بلوغ المرام - كتاب الطهارة [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وأن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وألا يجعل فينا ولا معنا شقياً ولا مطروداً.

وصلنا إلى الحديث الخامس أو الحديث الرابع على حسب اختلاف ترتيبات طبعات كتاب الحافظ ابن حجر ، وقد وصلنا إلى حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ).

قال الحافظ ابن حجر في كتابه بلوغ المرام: [ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وفي لفظ: ( لم ينجس )، أخرجه الأربعة، وصححه ابن خزيمة و الحاكم و ابن حبان .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب )، أخرجه مسلم .

و للبخاري : ( لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه ).

ولـمسلم : ( منه ).

ولـأبي داود : ( ولا يغتسل فيه من الجنابة ) ].

الحديث الأول: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، والكلام على هذا الحديث من وجوه:

تخريج حديث: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)

الوجه الأول: من حيث تخريجه، فقد ذكر المؤلف أن الأربعة أخرجوه وهم: أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه ، وكذلك أخرجه ابن خزيمة في مصنفه، و ابن حبان و ابن الجارود في المنتقى.

ومن المعلوم أن هذه الثلاثة الكتب غلب على فعل أصحابها أنهم لا يروون هذه الأحاديث إلا إذا كانت قد صحت عندهم، خاصة ابن الجارود و ابن خزيمة و ابن حبان ، وإن كان بعض أهل العلم اشترط في بعض كتبه ولكنه ربما ذكر بعض الألفاظ الضعيفة.

وعلى هذا: فإذا روى ابن الجارود في المنتقى، أو روى ابن حبان في صحيحه، أو روى ابن خزيمة فقل: إن الحديث صححه ابن خزيمة و ابن حبان و ابن الجارود .

وهذا الحديث روي من طرق كله عن حماد بن أسامة ، عن الوليد بن كثير المخزومي ، واختلف على الوليد بن كثير من أربعة طرق:

الطريق الأول: رواها حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي يسمى المكبر، عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أخرجه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه .

الطريق الثاني: يرويه حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أخرجه النسائي رحمه الله، وتابع الوليد بن كثير في هذا الإسناد محمد بن إسحاق ، وقد صرح بالتحديث صاحب المغازي، فقد رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

الطريق الثالث: يرويها حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره.

الطريق الرابع: يرويه حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير المخزومي عن محمد بن عباد عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه.

هذه أربعة طرق، فتلاحظ أن الوليد بن كثير رواه مرة عن محمد بن جعفر بن الزبير ، ومرة عن محمد بن عباد بن جعفر ، وهذان الطريقان مرة يقول الواحد فيهما: عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ومرة يقول: عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فحصل أربعة طرق، وهذا الاختلاف في الروايات عند أهل العلم جعلتهم يختلفون في هذا الحديث المشهور: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، ولأجل هذا الاختلاف الكبير وجدنا كلام أهل العلم في هذا الحديث، حتى إن بعضهم صنف في ذلك مصنفاً كاملاً لهذا الحديث من حيث الكلام على أسانيده، ومن حيث الكلام على فقهه وألفاظه.

درجة حديث: (إذا كان الماء قلتين) وطرقه

الكلام على هذا الحديث من حيث كلام أهل العلم نقول: اختلف العلماء في هذا الحديث، فبعضهم صححه، وهذه هي طريقة أكثر أئمة الحديث، وأكثر أهل الحديث وأصحاب فرسانه، فقد صححه الإمام الشافعي ، والإمام أحمد ، و أبو عبيد القاسم بن سلام ، و البيهقي ، و الدارقطني ، و أبو داود ، و أبو حاتم ، و ابن خزيمة ، و ابن حبان ، وكثير من أهل العلم، و الخطابي حتى قال: كفى شاهداً في صحة هذا الحديث أن أئمة الشأن -يعني أهل الحديث المشهورين، ونجوم الأرض- صححوا هذا الحديث.

إلا أن الذين صححوه اختلفوا، فبعضهم صحح كل الطرق الأربعة التي ذكرناها وقالوا: إن الوليد بن كثير من رجال البخاري و مسلم ، وهو ثقة، وقد حفظ حماد بن أسامة عن الوليد كل هذه الطرق، ولأجل هذا صحح كل الطرق الأربعة، وهذه طريقة البيهقي في خلافياته.

وبعض أهل العلم صحح بعض الطرق، فـأبو داود رحمه الله كما في سننه صحح رواية حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر ، ورجح هذه الرواية، وضعف ما سواها، وبالمقابل: جاء أبو حاتم الرازي في علله، وكذا ابن مندة ، فصححا رواية الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ورجحوا هذه الرواية. وبعض أهل العلم رجح الطريقين، وهما:

الطريق الأول: الوليد بن كثير عن محمد بن عباد عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا الطريق رجحه أبو داود .

الطريق الثاني: الوليد بن كثير عن محمد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا رجحه أبو حاتم .

ثم جاء الدارقطني وقال كما في علله: ثم وجدنا شعيب بن أيوب رواه عن حماد بن أسامة ، عن الوليد بن كثير قال: حدثنا محمد بن عباد بن جعفر و محمد بن جعفر بن الزبير ، كلاهما عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فيكون شعيب بن أيوب -وكان من الثقات- روى عن حماد بن أسامة قبل أن يتغير من كلا الطريقين، قال: فعلمنا أن الوليد بن كثير و أن حماد بن أسامة روياه من طريقين، فيكون الدارقطني صحح طريقين.

وبعض أهل العلم صحح ثلاث طرق فقال: إن الوليد بن كثير روى عن محمد بن عباد بن جعفر ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، وهذه رواية صحيحة صححها أبو داود ، وكذلك الوليد بن كثير رواها عن محمد بن جعفر ، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه، وهذه رجحها أبو حاتم ، وكذلك رواية الوليد بن كثير ، عن محمد بن جعفر ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذه قلنا: رواها النسائي ، وتابع الوليد بن كثير محمد بن إسحاق في مصنف ابن أبي شيبة ، فتكون الطرق الصحيحة الأقرب هي ثلاث طرق، الطريق الأول: رجحه أبو داود ، والطريق الثاني رجحه أبو حاتم ، والطريق الثالث رواه ابن خزيمة وكذا ابن حبان ، ووجدنا محمد بن إسحاق ، وقد صرح بالتحديث، ووافق على ذلك، فتكون الروايات الأقرب هي ثلاث طرق.

وبعض أهل العلم ضعف هذا الحديث، وهذا الطريق الثاني، وهو تضعيف العلماء لهذا الحديث، لكن تضعيفهم على أنواع: فبعضهم ضعفه لأجل الاضطراب في سنده، والاضطراب في متنه، وهذه طريقة أبو عمر ابن عبد البر ، و ابن العربي ، وغيرهم، فقالوا: إن الوليد بن كثير وإن كان من رجال البخاري و مسلم ، إلا أن هذا الاختلاف الكبير مدعاة لتضعيف هذا الحديث، فهذا لا يقبل من كبار الحفاظ فضلاً أن يكون من أوساطهم، فلا يقبل.

ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن الرد على هذا ليس بوجيه؛ أولاً: لأن الاختلاف الحاصل في هذا الحديث هو بسبب حماد بن أسامة ؛ لأن حماد بن أسامة تغير بآخر أمره عندما كبر، فجاء بعض الرواة فروى عنه بعدما كبر، ورواة رووا عنه قبل أن يكبر، ورووا عنه بعد أن كبر، فحفظوا الرواية التي لم يختلف عليها، فجاء الصغار فرووا عن حماد فاختلفوا عليه، فنقول: يمكن الترجيح، والاضطراب لا يعول عليه إذا أمكن الترجيح فصحت أسانيد بعضه على بعض كاملاً، إن الاختلاف هنا لم يكن فيه راوٍ ضعيف، ولأجل هذا نصحح هذا الحديث؛ لأنه إما أن يكون من طريق محمد بن عباد ، وإما أن يكون من طريق محمد بن جعفر ، وكلاهما إما أن يكون عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، وإما أن يكون عن عبد الله بن عبد الله بن عمر وكل هذه الطرق صحيحة، كما تقول: حدثني عبد العزيز بن باز ، ومرة تقول: حدثني محمد بن عثيمين كلاهما عن محمد بن إبراهيم ، رحمة الله تعالى على مشايخنا، فإذا اختلف عليك هذا الأصل، فالمتن صحيح، فأنت لم تختلف على راوٍ منهما ضعيف، فلو قلت: حدثني عبد العزيز بن باز عن محمد إبراهيم أو مرة قلت: حدثني رجل لا أعرفه عن محمد إبراهيم ، حينئذ نقول: هذا الاضطراب يجعلنا نتوقف في هذه الرواية ولا نصححها.

على هذا فالاضطراب ليس أصلاً يضعف به الحديث، إلا إذا كانت متساوية الأسانيد، وأيضاً يكون فيها راوٍ ضعيف، هذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم.

وبعض أهل العلم ضعفه لأجل الاضطراب في متنه، قالوا: فمرة يقال: ( إذا بلغ الماء قلتين )، كما في الروايات المشهورة، ومرة يقال: ( إذا بلغ الماء قلتين أو ثلاث )، ومرة يقال: ( إذا بلغ الماء أربعين قلة )، قالوا: فهذا الاضطراب في المتن مع اختلافهم في القلة على تسعة أقوال، ذكرها الحافظ ابن المنذر في الأوسط، قالوا: فهذا يدل على ضعف هذا الحديث.

والذي يظهر والله أعلم: أن هذا ليس مدعاة لتضعيف هذا الحديث لأمور:

أولاً: لأن رواية: ( إذا بلغ الماء أربعين قلة ) هذا الحديث ليس من هذه الطرق، فإنه رواها جابر بن عبد الله ، وفي سنده القاسم، وهذا رجل يكذب في الحديث، وقال البخاري فيه: سكتوا عنه، فهذا يدل على أنه لا يعول رواية ضعيفة على رواية مشهورة.

ثانياً: أن اختلافهم في تفسير القلة لا يعني بالضرورة الضعف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، أحياناً يعلق بعض الأمور على أمر قد اعتاده الناس في زمانهم، ومن المعلوم: أن القلة كانت معروفة وهي قلال هجر، ولهذا ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى سدرة المنتهى قال: (فإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كقلال هجر) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه الثمار كبرها كأنها قلال هجر، ولو لم تكن قلال هجر معروفة لما عول النبي صلى الله عليه وسلم على شيء لا يعلمه أصحابه، فدل على أن القلال المذكورة في هذا الحديث هي قلال هجر.

ولهذا: فإن الراجح والله أعلم: أن القلال المرادة في هذا الحديث هي قلال هجر، كما ذكر ذلك الإمام الشافعي و أبو عبيد ، وكذا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله، ولهذا قال ابن تيمية : وأما لفظ القلة فهو لفظ مشهور، وهو الجرة الكبيرة، وهي التي تسمى الحُب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يمثل بهما كما في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: ( وإذا ثمرها كقلال هجر ).

إذا ثبت هذا فإن الراجح والله أعلم: صحة هذا الحديث بثلاثة طرق وإن كان الطريق الرابع يمكن أن يصحح كما ذكر ذلك البيهقي ، لكن الذي نجزم به هو أن الحديث روي من ثلاث طرق، وكلها بإذن الله حسنة الإسناد، صحيحة المعنى.

شرح ألفاظ حديث: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث)

الوجه الثاني: الكلام على الحديث من حيث شرح ألفاظه:

أولاً: الحديث له قصة، وهي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بالفلاة، وما ينوبه من الدواب والسباع، فقال صلى الله عليه وسلم: إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، وفي رواية: ( لم ينجس )، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( لم يحمل الخبث )، الخبث: هو النجس، ومعنى الحديث: ( إذا كان الماء قلتين )، يعني: كثيراً، ( لم يحمل الخبث ) أي: فإن الماء يستطيع أن يمنع نفسه أن تؤثر فيه النجاسة، فلو وقعت النجاسة في الماء الكثير فإنها لا تؤثر فيه.

ولهذا أورد الحافظ ابن حجر رواية: ( لم ينجس )، وهي التي رواها الحاكم بفتح الجيم (ينجس)، من باب تعب أي نجس، يتعب ينجس، ويمكن أن يضم مضارعها، فهي من باب قتل يقتل، يعني نجس ينجس، وقد بالغ بعض أهل العلم فقال: معنى ( لم يحمل الخبث ): يعني: لا يستطيع أن يتحمل الخبث، وهذه الرواية لولا أن بعض أهل العلم ذكرها لم نذكرها؛ لأن رواية (لم ينجُس)، أو (لم ينجَس)، تمنع تفسير هذا المعنى.

وهنا فائدة وهي: نزل القرآن والسنة بلغة العرب، ولغة العرب حمالة الوجوه، فتجد أن اللفظ الواحد يأتي له معانٍ كثيرة، لكن الغالب أن هذه المعاني لها مبرراتها، فتجد أن اللفظ الواحد بدخول حرف الجر يغير المعنى مثل: آمن تقول: آمن به، وآمن له، وآمنه، فكل هذه المعاني الثلاثة لها معنى، وإن كان أصل الأمان معلوماً، فكذلك هي لغة العرب، كاليد، فتأتي أحياناً بمعنى النعمة مثل: لولا أن لك يداً عندي لم أجزها، وتطلق أيضاً على الجارحة، لكن لا يمكن إطلاقها على النعمة إذا جاءت مثناة، كما قال الله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فلا يمكن أن نفهمها على معنى القوة؛ فكأنك تقول: لما خلقت بقوتي، فلماذا لم تقل: قوة واحدة، ولماذا لم تقل: قوة ثالثة، وهل لفظ بقوتين معنى معتبر؟ فدل ذلك على أنه غير مراد، ولهذا قال الفراء: إن التثنية تمنع المجاز.

لأجل هذا وقع خلل كبير عند العلماء في تفسير هذه الألفاظ، أقصد العلماء المتأخرين، وإلا فإن أهل العلم كانوا يقولون كما قال ابن عباس بسند صحيح عند ابن جرير : إذا أعياكم التفسير فعليكم بلغة العرب، ولغة العرب تفهم بأشعارها، والشعر لا بد أن يعرف من صاحبه -هذا ضبط علماء اللغة- فربما يكون مدخولاً على اللغة، كما قال ابن الأخطل :

قد استوى بشر على العراق من غير سيف ولا دم مهراق

هذه كلمة جميلة، استوى يعني استولى، لكن هذا البيت الشعري غير معتبر عند لغة العرب، وقد ذكرت هذا لأن بعض المتأخرين وبعض الصحفيين، وبعض الكتاب والمفكرين، يفهمون معنى من المعاني اللغوية التي ربما أيدتها اللغة بمعنى، لكنها في هذا السياق لا يمكن أن تحمل هذا المعنى الذي ذكروه، ثم ينسبونه إلى الشريعة ويقولون: هم رجال ونحن رجال، وهذا خطأ فادح.

ولهذا كان الأئمة ينكرون على أن يتبوأ الإنسان مبوأ تفسير وهو لا يعلم لغة العرب، بل قال مالك رحمه الله: لا ألفين أحد يتبوأ يفسر القرآن وهو لا يعلم لغة العرب إلا ضربته نكالاً، يعني هذا شديد، فلا تفسر من القرآن وأنت لا تجيد لغة العرب، أو تقول: وهذا اللفظ يحتمله، ولا مانع، مع أن لغة العرب لا تحتمل مثل هذا المعنى.

ذكرت هذا لمناسبة لوجود معانٍ كثيرة تختلج في الذهن عند ورود بعض الأحكام الشرعية، وعند عدم فهم مصطلحات الأئمة رحمهم الله، عند ذكرهم للألفاظ، فيأخذها المتأخرون احتجاجاً على واقع يعيشونه، في حين أن الأئمة لهم مصطلح يختلف عن المصطلح الذي فهمه المتأخرون.

حكم الماء إذا وقعت عليه نجاسة

الوجه الثالث من الكلام على الحديث: الحديث استدل به بعض أهل العلم على التفرقة بين الماء الكثير والماء القليل، فقالوا: إن الماء الكثير -وهو ما بلغ قلتين- لا ينجس، فقد دل عموم لفظ هذا الحديث، على أن الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة فإنه لا ينجس، سواء تغير الماء بالنجاسة أم لم يتغير، وهذا عموم، وهذا العموم ليس على إطلاقه؛ لأن هذا العموم مخصص بالإجماع الذي نقله ابن المنذر و الشافعي وغيرهما على أن الماء إذا وقعت فيه نجاسة وغيرت أحد أوصافه فإنه ينجس، سواء كان الماء كثيراً أم قليلاً، فيبقى الأصل على أن الماء الكثير لا ينجس، إلا إذا تغير بالنجاسة.

وقالوا: ودل مفهوم هذا الحديث على أن الماء إذا كان قليلاً فإنه ينجس؛ لأن لغة العرب يؤخذ منها بالمنطوق والمفهوم، فإذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا بلغ الماء قلتين )، فمفهومه: إذا بلغ الماء أقل من قلتين فإنه يحمل الخبث، ولأجل هذا ذهب الإمام أبو حنيفة و الشافعي والمذهب عند الحنابلة: على أن الماء القليل -وهو دون القلتين- إذا وقعت فيه نجاسة نجس ولو لم يتغير، فلو رأينا إناءً أو حوضاً صغيراً أقل من القلتين وقعت فيه نجاسة، فإن الجمهور يقولون: نجس، ولسنا -على كلامهم- بحاجة إلى أن ننظر هل تغير أم لم يتغير؛ قالوا: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، ومفهومه: إذا بلغ الماء أقل من قلتين حمل الخبث، ثم قالوا: والقلة هنا: هي قلال هجر، قال عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج إمام أهل مكة والحجاز: رأيت قلال هجر، فإذا القلة قربتان أو قربتان وشيئاً، قال الإمام الشافعي : والأحوط في ذلك أن نجعلها قربتين ونصفاً، فتكون القلتان خمس قرب، والقربة مائة رطل، وتقدر بالكيل مائة واثنين كيلو، فتكون القلتان خمسمائة وعشرة كيلو، فإذا بلغ خمسمائة وعشرة فهو كثير، ودون ذلك القليل، هذا مذهب الجمهور.

وتستغرب أحياناً كيف الأئمة يقع بينهم خلاف في هذا الأمر؟ فهذا من حكمة الله سبحانه وتعالى، والحكمة أنك تعلم أنه مهما بلغ الإنسان من العلم فلا بد أن يخطئ الحق، وهذا كما يقول ابن تيمية رحمه الله: وذلك ليكون الدين كله لله؛ فليس هناك معصوم إلا محمد صلى الله عليه وسلم، وكلٌ يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر.

وعلى هذا: فلا يسوغ لنا أن نحتج بقول عالم من العلماء؛ لأن هذا العالم قد خالفه أئمة مثله أو أعظم منه، وبالمقابل مسائل الخلاف التي يبحثها الناس لا ينبغي أن ينكر بعضنا على بعض، ولو أنكر بعضنا على بعض لصار كلام الله وكلام رسوله يضرب بعضه بعضاً، ولهذا المسائل الخلافية التي كل واحد عنده دليل معتبر فيها، فإنه لا يجوز أن ينكر فيها، كما نقل ذلك النووي رحمه الله بالإجماع على ذلك.

وتجدون أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم الناس لفظاً عاماً على مستحب بالجملة، فالرسول لا يبين للناس أمراً مستحباً، لكنه يبين للناس بلفظ عام لا حكماً فرضاً أم واجباً، أم شرطاً، أم مستحباً؟ فتجده يقول: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، ( خذوا عني مناسككم )، يا أبا هريرة ! ( إني أوصيك بثلاث )، فتجده يخبر الشخص، لكن لا يجعله لفظاً عاماً؛ لأن بعض الناس لا تتحمل قلوبهم بعض السنن، فربما شق ذلك عليهم.

وأرى أنه لا ينبغي إخبار العامة بدقائق بعض تصرفات النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانوا حديثي عهد بإسلام، أو حديثي عهد بهداية، أو ربما لم تتمحض نفوسهم للانقياد لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ربما يشكل عليهم، ويظنون أن هذا قصور ليس له داع، وغير ذلك من الألفاظ، ولكن من قوي دينه، وكان من طلبة العلم، فيبين له ذلك؛ لأن هذه مراتب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، مراتب زائدة على الفرض، فلا يستطيع أن يتحملها كل أحد.

لأجل هذا كان محمد صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي- لا يبين هذا على عامة الناس، حتى تأتلف قلوبهم على قاعدة سواء، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، لكن موطن الدرس، وموطن البحث، وموطن العلم، فهذا لا بأس بذكره كما كان السلف يقولون ذلك، لكنهم لا يعولون على الردود والألفاظ والرد بكتاب على فلان، قال الإمام الشافعي : ولو أردت أن أرد على كل قائل مقالته بكتاب لفعلت، ولكن هذه ليست طريقتي ولا هديي، فإذا جاءت يبينون الحكم الشرعي، والحمد لله، لكنهم لم يكونوا يسعون في مثل ذلك، إلا بعد ما جاء المتأخرون فأكثروا، ولهذا قال الإمام الزهري رحمه الله: العلم نقطة كثره الجاهلون.

فلا ينبغي أن نهتم بالردود البسيطة الت

الوجه الأول: من حيث تخريجه، فقد ذكر المؤلف أن الأربعة أخرجوه وهم: أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه ، وكذلك أخرجه ابن خزيمة في مصنفه، و ابن حبان و ابن الجارود في المنتقى.

ومن المعلوم أن هذه الثلاثة الكتب غلب على فعل أصحابها أنهم لا يروون هذه الأحاديث إلا إذا كانت قد صحت عندهم، خاصة ابن الجارود و ابن خزيمة و ابن حبان ، وإن كان بعض أهل العلم اشترط في بعض كتبه ولكنه ربما ذكر بعض الألفاظ الضعيفة.

وعلى هذا: فإذا روى ابن الجارود في المنتقى، أو روى ابن حبان في صحيحه، أو روى ابن خزيمة فقل: إن الحديث صححه ابن خزيمة و ابن حبان و ابن الجارود .

وهذا الحديث روي من طرق كله عن حماد بن أسامة ، عن الوليد بن كثير المخزومي ، واختلف على الوليد بن كثير من أربعة طرق:

الطريق الأول: رواها حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب الذي يسمى المكبر، عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أخرجه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه .

الطريق الثاني: يرويه حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر ، عن أبيه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أخرجه النسائي رحمه الله، وتابع الوليد بن كثير في هذا الإسناد محمد بن إسحاق ، وقد صرح بالتحديث صاحب المغازي، فقد رواه ابن أبي شيبة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه.

الطريق الثالث: يرويها حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره.

الطريق الرابع: يرويه حماد بن أسامة عن الوليد بن كثير المخزومي عن محمد بن عباد عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، وهذا الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه.

هذه أربعة طرق، فتلاحظ أن الوليد بن كثير رواه مرة عن محمد بن جعفر بن الزبير ، ومرة عن محمد بن عباد بن جعفر ، وهذان الطريقان مرة يقول الواحد فيهما: عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، ومرة يقول: عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه، فحصل أربعة طرق، وهذا الاختلاف في الروايات عند أهل العلم جعلتهم يختلفون في هذا الحديث المشهور: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث )، ولأجل هذا الاختلاف الكبير وجدنا كلام أهل العلم في هذا الحديث، حتى إن بعضهم صنف في ذلك مصنفاً كاملاً لهذا الحديث من حيث الكلام على أسانيده، ومن حيث الكلام على فقهه وألفاظه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [21] 2514 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [8] 2427 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24] 2328 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [14] 2131 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [22] 2116 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [15] 2098 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [4] 2093 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [26] 2036 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23] 2022 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [16] 1824 استماع