عمدة الفقه - كتاب الحج [6]


الحلقة مفرغة

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين.

مشاهدينا الكرام! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم في درس جديد من دروس الأكاديمية العلمية، يأتيكم هذا الدرس على الهواء مباشرة من استوديوهاتنا بمدينة الرياض، ضيفنا في هذا اللقاء هو فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي ، عضو هيئة التدريس بقسم الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

لا زلنا وإياكم مع شيخنا في تواصل في شرح كتاب الحج من متن عمدة الفقه لـابن قدامة المقدسي فأهلاً ومرحباً بالجميع، وباسمكم جميعاً أرحب بضيفنا الكريم! فحياكم الله دكتور عبد الله .

الشيخ: حياكم الله وبالإخوة والأخوات المستمعين والمستمعات.

المقدم: أيضاً أرحب بالإخوة الحاضرين معنا في الأستوديو فأهلاً ومرحباً بكم، أرحب بجميع الإخوة والأخوات على موقع الأكاديمية والذي من خلاله أسعد باستقبال أسئلتكم واستفساراتكم وعرضها على ضيفنا الكريم، كما أرحب بجميع الإخوة والأخوات المشاهدين والمشاهدات وأسعد باستقبال اتصالاتكم وعرض أسئلتكم من خلاله على ضيفنا، وعلى بركة الله نستهل درسنا.

يقول المؤلف رحمه الله: [ ولو أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه بالعمرة، فإذا استوى على راحلته لبى فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك. ويستحب الإكثار منها ورفع الصوت بها لغير النساء، وهي آكد فيما إذا علا نشزاً أو هبط وادياً أو سمع ملبياً أو فعل محظوراً ناسياً أو لقي ركباً وفي أدبار الصلوات المكتوبة وبالأسحار وإقبال الليل والنهار ].

حكم من أحرم بالحج ثم أدخل عليها العمرة

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم!

وبعد:

أحبتي الكرام! وصلنا إلى قول المؤلف: (ولو أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه)، وتحدثنا عن بعض المسائل، وللفائدة ذكرت بعض الأخوات في آخر الدرس أنها لم تفهم معنى القران، وأحب بادئ ذي بدء أن أذكر صفة التمتع ثم صفة الإفراد، ثم صفة القران على عجل.

الأول: التمتع، وهو كما ذكره المؤلف: هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج: في شوال، أو في ذي القعدة، أو في عشر ذي الحجة، ثم ينتهي منها، ثم يهل بالحج في عامه، بمعنى: أن يأخذ عمرة مستقلة يطوف، ثم يسعى، ثم يقصر، ثم بعد انتهاء العمرة وتحلله من إحرامه يبقى حلالاً ويلبس ثيابه ويتطيب، وله أن يأتي أهله، ثم بعد ذلك إذا كان ضحى يوم الثامن يهل بالحج فيقول: لبيك حجاً، هذا يسمى تمتعاً.

الثاني: الإفراد، ومعنى الإفراد: أن يقول من ميقاته أو من الميقات الذي مر منه، وقد لبس ثياب الإحرام: لبيك حجاً، لبيك اللهم لبيك، ويستمر على تلبيته حتى يصل إلى الحجر الأسود، فإذا استلمه انقطع من تلبيته، ثم يطوف سبعة أشواط ثم بعد ذلك يصلي ركعتين، ثم يذهب إلى الصفا والمروة، فيسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، على أنه سعي لحجه، ثم بعد ذلك يبقى في إحرامه ولا يجوز له أن يتحلل إلا إذا قلبه إلى عمرة، فيبقى على ذلك حتى يوم العاشر وهو يوم العيد، فإذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر فقد شرع في التحلل الأول، فإن طاف بعد ذلك فقد تحلل التحلل الثاني، ويكون بذلك قد حج وأكمل حجه، ولم يبق عليه إلا بعض الواجبات المنوطة به في أيامها؛ وهي أيام التشريق، هذا يسمى مفرداً.

الثالث: القارن: وله حالتان:

الحالة الأولى: أن يسوق الهدي، أو لم يسق الهدي، ومعنى سوق الهدي: أن يشتريه من الميقات، أو يأمر أحداً يشتري له من الميقات، أو قبل الميقات في بلده أو غير ذلك، فبمجرد مسيره بالهدي من الميقات إلى منى سواء عن طريقه أو عن طريق وكيله يكون قد ساق الهدي.

وإذا كان معه هدي فيقول: لبيك عمرة وحجاً، ويعمل مثل أعمال المفرد، بمعنى أنه يستمر على تلبيته حتى يمس الحجر الأسود، فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط، ثم يصلي ركعتين، ثم يذهب إلى الصفا والمروة، فيسعى سبعة أشواط على أنه سعي لحجه وعمرته جميعاً، وبهذا يفارق المفرد، لأن المفرد سعى سعي الحج فقط، أما القارن فسعيه لحجه وعمرته جميعاً، ثم بعد ذلك يبقى على إحرامه، ويفعل أفعال النسك من الذهاب إلى منى، ثم إلى عرفات، ثم إلى مزدلفة، وهو باق على إحرامه، وكذا المرأة باقية على إحرامها، ثم بعد ذلك إذا جاء يوم العيد ورمى جمرة العقبة ثم حلق أو قصر فقد تحلل التحلل الأول، ثم بعد ذلك يتحلل التحلل الثاني كما سوف يأتي مفصلاً في ذلك، هذا الحال الأولى.

الحالة الثانية: هو ألا يسوق الهدي، بأن يقول: لبيك عمرة وحجاً، فيدخل في الحج والعمرة جميعاً، وهو بالخيار بين أن يقول عند الميقات: لبيك عمرة وحجاً، أو يقول: لبيك عمرة، ثم يدخل عليها الحج أثناء الطريق، ويستمر فيطوف، ثم بعد الطواف يصلي ركعتين، ثم يسعى على أنه سعي لحجه وعمرته جميعاً، ثم يبقى في إحرامه حتى يكون يوم العيد، فإذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر فقد تحلل التحلل الأول، مع بعض الأنساك التي سوف يفعلها من الوقوف بعرفة، ثم مزدلفة وغير ذلك.

وهنا: أحب أن أنبه إلى أن بعض الأخوات خاصة: إذا شق ذلك عليها -وعليها حينئذ القران- أن تذبح هدياً إذا لم تكن قد ساقته فتذبح هدياً، فتشارك المتمتع بالهدي ونية العمرة، وتفارق المتمتع بأن المتمتع يأخذ عمرة مستقلة، وحجاً مستقلاً، أما القارن: فيدمجهما، أي: يدخلهما في بعض، ويوافق القارن المفرد في أعمال الحج، بأن يكون عملهما في الظاهر واحد، إلا في شيء واحد وهو الهدي.

المؤلف رحمه الله قال: (ولو أحرم بالحج). يعني يقول: لبيك حجاً.

(ثم أدخل عليه العمرة) يعني: كان مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة ليكون قارناً، فهنا يقول المؤلف: (لم ينعقد إحرامه)؛ لأنه لم يستفد شيئاً؛ لأن الإفراد أفضل من القران الذي لم يسق معه هدياً، أما لو كان ساق الهدي فإنه يقول: لبيك عمرة وحجاً، أو يقول: لبيك حجاً وهو لم يعلم ثم يدخل عليه الحج.

وهنا يقول المؤلف: (لم ينعقد إحرامه)، وهذا قول الأئمة من المالكية والشافعية والحنابلة، خلافاً لـأبي حنيفة ، ولا داعي لبيان سبب مخالفة أبي حنيفة حتى لا يشكل على كثير من المستمعين والمستمعات.

وقت الشروع في التلبية

الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله: (فإذا استوى على راحلته لبى).

سبق معنا خلاف أهل العلم: متى يدخل المحرم في النسك: هل بعد الصلاة، أو إذا استوت به راحلته، أو عند البيداء؟ أما هنا: فمتى يشرع في التلبية، وهناك فرق بين الدخول في النسك، والشروع في التلبية، فقد تدخل في النسك ولكنك لا تشرع في التلبية، والأقرب -والله أعلم- أن الدخول في النسك هو شروع في التلبية، فمن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في العمرة، أو دخلت العمرة والحج من حين صلى الظهر كما هو مذهب الحنابلة والحنفية، استدلالاً بما جاء عند الإمام أحمد و أبي داود و النسائي من حديث أنس أنه قال: ( فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما صلى الظهر بالعمرة والحج جميعاً )، وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح، غير أشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة صالح، كما قال الإمام أحمد و يحيى بن سعيد القطان وغيرهم.

وعلى هذا فيلبي من حين دخول النسك وهو من حين أداء صلاة الفريضة أو النافلة.

المؤلف هنا قال: (فإذا استوى على راحلته لبى)، أخذ بالقول الثاني وهو قول مالك : أن الشروع في التلبية من حين استوائه على راحلته، واستدل على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوت به راحلته قائمة عند المسجد أهل بالحج فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة )، الحديث، وهذا الحديث متفق عليه، والأقرب -والله أعلم- أن الأولى: أن الإنسان يلبي حينما تستوي به راحلته، فإذا ركب سيارته منطلقاً من الميقات الذي حاذاه أو من ميقات بلده، أو من الميقات الذي مر عليه فإنه والحالة هذه يلبي، وهذا هو رواية ابن عمر كما جاء في الصحيحين، ورواية الصحيحين أظهر، والله أعلم.

يقول المؤلف: (فإذا استوى على راحلته لبى فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).

معاني ألفاظ التلبية

الشيخ: قوله: (لبيك اللهم لبيك) لها معنيان:

المعنى الأول: لبى مأخوذ من ألب الإنسان بالمكان يعني أقام فيه، فكأنه يقول: أنا مقيم على طاعتك وانقياد أمرك مرة بعد مرة، وإقامة بعد إقامة، ولبيك تثنية، فائدتها: أنه من باب التكرار، أي: أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، كما تقول حنانيك يعني: أنا أرحمك مرة بعد مرة. حنانيك مثل لبيك.

إذاً: هو نوع من الانقياد والطاعة والابتهال والانشراح للعمل، فكأنك تقول: أنا موافق على ما تأمر به، وما تنهى عنه، ومطيع لأمرك، ومنقاد لنهيك مرة بعد مرة، بلا ملل ولا كلل، ولا نصب ولا تعب، وهذا فيه نوع من الانقياد، وإثبات التوحيد لله سبحانه وتعالى.

المعنى الثاني: هو أن معنى لبيك: استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام، كما روى الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإن كان في سنده بعض الضعف -وهو من قول ابن عباس -: إن إبراهيم عليه السلام لما بنى البيت قال الله له: يا إبراهيم! أذِّن، قال: يا رب! وكيف يسمعني البعيد؟ قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، قال: فأذن إبراهيم فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فسمعها من في السماء والأرض، قال ابن عباس : ألا ترى الناس يأتون من أقطار بعيدة يلبون. انتهى كلامه رضي الله عنه.

وقوله: (لا شريك لك).

يعني: أنك الواحد الأحد، الصمد، لا شريك لك في كمالك سبحانك، ولا شريك لك في أمرك، ولا شريك لك في نهيك، ولا شريك لك في انقيادي لطاعتك، وهذا فيه نوع من التوحيد والابتهال لله سبحانه وتعالى ما لا يخفى.

ثم يقول: (إن الحمد والنعمة لك والملك)، هنا: إن الحمد، الأجود والأفصح: كسر (إن)، كما أشار إلى ذلك جماعة من أهل العلم كـأحمد رحمه الله، ومن أئمة اللغة كـثعلب وغيره، قالوا: من كسر فقد عم، ومن فتح فقد خص؛ كيف ذلك؟ قالوا: إن العبد إذا قال: إن الحمد والنعمة، فهنا صارت (إن) ابتدائية، وصار الحمد لله سبحانه وتعالى على كل حال، فإذا قلت: لا شريك لك تقف، ثم تقول: إن الحمد والنعمة لك والملك، يعني: فكأنك تحمد ربك في جميع الأشياء، في السراء، والضراء، وفي النعم المسداة إليك.

الزيادة على ألفاظ التلبية المشروعة

الشيخ: لا بأس أن يزيد المرء في تلبيته على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن التلبية هذه ثبتت في صحيح مسلم من حديث جابر ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ، غيرهما كـأنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذا فالأفضل أن يستمر الإنسان على تلبيته، ولا بأس أن يزيد عليها فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر قال نافع : وكان ابن عمر يزيد عليها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.

وكان أنس -كما عند الدارقطني وروي مرفوعاً والصواب وقفه على أنس - يقول: لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً.

وروي عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لبيك إله الحق لبيك )، ولكن هذا لا يصح مرفوعاً، ولهذا قال جابر : فأهل الناس بمثل الذي يهلون به، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، وقد مر معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال غير هذا كما جاء في صحيح البخاري من حديث أنس قال: ( حتى إذا كان على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بالحج والعمرة جميعاً )، هذا قول أنس ، كما عند البخاري في صحيحه، فهذا يدل على أن قول جابر: ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسبح ويحمد الله ويكبر غير التلبية، وإن كانت التلبية هي جل فعله عليه الصلاة والسلام.

والتلبية مشروعة، وهي كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: التلبية زينة الحج، وقد جاء في فضل التلبية أحاديث: منها ما جاء عند ابن ماجه بسند جيد، من حديث سهل بن سعد الساعدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه من حجر وشجر ومدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا )، وهذا فيه فائدة: أن المرء ينبغي له أن يرفع صوته بالتلبية حتى يشهد له كل حجر، وكل مدر، وكل شجر يوم القيامة، فقد جاء في الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية، وهذا أمر آخر: وهو أنه يشرع للحاج والمعتمر أن يرفع صوته بالتلبية، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن من حديث خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية )، وهذا الحديث قال عنه الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وأما المشهور ( أفضل الحج: العج والثج )، والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: هو كثرة إراقة الدم في الحج، فهذا الحديث لا يصح مرفوعاً، فقد رواه محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن يربوع ، عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، و محمد بن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع ، كما أشار الإمام أحمد و البخاري و الترمذي ، ومن رواه بغير هذا الإسناد فقد أخطأ، فقد جاء في رواية محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه، بحيث يكون محمد سمع من سعيد ، ولكن هذه الرواية خطأ، والله أعلم.

رفع الصوت بالتلبية وحكمه للرجال والنساء

الشيخ: قال أنس: كانوا يصرخون بها صراخاً، يعني بذلك رفع صوت التلبية، كما رواه البخاري ، ويقول سالم : كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية، حتى إذا بلغ الروحاء يضمحل صوته، المؤلف رحمه الله قال: ويستحب الإكثار منها كما مر معنا، قال: ورفع الصوت بها لغير النساء، أما الرجال فيشرع في حقهم الإكثار ورفع الصوت، أما المرأة فإنها تسمع رفيقتها، ومن هو قريب منها، أما رفع الصوت فليس هو شعار النساء، بل لا يشرع للمرأة أن ترفع صوتها، وعلى هذا أهل العلم، لا لأن صوت المرأة عورة، فإن صوت المرأة ليس بعورة، الله سبحانه وتعالى قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32]، وكلمة (ولا تخضعن بالقول) أمر زائد على الصوت، فدل ذلك على أن أصل صوت المرأة لا بأس به، لكن أن تخضع بالقول، وتتميع فيه وتتغنج، فهذا محرم، لقوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32].

الشيخ: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم!

وبعد:

أحبتي الكرام! وصلنا إلى قول المؤلف: (ولو أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة لم ينعقد إحرامه)، وتحدثنا عن بعض المسائل، وللفائدة ذكرت بعض الأخوات في آخر الدرس أنها لم تفهم معنى القران، وأحب بادئ ذي بدء أن أذكر صفة التمتع ثم صفة الإفراد، ثم صفة القران على عجل.

الأول: التمتع، وهو كما ذكره المؤلف: هو أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج: في شوال، أو في ذي القعدة، أو في عشر ذي الحجة، ثم ينتهي منها، ثم يهل بالحج في عامه، بمعنى: أن يأخذ عمرة مستقلة يطوف، ثم يسعى، ثم يقصر، ثم بعد انتهاء العمرة وتحلله من إحرامه يبقى حلالاً ويلبس ثيابه ويتطيب، وله أن يأتي أهله، ثم بعد ذلك إذا كان ضحى يوم الثامن يهل بالحج فيقول: لبيك حجاً، هذا يسمى تمتعاً.

الثاني: الإفراد، ومعنى الإفراد: أن يقول من ميقاته أو من الميقات الذي مر منه، وقد لبس ثياب الإحرام: لبيك حجاً، لبيك اللهم لبيك، ويستمر على تلبيته حتى يصل إلى الحجر الأسود، فإذا استلمه انقطع من تلبيته، ثم يطوف سبعة أشواط ثم بعد ذلك يصلي ركعتين، ثم يذهب إلى الصفا والمروة، فيسعى بين الصفا والمروة سبعة أشواط، على أنه سعي لحجه، ثم بعد ذلك يبقى في إحرامه ولا يجوز له أن يتحلل إلا إذا قلبه إلى عمرة، فيبقى على ذلك حتى يوم العاشر وهو يوم العيد، فإذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر فقد شرع في التحلل الأول، فإن طاف بعد ذلك فقد تحلل التحلل الثاني، ويكون بذلك قد حج وأكمل حجه، ولم يبق عليه إلا بعض الواجبات المنوطة به في أيامها؛ وهي أيام التشريق، هذا يسمى مفرداً.

الثالث: القارن: وله حالتان:

الحالة الأولى: أن يسوق الهدي، أو لم يسق الهدي، ومعنى سوق الهدي: أن يشتريه من الميقات، أو يأمر أحداً يشتري له من الميقات، أو قبل الميقات في بلده أو غير ذلك، فبمجرد مسيره بالهدي من الميقات إلى منى سواء عن طريقه أو عن طريق وكيله يكون قد ساق الهدي.

وإذا كان معه هدي فيقول: لبيك عمرة وحجاً، ويعمل مثل أعمال المفرد، بمعنى أنه يستمر على تلبيته حتى يمس الحجر الأسود، فيطوف طواف القدوم سبعة أشواط، ثم يصلي ركعتين، ثم يذهب إلى الصفا والمروة، فيسعى سبعة أشواط على أنه سعي لحجه وعمرته جميعاً، وبهذا يفارق المفرد، لأن المفرد سعى سعي الحج فقط، أما القارن فسعيه لحجه وعمرته جميعاً، ثم بعد ذلك يبقى على إحرامه، ويفعل أفعال النسك من الذهاب إلى منى، ثم إلى عرفات، ثم إلى مزدلفة، وهو باق على إحرامه، وكذا المرأة باقية على إحرامها، ثم بعد ذلك إذا جاء يوم العيد ورمى جمرة العقبة ثم حلق أو قصر فقد تحلل التحلل الأول، ثم بعد ذلك يتحلل التحلل الثاني كما سوف يأتي مفصلاً في ذلك، هذا الحال الأولى.

الحالة الثانية: هو ألا يسوق الهدي، بأن يقول: لبيك عمرة وحجاً، فيدخل في الحج والعمرة جميعاً، وهو بالخيار بين أن يقول عند الميقات: لبيك عمرة وحجاً، أو يقول: لبيك عمرة، ثم يدخل عليها الحج أثناء الطريق، ويستمر فيطوف، ثم بعد الطواف يصلي ركعتين، ثم يسعى على أنه سعي لحجه وعمرته جميعاً، ثم يبقى في إحرامه حتى يكون يوم العيد، فإذا رمى جمرة العقبة وحلق أو قصر فقد تحلل التحلل الأول، مع بعض الأنساك التي سوف يفعلها من الوقوف بعرفة، ثم مزدلفة وغير ذلك.

وهنا: أحب أن أنبه إلى أن بعض الأخوات خاصة: إذا شق ذلك عليها -وعليها حينئذ القران- أن تذبح هدياً إذا لم تكن قد ساقته فتذبح هدياً، فتشارك المتمتع بالهدي ونية العمرة، وتفارق المتمتع بأن المتمتع يأخذ عمرة مستقلة، وحجاً مستقلاً، أما القارن: فيدمجهما، أي: يدخلهما في بعض، ويوافق القارن المفرد في أعمال الحج، بأن يكون عملهما في الظاهر واحد، إلا في شيء واحد وهو الهدي.

المؤلف رحمه الله قال: (ولو أحرم بالحج). يعني يقول: لبيك حجاً.

(ثم أدخل عليه العمرة) يعني: كان مفرداً، ثم أدخل عليه العمرة ليكون قارناً، فهنا يقول المؤلف: (لم ينعقد إحرامه)؛ لأنه لم يستفد شيئاً؛ لأن الإفراد أفضل من القران الذي لم يسق معه هدياً، أما لو كان ساق الهدي فإنه يقول: لبيك عمرة وحجاً، أو يقول: لبيك حجاً وهو لم يعلم ثم يدخل عليه الحج.

وهنا يقول المؤلف: (لم ينعقد إحرامه)، وهذا قول الأئمة من المالكية والشافعية والحنابلة، خلافاً لـأبي حنيفة ، ولا داعي لبيان سبب مخالفة أبي حنيفة حتى لا يشكل على كثير من المستمعين والمستمعات.

الشيخ: يقول المؤلف رحمه الله: (فإذا استوى على راحلته لبى).

سبق معنا خلاف أهل العلم: متى يدخل المحرم في النسك: هل بعد الصلاة، أو إذا استوت به راحلته، أو عند البيداء؟ أما هنا: فمتى يشرع في التلبية، وهناك فرق بين الدخول في النسك، والشروع في التلبية، فقد تدخل في النسك ولكنك لا تشرع في التلبية، والأقرب -والله أعلم- أن الدخول في النسك هو شروع في التلبية، فمن قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل في العمرة، أو دخلت العمرة والحج من حين صلى الظهر كما هو مذهب الحنابلة والحنفية، استدلالاً بما جاء عند الإمام أحمد و أبي داود و النسائي من حديث أنس أنه قال: ( فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما صلى الظهر بالعمرة والحج جميعاً )، وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح، غير أشعث بن عبد الملك الحمراني وهو ثقة صالح، كما قال الإمام أحمد و يحيى بن سعيد القطان وغيرهم.

وعلى هذا فيلبي من حين دخول النسك وهو من حين أداء صلاة الفريضة أو النافلة.

المؤلف هنا قال: (فإذا استوى على راحلته لبى)، أخذ بالقول الثاني وهو قول مالك : أن الشروع في التلبية من حين استوائه على راحلته، واستدل على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوت به راحلته قائمة عند المسجد أهل بالحج فقال: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة )، الحديث، وهذا الحديث متفق عليه، والأقرب -والله أعلم- أن الأولى: أن الإنسان يلبي حينما تستوي به راحلته، فإذا ركب سيارته منطلقاً من الميقات الذي حاذاه أو من ميقات بلده، أو من الميقات الذي مر عليه فإنه والحالة هذه يلبي، وهذا هو رواية ابن عمر كما جاء في الصحيحين، ورواية الصحيحين أظهر، والله أعلم.

يقول المؤلف: (فإذا استوى على راحلته لبى فيقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك).

الشيخ: قوله: (لبيك اللهم لبيك) لها معنيان:

المعنى الأول: لبى مأخوذ من ألب الإنسان بالمكان يعني أقام فيه، فكأنه يقول: أنا مقيم على طاعتك وانقياد أمرك مرة بعد مرة، وإقامة بعد إقامة، ولبيك تثنية، فائدتها: أنه من باب التكرار، أي: أنا مقيم على طاعتك إقامة بعد إقامة، كما تقول حنانيك يعني: أنا أرحمك مرة بعد مرة. حنانيك مثل لبيك.

إذاً: هو نوع من الانقياد والطاعة والابتهال والانشراح للعمل، فكأنك تقول: أنا موافق على ما تأمر به، وما تنهى عنه، ومطيع لأمرك، ومنقاد لنهيك مرة بعد مرة، بلا ملل ولا كلل، ولا نصب ولا تعب، وهذا فيه نوع من الانقياد، وإثبات التوحيد لله سبحانه وتعالى.

المعنى الثاني: هو أن معنى لبيك: استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام، كما روى الحاكم في مستدركه وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وإن كان في سنده بعض الضعف -وهو من قول ابن عباس -: إن إبراهيم عليه السلام لما بنى البيت قال الله له: يا إبراهيم! أذِّن، قال: يا رب! وكيف يسمعني البعيد؟ قال: أذِّن وعليَّ البلاغ، قال: فأذن إبراهيم فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج فحجوا، فسمعها من في السماء والأرض، قال ابن عباس : ألا ترى الناس يأتون من أقطار بعيدة يلبون. انتهى كلامه رضي الله عنه.

وقوله: (لا شريك لك).

يعني: أنك الواحد الأحد، الصمد، لا شريك لك في كمالك سبحانك، ولا شريك لك في أمرك، ولا شريك لك في نهيك، ولا شريك لك في انقيادي لطاعتك، وهذا فيه نوع من التوحيد والابتهال لله سبحانه وتعالى ما لا يخفى.

ثم يقول: (إن الحمد والنعمة لك والملك)، هنا: إن الحمد، الأجود والأفصح: كسر (إن)، كما أشار إلى ذلك جماعة من أهل العلم كـأحمد رحمه الله، ومن أئمة اللغة كـثعلب وغيره، قالوا: من كسر فقد عم، ومن فتح فقد خص؛ كيف ذلك؟ قالوا: إن العبد إذا قال: إن الحمد والنعمة، فهنا صارت (إن) ابتدائية، وصار الحمد لله سبحانه وتعالى على كل حال، فإذا قلت: لا شريك لك تقف، ثم تقول: إن الحمد والنعمة لك والملك، يعني: فكأنك تحمد ربك في جميع الأشياء، في السراء، والضراء، وفي النعم المسداة إليك.

الشيخ: لا بأس أن يزيد المرء في تلبيته على ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن التلبية هذه ثبتت في صحيح مسلم من حديث جابر ، وفي الصحيحين من حديث ابن عمر ، غيرهما كـأنس وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، لذا فالأفضل أن يستمر الإنسان على تلبيته، ولا بأس أن يزيد عليها فقد جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر قال نافع : وكان ابن عمر يزيد عليها: لبيك وسعديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك والعمل.

وكان أنس -كما عند الدارقطني وروي مرفوعاً والصواب وقفه على أنس - يقول: لبيك حقاً حقاً، تعبداً ورقاً.

وروي عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لبيك إله الحق لبيك )، ولكن هذا لا يصح مرفوعاً، ولهذا قال جابر : فأهل الناس بمثل الذي يهلون به، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، وقد مر معنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال غير هذا كما جاء في صحيح البخاري من حديث أنس قال: ( حتى إذا كان على البيداء حمد الله وسبح وكبر ثم أهل بالحج والعمرة جميعاً )، هذا قول أنس ، كما عند البخاري في صحيحه، فهذا يدل على أن قول جابر: ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسبح ويحمد الله ويكبر غير التلبية، وإن كانت التلبية هي جل فعله عليه الصلاة والسلام.

والتلبية مشروعة، وهي كما يقول ابن عباس رضي الله عنه: التلبية زينة الحج، وقد جاء في فضل التلبية أحاديث: منها ما جاء عند ابن ماجه بسند جيد، من حديث سهل بن سعد الساعدي : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه من حجر وشجر ومدر، حتى تنقطع الأرض من هاهنا وهاهنا )، وهذا فيه فائدة: أن المرء ينبغي له أن يرفع صوته بالتلبية حتى يشهد له كل حجر، وكل مدر، وكل شجر يوم القيامة، فقد جاء في الحديث: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية، وهذا أمر آخر: وهو أنه يشرع للحاج والمعتمر أن يرفع صوته بالتلبية، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أهل السنن من حديث خلاد بن السائب عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية )، وهذا الحديث قال عنه الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وأما المشهور ( أفضل الحج: العج والثج )، والعج: هو رفع الصوت بالتلبية، والثج: هو كثرة إراقة الدم في الحج، فهذا الحديث لا يصح مرفوعاً، فقد رواه محمد بن المنكدر عن عبد الرحمن بن يربوع ، عن أبي بكر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، و محمد بن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع ، كما أشار الإمام أحمد و البخاري و الترمذي ، ومن رواه بغير هذا الإسناد فقد أخطأ، فقد جاء في رواية محمد بن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه، بحيث يكون محمد سمع من سعيد ، ولكن هذه الرواية خطأ، والله أعلم.

الشيخ: قال أنس: كانوا يصرخون بها صراخاً، يعني بذلك رفع صوت التلبية، كما رواه البخاري ، ويقول سالم : كان ابن عمر يرفع صوته بالتلبية، حتى إذا بلغ الروحاء يضمحل صوته، المؤلف رحمه الله قال: ويستحب الإكثار منها كما مر معنا، قال: ورفع الصوت بها لغير النساء، أما الرجال فيشرع في حقهم الإكثار ورفع الصوت، أما المرأة فإنها تسمع رفيقتها، ومن هو قريب منها، أما رفع الصوت فليس هو شعار النساء، بل لا يشرع للمرأة أن ترفع صوتها، وعلى هذا أهل العلم، لا لأن صوت المرأة عورة، فإن صوت المرأة ليس بعورة، الله سبحانه وتعالى قال: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32]، وكلمة (ولا تخضعن بالقول) أمر زائد على الصوت، فدل ذلك على أن أصل صوت المرأة لا بأس به، لكن أن تخضع بالقول، وتتميع فيه وتتغنج، فهذا محرم، لقوله تعالى: فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ [الأحزاب:32].