عمدة الفقه - كتاب الحج [12]


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

مشاهدينا الكرام أينما كنتم, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً مرحباً بكم في درس جديد من دروس متن عمدة الفقه.

في هذا الدرس نتشرف وإياكم بالسماع لفضيلة شيخنا الدكتور: عبد الله بن ناصر السلمي ، قبل أن أرحب بضيفنا لعلي أعتذر عما كنت وعدتكم به في الحلقة الماضية أن هذه الحلقة ستكون عملية عن صفة الحج, لكن لعلنا نعرض هذه الصفة نظرياً, ثم بعد ذلك يكون من المناسب أن نبينها عملياً في حلقة أخرى تعلن لكم على الشاشة وتعلن لكم أيضاً على موقع الأكاديمية الإسلامية المفتوحة.

باسمكم جميعاً أرحب بضيفنا فحياكم الله يا شيخ عبد الله .

الشيخ: حياكم الله وبالإخوة المستمعين والمستمعات.

المقدم: الترحيب موصول لجميع من يشاهدنا من خلف الشاشات أو من يسمعنا من على موقع الأكاديمية أو حتى الحضور معنا في الأستديو, نسعد بمداخلاتكم ومشاركاتكم بالاتصال على أرقام الهواتف التي ستعلن خلال الحلقة بين الفينة والأخرى، أيضاً من خلال موقع الأكاديمية الإسلامية التي طالما أسعدتمونا من خلاله بمشاركاتكم ومداخلاتكم ودعمكم لهذا البرنامج الذي بكم ومن أجلكم انطلق ويستمر بإذن الله تعالى.

في هذه الحلقة نبدأ في صفة الحج، ولعلنا نعرضها كما ذكرت في البداية نظرياً ثم نعاود عرضها علمياً في حلقة أخرى، فعلى بركة الله نبدأ درسنا.

الشيخ: جزاك الله خيراً يا شيخ عبد الرحمن !

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم! اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

أحبتي الكرام وصلنا إلى قول المؤلف: (باب صفة الحج)، وصفة الحج هي أهم ما في باب كتاب الحج؛ لأنها هي عمود أعمال النسك التي يفعلها الحاج أيام الحج العظمى, وهي من يوم التروية إلى آخر غروب الشمس من اليوم الثالث عشر.

[باب صفة الحج]. يقول المصنف رحمه الله تعالى: [وإذا كان يوم التروية فمن كان حلالاً أحرم من مكة وخرج إلى عرفات فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بينهما بأذان وإقامتين, ثم يروح إلى الموقف، وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة، ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم أو قريباً منه عند الجبل قريباً من الصخرات، ويجعل حبل المشاة بين يديه, ويستقبل القبلة ويكون راكباً، ويكثر من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير، ويجتهد في الدعاء والرغبة إلى الله عز وجل إلى غروب الشمس، ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة عن طريق المأزمين, وعليه السكينة والوقار، ويكون ملبياً ذاكراً لله عز وجل].

كيفية إحرام المتمتع بالحج

الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله: (باب صفة الحج)، أي: هذا باب صفة الحج، أي: الكيفية التي ينبغي للحاج أن يعمل بها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

يقول المؤلف: (إذا كان يوم التروية فمن كان حلالاً أحرم من مكة).

هذا الكلام فيه فوائد ومسائل: المسألة الأولى: أن من كان حلالاً وهو المعتمر الذي تحلل من عمرته وأصبح حلالاً، وكذلك كل من كان بمكة من أهلها أو من غيرها ممن أخذ عمرة وجلس في مكة، فإن هذين الشخصين يستحب لهما يوم التروية أن يهلا بالحج.

ويوم التروية هو اليوم الثامن, سمي يوم التروية بذلك على الأشهر لأن الناس كانوا يتروون الماء إلى منى ويحتاجون إليه في عرفة أيضاً.

وقيل في سبب تسمية يوم التروية بذلك لأن إبراهيم عليه السلام حينما رأى في اليوم الثامن أنه يذبح ابنه فلم ير أنها وحي أم لا، حتى تيقن ذلك في عرفة, وعرف أنها رؤيا حق، فسمى يوم التاسع يوم عرفة ويوم الثامن يوم التروية، والأقرب والله أعلم هو المعنى الأول؛ أنه سمي يوم التروية؛ لأن الناس كانوا يتروون الماء في يوم الثامن.

يقول المؤلف: (إذا كان يوم الثامن، فمن كان حلالاً).

أفادنا المؤلف في قوله: (حلالاً) ليخرج بذلك القارن والمفرد؛ لأن القارن والمفرد يلزمهما بقاء الإحرام في حقهما بعدما طافا للقدوم، وسعيا سعي الحج، أو الحج والعمرة إذا كان قارناً، ويبقيان على إحرامها إلى يوم العاشر، ولهذا قال المؤلف: (فمن كان حلالاً) والحلال هو المتمتع الذي أخذ عمرته، وكذلك من كان من أهل مكة فإنه يهل يوم الثامن.

هذا هو الأشهر وهو الراجح أن الإهلال يكون يوم الثامن, وهذا قول أكثر أهل العلم، ودليل ذلك ما رواه جابر في صحيح مسلم قال رضي الله عنه: ( فحل الناس كلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فإنهم لم يحلوا من إحرامهم، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث )، الحديث.

المؤلف رحمه الله يقول: (فمن كان حلالاً أحرم من مكة)، بل بالغ بعض الحنابلة فقال: والأفضل أن يحرم من تحت الميزاب، ولا شك أن إحرامه بمكة جائز، لكن أن يكون الأقرب للسنة والله أعلم هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وهو أن الأفضل أن يحرم من المكان الذي هو فيه، فإن كان بمنى فإنه يحرم بمنى، وإن كان بمكة فإنه يحرم بمكة، وإن كان في بيته فإنه يحرم ببيته،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( حتى أهل مكة يهلون منها ).

ومما يدل على ذلك هو ما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يهلوا يوم التروية, قال جابر: فأهللنا بالأبطح )، ومن المعلوم أن الأبطح في السابق غير مكة.

يقول المؤلف: (وخرج إلى عرفات).

الأفضل في حق المتمتع ومن كان من أهل مكة أن يذهبوا إلى منى، وأن يدخلوا في النسك ضحى يوم التروية، بحيث إذا زالت الشمس من اليوم الثامن يكونون محرمين، ومن الأخطاء التي تحصل عند كثير من الحجاج أنهم لا يهلون إلا ليلة عرفة أو صبيحة عرفة أو ضحى يوم عرفة، ولا شك أن هذا مخالف للسنة.

فضل المبادرة بالإحرام يوم الثامن للمتمتع

الشيخ: ومن العجب أنك ترى بعض الإخوة لا يحرم في اليوم الثامن ويجلس يقرأ القرآن ويتعبد، فيقال له: أرأيت لو كانت قراءتك للقرآن وأنت محرم فإن ذلك أفضل بلا شك لأمور:

أولاً: الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: لأنك لو ذكرت الله سبحانه وتعالى وأنت محرم فإن ذلك أفضل مما لو ذكرت وأنت غير محرم.

الثالث: أنك إذا أحرمت فإنه يشرع في حقك أن تلبي, والتلبية في حقك أعظم قربة من الأذكار الأخرى، وأنت إذا لم تكن قد أحرمت فإنه تفوتك هذه السنة.

الأمر الرابع: وهو مهم، أن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وأنت محرم، أو وأنت محرمة أختي الفاضلة! أقرب عند الله وأفضل مما إذا لم تكن محرماً. هذه أربع.

الخامس: وهذا مهم جداً أيضاً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته ناقته وهو محرم قال: ( اغسلوه بماء وسدر، ولا تحنطوه وكفنوه في ثوبيه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً )، فالرجل الذي أحرم ومات اليوم الثامن فإنه يكون يوم القيامة مهلاً وملبياً، أما لو كان لم يحرم فإنه قد فاته هذا الفضل العظيم بلا شك.

المبيت بمنى ليلة عرفة

الشيخ: يقول المؤلف: (وخرج إلى عرفات)، المؤلف لم يفصل في هذا, والسنة أن يبقى في منى ليلة عرفة، وهل المبيت بمنى ليلة عرفة واجب أم سنة؟

نقول: سنة، وهذا قول عامة الفقهاء، بل نقل ابن المنذر الإجماع على أن المبيت بمنى ليلة عرفة سنة، خلافاً لبعض أهل الظاهر حيث أنهم أوجبوا المبيت بمنى ليلة عرفة, ولا شك أن هذا القول بعيد، ومما يدل على قول عامة الفقهاء أنه سنة هو أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله, وفعله إذا خرج بياناً لمجمل القول دل على أنه مأمور به، وهذا المأمور إما أن يكون سنة وإما أن يكون واجباً.

وقولنا: إنه سنة دليله هو حديث عروة بن مضرس كما رواه أهل السنن أنه قال: ( يا رسول الله جئت من جبل طي أكللت مطيتي وأتعبت نفسي, فوالله ما تركت من حبل -وفي رواية: من جبل- إلا وقفت عليه, فهل لي من حج؟ فقال صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه, وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه ).

ومن المعلوم أن عروة هل بات ليلة عرفة في منى أم لم يبت؟ الظاهر أنه لم يبت، وهذا هو الأقرب، فعلى هذا فالأفضل أن يبقى في منى ويبيت فيها، فإذا صلى الفجر جلس يذكر الله سبحانه وتعالى حتى تطلع الشمس, والسنة في الخروج إلى عرفة أن يكون بعد طلوع الشمس.

لكن في شدة الزحام أرى أنه يجوز للإنسان أن يترك السنة رفقاً بالحملة, وربما يثاب إثابة عظيمة؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لـعائشة : ( ولولا حدثان قومك بالكفر لرأيت أن أنقض البيت فأجعل لها بابين ) .

ومن المعلوم أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر إرفاقاً بحديث عهد بالإسلام وألا يشق عليهم، هذا أفضل من أنه يبني مع أن البناء هو سنة؛ ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن الأخذ بالرفق بالناس ربما يكون أعظم من فعل الشيء نفسه، وهذا ليس على إطلاقه بل ينبغي أن يكون بتأن وتروٍ، فلا يفتح المجال إلا لعالم خبير بالآثار.

الوقوف بنمرة حتى زوال الشمس

الشيخ: فإذا خرج إلى عرفات، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة فخرج عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم من حديث جابر : ( فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام )، أو في المشعر الحرام, والمشعر الحرام هو مزدلفة، وذلك لأن قريشاً كانت في الجاهلية تقف يوم عرفة في مزدلفة, وأما بقية العرب فتقف في عرفة، ويقولون: نحن أهل الحرم نحن الحمس, فكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث يقف مع الناس, فأمره الله يوم حجة الوداع أن يقف مع الناس, ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ [البقرة:199]، وقد كانت إفاضة الناس من عرفة إلى مزدلفة.

ولهذا كانت قريش لا تشك إلا أنه واقف عند المشعر الحرام؛ لأن الرسول من قريش، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم خالفهم وخالف عاداتهم فوقف بنمرة.

إذاً: وقوف النبي صلى الله عليه وسلم بنمرة، قال: فوجد القبة قد ضربت له بنمرة, فأقام فيها حتى كان زوال الشمس. السؤال: هل الجلوس بنمرة على سبيل الاستحباب أم هو راحة؟ قولان عند أهل العلم، وأقربها هو أن البقاء في نمرة سنة لمن قدر على ذلك؛ ودليله أمران:

الأول: أن هذا هو فعله عليه الصلاة والسلام, وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( خذوا عني مناسككم ) .

الثاني: ما جاء في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: ( ثم أمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة )، فهذا يدل على أنه أمر من النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا اتخذها الأمراء كما يقول عبد الله بن عمر ، ولا شك أن نمرة ليست من عرفة على الراجح, وهو قول عامة الفقهاء، لكن الإنسان بسبب شدة الزحام لو أنه ذهب من منى إلى عرفة ابتداء, وبقي في مخيمه فأرى أن هذا لا حرج فيه خلافاً لمن جعل ذلك من البدع، كما في بعض الكتب المتأخرة التي تحكم أن هذا من البدع، ولا شك أن هذا ليس من البدع؛ لأن هذا أسمح للإنسان.

ولا شك أن الذي يذهب إلى عرفة ابتداء لا يقول: أنا فعلت السنة, إنما يقول: أنا فعلت الأسمح لي، ولو طلب من الناس أن يطبقوا السنة في كل أمر لشق ذلك عليهم, ولكننا نقول: كل من استطاع أن يطبق السنة فنعما هي.

بداية الوقوف بعرفة ونهايته

الشيخ: يقول المؤلف: (وخرج إلى عرفات)، المؤلف أجمل في بعض السنن, ونحن نشرح هذه السنن بناء على جمعنا للأحاديث التي بينها الصحابة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. السنة أن يبدأ بنمرة, ويبقى فيها حتى زوال الشمس, ثم يذهب إلى عرفات. السؤال: متى يبدأ وقت الوقوف بعرفة؟

ذهب عامة الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية ورواية عند أحمد , بل نقل ابن حزم في مراتب الإجماع و ابن عبد البر في التمهيد الإجماع على أن بداية الوقوف بعرفة من بعد زوال الشمس، يعني: من بداية وقت الظهر، هذا قول عامة الفقهاء، واستدلوا على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف بعرفة إلا بعد زوال الشمس.

وذهب الحنابلة إلى أن وقت الوقوف بعرفة يبدأ من طلوع الشمس, أو من طلوع الفجر إلى طلوع الفجر من ليلة العيد، واستدلوا على ذلك بحديث عبد الرحمن بن يعمر الذي رواه الثوري عن بكير بن عطاء الليثي عن عبد الرحمن بن يعمر أن ناساً من أهل نجد أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ( يا رسول الله! كيف الحج؟ قال: الحج عرفة، فمن أتى عرفة قبل ذلك ليلاً فقد تم حجه وقضى تفثه )، قالوا: فهذا يدل على أن وقوفها ينتهي إلى قبل الفجر، وأما بدايته فقالوا: لحديث عروة بن مضرس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من شهد صلاتنا هذه وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً )، قال المجد أبو البركات في كتابه المنتقى: وفي هذا دلالة على أن الوقوف بعرفة يبدأ من الفجر أو كلمة نحوها، دليله: ( وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهارا )، فالنهار يطلق عليه قبل الزوال أو بعد الزوال.

وقول الحنابلة قوي إلا أننا نقول: إنه يجب عليه أن يقف بعد الزوال أولاً للأحوط, ولكنه لو لم يقف إلا قبل الزوال ثم خرج فأرى -والله أعلم- أن قول الحنابلة هو ظاهر النص, ولكن يجبره بدم؛ لأنه لم يبق إلى غروب الشمس.

يقول المؤلف: (وأما انتهاؤه فواضح).

وهو قول عامة الفقهاء أن وقت عرفة ينتهي من طلوع فجر يوم العيد, كما في حديث عبد الرحمن بن يعمر .

كيفية صلاة الظهر والعصر بعرفة

الشيخ: يقول المؤلف: (فإذا زالت الشمس يوم عرفة صلى الظهر والعصر يجمع بأذان وإقامتين).

يستحب للإمام يوم عرفة أن يأتي الموقف, وعرفة كلها موقف, كما سوف يأتي بيانه، فيقف الموقف ثم يخطب الناس كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم, يذكرهم مسائل الحج من الوقوف في عرفة ومن أحكام مزدلفة, ومن أحكام منى, ومن أحكام رمي الجمار, والطواف وغير ذلك كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم.

ويذكر ما أهم الناس من أمر دينهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا ) الحديث.

ومن المسائل أيضاً: أنه يشرع للحجاج المقيمين والمسافرين أن يجمعوا في عرفة بين الظهر والعصر جمع تقديم، هذا قول عامة الفقهاء، بل نقل بعض أهل العلم كـابن عبد البر الإجماع، وإن كان بعض أصحاب الحنابلة منع من الإجماع إلا في حق المسافرين, والصواب: أن الجمع ليس لأجل السفر بل الجمع لأجل الحاجة, فيجوز للإنسان أن يجمع وهو مقيم, ويجوز أن يجمع وهو مسافر، وإن كان الأصل أن السفر مظنة الحاجة فلو جمع وهو مسافر من غير حاجة جاز له ذلك؛ لأن السفر هو بحد ذاته من الحاجات، لكن له أن يجمع وهو مقيم كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر ) وفي رواية: ( من غير خوف ولا سفر ).

وهذا الجمع ثابت في عرفة بين الظهر والعصر في وقت الظهر، حتى أهل مكة يجمعون.

السؤال الثاني: هل يقصر أهل مكة؟ أما المسافرون فإنهم يقصرون, وهذا هو قول الأئمة الأربعة لا إشكال في ذلك, لكن هل المكي يقصر أم لا؟ الجمهور من الحنابلة والشافعية والأحناف يرون أنهم لا يقصرون, والأحناف لهم قولان, لكن المشهور أنهم لا يقصرون فيما أذكر.

وذهب مالك رحمه الله إلى أنهم يقصرون، وهو اختيار ابن تيمية , لكن مالكاً قال: يقصرون لأجل النسك، و ابن تيمية قال: يقصرون لأجل أن أهل مكة إذا خرجوا من مكة فإنهم مسافرون، ولا شك أن دعوى أن أهل مكة مسافرون في هذا الزمان دعوى بعيدة؛ لأن منى ومزدلفة وعرفات أصبحت من مكة.

وبالتالي إما أن يقال: لا يقصرون لأنهم غير مسافرين, أو يقال: يقصرون لأنه نسك، ولا شك أنهم غير مسافرين.

السؤال: هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر أحداً من أصحابه أن يقصر لأجل النسك؟

نقول: لا, بل بين عليه الصلاة والسلام أن القصر إنما هو لأجل المسافر؛ كما روى أنس بن مالك الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله وضع عن المسافر شطر الصوم والصلاة )، فشطر الصلاة لأجل السفر, ثم إن قول المالكية: إنه يقصر لأجل النسك، قلنا: لو كان لأجل النسك فإنه يشرع له القصر من حين إحرامه في الحج ولا قائل به.

يعني: لو أن المكي وهو في بيته قام فلبس الإحرام وقال: لبيك عمرة وحضر وقت الظهر فإنه يقصرها ولا قائل به من أهل العلم المتقدمين فيما أعلم إلا بعض العلماء المتأخرين، وهذا بلا شك قول لم يقله أحد من أهل العلم المتقدمين. إلا مالكاً قال: يقصر بعرفة وبمزدلفة وبمنى, فلو صلى المكي خارج عرفة قال مالك : لا يقصر.

والراجح -والله أعلم- أن المكي يجمع في عرفة وفي مزدلفة ولكنه لا يقصر، أما في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ربما يقال: إنهم كانوا مسافرين، وربما كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بين لهم، ولا يلزم أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين لهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بين لهم أحكام العبادات مطلقاً، ولو قيل بذلك لقيل: إن المكي الذي صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم في مكة لم يقل له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر ) وهذا الحديث لم يصح مرفوعاً, رواه عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح, إنما صح وقفه عن عمر , كما رواه مالك في موطئه.

يقول المؤلف: (صلى الظهر والعصر يجمع بأذان وإقامتين)، السنة أن يؤذن المؤذن أذاناً واحداً ويقيم إقامتين, هذا الذي رواه جابر في صحيح مسلم , وأما ما رواه ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن أذاناً وحداً وإقامة واحدة ) فإن هذا وهم من ابن عمر رضي الله عنه، وقد وافق جابراً غير واحد من الصحابة رضي الله عنه كـأسامة بن زيد ، ولعل ابن عمر سمع الإقامة الأولى ولم يسمع الإقامة الثانية لأجل البعد, والله أعلم.

حدود عرفة

الشيخ: يقول المؤلف: (بأذان وإقامتين ثم يصير إلى الموقف).

الموقف هنا هو عرفة, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وقفت ها هنا وعرفة كلها موقف ) كما رواه أبو داود وغيره, والأفضل أن يقف المسلم بنحو ما وقف به النبي صلى الله عليه وسلم.

وقال جابر في صحيح مسلم قال: ( ثم أمر بناقته القصواء فركبها, ثم جعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات، وجعل حبل المشاة بين يديه, واستقبل القبلة, وجعل يرفع يديه يدعو )، ولكن هذا ليس دليلاً على وجوب الوقوف في هذا المكان, بل كل عرفة موقف, لما روى يزيد بن شيبان كما رواه الترمذي , وقال: حديث حسن صحيح قال: ( أتانا ابن مربع الأنصاري فقال: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أقيموا على مشاعركم, فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم )، وهذا الحديث قال فيه الترمذي : حديث حسن صحيح.

المؤلف رحمه الله قال: (وعرفة كلها موقف).

عرفة موقف كلها, أما عرنة فليست بموقف وهو المسيل الذي ترونه (الوادي), وكذلك نمرة على الأقرب والله أعلم, ودليل أن عرنة ليست بموقف ما رواه ابن خزيمة بسند جيد من طريق أبي الزبير عن أبي معبد عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ارفعوا عن بطن عرنة, وارفعوا عن وادي محسر )، أو قال: بطن محسر، ورواه ابن خزيمة أيضاً موقوفاً عن ابن عباس بلفظ كان يقال: ( ارتفعوا عن وادي محسر, وارتفعوا عن بطن عرنة )، هذا قول عامة الفقهاء، بل نقل ابن عبد البر الإجماع على أن عرنة ليست بموقف.

قال: إلا ما حكي عن مالك أنه إن وقف فإنه يصح حجه ويريق دماً, وفي هذا نظر, والله أعلم.

المستحب للواقف بعرفة

الشيخ: يقول المؤلف: (ويستحب أن يقف في موقف النبي صلى الله عليه وسلم).

سبق وأن بينا موقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو أن يجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات وحبل المشاة بين يديه وأن يستقبل القبلة، ومعنى حبل المشاة: طريق جبل المشاة الذي يمشون عليه أو الوادي الذين يمشون عليه.

قول المؤلف: (ويستقبل القبلة ويكون راكباً).

أيهما أفضل للواقف في عرفة أن يكون راكباً أم يكون غير راكب؟ المؤلف يقول: يكون راكباً؛ ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا وهو راكب.

والقول الثاني: أن الأفضل أن يجلس، قالوا : وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن ذلك لأجل أن يشرفوه يعني: يطلع عليه الناس، فالرسول صلى الله عليه وسلم مشرع بأبي هو وأمي، وكل من كان على حالة النبي صلى الله عليه وسلم معلماً للناس ومرشداً فإنه يصنع مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا لم يكن مرشداً ولا معلماً إنما هو من عامة الناس، أو وجد إمام للحج فإنه يجلس.

وذهب ابن تيمية رحمه الله إلى أن ذلك على حسب الأرفق به، فإن كان الأرفق به الركوب دعا راكباً, وإن كان الأرفق به الجلوس دعا ربه جالساً، وهذا بلا شك قول وسط، إلا أننا نقول: إنه إن كان يقتدى بفعله وفعاله فإنه ينبغي له أن يبرز للناس حتى يقتدوا به ويسألونه.

الذكر المستحب للحاج

الشيخ: يقول المؤلف: (ويكثر من قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير).

أفضل ما يدعو الحاج بقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كما روى البيهقي و الطبراني وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير )، فعليه أن يكثر من ذلك, بحيث يجعل قول: لا إله إلا الله أكثر من ألف مرة، ألفين حتى يتشجع, ولا يعني قولنا: ألفاً أو ألفين أن هذا تحديد, ولكن الحاج أو الإنسان إذا جعل له هدفاً سهل تحقيقه، فهو يقول: سأفعل ألفاً, فإذا قالها ألفاً قال: سوف أفعل ألفين, فإذا قالها ألفين قال: سوف أفعل ثلاثة حتى لا يكل ولا يمل ولا يكسل, فهذا هو معناه, فيكثر من قول: لا إله إلا الله, وهو في أثناء قول: لا إله إلا الله يكثر من الدعاء والتضرع والابتهال والانطراح والانكسار بين يدي الله.

انكسار الحاج وذله بين يدي الله يوم عرفة

الشيخ: وليتذكر أن الله سبحانه وتعالى كريم يحب الانكسار والانطراح بين يديه؛ ولهذا استحب للحاج يوم عرفة أن يفطر، مع أن يوم عرفة يكفر سنتين, ومع ذلك أمر الحاج أن يفطر ليتفرغ لعبادة ربه والانطراح بين يديه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم ملائكته )، وفي رواية: ( قال: ما أراد هؤلاء )، كما رواه مسلم في صحيحه.

وليستشعر العبد في هذا الموطن كرم الله ورجاءه وعفوه؛ ولهذا كان سفيان الثوري جالس مطأطئ رأسه, وكان معروفاً عنه الخوف، وكان وجلاً في كثير من عباداته, ولكن عبد الله بن المبارك أتاه فوجده يبكي وهو مطرح ساكن ذليل مخبت منيب. قال عبد الله بن المبارك وقد جثى على ركبتيه: يا أبا عبد الله ! -يعني: بذلك سفيان - من الخاسر في هذا اليوم؟ فرفع سفيان الثوري رأسه, وقد خضلت لحيته من الدمع قال: إن الخاسر من ظن أن الله لا يغفر له.

و الفضيل بن عياض رحمه الله رأى الحجيج وهم ما بين قائم وقاعد وساجد وباك وداع وقارئ, فنظر إلى أصحابه فقال: أترون هؤلاء الحجيج لو وقفوا عند ملك من ملوك الدنيا كريم وسألوه دانق -الدانق يا إخوان سدس درهم، والدرهم يقدر بريالين ونصف، سدس الدرهم تقريباً ربع إلا أو ربع وزيادة- أترونه يردهم؟ قالوا: والله لا يردهم، لا يردهم وأنت تقول: كريم، قال: لله أكرم من هذا الملك بدانقه، والله, لله أكرم بهذا الملك من دانقه، نعم إن العبد كلما استشعر عظمة الله, واستشعر فقره إليه واستشعر غنى ربه عنه, واعترف بذنوبه وتقصيره, فإن الله سبحانه وتعالى كريم، وإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لأن هذه صفة الذل والخضوع والإخبات، والعبد كلما كان كذلك كلما كان ذلك أنفع لدعائه، وليكثر من الدعاء وقول: لا إله إلا الله.

وأذكر أن سفيان بن عيينة جاءه رجل فقال: أي الدعاء أفضل يوم عرفة؟ قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, فقال: يا أبا عبد الله ! هذا ثناء وأنا أريد دعاء, قال: أوما سمعتم قول الأعرابي:

أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك إن شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء

فهذا يدل على أن العبد إذا أثنى على الله ووصفه بصفات الكمال والإجلال والعظمة استفاد أمرين:

الأمر الأول: أنه أثنى على الله. والثاني: أنه دعا؛ لأن هذا دعاء وعبادة, كما بين أهل العلم ذلك.

حكم الانصراف من عرفة قبل غروب الشمس

الشيخ: المؤلف رحمه الله قال: (ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة).

بعدما يدعو العبد ربه ويستمر على ذلك إلى غروب الشمس, يجب على كل من دخل عرفة نهاراً أن يبقى إلى غروب الشمس ليجمع بين الليل والنهار، هذا هو قول أكثر أهل العلم, بل إن مالكاً رحمه الله قال: لا يصح حجه حتى يجمع بين الليل والنهار؛ لأن مالكاً يرى أن الليل هو أهم شيء، واستدل على ذلك بحديث رواه ابن عمر : ( من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج, ومن لم يدرك عرفة بليل فلم يدرك الحج, وعليه أن يتحلل بعمرة, وعليه الحج من قابل ) هذا رواه ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي سنده ضعف، فيه رحمة بن مصعب , وهو ضعيف, هذا الذي أذكره, وقد ضعفه غير واحد من أهل العلم.

على هذا نقول: إن الوقوف بعرفة ينتهي في حق من دخل من النهار بعد غروب الشمس، أما إن خرج قبل ذلك فيجب عليه أن يرجع, فإن رجع قبل الغروب فلا شيء عليه، وإن رجع بعد غروب الشمس وجب عليه دم؛ لأنه خرج قبل وقته, والله أعلم.

صفة الدفع من عرفة إلى مزدلفة

الشيخ: يقول المؤلف: (ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة)، السنة في الانتقال من منى إلى عرفة, ومن عرفة إلى منى هو التلبية، قال الفضل بن عباس : ( كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة إلى منى, فلم يزل يلبي حتى أتى جمرة العقبة )، وقال أنس , قال عبد العزيز بن ربعي : يا محمد بن أبي بكر ! ما كنتم تصنعون وقت ذلك؟ يعني بذلك من منى إلى عرفات, قال: كان يلبي الملبي منا فلا ينكر عليه، ويهل المهل منا فلا ينكر عليه.

ولا شك أن التلبية هنا أفضل؛ كما قال عبد الله بن مسعود : ما شأن الناس أنسوا أم أخطئوا؟ سمعت الذي أنزلت عليه البقرة يلبي في مثل هذا الموطن.

أما أسامة فهو رديف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى مزدلفة.

قال المؤلف: (ثم يدفع مع الإمام إلى مزدلفة على طريق المأزمين).

على طريق المأزمين بكسر الزاي على الأشهر فيما أعلم.

يقول المؤلف: (وعليه السكينة والوقار).

هذا هو السنة أن الإنسان يمشي بسكينة ووقار وهو يلبي؛ كما في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( فجعل حبل ناقته القصواء إلى مورك رحله وهو يقول بيده: أيها الناس! السكينة, السكينة! )، وكما عند البخاري من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما سمع ضرباً بالسوط, يعني: يضربون النوق حتى تسرع فقال: ( أيها الناس! عليكم بالسكينة, فإن البر ليس بإيضاع الإبل )؛ لأن بعض الناس يحاول أن يصل مزدلفة قبل الناس، وإذا انتهى الحج أو صار أيام منى قال: أنا وصلت مزدلفة وقت كذا, وأنا وصلت مزدلفة وقت كذا, فهنا ينبغي للإنسان أن يخلص النية لله, وألا يؤذي عباد الله، وليعلم أنه كلما كان حجه من غير فسق ولا جدال كلما كان ذلك أقرب إلى الله سبحانه وتعالى وأدعى للقبول.

ولهذا قال عروة : ( سألت أسامة : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير حينما خرج من عرفة إلى مزدلفة؟ قال: كان يسير العنق, فإذا وجد فجوة نص )، العنق يعني: الشيء اليسير, (فإذا وجد فجوة) يعني: منفذاً (نص) يعني: وثب وأسرع. بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.

يقول المؤلف: (ويكون ملبياً ذاكراً لله عز وجل, فإذا وصل مزدلفة صلى المغرب والعشاء قبل حط الرحال، يجمع بينهما). نقف عند هذا الموقف, ونسمع أسئلة الإخوة والأخوات, وتتفضل فضيلة الشيخ مشكوراً.

الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله: (باب صفة الحج)، أي: هذا باب صفة الحج، أي: الكيفية التي ينبغي للحاج أن يعمل بها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

يقول المؤلف: (إذا كان يوم التروية فمن كان حلالاً أحرم من مكة).

هذا الكلام فيه فوائد ومسائل: المسألة الأولى: أن من كان حلالاً وهو المعتمر الذي تحلل من عمرته وأصبح حلالاً، وكذلك كل من كان بمكة من أهلها أو من غيرها ممن أخذ عمرة وجلس في مكة، فإن هذين الشخصين يستحب لهما يوم التروية أن يهلا بالحج.

ويوم التروية هو اليوم الثامن, سمي يوم التروية بذلك على الأشهر لأن الناس كانوا يتروون الماء إلى منى ويحتاجون إليه في عرفة أيضاً.

وقيل في سبب تسمية يوم التروية بذلك لأن إبراهيم عليه السلام حينما رأى في اليوم الثامن أنه يذبح ابنه فلم ير أنها وحي أم لا، حتى تيقن ذلك في عرفة, وعرف أنها رؤيا حق، فسمى يوم التاسع يوم عرفة ويوم الثامن يوم التروية، والأقرب والله أعلم هو المعنى الأول؛ أنه سمي يوم التروية؛ لأن الناس كانوا يتروون الماء في يوم الثامن.

يقول المؤلف: (إذا كان يوم الثامن، فمن كان حلالاً).

أفادنا المؤلف في قوله: (حلالاً) ليخرج بذلك القارن والمفرد؛ لأن القارن والمفرد يلزمهما بقاء الإحرام في حقهما بعدما طافا للقدوم، وسعيا سعي الحج، أو الحج والعمرة إذا كان قارناً، ويبقيان على إحرامها إلى يوم العاشر، ولهذا قال المؤلف: (فمن كان حلالاً) والحلال هو المتمتع الذي أخذ عمرته، وكذلك من كان من أهل مكة فإنه يهل يوم الثامن.

هذا هو الأشهر وهو الراجح أن الإهلال يكون يوم الثامن, وهذا قول أكثر أهل العلم، ودليل ذلك ما رواه جابر في صحيح مسلم قال رضي الله عنه: ( فحل الناس كلهم إلا النبي صلى الله عليه وسلم ومن كان معه هدي فإنهم لم يحلوا من إحرامهم، فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث )، الحديث.

المؤلف رحمه الله يقول: (فمن كان حلالاً أحرم من مكة)، بل بالغ بعض الحنابلة فقال: والأفضل أن يحرم من تحت الميزاب، ولا شك أن إحرامه بمكة جائز، لكن أن يكون الأقرب للسنة والله أعلم هو اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله، وهو أن الأفضل أن يحرم من المكان الذي هو فيه، فإن كان بمنى فإنه يحرم بمنى، وإن كان بمكة فإنه يحرم بمكة، وإن كان في بيته فإنه يحرم ببيته،كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ( حتى أهل مكة يهلون منها ).

ومما يدل على ذلك هو ما جاء في صحيح مسلم من حديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يهلوا يوم التروية, قال جابر: فأهللنا بالأبطح )، ومن المعلوم أن الأبطح في السابق غير مكة.

يقول المؤلف: (وخرج إلى عرفات).

الأفضل في حق المتمتع ومن كان من أهل مكة أن يذهبوا إلى منى، وأن يدخلوا في النسك ضحى يوم التروية، بحيث إذا زالت الشمس من اليوم الثامن يكونون محرمين، ومن الأخطاء التي تحصل عند كثير من الحجاج أنهم لا يهلون إلا ليلة عرفة أو صبيحة عرفة أو ضحى يوم عرفة، ولا شك أن هذا مخالف للسنة.

الشيخ: ومن العجب أنك ترى بعض الإخوة لا يحرم في اليوم الثامن ويجلس يقرأ القرآن ويتعبد، فيقال له: أرأيت لو كانت قراءتك للقرآن وأنت محرم فإن ذلك أفضل بلا شك لأمور:

أولاً: الإقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: لأنك لو ذكرت الله سبحانه وتعالى وأنت محرم فإن ذلك أفضل مما لو ذكرت وأنت غير محرم.

الثالث: أنك إذا أحرمت فإنه يشرع في حقك أن تلبي, والتلبية في حقك أعظم قربة من الأذكار الأخرى، وأنت إذا لم تكن قد أحرمت فإنه تفوتك هذه السنة.

الأمر الرابع: وهو مهم، أن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وأنت محرم، أو وأنت محرمة أختي الفاضلة! أقرب عند الله وأفضل مما إذا لم تكن محرماً. هذه أربع.

الخامس: وهذا مهم جداً أيضاً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كما في الصحيحين من حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته ناقته وهو محرم قال: ( اغسلوه بماء وسدر، ولا تحنطوه وكفنوه في ثوبيه فإن الله يبعثه يوم القيامة ملبياً )، فالرجل الذي أحرم ومات اليوم الثامن فإنه يكون يوم القيامة مهلاً وملبياً، أما لو كان لم يحرم فإنه قد فاته هذا الفضل العظيم بلا شك.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
عمدة الفقه - كتاب الحج [3] 2647 استماع
عمدة الفقه - كتاب البيع [1] 2531 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [1] 2446 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [17] 2392 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [4] 2311 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [16] 2164 استماع
عمدة الفقه - كتاب النكاح [5] 2163 استماع
عمدة الفقه - كتاب البيع [4] 2124 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [2] 2106 استماع
عمدة الفقه - كتاب الحج [21] 2102 استماع