فقه العبادات - الصلاة [25]


الحلقة مفرغة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخوتي المشاهدين والمشاهدات!

وأسعد الله مساءكم أيها الإخوة الذين معنا في الأستوديو، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بما نسمع ونقول، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أيها الإخوة! كنا قد توقفنا في بعض مسائل تتعلق بصلاة الجماعة، واليوم سوف نتحدث عن بعض المسائل ثم ندلف إن شاء الله إلى مسائل الإمامة.

أما المسألة التي سوف نتطرق إليها فهي مسألة حكم قراءة المأموم الفاتحة خلف إمامه، أو إن شئت فقل: حكم قراءة المأموم خلف إمامه، والمسألة فيها تفصيل.

قراءة المأموم خلف الإمام في الصلاة السرية

الشيخ: المسألة الأولى: أجمع أهل العلم على أن للمأموم أن يقرأ ما تيسر من القرآن حال إسرار إمامه، لأنه لم يختلط مع إمامه ولم يشوش عليه إذا كان الإمام في صلاة سرية، فهذا محل إجماع عند أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة بن رافع : ( فإن كان معك قرآن فاقرأ )، والحديث رواه الإمام أحمد و ابن خزيمة وسنده صحيح، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين : ( أنه صلى بأصحابه صلى الله عليه وسلم الظهر، فلما سلم قال: أيكم الذي قرأ خلفي بسبح اسم ربك الأعلى؟ فأرم القوم، فقال: أيكم الذي قرأ بها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! فقال: قد علمت أن بعضكم خالجنيها )، وهذا يدل على أن المأموم يقرأ خلف إمامه، وهي مشروعة من حيث أصل القراءة.

قراءة المأموم الفاتحة خلف إمامة

الشيخ: أما قراءة المأموم الفاتحة خلف إمامه فقد اختلف أهل العلم: هل يجب عليه أن يقرأ أم لا؟

القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن المأموم لا يجب عليه قراءة الفاتحة خلف الإمام، سواء كان ذلك في السرية أو الجهرية.

القول الثاني: قراءة المأموم في السرية للفاتحة واجبة، وأما في الجهرية فلا تجب ولا تشرع، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمهما الله جميعاً.

القول الثالث: هو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد ، وهو مذهب ابن حزم و ابن خزيمة : أن قراءة الفاتحة في حق المأموم واجبة، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية، بل هي ركن عند الشافعي.

أدلة القائلين بوجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام

الشيخ: استدل أصحاب القول الأول -وهم الجمهور- على أن قراءة المأموم للفاتحة لا تجب بأدلة، والظاهر أن هذه الأدلة ليست ظاهرة في قراءة الفاتحة، وإنما هي عامة في الفاتحة وغيرها.

وأدلة القائلين بوجوب القراءة أدلة خاصة، والقاعدة في هذا: أن الأدلة العامة إذا تعارضت مع أدلة خاصة فإننا لا نأخذ ببعض الأحاديث ونرد بعضاً، بل نجمع بينها ما أمكن، ولهذا فإن القائلين بعدم مشروعية قراءة المأموم للفاتحة استدلوا: بما رواه مسلم والإمام أحمد وغيرهم من حديث أبي هريرة : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذه الزيادة تكلم فيها الحفاظ.

والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن زيادة: (وإذا قرأ فأنصتوا)، مدرجة من بعض الرواة، ولم يقلها صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك غير واحد من أئمة الجرح والتعديل كـالدارقطني وغيره.

وعلى هذا فالحديث ليس فيه ما يدل على الوجوب.

الدليل الثاني: استدلوا بما رواه الإمام أحمد و الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الفجر فكأنه ثقل عليه القراءة، فقال: لعلكم قرأتم خلفي؟ قالوا: نعم، قال: إني أقول: مالي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر الإمام )، فاستدلوا بهذه الزيادة، ولكن هذه الزيادة ليست مرفوعة، ولم يقلها أبو هريرة رضي الله عنه.

والصواب كما أشار إلى ذلك الدارقطني و البخاري وغير واحد من أهل العلم أن هذه الزيادة: (فانتهى الناس عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر به)، إنما هي من قول الإمام الزهري ، والإمام الزهري ليس حجة على غيره من الأئمة، ومن المعلوم أن الزهري يرسل في بعض أحاديثه.

وعلى هذا فالحديث ليس فيه ما يدل على ترك الوجوب.

الدليل الثالث: استدلوا بما جاء عند الدارقطني وغيره من حديث جابر و عبد الله بن شداد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )، وهذا الحديث لو صح لكان حجة لأصحاب القول الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإمام يتحمل عن المأموم في القراءة، وعلى هذا فالمأموم لا يقرأ الفاتحة؛ لأن الإمام تكون قراءته قراءة للمأموم، ولكن هذا الحديث لا يفرح به، فإنه قد ضعفه كثير من أهل العلم، فضعفه أبو موسى الرازي و ابن حزم و ابن الجوزي والإمام الذهبي ، وعلى هذا فالحديث ضعيف، والصواب في هذا الحديث أنه مرسل، ولم يروه أحد من الصحابة، والمرسل ليس بحجة تعارض الأحاديث الصحيحة التي استدل بها أصحاب القول الثالث، القائلين بوجوب قراءة المأموم للفاتحة.

أدلة القائلين بعدم قراءة الفاتحة في الجهرية دون السرية

الشيخ: أما أصحاب القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية فقالوا: إن المقصود من قراءة الإمام هو أن يستمع المأموم قراءة إمامه، فإذا كان المأموم يقرأ والإمام يقرأ، فإنه ليس ثمة فائدة من ذلك، والأصل في قراءة المأموم ليس المقصود بها التعبد حينما يجهر الإمام؛ لأنه إنما يجهر لأجل أن يستمع المأمومون، وإلا لما كان لجهر الإمام فائدة.

وهذا القول فيه قوة كما ترى، ولكنهم قالوا: أما في السرية فلما لم يقرأ الإمام ويجهر بقراءته فإنه ليس في الصلاة سكوت مطلق، وعلى هذا فالمأموم مخاطب بأن يقرأ.

والجواب على هذا أن يقال: ما الذي جعلكم توجبون قراءة المأموم في السرية؟ فإن قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة .

أعيد: نحن نتكلم على القول الثاني، أنهم قالوا: يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في السرية ولا يشرع أن يقرأها في الجهرية إلا إذا كان لا يسمع قراءة الإمام، أو كان بعيداً عن الإمام، أو أن الإمام يسكت سكوتاً يمكن المأموم من القراءة، فحينئذ يأمرونه أن يقرأ، وأما إذا كان الإمام يقرأ فلا يشرع للمأموم أن يقرأ.

قلنا لهم: ما دليل الوجوب؟ قالوا: دليل الوجوب هو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، والجواب على هذا أن نقول لهم: أنتم أدخلتم قراءة المأموم في السرية في عموم هذا الحديث، فيلزمكم أن توجدوا دليلاً صريحاً يخصص الجهرية، وليس ثمة دليل صريح يأمر الصحابة ألا يقرءوا الفاتحة، وإنما الأدلة العامة هي أن الصحابة لا ينبغي لهم أن يقرءوا مطلقاً، فيكون هذا عاماً مخصوصاً، وليس خاصاً، فالصحابة نهوا أن يقرءوا خلف الإمام؛ لقوله صلى الله عليه سلم: ( إني أقول: مالي أنازع القرآن؟! )، قلنا: إن كلمة: (مالي أنازع القرآن؟)، تشمل قراءة المأموم للفاتحة ويشمل قراءة المأموم لغير الفاتحة.

أدلة القائلين بوجوب قراءة الفاتحة على المأموم في كل صلاة

الشيخ: لكن أدلة القول الثالث -وهم القائلون بوجوب قراءة المأموم- هي أدلة أخص من أدلة المنع من القراءة، قوله: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، على أن المأموم مخاطب بقراءة الفاتحة كما أن الإمام مخاطب بها، وعلى هذا فأدلة المنع إنما هي في غير الفاتحة، هذا إذا لم يكن هناك دليل صريح في أن المأموم يقرأ الفاتحة، فكيف وقد وجد الدليل.

ولهذا فالقول الثالث في المسألة وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد ، وهو مذهب ابن حزم ، و البخاري و ابن خزيمة وغيرهم قالوا: دليل الوجوب هو ما رواه الإمام أحمد و البخاري في جزء القراءة خلف الإمام والدارقطني و ابن خزيمة وغيرهم عن محمد بن إسحاق قال: حدثنا مكحول عن محمود بن لبيد عن عبادة بن الصامت أنه قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فثقلت عليه القراءة، فلما سلم قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم، فنقل ابن تيمية رحمه الله أن أحمد يضعفه، وصححه بعض الأئمة الكبار، فصححه البخاري و البيهقي و الدارقطني و الخطابي وأشار إليه ابن رجب .

فدل ذلك على أن الأقرب والله أعلم أن الحديث حسن، ومما يدل على ذلك أن محمد بن إسحاق لم يتفرد بهذا الحديث، فقد تابعه زيد بن واقد عن مكحول عن محمود بن لبيد عن عبادة بن الصامت ، وهذا الحديث خاص في أن المأموم يجب عليه أن يقرأ الفاتحة، وعلى هذا تجتمع الأحاديث.

وأما القول: بأنه ما فائدة أن يقرأ المأموم والإمام يقرأ؟ فالجواب عليه: لأن الفاتحة ركن من أركان الصلاة، فالانشغال بها لا يمنع من أن يستمع المأموم بعد انتهائه من قراءتها.

سقوط الفاتحة عن المأموم بالعجز وعدم الإدراك

الشيخ: ظاهر الحديث أن قراءة الفاتحة ركن في حق المأموم، وهذا قول قال به الشافعي وبعض أهل العلم، والصواب أنها ليست ركناً.

ومما يدل على أنها ليست ركناً ولكنها واجبة هو ما رواه البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعدما كبر دون الصف ثم دخل في الصف: ( زادك الله حرصاً ولا تعد ).

وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكرة في ركوعه هذا ولم يقرأ الفاتحة.

وقد نقل الإمام أحمد و ابن رجب و أبو عمر بن عبد البر الإجماع على أن المأموم إن أدرك إمامه وهو راكع فركع معه ولم يقرأ الفاتحة فإن صلاته صحيحة.

وخالف في ذلك الإمام البخاري و ابن حزم ، ويقول أبو عمر : وهم محجوجون بالإجماع قبل ذلك، وقد بالغ الإمام ابن رجب في رده على القائلين بأن الصلاة لا تجزئ بدعوى أنه لم يقرأ الفاتحة، والصواب أن هذا الحديث يدل دلالة صريحة على أن الفاتحة ليست بركن، وأن غاية ما يقال فيها: إنها واجبة، والواجب يسقط مع العجز وعدم الإمكان.

وعلى هذا فيجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، سواء كان في الصلاة السرية أو الجهرية، وتسقط الفاتحة في حقه إذا عجز عنها بحيث لا يستطيع أن يقرأ إلا بأن يرفع صوته بحيث يؤذي المصلين، فنقول له بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما لي أنازع القرآن؟ )، فلا ترفع صوتك: ( قد علمت أن بعضكم خالجنيها )، كما قال صلى الله عليه وسلم.

ولا ينبغي للإنسان أن يؤذي الذين معه في القراءة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى الإمام أحمد و ابن ماجه - حينما خرج على أصحابه فقال: ( أيها الناس! كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة )، فإذا كان المأموم سوف يرفع صوته بالفاتحة ليؤذي من بجانبه فنقول: لا تقرأ؛ لأنك سوف تؤذي، وعلى هذا تسقط قراءة الفاتحة مع العجز أو عدم الإمكان والإدراك، مثل أن يأتي الإنسان والإمام راكع أو قريباً من الركوع، فإنه والحالة هذه تسقط في حقه قراءة الفاتحة، وبهذا تجتمع الأحاديث.

اختلاف الصحابة في قراءة المأموم للفاتحة

الشيخ: إذا عرفت هذا فإن هذا القول اختلف الصحابة فيه، فنقل عن عمر بسند صحيح كما رواه عبد الرزاق أنه أمر المأموم أن يقرأ الفاتحة، وهو قول زيد بن ثابت .

ومن الصحابة من قال بعدم القراءة، وهو أيضاً قول زيد بن ثابت و أبي هريرة .

إذاً: من الصحابة من يقول بقراءة الفاتحة كما صح عن عمر و زيد بن ثابت و أبي هريرة رضي الله عنهم، قال أبو هريرة كما في صحيح مسلم : (اقرأ بها في نفسك)، وروي عن جابر أنه قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بالفاتحة إلا أن يكون خلف الإمام، وهذا صحيح عن جابر رضي الله عنه.

وأما ابن عمر و ابن عباس فقد اختلفت الروايات عنهما، وما جاء من رواية صحيحة عنهما فإنها لا تفيد فائدة صريحة على وجوب الإنصات وترك الفاتحة، ولكننا نقول: صح عن عمر أنه أمر بقراءة الفاتحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن يطيعوا أبا بكر و عمر يرشدوا ).

ومن المعلوم أن هذه المسألة قد صنفت فيها التصانيف، فمن العلماء من ألف كتاباً كبيراً في أن القراءة خلف الإمام لا تجب، ومن العلماء من أوجب قراءة الفاتحة خلف الإمام وألف في ذلك كتباً، والحمد لله الذي يسر وهدى، وكل على خير، قال الله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، والمسألة مما يسع فيها الخلاف، فإن قرأ المأموم خلف الإمام في نفسه بحيث لا يؤذي فالحمد لله، فإن شق ذلك عليه بحيث يرفع صوته ويؤذي فنقول: لا تقرأ؛ لأن قراءتك تؤذي المصلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( مالي أنازع القرآن؟ )، فانتهى الناس عن القراءة، يعني عن القراءة في غير الفاتحة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

سبق المأموم إمامه في قراءة الفاتحة

الشيخ: يقرأ المأموم في إسرار إمامه، ويقرأ إذا لم يسمع إمامه، ولا فرق بين أن يسبق المأموم إمامه بالفاتحة أو لا، وعلى هذا فإذا كبر الإمام ثم كبر المأموم ثم قرأ المأموم الفاتحة قبل إمامه فلا حرج في ذلك، وهو قول أكثر أهل العلم، فإن شرع الإمام بالفاتحة فإنه يسكت، وإن أكمل الإمام الفاتحة فإنه يكمل من حيث الآيات التي توقف غيرها.

الاستفتاح والتعوذ للمأموم إذا دخل والإمام يقرأ

الشيخ: وهنا مسألة وهي: هل إذا غلب على ظن المأموم أنه لا يستطيع أن يقرأ، كأن جاء والإمام يجهر بالقراءة، فهل نقول: يستفتح ويتعوذ ويبسمل ثم يقرأ الفاتحة أو لا؟

نقول: الأقرب إذا ضاق الوقت ألا يقرأ إلا الواجب، فنقول: لا يستفتح ولكنه يبسمل ويقرأ الفاتحة، هذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

والغريب أيها الإخوة أن الحنابلة رحمهم الله قالوا: إن المأموم لا يقرأ خلف الإمام، لكنهم قالوا: يستفتح ويستعيذ فإن المفترض أن الفاتحة أولى من دعاء الاستفتاح، وأولى من التعوذ، ولهذا فالراجح والله أعلم أنه لا يستفتح إذا ضاق عليه الوقت، ولكنه يشرع بـ (بسم الله الرحمن الرحيم)، ثم يقرأ الفاتحة.

الشيخ: المسألة الأولى: أجمع أهل العلم على أن للمأموم أن يقرأ ما تيسر من القرآن حال إسرار إمامه، لأنه لم يختلط مع إمامه ولم يشوش عليه إذا كان الإمام في صلاة سرية، فهذا محل إجماع عند أهل العلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة بن رافع : ( فإن كان معك قرآن فاقرأ )، والحديث رواه الإمام أحمد و ابن خزيمة وسنده صحيح، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين : ( أنه صلى بأصحابه صلى الله عليه وسلم الظهر، فلما سلم قال: أيكم الذي قرأ خلفي بسبح اسم ربك الأعلى؟ فأرم القوم، فقال: أيكم الذي قرأ بها؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! فقال: قد علمت أن بعضكم خالجنيها )، وهذا يدل على أن المأموم يقرأ خلف إمامه، وهي مشروعة من حيث أصل القراءة.

الشيخ: أما قراءة المأموم الفاتحة خلف إمامه فقد اختلف أهل العلم: هل يجب عليه أن يقرأ أم لا؟

القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة إلى أن المأموم لا يجب عليه قراءة الفاتحة خلف الإمام، سواء كان ذلك في السرية أو الجهرية.

القول الثاني: قراءة المأموم في السرية للفاتحة واجبة، وأما في الجهرية فلا تجب ولا تشرع، وهذا القول رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمهما الله جميعاً.

القول الثالث: هو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد ، وهو مذهب ابن حزم و ابن خزيمة : أن قراءة الفاتحة في حق المأموم واجبة، سواء أكانت الصلاة سرية أم جهرية، بل هي ركن عند الشافعي.

الشيخ: استدل أصحاب القول الأول -وهم الجمهور- على أن قراءة المأموم للفاتحة لا تجب بأدلة، والظاهر أن هذه الأدلة ليست ظاهرة في قراءة الفاتحة، وإنما هي عامة في الفاتحة وغيرها.

وأدلة القائلين بوجوب القراءة أدلة خاصة، والقاعدة في هذا: أن الأدلة العامة إذا تعارضت مع أدلة خاصة فإننا لا نأخذ ببعض الأحاديث ونرد بعضاً، بل نجمع بينها ما أمكن، ولهذا فإن القائلين بعدم مشروعية قراءة المأموم للفاتحة استدلوا: بما رواه مسلم والإمام أحمد وغيرهم من حديث أبي هريرة : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قرأ فأنصتوا )، وهذه الزيادة تكلم فيها الحفاظ.

والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن زيادة: (وإذا قرأ فأنصتوا)، مدرجة من بعض الرواة، ولم يقلها صلى الله عليه وسلم كما أشار إلى ذلك غير واحد من أئمة الجرح والتعديل كـالدارقطني وغيره.

وعلى هذا فالحديث ليس فيه ما يدل على الوجوب.

الدليل الثاني: استدلوا بما رواه الإمام أحمد و الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه الفجر فكأنه ثقل عليه القراءة، فقال: لعلكم قرأتم خلفي؟ قالوا: نعم، قال: إني أقول: مالي أنازع القرآن؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة فيما يجهر الإمام )، فاستدلوا بهذه الزيادة، ولكن هذه الزيادة ليست مرفوعة، ولم يقلها أبو هريرة رضي الله عنه.

والصواب كما أشار إلى ذلك الدارقطني و البخاري وغير واحد من أهل العلم أن هذه الزيادة: (فانتهى الناس عن القراءة خلف الإمام فيما يجهر به)، إنما هي من قول الإمام الزهري ، والإمام الزهري ليس حجة على غيره من الأئمة، ومن المعلوم أن الزهري يرسل في بعض أحاديثه.

وعلى هذا فالحديث ليس فيه ما يدل على ترك الوجوب.

الدليل الثالث: استدلوا بما جاء عند الدارقطني وغيره من حديث جابر و عبد الله بن شداد وغيره، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )، وهذا الحديث لو صح لكان حجة لأصحاب القول الأول، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الإمام يتحمل عن المأموم في القراءة، وعلى هذا فالمأموم لا يقرأ الفاتحة؛ لأن الإمام تكون قراءته قراءة للمأموم، ولكن هذا الحديث لا يفرح به، فإنه قد ضعفه كثير من أهل العلم، فضعفه أبو موسى الرازي و ابن حزم و ابن الجوزي والإمام الذهبي ، وعلى هذا فالحديث ضعيف، والصواب في هذا الحديث أنه مرسل، ولم يروه أحد من الصحابة، والمرسل ليس بحجة تعارض الأحاديث الصحيحة التي استدل بها أصحاب القول الثالث، القائلين بوجوب قراءة المأموم للفاتحة.

الشيخ: أما أصحاب القول الثاني، وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية فقالوا: إن المقصود من قراءة الإمام هو أن يستمع المأموم قراءة إمامه، فإذا كان المأموم يقرأ والإمام يقرأ، فإنه ليس ثمة فائدة من ذلك، والأصل في قراءة المأموم ليس المقصود بها التعبد حينما يجهر الإمام؛ لأنه إنما يجهر لأجل أن يستمع المأمومون، وإلا لما كان لجهر الإمام فائدة.

وهذا القول فيه قوة كما ترى، ولكنهم قالوا: أما في السرية فلما لم يقرأ الإمام ويجهر بقراءته فإنه ليس في الصلاة سكوت مطلق، وعلى هذا فالمأموم مخاطب بأن يقرأ.

والجواب على هذا أن يقال: ما الذي جعلكم توجبون قراءة المأموم في السرية؟ فإن قالوا: لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وهذا الحديث في الصحيحين من حديث أبي هريرة .

أعيد: نحن نتكلم على القول الثاني، أنهم قالوا: يجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة في السرية ولا يشرع أن يقرأها في الجهرية إلا إذا كان لا يسمع قراءة الإمام، أو كان بعيداً عن الإمام، أو أن الإمام يسكت سكوتاً يمكن المأموم من القراءة، فحينئذ يأمرونه أن يقرأ، وأما إذا كان الإمام يقرأ فلا يشرع للمأموم أن يقرأ.

قلنا لهم: ما دليل الوجوب؟ قالوا: دليل الوجوب هو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، والجواب على هذا أن نقول لهم: أنتم أدخلتم قراءة المأموم في السرية في عموم هذا الحديث، فيلزمكم أن توجدوا دليلاً صريحاً يخصص الجهرية، وليس ثمة دليل صريح يأمر الصحابة ألا يقرءوا الفاتحة، وإنما الأدلة العامة هي أن الصحابة لا ينبغي لهم أن يقرءوا مطلقاً، فيكون هذا عاماً مخصوصاً، وليس خاصاً، فالصحابة نهوا أن يقرءوا خلف الإمام؛ لقوله صلى الله عليه سلم: ( إني أقول: مالي أنازع القرآن؟! )، قلنا: إن كلمة: (مالي أنازع القرآن؟)، تشمل قراءة المأموم للفاتحة ويشمل قراءة المأموم لغير الفاتحة.

الشيخ: لكن أدلة القول الثالث -وهم القائلون بوجوب قراءة المأموم- هي أدلة أخص من أدلة المنع من القراءة، قوله: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، على أن المأموم مخاطب بقراءة الفاتحة كما أن الإمام مخاطب بها، وعلى هذا فأدلة المنع إنما هي في غير الفاتحة، هذا إذا لم يكن هناك دليل صريح في أن المأموم يقرأ الفاتحة، فكيف وقد وجد الدليل.

ولهذا فالقول الثالث في المسألة وهو مذهب الشافعي ورواية عن الإمام أحمد ، وهو مذهب ابن حزم ، و البخاري و ابن خزيمة وغيرهم قالوا: دليل الوجوب هو ما رواه الإمام أحمد و البخاري في جزء القراءة خلف الإمام والدارقطني و ابن خزيمة وغيرهم عن محمد بن إسحاق قال: حدثنا مكحول عن محمود بن لبيد عن عبادة بن الصامت أنه قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فثقلت عليه القراءة، فلما سلم قال: لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم، فنقل ابن تيمية رحمه الله أن أحمد يضعفه، وصححه بعض الأئمة الكبار، فصححه البخاري و البيهقي و الدارقطني و الخطابي وأشار إليه ابن رجب .

فدل ذلك على أن الأقرب والله أعلم أن الحديث حسن، ومما يدل على ذلك أن محمد بن إسحاق لم يتفرد بهذا الحديث، فقد تابعه زيد بن واقد عن مكحول عن محمود بن لبيد عن عبادة بن الصامت ، وهذا الحديث خاص في أن المأموم يجب عليه أن يقرأ الفاتحة، وعلى هذا تجتمع الأحاديث.

وأما القول: بأنه ما فائدة أن يقرأ المأموم والإمام يقرأ؟ فالجواب عليه: لأن الفاتحة ركن من أركان الصلاة، فالانشغال بها لا يمنع من أن يستمع المأموم بعد انتهائه من قراءتها.

الشيخ: ظاهر الحديث أن قراءة الفاتحة ركن في حق المأموم، وهذا قول قال به الشافعي وبعض أهل العلم، والصواب أنها ليست ركناً.

ومما يدل على أنها ليست ركناً ولكنها واجبة هو ما رواه البخاري من حديث الحسن عن أبي بكرة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعدما كبر دون الصف ثم دخل في الصف: ( زادك الله حرصاً ولا تعد ).

وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكرة في ركوعه هذا ولم يقرأ الفاتحة.

وقد نقل الإمام أحمد و ابن رجب و أبو عمر بن عبد البر الإجماع على أن المأموم إن أدرك إمامه وهو راكع فركع معه ولم يقرأ الفاتحة فإن صلاته صحيحة.

وخالف في ذلك الإمام البخاري و ابن حزم ، ويقول أبو عمر : وهم محجوجون بالإجماع قبل ذلك، وقد بالغ الإمام ابن رجب في رده على القائلين بأن الصلاة لا تجزئ بدعوى أنه لم يقرأ الفاتحة، والصواب أن هذا الحديث يدل دلالة صريحة على أن الفاتحة ليست بركن، وأن غاية ما يقال فيها: إنها واجبة، والواجب يسقط مع العجز وعدم الإمكان.

وعلى هذا فيجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، سواء كان في الصلاة السرية أو الجهرية، وتسقط الفاتحة في حقه إذا عجز عنها بحيث لا يستطيع أن يقرأ إلا بأن يرفع صوته بحيث يؤذي المصلين، فنقول له بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما لي أنازع القرآن؟ )، فلا ترفع صوتك: ( قد علمت أن بعضكم خالجنيها )، كما قال صلى الله عليه وسلم.

ولا ينبغي للإنسان أن يؤذي الذين معه في القراءة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم -كما روى الإمام أحمد و ابن ماجه - حينما خرج على أصحابه فقال: ( أيها الناس! كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة )، فإذا كان المأموم سوف يرفع صوته بالفاتحة ليؤذي من بجانبه فنقول: لا تقرأ؛ لأنك سوف تؤذي، وعلى هذا تسقط قراءة الفاتحة مع العجز أو عدم الإمكان والإدراك، مثل أن يأتي الإنسان والإمام راكع أو قريباً من الركوع، فإنه والحالة هذه تسقط في حقه قراءة الفاتحة، وبهذا تجتمع الأحاديث.

الشيخ: إذا عرفت هذا فإن هذا القول اختلف الصحابة فيه، فنقل عن عمر بسند صحيح كما رواه عبد الرزاق أنه أمر المأموم أن يقرأ الفاتحة، وهو قول زيد بن ثابت .

ومن الصحابة من قال بعدم القراءة، وهو أيضاً قول زيد بن ثابت و أبي هريرة .

إذاً: من الصحابة من يقول بقراءة الفاتحة كما صح عن عمر و زيد بن ثابت و أبي هريرة رضي الله عنهم، قال أبو هريرة كما في صحيح مسلم : (اقرأ بها في نفسك)، وروي عن جابر أنه قال: لا صلاة لمن لم يقرأ بالفاتحة إلا أن يكون خلف الإمام، وهذا صحيح عن جابر رضي الله عنه.

وأما ابن عمر و ابن عباس فقد اختلفت الروايات عنهما، وما جاء من رواية صحيحة عنهما فإنها لا تفيد فائدة صريحة على وجوب الإنصات وترك الفاتحة، ولكننا نقول: صح عن عمر أنه أمر بقراءة الفاتحة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن يطيعوا أبا بكر و عمر يرشدوا ).

ومن المعلوم أن هذه المسألة قد صنفت فيها التصانيف، فمن العلماء من ألف كتاباً كبيراً في أن القراءة خلف الإمام لا تجب، ومن العلماء من أوجب قراءة الفاتحة خلف الإمام وألف في ذلك كتباً، والحمد لله الذي يسر وهدى، وكل على خير، قال الله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، والمسألة مما يسع فيها الخلاف، فإن قرأ المأموم خلف الإمام في نفسه بحيث لا يؤذي فالحمد لله، فإن شق ذلك عليه بحيث يرفع صوته ويؤذي فنقول: لا تقرأ؛ لأن قراءتك تؤذي المصلين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( مالي أنازع القرآن؟ )، فانتهى الناس عن القراءة، يعني عن القراءة في غير الفاتحة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه العبادات - الطهارة [4] 2583 استماع
فقه العبادات - الطهارة [17] 2561 استماع
فقه العبادات - الطهارة [5] 2439 استماع
فقه العبادات - الطهارة [15] 2389 استماع
فقه العبادات - الصلاة [9] 2348 استماع
فقه العبادات - الصلاة [11] 2238 استماع
فقه العبادات - الصلاة [16] 2236 استماع
فقه العبادات - الطهارة [7] 2185 استماع
فقه العبادات - الصلاة [14] 2112 استماع
فقه العبادات - الطهارة [14] 2092 استماع