بلوغ المرام - كتاب الطهارة [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, اللهم انفعنا بما علمتنا, وعلمنا ما ينفعنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم.

وبعد:

فها نحن عدنا والعود أحمد, ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم التفقه في الدين, والنهج على سنة سيد المرسلين, عليها نحيا وعليها نموت إلى يوم الدين.

وقفنا عند الحديث السابع على حسب ترقيمات بعض الكتب, والقصد من شرحنا لهذا هو تعويد طالب العلم على دراسة بعض الأسانيد, ومعرفة الكلام على الأحاديث, ومعرفة طريقة المتقدمين رحمهم الله في ترجيحهم للأحاديث, وكذلك معرفة طرق الاستدلال الفقهي التي كان عليها أئمة الهدى, ولهذا كان الخلاف عند المتقدمين أقل من الخلاف عند المتأخرين, والأدلة عند المتقدمين أقل من الأدلة الواردة عند المتأخرين؛ ولهذا كان من الأهمية بمكان أن نفهم طريقة الأئمة في الاستدلال, ونقرأ الأحاديث الأربعة التي سوف نشرحها هذه الليلة.

يقول الحافظ رحمه الله: [ وعن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل, أو الرجل بفضل المرأة، وليغترفا جميعاً ), أخرجه أبو داود و النسائي وإسناده صحيح.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة رضي الله عنها ), أخرجه مسلم . ولأصحاب السنن: ( اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة فجاء ليغتسل منها، فقالت له: إني كنت جنباً، فقال: إن الماء لا يجنب ) وصححه الترمذي و ابن خزيمة ].

تخريج حديث: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل...) ودرجته

الحديث الأول: (عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل, أو الرجل بفضل المرأة, وليغترفا جميعاً ) أخرجه أبو داود و النسائي وإسناده صحيح), الحديث أيضاً أخرجه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي و الطحاوي و البيهقي كلهم من طريق داود بن عبد الله الأودي عن حميد الحميري , أنه لقي رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة وأنه قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم .. ) الحديث, وهذا الحديث بهذا الإسناد اختلف أهل العلم فيه, فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه.

فمن من صححه من أهل العلم الإمام النووي في المجموع وقال: صحيح الإسناد, وصححه أيضاً الحميدي , و الحميدي هذا هو محمد بن فتح الحميدي صاحب الجمع بين صحيح البخاري و مسلم , وليس هو الحميدي قرين الإمام أحمد و ابن المديني , فـالحميدي هذا سمع أن ابن حزم رحمه الله وهو في بلاد الأندلس يضعف هذا الحديث, فكتب إلى ابن حزم وهو في المشرق وابن حزم في المغرب, كتاباً يبين له صحة هذا الخبر, وأن داود هذا هو داود بن عبد الله الأودي .

يقول الذي نقل هذا الخبر وهو ابن القطان في بيان الوهم والإيهام: ولا أدري أرجع ابن حزم إلى ما قال الحميدي أم لا؟

وممن صححه الحافظ ابن حجر , فإنه قال في البلوغ: (وإسناده صحيح), وقال في الفتح: ورجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية.

وممن ضعفه من أهل العلم الإمام أحمد بن حنبل , فإن الميموني نقل عن أحمد أن الأحاديث الواردة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة, أو أن تتوضأ المرأة بفضل الرجل كلها مضطربة, لكن صح عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن سرجس .

إذاً الإمام أحمد يضعف جميع الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك, ويراها الإمام أحمد أحاديث مضطربة.

وقد أعل الحديث أيضاً الإمام البيهقي بأنه مرسل, قال: لأن حميد الحميري لم يسم صحابيه, وهو وإن كان مرسلاً لكنه مخالف للأحاديث الصحيحة, ثم ذكر أن داود بن عبد الله الأودي لم يحتج به البخاري و مسلم , وهذا التضعيف من الإمام البيهقي على طريقة بعض أهل الحديث؛ إذ يرون أن الصحابي إذا لم يسم في الحديث فإن الحديث يكون مرسلاً, وإذا سمعت أو قرأت حديثاً عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث عند هؤلاء مرسل, ويتوقفون فيه, كما هي طريقة الإمام البيهقي .

وقد تكلم الأئمة على هذه الطريقة منهم ابن دقيق العيد , فإنه ذكر أن غاية ما فيها أن الصحابي لم يسم, وليس بحجة إذا علمنا أن جميع الصحابة عدولاً, فإذا كان الصحابة كلهم عدول فلا يضر أن نعرف الصحابي أم نجهله, وعلى هذا فهذه الطريقة عند الإمام البيهقي ومن سار على منهجه هي اختلاف كما نسميه: اختلاف مصطلحي, لكنها لا تعني بالضرورة ألا نحتج بالخبر.

ثم إن قوله: إن داود بن عبد الله الأودي لم يحتج به البخاري و مسلم , فمن المعلوم أن ثمة أحاديث لم يحتج بها البخاري و مسلم , لا من حيث المتن, ولا من حيث الرجال, ومع ذلك صححها الأئمة, ولأجل هذا تعقب الإمام ابن دقيق العيد هذا الأمر.

وممن ضعفه أيضاً: ابن حزم رحمه الله, فإنه ظن أن داود الأودي هذا هو داود بن يزيد الأودي ؛ لأنه ورد في بعض الروايات عن داود الأودي عن حميد , فظن ابن حزم أن داود هذا هو داود بن يزيد الأودي , و داود بن يزيد الأودي ضعيف؛ فلأجل هذا حكم على هذا الحديث بالضعف, والصحيح أن داود هذا هو داود بن عبد الله الأودي كما ذكر ذلك الإمام أحمد في مسنده, و أبو داود في سننه.

إذاً تضعيف الحديث بــداود ليس بذاك, وإذا أخذنا الحديث بهذا التفصيل فربما نقويه, لكننا إذا أخذناه بطريقة العموم فإننا سنضعفه, وهذه طريقة عند الأئمة, حيث إنهم إذا أرادوا أن يبحثوا عن حديث لا ينظرون إليه بالتفصيل, رجلاً ثم رجل, ولا هل سمع فلان من فلان أم لا؟ حتى ينتهي, ولكن لهم طرق في التصحيح والتضعيف أخرى, فأحياناً وهي بدايات التعليم ينظرون إلى الرجال, فإن سلموا ينظرون إلى صحة سماعهم, فإن سلموا, ينظرون في أخطائهم عمن رووا عنه, ومخالفتهم للثقات, فإن سلموا ينظرون إلى الحديث برمته؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: الأحاديث الواردة في النهي أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة, وأن تتوضأ المرأة بفضل الرجل كلها مضطربة, وحكم الإمام أحمد بهذا؛ لأنه أخذ الأحاديث الواردة في النهي, والأحاديث المجوزة, فحكم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون قد حكم بحكمين لم يعلم أيهما منسوخ.

أو يقال: إذا افترضنا تصحيحنا للحديث أن نحمل أحاديث النهي على أنها ناسخة لأحاديث الجواز؛ لأن أحاديث النهي ناقلة عن الأصل, وأحاديث الجواز مثبتة للأصل.

ومعنى ناقلة عن الأصل: لأن الأصل براءة الذمة, فإذا جاءت أحاديث تخالف هذه البراءة حكمنا على أنها هي الناسخة, وهي طريقة علماء الأصول, وأقول: إن الطريقة هذه ليست بمتينة عند أئمة الحديث؛ لأن الحديث ليس كقوالب نأخذها, بل إنها مثل النفس, لا بد أن تتعامل مع كل حديث بنفسية معينة, وطريقة معينة, ولهذا الذي يظهر والله أعلم أن الحديث هذا في سنده إشكال؛ وذلك لأن مثل هذا الحديث مما تتوفر الدواعي لنقله وتعم البلوى به, فإذا جاءنا داود بن عبد الله وإن كان حسن الحديث, وتفرد بذلك عن الأئمة, وكذلك حميد الحميري , وقد روى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أحد عشر صحابياً, ثم يأتي بهذه الرواية, فهذا يجعل في النفس منها شيئاً, فربما يخطئ الراوي بسبب كثرة المحفوظ, أو بسبب الظن أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم, وليس الوهم من الصحابي ولكن من التابعي؛ ولهذا قال الإمام أحمد : لكن صح عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, بل قال في رواية: صح عن أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة في ما خلت به.

شواهد حديث: (نهى النبي أن تغتسل المرأة بفضل الرجل...)

إذاً: للحديث شواهد:

الشاهد الأول: ما رواه الدارقطني عن شعبة ، عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه أنه قال: ( تتوضأ المرأة وتغتسل بفضل غسل الرجل وطهوره, ولا يتوضأ الرجل بفضل غسل المرأة ولا طهورها ), وهذا الحديث إسناده صحيح, وقد صححه الإمام أحمد , وقد روي مرفوعاً ولا يصح, ولا داعي للإطالة في تضعيف المرفوع, لكن الحديث خطأ كما حكم على ذلك الإمام البخاري والإمام أحمد و الدارقطني .

الشاهد الثاني: ما أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه , وعلى هذا فنقول على مصطلح الحافظ ابن حجر :

أخرجه الخمسة, وهو ما رواه هؤلاء الخمسة من طريق شعبة عن عاصم الأحول , قال: سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم بن عمرو الغفاري , وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى أن يتوضأ الرجل من فضل وضوء المرأة ), وهذا الحديث ضعفه الإمام البخاري , وقال: إن أبا حاجب وهو سوادة بن عاصم لا أراه يصح سماعه عن الحكم , ولكن الإمام أحمد صحح أنه من قول الحكم بن عمرو الغفاري .

وضوء المرأة بفضل الرجل

أما الكلام على الحديث من الناحية الفقهية, فالحديث فيه مسائل:

المسألة الأولى: استدل بهذا الحديث قوم على منع وضوء المرأة بفضل الرجل, يعني: أن الرجل لو توضأ بإناء وحده, ثم جاءت زوجته بعد ذلك, فإنه لا يجوز لها أن تتوضأ بهذا الماء؛ لأنه فضل عن وضوء الرجل, وقد قال به جماعة من أهل العلم, ورويت كراهته عن أبي هريرة كما قال ذلك بعض أهل العلم.

ونقل ابن رشد عن قوم أنهم كرهوه, ونقل بعضهم الإجماع على الجواز, كما حكى النووي اتفاق الفقهاء على ذلك, والذي يظهر أن الاتفاق ليس في هذه الصورة, ولكن الاتفاق في أن يغترفا جميعاً؛ ولهذا كان الترمذي رحمه الله دقيقاً حينما قال: وهو قول عامة الفقهاء, أنه لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد, وأما الاشتراك فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على ذلك, كما حكاه الإمام أحمد و أبو العباس بن تيمية و الطحاوي وغيرهم.

وضوء الرجل بفضل المرأة

المسألة الثانية: استدل بهذا الحديث قوم على منع وضوء الرجل بفضل المرأة, يعني: لو أن امرأة توضأت بإناء, ثم جاء زوجها بعد ذلك, فإنه لا يتوضأ بهذا الماء, والآن ربما تكون هذه المسألة بسيطة وغير متصورة عندنا؛ لأننا نتوضأ عن طريق الصنبور, أما من قبل فكانت المياه تجلب إلى البيوت وتوضع في الطست أو في القدور, ثم تأتي المرأة وتغرف وتتوضأ, ثم يأتي الرجل من بعدها فهل له أن يتوضأ بفضلها أم لا؟

القول الأول: وقد ذهب إليه عامة أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية, وهو رواية عند الإمام أحمد, اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله: أن وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة ولو خلت به جائز, وأن الأحاديث الواردة في المنع منه لا تصح, على خلاف عندهم, هل يجوز مع الكراهة أم من غير كراهة, واستدلوا على ذلك بأحاديث, والغريب أن جميع الأحاديث التي استدل بها الطرف الأول والطرف الثاني كلها لا تصح، فاستدلوا بالحديث الأول: حديث ابن عباس كما في صحيح مسلم ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة ), وهذا الحديث كما قلت: أخرجه مسلم في صحيحه, وقد تكلم فيه أهل العلم كما سوف يأتي بيانه, حتى لا نستغرب كيف يكون في صحيح مسلم وتكلم فيه العلماء؟

الحديث الثاني: ما أخرجه أهل السنن من حديث ابن عباس أيضاً, قال: ( اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة, فجاء يغتسل منها, فقالت: إني كنت جنباً, فقال صلى الله عليه وسلم: إن الماء لا يجنب ), وفي رواية: ( إن الماء لا ينجسه شيء ), وهذا الحديث صححه الترمذي و ابن خزيمة كما يقول المصنف وسيأتي بيانه مفصلاً.

وموقف هؤلاء الأئمة من الأحاديث الدالة على النهي على موقفين:

الموقف الأول: القول بتضعيف الأحاديث الدالة على النهي عن وضوء الرجل بفضل طهور المرأة, وعلى هذا فلا إشكال, وهذه لا إشكال فيها.

أما الموقف الثاني: القول بصحة هذه الأحاديث, فحملوا أحاديث النهي على الكراهة, وهذه طريقة أهل الحديث والصحابة, كما حكى ذلك كبار المتقدمين, كـالخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه: فإنه إذا ورد حديث بالجواز, وحديث بالنهي دل على أن النهي ليس للتحريم, وإنما هو للكراهة, وأن الجواز لا يدل على التحريم, وأنه فعل للحاجة؛ لأنه لو كان محرماً لما جاز إلا لضرورة؛ لأنه لا محرم مع الاضطرار ولا واجب مع العجز.

الطريقة الثانية للذين قالوا بصحة الحديث: قالوا: نحمل الأحاديث على ما سال من أعضاء المرأة, لا على ما بقي من الإناء بعد الوضوء, فما سال من أعضاء المرأة ماء مستعمل, وأما ما فضل فإنه ليس بماء مستعمل, وهذه طريقة الحنفية والشافعية والحنابلة في رواية؛ إذ يرون في الماء المستعمل أنه لا يرفع الحدث, والذي يظهر والله أعلم: أن الأحاديث الواردة في هذا الباب ضعيفة كما ظهر لكم.

القول الثاني في المسألة: حرمة وعدم صحة وضوء من توضأ بفضل وضوء المرأة فيما خلت به, وهذا هو مذهب الإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه, وهو قول سعيد بن المسيب , وقال أحمد : هو قول عبد الله بن سرجس و الحكم بن عمرو الغفاري و أم سلمة , بل قال أحمد : أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك, أي: مثل قول عبد الله بن سرجس .

والحنابلة يقولون: ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث. والذي حملهم على المنع هي آثار عن الصحابة, وهذه طريقة عند الإمام أحمد , وهو أنه رحمه الله إذا صحت الآثار عن الصحابة في مسألة فإنه يأخذ بها ولو خالفت القياس, وهذا من أصول الإمام أحمد , وأما طريقة الأئمة وإن نقل عنهم أنهم يأخذون بأقوال الصحابة, لكنهم يرون أن أقوال الصحابة إذا اختلفت فإنه لا يعمل بها, أو لم يثبت عندهم أنها صحت عنهم, وإلا فإن ابن تيمية نقل عن الأئمة أنهم كانوا يعظمون الأحاديث, حتى إن أبا حنيفة كان يترك القياس الجلي إذا صح عنده خبر عن الصحابة, فكيف عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ ولهذا لم ير بأساً في الوضوء من النبيذ؛ لأنه روي عن ابن مسعود , ويرى أن الضحك في الصلاة يبطل الوضوء؛ لأنه روي عن ابن مسعود , مع أن هاتين المسألتين مخالفة للقياس.

إذاً الأئمة أحياناً لم يثبت عندهم قول الصحابي.

وهذا مما تفرد به أحمد رحمه الله فإنه لا يكاد يوجد قول عن الصحابة ولا عن كبار التابعين إلا و أحمد رحمه الله يعمل به, رضي الله عنهم أجمعين, وعلى هذا فالذين قالوا بالمنع أخذوا إما بصحة الأحاديث, وإما بأن هذا القول هو قول أكثر الصحابة.

والذي يظهر والله أعلم: هو جواز الوضوء مما خلت به المرأة؛ لأن هذا مما تتوفر الدواعي إلى نقله, وكون الصحابة يتورعون لا يدل على التحريم.

ولهذا كان ابن عمر يرى الجواز, وإن كان النقل عن ابن عمر ليس بقوي, لكن نقل عن ميمونة و ابن عباس وهي طريقة يفعلها بعض الأئمة, فإنهم يرون أن الصحابي إذا روى حديثاً على الجواز قالوا: وهو قول هذا الصحابي, وإذا روى حديثاً يدل على المنع قالوا: وهو قول الصحابي؛ لأنهم يرون من باب إحسان الظن أن الصحابي لم يكن ليخالف ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم أنه رواه, والذي يظهر كما قلت: هو الجواز, وإن ترك فحسن, لكن الكراهة حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي, ولا دليل صحيح يصار إليه.

والحنابلة يقولون: ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث. هذه العبارة فيها بعض مسائل:

منها: ولا يرفع حدثاً, فلو كانت طهارة عن خبث, ما هي الطهارة عن خبث؟ أي: عن إزالة نجاسة, فلو خلت المرأة بهذا الماء لتزيل نجاسة فإنه يصح الوضوء منه؛ لأن الأصل أن ترفع به الحدث وليس الخبث.

ومنها: أنها لو خلت لغير طهارة شرعية, مثل أن تخلو بالماء للتبرد, كأن اغتسلت للتبرد, فهذا لا يؤثر على الماء, ولو خلت لطهارة في معنى طهارة الحدث, مثل غسل الجمعة -إذا قلنا: أنه سنة- أو الاغتسال مع الوضوء, مع أن الوضوء هذا ليس لرفع حدث, ولكنه للتجديد المستحب, فهذا لو توضأ الرجل منه عند الحنابلة قالوا: يصح, ولو كانت طهارة لرفع حدث فله أيضاً حالتان:

الحال الأولى: إن خلت به أول الوقت ثم رآها زوجها وهي تتوضأ فله أن يتوضأ من هذا الماء على مذهب الحنابلة؛ لأنها لم تخل به خلوة شاملة, ولو استمرت الخلوة من ابتداء الطهارة حتى أكملت طهارتها وقد خلت به لطهارة رفع حدث, ينظر في الماء, فإن كان الماء كثيراً فلا أثر أيضاً لخلوتها, وإن كان الماء يسيراً فيرفع حدث امرأة أخرى وصبي؛ ولا يرفع حدث رجل وخنثى.

هذه بعض مسائل ذكرتها كي نعتذر للأئمة ونبين تقييدات الأئمة وفقههم رحمهم الله.

إذاً الذي ينكر أصول الفقه عن الأئمة ويقول: ليس هناك شيء اسمه أصول فقه, نقول له: الإمام أحمد رحمه الله اشترط بهذه العبارة تسع جمل, إذاً أحمد يعمل بأصول الفقه بل إن مالكاً رحمه الله عندما جاء إلى حديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمشي الرجل في نعل واحدة ), قيل له: أرأيت لو مشى بنعلين, ثم انقطعت إحداهما؟ قال: لا يمشي عليها, فقيل له: لو مشى عليها ليصلحها؟ قال: يقف ويصلحهما جميعاً.

وأذكر أن شيخنا عبد العزيز بن باز عندما جاء إلى هذا الحديث, قال له شخص: يا شيخ! ألبس واحدة إذا كان حراً؟ قال: حاول ألا تلبسها, قال: يا شيخ! هل هذا للتحريم أو للكراهة؟ فسكت الشيخ, ثم رفع رأسه وقال: إن استطعت ألا تعصي الله لحظة فافعل, فمن المعلوم أنك إذا مشيت ليس بمحرم, لكن هذا يدل على أن أولي الفطر والقلوب الحية تأبى أن تخالف أمر الشارع.

اغتسال الرجال والنساء جميعاً من إناء واحد

المسألة الثالثة: جواز اغتسال الرجال والنساء جميعاً من إناء واحد, وهذا أمر مجمع عليه, كما في صحيح البخاري من حديث ابن عمر أنه قال: ( كان الرجال والنساء يتوضئون في زمان النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً ), وفي رواية عند الإمام أحمد : ( رأيت الرجال والنساء يتوضئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً من إناء واحد ), والعجب أن هذا الحديث استدل به بعض المعاصرين على جواز الاختلاط! وهذا في أول الإسلام, كما جاء في بعض الروايات, وأما بعد ذلك فلا, ودليل ذلك واضح, فقد جاء في الصحيحين من حديث أسماء ( أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! علينا الرجال عليك فاجعل لنا يوماً نأتيك فيه ), فكانت النساء لا تجتمع مع الرجال, فطلبن من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهن يوماً يبين لهن فيه, فاجتمع بهن وأخبرهن بالحديث المعروف, وقد قالت عائشة رضي الله عنها في حق صفوان بن المعطل في قصة حديث الإفك, فقال: زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم- لا حول ولا قوة إلا بالله- ولم ينظر إلي وكان يعرفني قبل نزول آية الحجاب, فهذا يدل على أنه كان الحجاب معروفاً، والله أعلم.

الحديث الأول: (عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل, أو الرجل بفضل المرأة, وليغترفا جميعاً ) أخرجه أبو داود و النسائي وإسناده صحيح), الحديث أيضاً أخرجه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي و الطحاوي و البيهقي كلهم من طريق داود بن عبد الله الأودي عن حميد الحميري , أنه لقي رجلاً صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة وأنه قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم .. ) الحديث, وهذا الحديث بهذا الإسناد اختلف أهل العلم فيه, فمنهم من صححه ومنهم من ضعفه.

فمن من صححه من أهل العلم الإمام النووي في المجموع وقال: صحيح الإسناد, وصححه أيضاً الحميدي , و الحميدي هذا هو محمد بن فتح الحميدي صاحب الجمع بين صحيح البخاري و مسلم , وليس هو الحميدي قرين الإمام أحمد و ابن المديني , فـالحميدي هذا سمع أن ابن حزم رحمه الله وهو في بلاد الأندلس يضعف هذا الحديث, فكتب إلى ابن حزم وهو في المشرق وابن حزم في المغرب, كتاباً يبين له صحة هذا الخبر, وأن داود هذا هو داود بن عبد الله الأودي .

يقول الذي نقل هذا الخبر وهو ابن القطان في بيان الوهم والإيهام: ولا أدري أرجع ابن حزم إلى ما قال الحميدي أم لا؟

وممن صححه الحافظ ابن حجر , فإنه قال في البلوغ: (وإسناده صحيح), وقال في الفتح: ورجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية.

وممن ضعفه من أهل العلم الإمام أحمد بن حنبل , فإن الميموني نقل عن أحمد أن الأحاديث الواردة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة, أو أن تتوضأ المرأة بفضل الرجل كلها مضطربة, لكن صح عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن سرجس .

إذاً الإمام أحمد يضعف جميع الأحاديث الواردة في النهي عن ذلك, ويراها الإمام أحمد أحاديث مضطربة.

وقد أعل الحديث أيضاً الإمام البيهقي بأنه مرسل, قال: لأن حميد الحميري لم يسم صحابيه, وهو وإن كان مرسلاً لكنه مخالف للأحاديث الصحيحة, ثم ذكر أن داود بن عبد الله الأودي لم يحتج به البخاري و مسلم , وهذا التضعيف من الإمام البيهقي على طريقة بعض أهل الحديث؛ إذ يرون أن الصحابي إذا لم يسم في الحديث فإن الحديث يكون مرسلاً, وإذا سمعت أو قرأت حديثاً عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم أو عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم فالحديث عند هؤلاء مرسل, ويتوقفون فيه, كما هي طريقة الإمام البيهقي .

وقد تكلم الأئمة على هذه الطريقة منهم ابن دقيق العيد , فإنه ذكر أن غاية ما فيها أن الصحابي لم يسم, وليس بحجة إذا علمنا أن جميع الصحابة عدولاً, فإذا كان الصحابة كلهم عدول فلا يضر أن نعرف الصحابي أم نجهله, وعلى هذا فهذه الطريقة عند الإمام البيهقي ومن سار على منهجه هي اختلاف كما نسميه: اختلاف مصطلحي, لكنها لا تعني بالضرورة ألا نحتج بالخبر.

ثم إن قوله: إن داود بن عبد الله الأودي لم يحتج به البخاري و مسلم , فمن المعلوم أن ثمة أحاديث لم يحتج بها البخاري و مسلم , لا من حيث المتن, ولا من حيث الرجال, ومع ذلك صححها الأئمة, ولأجل هذا تعقب الإمام ابن دقيق العيد هذا الأمر.

وممن ضعفه أيضاً: ابن حزم رحمه الله, فإنه ظن أن داود الأودي هذا هو داود بن يزيد الأودي ؛ لأنه ورد في بعض الروايات عن داود الأودي عن حميد , فظن ابن حزم أن داود هذا هو داود بن يزيد الأودي , و داود بن يزيد الأودي ضعيف؛ فلأجل هذا حكم على هذا الحديث بالضعف, والصحيح أن داود هذا هو داود بن عبد الله الأودي كما ذكر ذلك الإمام أحمد في مسنده, و أبو داود في سننه.

إذاً تضعيف الحديث بــداود ليس بذاك, وإذا أخذنا الحديث بهذا التفصيل فربما نقويه, لكننا إذا أخذناه بطريقة العموم فإننا سنضعفه, وهذه طريقة عند الأئمة, حيث إنهم إذا أرادوا أن يبحثوا عن حديث لا ينظرون إليه بالتفصيل, رجلاً ثم رجل, ولا هل سمع فلان من فلان أم لا؟ حتى ينتهي, ولكن لهم طرق في التصحيح والتضعيف أخرى, فأحياناً وهي بدايات التعليم ينظرون إلى الرجال, فإن سلموا ينظرون إلى صحة سماعهم, فإن سلموا, ينظرون في أخطائهم عمن رووا عنه, ومخالفتهم للثقات, فإن سلموا ينظرون إلى الحديث برمته؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: الأحاديث الواردة في النهي أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة, وأن تتوضأ المرأة بفضل الرجل كلها مضطربة, وحكم الإمام أحمد بهذا؛ لأنه أخذ الأحاديث الواردة في النهي, والأحاديث المجوزة, فحكم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون قد حكم بحكمين لم يعلم أيهما منسوخ.

أو يقال: إذا افترضنا تصحيحنا للحديث أن نحمل أحاديث النهي على أنها ناسخة لأحاديث الجواز؛ لأن أحاديث النهي ناقلة عن الأصل, وأحاديث الجواز مثبتة للأصل.

ومعنى ناقلة عن الأصل: لأن الأصل براءة الذمة, فإذا جاءت أحاديث تخالف هذه البراءة حكمنا على أنها هي الناسخة, وهي طريقة علماء الأصول, وأقول: إن الطريقة هذه ليست بمتينة عند أئمة الحديث؛ لأن الحديث ليس كقوالب نأخذها, بل إنها مثل النفس, لا بد أن تتعامل مع كل حديث بنفسية معينة, وطريقة معينة, ولهذا الذي يظهر والله أعلم أن الحديث هذا في سنده إشكال؛ وذلك لأن مثل هذا الحديث مما تتوفر الدواعي لنقله وتعم البلوى به, فإذا جاءنا داود بن عبد الله وإن كان حسن الحديث, وتفرد بذلك عن الأئمة, وكذلك حميد الحميري , وقد روى صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من أحد عشر صحابياً, ثم يأتي بهذه الرواية, فهذا يجعل في النفس منها شيئاً, فربما يخطئ الراوي بسبب كثرة المحفوظ, أو بسبب الظن أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم, وليس الوهم من الصحابي ولكن من التابعي؛ ولهذا قال الإمام أحمد : لكن صح عن عدة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, بل قال في رواية: صح عن أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن وضوء الرجل بفضل وضوء المرأة في ما خلت به.

إذاً: للحديث شواهد:

الشاهد الأول: ما رواه الدارقطني عن شعبة ، عن عاصم الأحول ، عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه أنه قال: ( تتوضأ المرأة وتغتسل بفضل غسل الرجل وطهوره, ولا يتوضأ الرجل بفضل غسل المرأة ولا طهورها ), وهذا الحديث إسناده صحيح, وقد صححه الإمام أحمد , وقد روي مرفوعاً ولا يصح, ولا داعي للإطالة في تضعيف المرفوع, لكن الحديث خطأ كما حكم على ذلك الإمام البخاري والإمام أحمد و الدارقطني .

الشاهد الثاني: ما أخرجه أحمد و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه , وعلى هذا فنقول على مصطلح الحافظ ابن حجر :

أخرجه الخمسة, وهو ما رواه هؤلاء الخمسة من طريق شعبة عن عاصم الأحول , قال: سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم بن عمرو الغفاري , وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى أن يتوضأ الرجل من فضل وضوء المرأة ), وهذا الحديث ضعفه الإمام البخاري , وقال: إن أبا حاجب وهو سوادة بن عاصم لا أراه يصح سماعه عن الحكم , ولكن الإمام أحمد صحح أنه من قول الحكم بن عمرو الغفاري .

أما الكلام على الحديث من الناحية الفقهية, فالحديث فيه مسائل:

المسألة الأولى: استدل بهذا الحديث قوم على منع وضوء المرأة بفضل الرجل, يعني: أن الرجل لو توضأ بإناء وحده, ثم جاءت زوجته بعد ذلك, فإنه لا يجوز لها أن تتوضأ بهذا الماء؛ لأنه فضل عن وضوء الرجل, وقد قال به جماعة من أهل العلم, ورويت كراهته عن أبي هريرة كما قال ذلك بعض أهل العلم.

ونقل ابن رشد عن قوم أنهم كرهوه, ونقل بعضهم الإجماع على الجواز, كما حكى النووي اتفاق الفقهاء على ذلك, والذي يظهر أن الاتفاق ليس في هذه الصورة, ولكن الاتفاق في أن يغترفا جميعاً؛ ولهذا كان الترمذي رحمه الله دقيقاً حينما قال: وهو قول عامة الفقهاء, أنه لا بأس أن يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد, وأما الاشتراك فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على ذلك, كما حكاه الإمام أحمد و أبو العباس بن تيمية و الطحاوي وغيرهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [21] 2514 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [8] 2426 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24] 2327 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [14] 2131 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [22] 2117 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [15] 2098 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [4] 2093 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [26] 2034 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23] 2023 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [16] 1825 استماع