مختصر صحيح مسلم - كتاب الحيض


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: عشر من الفطرة.

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء ). قال زكريا : قال مصعب : ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة، وزاد قتيبة : قال وكيع : انتقاص الماء يعني الاستنجاء ].

هذا الحديث ( عشر من الفطرة ) استدل به بعض أهل العلم على أن هذه الأشياء المذكورة سنة، واستدرك عليهم بأن اللحية لم يحفظ في القرون المفضلة لا عن الصحابة ولا عن التابعين أنهم قالوا: إن حلقها ليس بحرام؛ فالمحفوظ عند أصحاب المذاهب الأربعة أن حلقها محرم وليس بكبيرة؛ لأنه لم يختم عليها بلعنة ولا غضب ولا نار، وهذا الحديث مما تكلم به على الإمام مسلم ، فقد ضعفه الإمام أحمد رحمه الله وغيره، وإن كان الأقرب ما قاله أحمد أن هذا الحديث فيه نكارة، وأحسن منه الحديث الذي قبله، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه ( الفطرة خمس ).

وقد سبق أن قلنا: إن الفطرة هي ما يجبل عليه الإنسان مما يرضاه الرب جل جلاله وتقدست أسماؤه، وعلى هذا فالفطرة منها ما يكون مما أوجبه الله على عباده، ومنها ما شرعه واستحبه لعباده، فليست الفطرة على الوجوب دائماً ولا على الاستحباب دائماً، مثل السواك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما زال جبريل يوصيني بالسواك حتى ظننت أنه سيوجب على أمتي )، والحديث تكلم في إسناده، لكن الشاهد من ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على السواك والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ باب: مناولة الأكبر السواك.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أراني في المنام أتسوك بسواك، فجذبني رجلان أحدهما أكبر من الآخر، فناولت السواك الأصغر منهما، فقيل لي: كبر، فدفعته إلى الأكبر ) ].

هذا الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، ورواه الإمام مسلم موصولاً.

الأفضل في اليد التي يستاك بها

واستدل بهذا الحديث على مسائل:

المسألة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك باليمين، واستدل بعض أهل العلم على أفضيلة التسوك باليد اليمنى، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أراني أتسوك بسواك فدفعته ) فالفاء للتعقيب، فقطعاً أن الأخذ والعطاء إنما يكون باليمين، فكان يتسوك باليمين، وهذا ليس بظاهر، وذهب أبو العباس بن تيمية ونسبه إلى جمهور أهل العلم إلى أن السواك يكون باليسار.

وذهب الإمام مالك إلى أن الأمر في ذلك على السعة.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن السواك إن كان قصد به التنظف فيكون باليسار، وإن كان قصد به البركة فيكون باليمين، والأقرب في هذا كله هو كما قلنا مراراً وتكراراً في هذه القاعدة أن كل ما ثبتت مشروعيته ولم يتبين لنا صفته دل على أن أي صفة تفيد وتؤيد فعل المشروعية فهي جائزة. والله أعلم.

الأولى بالتقديم عند المناولة بين الكبير والتيامن

واستدل بهذا الحديث أيضاً على أن الإنسان إنما يدفع إلى الأكبر لا إلى اليمين، ووجه التعارض بين هذا الحديث وبين حديث أنس كما في الصحيحين: ( الأيمنون الأيمنون ألا فيمنوا )، والجمع بينهما هو أن الإنسان إذا أراد أن يعطي قوماً يبدأ بالكبير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فدفعته للأكبر منهما )، فلم ينظر إلى يمينه صلى الله عليه وسلم بين هذين الرجلين، ثم بعد ذلك يعطي الأكبر من كان عن يمينه وليس عن يمين المعطي، هذا هو الظاهر، والله أعلم.

ولم أجد في هذه المسألة أصلاً في أيهما يقدم إلا ما جاء عن محمد بن نصر المروزي و إسحاق بن راهويه فكانا قد تدافعا عند الباب، فقال إسحاق لـمحمد بن نصر تقدم قال: أنت تقدم، فقال إسحاق : أنت أكبر، قال: إن كنت أكبر سناً فأنت أكبر علماً، فتقدم إسحاق . هذه وجدتها في ذكر سيرة محمد بن نصر المروزي والذي يظهر لي والله أعلم أنه يبدأ بالكبير أو باليمين، وأما إذا تساوى الناس فينظر كما ذكر ذلك بعض فقهاء الشافعية، إن كان المدخول إليه فضيلة فلا يستحب التدافع في القرب؛ لأن هذا من باب الإيثار بالقرب فيتقدم الإنسان لأن دخوله أفضل إلا لمصلحة، إذا كان تقديم الشخص إلى ما هو خير من باب مصلحة لا بأس مثل تقديم الصف الأول وغيره. والله أعلم.

واستدل بهذا الحديث على مسائل:

المسألة الأولى: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستاك باليمين، واستدل بعض أهل العلم على أفضيلة التسوك باليد اليمنى، ووجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أراني أتسوك بسواك فدفعته ) فالفاء للتعقيب، فقطعاً أن الأخذ والعطاء إنما يكون باليمين، فكان يتسوك باليمين، وهذا ليس بظاهر، وذهب أبو العباس بن تيمية ونسبه إلى جمهور أهل العلم إلى أن السواك يكون باليسار.

وذهب الإمام مالك إلى أن الأمر في ذلك على السعة.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن السواك إن كان قصد به التنظف فيكون باليسار، وإن كان قصد به البركة فيكون باليمين، والأقرب في هذا كله هو كما قلنا مراراً وتكراراً في هذه القاعدة أن كل ما ثبتت مشروعيته ولم يتبين لنا صفته دل على أن أي صفة تفيد وتؤيد فعل المشروعية فهي جائزة. والله أعلم.

واستدل بهذا الحديث أيضاً على أن الإنسان إنما يدفع إلى الأكبر لا إلى اليمين، ووجه التعارض بين هذا الحديث وبين حديث أنس كما في الصحيحين: ( الأيمنون الأيمنون ألا فيمنوا )، والجمع بينهما هو أن الإنسان إذا أراد أن يعطي قوماً يبدأ بالكبير؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فدفعته للأكبر منهما )، فلم ينظر إلى يمينه صلى الله عليه وسلم بين هذين الرجلين، ثم بعد ذلك يعطي الأكبر من كان عن يمينه وليس عن يمين المعطي، هذا هو الظاهر، والله أعلم.

ولم أجد في هذه المسألة أصلاً في أيهما يقدم إلا ما جاء عن محمد بن نصر المروزي و إسحاق بن راهويه فكانا قد تدافعا عند الباب، فقال إسحاق لـمحمد بن نصر تقدم قال: أنت تقدم، فقال إسحاق : أنت أكبر، قال: إن كنت أكبر سناً فأنت أكبر علماً، فتقدم إسحاق . هذه وجدتها في ذكر سيرة محمد بن نصر المروزي والذي يظهر لي والله أعلم أنه يبدأ بالكبير أو باليمين، وأما إذا تساوى الناس فينظر كما ذكر ذلك بعض فقهاء الشافعية، إن كان المدخول إليه فضيلة فلا يستحب التدافع في القرب؛ لأن هذا من باب الإيثار بالقرب فيتقدم الإنسان لأن دخوله أفضل إلا لمصلحة، إذا كان تقديم الشخص إلى ما هو خير من باب مصلحة لا بأس مثل تقديم الصف الأول وغيره. والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ باب: أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى.

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى ).

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة ) ].

حديث ابن عمر جاء بألفاظ عدة، واللفظ المتفق عليه هو لفظ: ( أحفوا الشوارب ووفروا اللحى ) والحديث متفق عليه، وحديث أنس عند مسلم.

فإن قال قائل: ما حكم حلق اللحى في هذا الحديث؟ فالجواب محرم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفائها فقال: ( أعفوا اللحى ).

فإن قيل: إذا كان هذا على سبيل الوجوب، فلماذا قلتم بأن قص الشارب مستحب -خلافاً لما نقله ابن حزم أنه واجب- والدليل واحد.

وأحسن ما يقال في هذا أن هذه دلالة اقتران، ودلالة الاقتران تنقسم إلى قسمين: فإن ذكر العامل في كل جملة دل ذلك على أن كل جملة على حدة ولها حكمها الخاص وهنا الحديث ( وفروا اللحى وأعفوا الشوارب ) أعفوا عامل، ووفروا عامل آخر، فلا يقال بدلالة الاقتران في هذا الموضع، كما قال الله تعالى في سورة الأنعام: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] فقال كلوا والأكل مباح وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141] وهذا واجب، فقالوا: إذا وجد العامل في كل جملة دل تشكل الآية على أن كل جملة على حدة، وأما إذا كان العامل واحد وعطف بعضها على بعض دل على أنه لا فرق في الحكم، وقد استدل العلماء على ذلك بحديث ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ) وهذا التفصيل من كلام ابن القيم رحمه الله.

هذه هي دلالة الاقتران، فيقال هنا: إن الشارع قال: ( وفروا اللحى وأعفوا الشوارب )، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخل بتوفير اللحى، أما قص الشارب فإنه جاءت السنة فيه كثيرة.

ومن الأجوبة التي هي من الفقه أن يقال: إن هذا مبني على مخالفة المشركين، ومخالفة المشركين إن كانت المخالفة من باب الترك دل على أن مقصود المخالفة الاستحباب، وإن كانت المخالفة جاءت من باب الفعل دل على التحريم، فالأصل أن الإعفاء الترك، فإذا فعل خالف الشرع ووافق المشركين، فصار الفعل موافقة للمشركين، وليس الترك هو الموافقة، فإذا كان الفعل هو الموافقة للمشركين دل على الحرمة، وأما إذا كان الترك موافق للمشركين فإن ذلك على الاستحباب، مثاله: قص الشارب، ومثاله كذلك: ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم )؛ لأن الشيب فطرة خلق عليها البشر، واليهود والنصارى لا يصبغون، إذاً: هم تركوا فإذا تركنا شابهناهم فدل ذلك على أن الترك يدل على أن موافقتهم غير مستحبة، وأن المخالفة هي المستحبة.

وهذه تعطينا مسائل كثيرة، إن اليهود والنصارى لا يصلون بنعالهم فخالفوهم، هذا من الترك؛ لأنهم يتركون فلا يصلون، أنتم صلوا فنحن تركنا، وعلى هذا فقس، وهي قاعدة حسنة جميلة، والله أعلم.

ذكرت أربعة أمثلة، إذا وافقناهم في الترك فإن ذلك خلاف السنة، وإن خالفناهم فإن ذلك سنة، وإذا وافقناهم في الفعل دل على أن الموافقة محرمة والمخالفة واجبة، انظر حديث: ( قال: يا رسول الله! إن هذا يوم تصومه اليهود، قال: لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع ) وافقناهم في العبادة فإذا تركنا فهذا هو الأصل، فصار مخالفة لهم في الفعل وليس بالترك، فإذا تركنا هم يتركون، فدل ذلك على أن الاستحباب المخالفة بالصفة مثل هذه القاعدة، والله أعلم.

وأما حديث أنس فقد ذكر النووي أن مذهب عامة أهل العلم أنه لا يترك فوق الأربعين، فإن ترك فإن ذلك مكروه، وذهب بعضهم إلى التحريم، وهو قول للظاهرية، وشيخنا عبد العزيز بن باز مرة قال بالتحريم، والذي يظهر والله أعلم أن ما زاد عن الأربعين فهو خلاف السنة، والدليل على هذا أن ما زاد عن الأربعين يكثر، والكثرة والقلة يحصل فيها مخالفة المأمور، فدل ذلك على أن ما زاد على أربعين من باب الاستحباب، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (حلق العانة)، فإذا طالت فإنه خالف الأمر، فسواء زاد على الأربعين أو كان قبل الأربعين كله مخالفة للمأمور فدل ذلك على أن الأربعين من باب الكراهة ليس إلا، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ باب: غسل البول في المسجد.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه! مه! قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه دعوه، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه، فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر وإنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه ) ].

هذا الحديث اللفظ لـمسلم وهو متفق عليه بدون قوله: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن )، هذا تفرد به مسلم ، ورواه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ : ( فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ).

وهذا الحديث استدل به أهل العلم على قاعدة وهي: أنه إذا تعارضت مفسدتان قدم أدناهما؛ فإن هذا الأعرابي بال في المسجد والبول في المسجد مفسدة، وقطع بوله قبل استكماله مفسدة، فإذا تعارضت مفسدتان قدم أدناهما، والأدنى هنا إبقاء البول؛ لأنه حاصل من أول التبول.

واستدل أهل العلم أيضاً بهذا الحديث على أنه يجب صيانة المسجد من كل ما يؤذي بني آدم إذ أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم فلا يجوز وضع القذر ولا النجاسة ولا أي شيء.

واستدل أهل العلم أيضاً على أن الذكر في المسجد أفضل من الذكر خارج المسجد بقوله: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن )، واستدلوا أيضاً به على أن الصلاة في المساجد أفضل من الصلاة في غيرها، وهذا محل إجماع، وكذلك قراءة القرآن، وعلى هذا فمراجعة القرآن في المسجد أفضل من مراجعته خارج المسجد، وهذا يخفى على كثير من الناس خاصة في رمضان.

ومن المسائل أيضاً حسن أدب النبي صلى الله عليه وسلم في طريقة إنكار المنكر صلوات ربي وسلامه عليه، والله أعلم.

قال المؤلف رحمه الله: [ باب: نضح بول الصبي من الثوب.

عن أم قيس بنت محصن رضي الله عنها: ( أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، قال عبيد الله : أخبرتني أن ابنها ذاك بال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلاً ) ].

الحديث متفق عليه، وجاء من حديث أم عطية ومن حديث عائشة ( أنه كان يؤتى بالصبيان فيدعو لهم، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بصبي يحنكه فبال عليه )، هذا حديث عائشة.

واستدل أهل العلم بهذا على أن الصبي إنما كان ذكراً، والنبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي السمح : ( يرش من بول الغلام ويغسل من بول الجارية ) وهذا هو مذهب عامة أهل العلم من الشافعية والمالكية والحنابلة وبعض الحنفية، وهو قول ابن حزم إلا أنه رحمه الله كعادته على ظاهريته يقول: ( يرش من بول الغلام ) قال: الغلام هو من لم يبلغ، فإذا بال من لم يبلغ فإنه يرش منه حتى يبلغ؛ لأن الغلام لا يطلق في العربية إلا على من لم يبلغ، وهذا على ظاهريته، وذهب جمهور أهل العلم إلى أن الغلام من لم يأكل الطعام أصلاً؛ ولهذا قالت عائشة : ( أتي بصبي يحنكه فبال عليه ) يعني: لم يكن قد أكل.

وهناك مذهب ثالث وهو أنه ( لم يأكل ) يعني: لم يكن يتلهف للطعام، وليس هو الأصل، أما أن يحنك أو يطعم ويتلمظه وإن كان لا يتلهف له فالأصل أنه ما زال الحليب هو الأصل، فإنه يرش من بول الغلام وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، وأما قول ابن حزم فضعيف، واستدل العلماء على ضعفه بما جاء في الصحيحين من حديث أنس قال: ( فأحمل أنا وغلام نحوي أداوة من ماء وعنزة فيتوضأ بالماء ويصلي إلى العنزة ) قالوا: إن الغلام هذا بالغ وهو من بني الأنصار، كما أشار إلى ذلك بعض أهل العلم. وعلى كل حال قول ابن حزم ضعيف، وأصحها هو القول الثالث أنه ( لم يأكل الطعام )، يعني: لم يكن الطعام هو الأصل، وبالمناسبة الصبي أحياناً يعطى سيريلاك بالقمح وهو نوع من الطعام غير الحليب، فإذا كان يشرب السيريلاك ويتلهفه وينتظره فإن هذا يكون قد انتقل من الحليب إلى الطعام.

قال المؤلف رحمه الله: [ باب: غسل المني من الثوب.

عن عبد الله بن شهاب الخولاني قال: ( كنت نازلاً على عائشة رضي الله عنها فاحتلمت في ثوبي فغمستهما في الماء فرأتني جارية لـعائشة فأخبرتها، فبعثت إلى عائشة فقالت: ما حملك على ما صنعت بثوبيك؟ قال: قلت: رأيت ما يرى النائم في منامه، قالت: هل رأيت فيهما شيئاً؟ قلت: لا، قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري ) ].

الحديث عند مسلم.

مذهب جمهور أهل العلم أن الصحيح في المني أنه طاهر؛ لأن عائشة تقول: ( أحكه يابساً بظفري وكان يصلي فيه )، فلو كان نجساً لأمر بإزالة أجزائه، وهذا هو مذهب الحنابلة والشافعية وإن كان مالك يرى وجوب حكه وإزالته، وأن ذلك من باب التخفيف، والراجح هو أنه ولو لم يحكه فإنه يجوز.

وبعضهم يقول: إنه يخفف إذا أزيل بيبسه، والراجح أنه مهما بلغ فإنه يبقى شيء من أجزائه، والراجح أنه طاهر؛ لما جاء من حديث ابن عباس : ( إنما هو بمنزلة المخاط والبصاق وإنما يكفيك أن تميطه عنك بأذخرة ) والحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، والصواب وقفه على ابن عباس كذا رواه ابن خزيمة و البيهقي و الدارقطني .

قال المؤلف رحمه الله: [ باب: غسل دم الحيضة من الثوب.

عن أسماء رضي الله عنها قالت: ( جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: تحته ثم تقرصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه ) ].

الحديث متفق عليه.

واستدل أهل العلم به على أن الدم نجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإزالته، ويعفى عن يسير الدم سواء كان دم الحيض أم دم النجاسة، وهذا قول عامة أهل العلم.

واستدلوا على ذلك بما جاء في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه فإذا رأت فيه دماً نصعته بريقها ثم قرصته ثم صلت فيه ) وقولها: ( قصعته بريقها، ثم قرصته ) مجرد هذا الفعل لا تزول به النجاسة فدل ذلك على أن هذا من باب اليسير، وهذا هو مذهب جمهور الصحابة، وهو قول عائشة وقول ابن عمر، والله أعلم.

وأما نجاسة الدم فالراجح أن الدم المسفوح نجس وهو كل ما خرج من حيوان مع بقاء حياته، فالذي يخرج من الإصبع يسمى الدم المسفوح؛ لأنه خرج من حيوان مع بقاء حياته، هذا الذي أشار إليه القرطبي في جامعه، والله أعلم، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك، وروي عن أحمد أنه قال: نجاسة الدم مجمع عليها، ونقل الإجماع أيضاً بعض المالكية وخالف في ذلك المتأخرون، والصواب أن الدم نجس ويعفى عن يسيره.

قال المؤلف رحمه الله: [ كتاب: الصلاة، باب: بدء الأذان.

عن عبد الله بن عمر أنه قال: ( كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلوات وليس ينادي بها أحد، فتكلموا يوماً في ذلك فقال بعضهم: اتخذوا ناقوساً مثل ناقوس النصارى، وقال بعضهم: قرناً مثل قرن اليهود، فقال عمر : أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بلال ! قم فناد بالصلاة ) ].

هذا الحديث متفق عليه، وهو يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحب موافقة أهل الكتاب بعد الهجرة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، وهو يدل أيضاً على حرص الصحابة رضي الله عنهم على الإتيان إلى الصلاة، ثم قول عمر رضي الله عنه: (ألا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة؟) قالوا: إن ذلك إنما هي رؤيا رآها عمر ، وأن ابن عمر اختصر ذلك، وقد جاء عند الترمذي و أحمد وغيرهما في قصة عبد الله بن عبد ربه حينما رأى الرؤيا فقال: ( اذهب إلى بلال فعلمه الأذان فإنه كان أندى صوتاً منك، قال: فلما جعل بلال يؤذن خرج عمر يجر إزاره ويقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل الذي رأى )، فهذا يدل على أنه قول ابن عمر ، فقال عمر: (ألا تبعثون رجلاً ينادي بالصلاة) ظن أن ذلك إنما هو من قول عمر ، والصواب أن عمر وافق عبد الله بن عبد ربه، والله أعلم.