، والحق هذا يكون باقياً.

ومن الأمثلة على ذلك: المشتري إذا باع الشقص قبل الطلب بالشفعة فهل هذا البيع صحيح مع أنه يتعلق بهذا المال حق الشريك (وهو الشفعة)؟

نقول: صورة المسألة: زيد وعمرو شريكان في أرض، ثم إن زيداً باع نصيبه على صالح، فصار صالح مالكاً لنصيب زيد، فهل له أن ينقل الملك؟ مع أنه قد يأتي عمرو ويشفع، أي يريد أن يأخذ الشقص بحق الشفعة؛ لأن حق عمرو -الشريك- باقٍ ومتعلق بهذا المال، فنقول: لا بأس ويصح أن يبيع صالح على محمد، وعمرو على شفعته إذا جاء ووجد أن شريكه قد باع -الذي هو زيد- نقول: له أن يشفّع، فيشفّع ثم يُعطي صالحاً، يعني: يأخذ بالبيعة الأولى، وفي البيعة الثانية يشفّع.

المهم أن تعلق الحق بالمال لا يمنع نقل الملك، فالمشتري الذي هو صالح الآن ملك شقص زيد، وتعلق به حق عمرو وهي الشفعة، ومع ذلك نقول: يصح تصرف المشتري الذي هو صالح، مع أن حق عمرو في الشفعة لا يسقط.

إذاً: الضابط الأول: تعلق الحق بالمال لا يمنع نقل الملك فيه، ولهذا قال المؤلف: (من تعلق بماله حق واجب فبادر إلى نقل الملك عنه صح).