العناية بفقه السلف


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، أما بعد:

أحبتي في الله! وكما أعلمتكم أن هذه المحاضرة في هذا المجلس المبارك هي بعنوان: العناية بفقه السلف، أو العناية بفقه الصحابة.

سبب اختيار الله سبحانه للصحابة ليكونوا أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم

أنتم تعلمون أيها الإخوة أن للعلم مشارب، وله مدارس، ولقد حاز قصب السبق من كان بعلم السلف والصحابة أحرى، ومن تأمل أقوالهم وتدبر أفعالهم، وتأنى بفهم مرادهم كان أسعد. وما اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، إلا لما حباهم جل جلاله وتقدست أسماؤه من طبائعهم التي جبلهم الله جل جلاله عليها من العلم، والفقه، والإخلاص، والخشية، والتأني، والتروي، وعدم الخوف، والشجاعة، وكل ذلك قد حازه أئمة السلف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سار على نهجهم.

ولذا روى الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله اطلع على قلوب العباد، فلم ير قلباً أخشع له من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فاختاره لرسالته، ثم اطلع على قلوب العباد فلم ير قلباً أخشع وأحسن لوزراء نبيه صلى الله عليه وسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا حقهم، فإنهم على الهدى المستقيم، ولأجل هذا كان الذي يعتني بفقه السلف وفقه الصحابة مع سهولة مراده ويسر طريقته فإنه ينال مع العلم وهو علم اللسان علم القلب.

والعلم ينقسم إلى عدة أقسام: علم اللسان وهذا حجة الله على خلقه، وعلم القلب وهذا هو العلم النافع، فربما وجدت إنساناً يجيد البيان ولكنك لا تجده يجيد علم القلوب، وهؤلاء تجد منهم من يزيغ ويسلك أودية الهوى وطرق الشياطين.

ولقد ذكر الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: أنه رأى رجلاً يحفظ مائتي ألف حديث، وهو من الزنادقة الذين انحرفوا عن طريق الله المستقيم.

والذي ينال علم الوحيين فقهاً ومعنىً وتأملاً سوف يرضخ لمراد الله سبحانه وتعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل هذا كان سلف هذه الأمة أحرى بهذا الأمر، يقول الإمام مالك رحمه الله: ما كان السلف يقولون: هذا حلال، وهذا حرام؛ لورعهم أن ينسبوا لله ما ليس منه، ولكن كانوا يقولون: هذا ينبغي، وهذا لا ينبغي، كل ذلك كان ورعاً.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين أنه لم يكن مصطلح الكراهة والتحريم والاستحباب والإيجاب موجوداً بقوة عند السلف؛ لأنهم متى ما علموا أن الله ورسوله أمرا به التزموا به، ومتى علموا أن الله ورسوله قد نهيا عنه اجتنبوه، وبهذا كانوا على علم القلب؛ ولهذا حينما جاء الرجل يسأل عائشة رضي الله عنها، ورأته حريصاً على معرفة قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا هذا! أكل ما عرفته عملت به؟ فهذا يدل على أنهم كانوا يهتمون بهذا العلم، وهو العلم الذي ليس ثمة فيصل بين أن يقول، وبين أن يفعل؛ ولهذا قال من قال من سلف هذه الأمة: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم.

غضب السلف على من خالف أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم

ولأجل هذا كان الواحد منهم يغضب أشد الغضب حينما يرى مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم تتحمل قلوبهم أن يروا أحداً ممن ينتسب إلى الإسلام يرى أمر الله وأمر رسوله فيخالفه، فلم تتحمل قلوبهم ذلك؛ لأن الانقياد التام هو أن يكون المرء لله، ويحيا لله قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، ولأجل هذا حينما كان ابن عمر مع أبنائه فقال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الدباء -والدباء هي القرعة-، فقال أحد أبنائه: والله ما أحب الدباء -يعني: ما يشتهيه ما تعود- قال: ما تحب شيئاً أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا كلمتك سائر اليوم )، فإذا كان ابن عمر يأمر ابنه الصغير أن يحب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فما بالك بالعالم وطالب العلم.

وهذا عبد الله بن المغفل كما في الصحيحين حينما رأى ابن عم له يحذف، فقال له: ( لا تحذف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، وإنما تفقأ العين وتكسر السن، ثم رآه بعد ذلك يصنع، فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحذف أو كره الحذف وأنت تحذف لا أكلمك كذا وكذا )، فلم تكن قلوبهم تتحمل أن يعلم الإنسان ثم لا يعمل؛ ولأجل هذا كان سلف هذه الأمة أعلم الناس؛ لأن من علم وعمل ورثه الله تقوىً ونوراً في قلبه ربما عرف الصراط المستقيم، وعرف خير الخيرين، فأخذ بأعلاها، وعرف شر الشرين فاجتنب أعلاها؛ ولأجل هذا قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

ولأجل هذا كانوا رضي الله عنهم يعملون بعلمهم أياً كان هذا العلم، وبمجرد تعلمهم وعملهم بعلمهم يورثهم الله علم ما لم يعلموا، فكان قرآنهم هو علمهم، واليوم تجد الواحد منا إذا قيل له: ماذا تعرف؟ قال: أعرف الفقه، فإذا قيل له: تعرف التفسير؟ قال: لا والله ما أعرف التفسير! مع أن تفسير القرآن وفهم مراد الله أولى؛ لأنك لن تستطيع أن تخشع أو تتأمل أو تستدل بالكتاب والسنة وأنت لم تفهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم!

ولأجل هذا أحبتي الكرام! كانوا رضي الله عنهم يعملون بعلمهم، حتى لو كان علمهم قليلاً؛ ولهذا أحد الصحابة كما ذكر ابن هشام في سيرته أنه حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه بضعة أحاديث، وسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله سبحانه وتعالى، قال: ( ائذن لي يا رسول الله! أن أذهب إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ).

والواحد منا اليوم ربما حمل شيئاً كثيراً من العلم، وحمل شيئاً كثيراً من السنة، ومع ذلك ليس عنده من الشجاعة الإيمانية حتى يعلم الناس العلم، وهذه من المسائل التي فاز بها الصحابة، وهي الشجاعة في معرفة الحق والعمل به؛ لأجل هذا كان تعلم فقه الصحابة من الأهمية بمكان في زماننا.

أنتم تعلمون أيها الإخوة أن للعلم مشارب، وله مدارس، ولقد حاز قصب السبق من كان بعلم السلف والصحابة أحرى، ومن تأمل أقوالهم وتدبر أفعالهم، وتأنى بفهم مرادهم كان أسعد. وما اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68]، إلا لما حباهم جل جلاله وتقدست أسماؤه من طبائعهم التي جبلهم الله جل جلاله عليها من العلم، والفقه، والإخلاص، والخشية، والتأني، والتروي، وعدم الخوف، والشجاعة، وكل ذلك قد حازه أئمة السلف من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن سار على نهجهم.

ولذا روى الإمام أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: إن الله اطلع على قلوب العباد، فلم ير قلباً أخشع له من قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فاختاره لرسالته، ثم اطلع على قلوب العباد فلم ير قلباً أخشع وأحسن لوزراء نبيه صلى الله عليه وسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا حقهم، فإنهم على الهدى المستقيم، ولأجل هذا كان الذي يعتني بفقه السلف وفقه الصحابة مع سهولة مراده ويسر طريقته فإنه ينال مع العلم وهو علم اللسان علم القلب.

والعلم ينقسم إلى عدة أقسام: علم اللسان وهذا حجة الله على خلقه، وعلم القلب وهذا هو العلم النافع، فربما وجدت إنساناً يجيد البيان ولكنك لا تجده يجيد علم القلوب، وهؤلاء تجد منهم من يزيغ ويسلك أودية الهوى وطرق الشياطين.

ولقد ذكر الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء: أنه رأى رجلاً يحفظ مائتي ألف حديث، وهو من الزنادقة الذين انحرفوا عن طريق الله المستقيم.

والذي ينال علم الوحيين فقهاً ومعنىً وتأملاً سوف يرضخ لمراد الله سبحانه وتعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأجل هذا كان سلف هذه الأمة أحرى بهذا الأمر، يقول الإمام مالك رحمه الله: ما كان السلف يقولون: هذا حلال، وهذا حرام؛ لورعهم أن ينسبوا لله ما ليس منه، ولكن كانوا يقولون: هذا ينبغي، وهذا لا ينبغي، كل ذلك كان ورعاً.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين أنه لم يكن مصطلح الكراهة والتحريم والاستحباب والإيجاب موجوداً بقوة عند السلف؛ لأنهم متى ما علموا أن الله ورسوله أمرا به التزموا به، ومتى علموا أن الله ورسوله قد نهيا عنه اجتنبوه، وبهذا كانوا على علم القلب؛ ولهذا حينما جاء الرجل يسأل عائشة رضي الله عنها، ورأته حريصاً على معرفة قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، قالت: يا هذا! أكل ما عرفته عملت به؟ فهذا يدل على أنهم كانوا يهتمون بهذا العلم، وهو العلم الذي ليس ثمة فيصل بين أن يقول، وبين أن يفعل؛ ولهذا قال من قال من سلف هذه الأمة: من عمل بما يعلم ورثه الله علم ما لم يعلم.

ولأجل هذا كان الواحد منهم يغضب أشد الغضب حينما يرى مخالفة أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم تتحمل قلوبهم أن يروا أحداً ممن ينتسب إلى الإسلام يرى أمر الله وأمر رسوله فيخالفه، فلم تتحمل قلوبهم ذلك؛ لأن الانقياد التام هو أن يكون المرء لله، ويحيا لله قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، ولأجل هذا حينما كان ابن عمر مع أبنائه فقال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الدباء -والدباء هي القرعة-، فقال أحد أبنائه: والله ما أحب الدباء -يعني: ما يشتهيه ما تعود- قال: ما تحب شيئاً أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم! لا كلمتك سائر اليوم )، فإذا كان ابن عمر يأمر ابنه الصغير أن يحب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبه، فما بالك بالعالم وطالب العلم.

وهذا عبد الله بن المغفل كما في الصحيحين حينما رأى ابن عم له يحذف، فقال له: ( لا تحذف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الحذف، وقال: إنها لا تصيد صيداً ولا تنكأ عدواً، وإنما تفقأ العين وتكسر السن، ثم رآه بعد ذلك يصنع، فقال: أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحذف أو كره الحذف وأنت تحذف لا أكلمك كذا وكذا )، فلم تكن قلوبهم تتحمل أن يعلم الإنسان ثم لا يعمل؛ ولأجل هذا كان سلف هذه الأمة أعلم الناس؛ لأن من علم وعمل ورثه الله تقوىً ونوراً في قلبه ربما عرف الصراط المستقيم، وعرف خير الخيرين، فأخذ بأعلاها، وعرف شر الشرين فاجتنب أعلاها؛ ولأجل هذا قال الله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

ولأجل هذا كانوا رضي الله عنهم يعملون بعلمهم أياً كان هذا العلم، وبمجرد تعلمهم وعملهم بعلمهم يورثهم الله علم ما لم يعلموا، فكان قرآنهم هو علمهم، واليوم تجد الواحد منا إذا قيل له: ماذا تعرف؟ قال: أعرف الفقه، فإذا قيل له: تعرف التفسير؟ قال: لا والله ما أعرف التفسير! مع أن تفسير القرآن وفهم مراد الله أولى؛ لأنك لن تستطيع أن تخشع أو تتأمل أو تستدل بالكتاب والسنة وأنت لم تفهم مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم!

ولأجل هذا أحبتي الكرام! كانوا رضي الله عنهم يعملون بعلمهم، حتى لو كان علمهم قليلاً؛ ولهذا أحد الصحابة كما ذكر ابن هشام في سيرته أنه حينما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وتعلم منه بضعة أحاديث، وسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله سبحانه وتعالى، قال: ( ائذن لي يا رسول الله! أن أذهب إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام ).

والواحد منا اليوم ربما حمل شيئاً كثيراً من العلم، وحمل شيئاً كثيراً من السنة، ومع ذلك ليس عنده من الشجاعة الإيمانية حتى يعلم الناس العلم، وهذه من المسائل التي فاز بها الصحابة، وهي الشجاعة في معرفة الحق والعمل به؛ لأجل هذا كان تعلم فقه الصحابة من الأهمية بمكان في زماننا.

أنا منذ زمن أنصح طلاب العلم زملائي وإخواني الذين نتعلم نحن وإياهم أنصحهم بفهم قول الصحابة، ومعرفة أقوال الصحابة؛ لأن أقوال الصحابة بعيدة كل البعد عن تأثرهم بالبيئة التي حولهم، وعن تأثرهم بالأشخاص، فإن الإنسان أحياناً يكون تأثره الشخصي له أثر على قوله وهو لا يشعر؛ فلهذا تجد الإنسان ربما يكون شديداً غضوباً فتجد أنك تعرف -حتى لو كان طالب علم- أنه يأخذ بالأحوط دائماً؛ لأن طبيعته لها أثر في أقواله.

أما الصحابة وإن كان الواحد لا ينفك عن هذه الطبيعة إلا أن طبيعتهم إلى معرفة السنة وإلى طريقة السنة أقرب؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد : ( إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن إبراهيم منهم، وإن أبا بكر منهم، وإن لله قلوباً أقسى من الحجر -يعني: لله- وإن نوحاً عليه السلام منهم وإن عمر منهم )، فهذا يدل على أن الإنسان لا ينفك أحياناً عن طبيعته؛ ولهذا تجد عمر رضي الله عنه في المواقف الصلبة أقوى من غيره، وأما من نال معرفة مراد الله وكان عنده شجاعة فإنه يكون أقرب إلى الحق كـأبي بكر ضي الله عنه ولهذا فإن أبا بكر رضي الله عنه أعلم الصحابة بإجماع أهل العلم، نقل الإجماع منصور السمعاني ، وذكره أبو العباس في غير موضع من كتبه رحمه الله؛ لأن أبا بكر فيه من الشجاعة ومن معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم وفيه من الصدق واللجوء إلى الله أكثر من غيره من الصحابة؛ ولهذا يطلعه الله على معرفة الحق أكثر من غيره، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ [البقرة:282].

هذه المقدمة يا إخوان! أذكرها لكم، وإن كانت بحاجة إلى استيعاب أكثر، فقد تبين لنا أن الصحابة رضي الله عنهم قد أعطاهم الله من الجبلة والسليقة ما يفهمون بها مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولملازمتهم للنبي صلى الله عليه وسلم! ينال الإنسان منهم علماً كثيراً؛ لأنك ربما تجد طالب علم يدرس على شيخ ولكنه لا يعرف شيخه إلا في المسجد! ولو كان ملازماً له، لكنه لا يعرف شيخه في حله وترحاله، ولا يعرفه في غضبه ورضاه، ولا يعرفه في معاملته مع عامة الناس؛ ولهذا ينطبع في ذهنه عن شيخه صورة ملائكية؛ لأنه لم يعرف هدي شيخه في حياته كلها، أما الصحابة فإنهم عاينوا النبي صلى الله عليه وسلم في كل شيء، في المسجد، وفي الأكل والشرب، وفي الجهاد والسفر وفي النوم، وفي الغضب، وفي الحلم؛ ولذا أخذوا هذه المدرسة تامة كافية؛ ولهذا صارت القدوة في هذا الزمان شحيحة؛ لأنك تجد من يتكلم في العلم ويبين الحق، لكن فيه نوع هوى، ولا تقع فتنة إلا بترك ما أمر الله كما ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله، والإنسان أحياناً يخالف الحق لأجل هواه، قال تعالى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [القصص:50]، قال ابن تيمية : فعلم من ذلك أن من لم يصب الحق لا بد أن يكون عنده شيء من الهوى.

أما الصحابة رضي الله عنهم فإن بعدهم عن الهوى أبعد من غيرهم، والهوى لا ينفك عنه الإنسان غالباً، لكن من الهوى ما يضل، ومنه ما يمنع الإنسان من معرفة الحق، قال الله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152]، وهذا في حق الصحابة، إذا علم هذا أيها الإخوة فلنعلم أهمية فقه الصحابة، ولابد أن نعرف لماذا فقه الصحابة؟ ويكون الاهتمام بعلمهم لأمور كثيرة منها:

كثرة علم الصحابة ودقة فهمهم

الأمر الأول: لأنهم أعلم هذه الأمة، فهم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله؛ ولهذا يقول ابن مسعود : من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

قال ابن تيمية : ولم يتنازع أهل العلم والإيمان فيما استفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، قال: وكل من له لسان صدق ممن هو مشهور بالعلم أو الدين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة، وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم، ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة، يعني: (قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) قال: ولا تجد إماماً -هذا يا إخوان مهم جداً- في العلم والدين كـمالك بن أنس و أبي حنيفة و الثوري و الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق ، ومثل الفضيل و أبي سليمان الداراني و معروف الكرخي وأمثالهم إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا مقتدين فيه بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أنواع وأبواب الفضائل والمناقب، والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية، وهم أهل الحديث والسنة، العالمون بطريقتهم المتبعون لها، وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر.

وقد بين أبو العباس بن تيمية أن أهل الحديث ليسوا هم الذين يهتمون بعلم الرجال كما يظن كثير من الناس، بل إن أهل الحديث هم الذين يعتمدون في أقوالهم على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، ولو كانوا غير مهتمين بعلم الرجال، كما ذكر ذلك في القواعد النورانية؛ ولهذا قال: فـمالك بن أنس من أهل الحديث، و الشافعي من أهل الحديث، و الأوزاعي من أهل الحديث، و أبو محمد بن قدامة من أهل الحديث؛ لأنهم كانوا يعتمدون في أقوالهم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما ثبت في كتاب الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.

إذاً: كل من جاء بعد الصحابة يعرف فضلهم وعلمهم، بل -وهذه نقطة مهمة- إنهم يتركون القياس فيما يرونه في أنفسهم صحيحاً؛ لأجل مخالفة قول الصحابة، حتى أبو حنيفة رضي الله عنه ورحمه كان يترك القياس إذا علم أن الصحابي الفقيه قد صح عنه خلاف قوله.

يقول ابن تيمية : وحاشا الأئمة أن يخالفوا قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم كيف و أبو حنيفة رحمه الله يترك القياس لأجل مخالفة قول الصحابة، فرأى الوضوء من النبيذ؛ لأنه بلغه عن إبراهيم النخعي عن أصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود أنه كان يتوضأ بالنبيذ، مع أنه يخالف القياس، والرواية عن ابن مسعود فيها كلام، ولا تصح عنه بسند صحيح، ومع ذلك ترك أبو حنيفة القياس لأجل قول الصحابي، فهذا يدل على أنهم يعلمون ويقرون بعلم الصحابة وفضلهم.

فإذا ثبت لك أن الصحابة هم أعلم الأمة، فإنه أحرى بطالب العلم الذي يريد معرفة الحق ومعرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم إذا عرف قول صحابي وعرف صحة الإسناد إليه أن يتشبث به؛ لأن الصحابة -وهذه نقطة مهمة -أيها الإخوة- كما قلت: لم تتأثر أقوالهم بطبيعتهم مثل تأثر من جاء بعدهم، وأيضاً تجد أن كل إمام من أئمة المذاهب المتبعة قد بنى قولاً من أقواله على واقع بلده؛ ولهذا يقولون: عندما ضاعت الأمانة رووا حديث الفساق، أو قبلت شهادة الفساق.

أيضاً تجد أنهم أحياناً يذكرون المصالح المرسلة، وأحياناً يأتون بسد الذرائع، وأحياناً يأتون بما يسمى بما جرى عليه العمل، وأحياناً يأتون بما يسمى بالاستحسان، وأحياناً يأتون بما يسمى بالاستصحاب، كل هذه القواعد ربما أن الصحابة لم يكن اهتمامهم كثيراً بها، فأنت إذا أخذت قول الصحابي خاصة في هذا الزمان الذي أصبح العالم فيه قرية واحدة كان الاهتمام بقول الصحابي أولى من الاهتمام بأقوال الأئمة المتبع أقوالهم، وإن كان هؤلاء الأئمة الكبار كل واحد مدرسته مبنية على قول صحابي، فـأبو حنيفة مدرسته مبنية على قول عبد الله بن مسعود فإنه أخذ العلم عن حماد بن أبي سليمان و حماد عن إبراهيم النخعي و إبراهيم النخعي عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود ، وابن مسعود لا يكاد يخرج عن قول عمر ، ولهذا عدت المسائل التي خالف فيها ابن مسعود قول عمر بالأصابع، وباقي المسائل تجد أن ابن مسعود يوافق فيها قول عمر .

إذاً كان الأئمة منهم يتبعون علماء الصحابة فكانوا أعلم، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله و ابن حزم : ولا يكاد ابن عمر يقول قولاً فيما لم يجده في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أخذه من زيد بن ثابت .

وإذا كان هذا الأمر كذلك فإنه يدل على أنهم يسيرون على مدرسة.

ومالك مدرسته مدرسة أهل المدينة، كـابن عمر و الزهري ومن كان في المدينة.

والشافعي كان يسير على مدرستين: مدرسة زيد بن ثابت ، ومدرسة ابن عباس ؛ لأنه تتلمذ على أهل الحجاز في مكة.

و أحمد بن حنبل رحمه الله تتلمذ على فقه آثار السلف، يقول ابن تيمية : ولهذا لا يكاد يوجد لـأحمد قول انفرد فيه عن الأئمة إلا والحق في الغالب لا يخرج عن قوله؛ لأنه متبع لآثار من جاء قبله، وهذا فقه عظيم يا إخوان! ولهذا تجدون أن الإمام أحمد رحمه الله أقعد أصحاب المذاهب في باب المعاملات المالية؛ لأنه أخذ مدرسة مالك بن أنس التي أخذها عن سعيد بن المسيب، وزاد عليها آثار من جاء بعده، فكان فقه أحمد أولى؛ ولهذا نجد -كما سوف يأتي إن شاء الله- أن الشروط في البيوع، أو الشروط في العقود جمهور الفقهاء يمنعونها في الجملة، و أحمد يجوزها على روايتين:

الرواية الأولى: جوز شرطين ومنع الباقي، والرواية الثانية: جوز جميع الشروط إذا لم تخالف الكتاب والسنة، وهو اختيار ابن تيمية و ابن القيم ، وهو قول عمر بن الخطاب : مقاطع الحقوق عند العقود، وكذلك قول ابن مسعود و ابن عباس .

بعد الصحابة عن التكلف

الأمر الثاني: يجب الاهتمام بفقه الصحابة لأنهم أبعد عن التكلف، وأقرب إلى مجانبة الهوى، فإن علم الصحابة علم بسيط، ليس فيه من تقعيدات وتعقيدات أصول الفقه التي توصل أحياناً إلى معرفة الحق بطرق طويلة، وليسوا على طريقة المتفلسفة أو أصحاب الجدال، بل كانت طريقتهم أيسر الطرق؛ ولهذا قال ابن مسعود : أبر هذه الأمة قلوباً، وأقلها تكلفاً، وأعمقها علماً، يقول ابن تيمية : فهذا يدل -يعني: قول ابن مسعود -على أن عندهم حسن المقصد، وحسن النية ببر القلوب، وبين فيه كمال المعرفة ودقتها بعمق العلم، وبين فيه تيسير ذلك عليهم وامتناعهم من القول بلا علم.

الآن الإنسان إذا داوم على قراءة الفقه، وظل عشرين سنة أو خمس عشرة سنة يقرأ في الفقه ويدرس ويبحث، فبمجرد أن يسأل تنكشف له الأمور كأنه يقرؤها قراءة؛ لأنها صارت عنده ملكة.

إذاً: من ليس عنده ملكة فإنه يتكلف هذه الملكة، أما الصحابة فليس عندهم ذلك؛ ولهذا تجدهم أحياناً يفتون بما يعلمونه من مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم، دون علم بقول النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: دون علم بالسنة صراحة، فيوفقون لها؛ ولهذا ابن مسعود عندما سئل عن مسألة البنت وبنت الابن وأخبر عن فتوى أبي موسى فقال: قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [الأنعام:56] وهذا من الوضوح في الرؤية ومن النظرة الثاقبة، فليس عنده سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم صراحة، ومع ذلك يرى الحق رأي عين ثم قال: للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، فيأتي معقل بن يسار فيشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك لـبروع بنت واشق فيفرح ابن مسعود رضي الله عنه.

إذاً ما عندهم تكلف، طبيعتهم وسليقتهم ومعرفتهم باللغة جعلتهم ينظرون إلى مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم بوضوح.

واليوم نحن نقسم الناس إلى عرب وعجم، والعرب عندنا لا أقول عامة الناس بل طلاب العلم لا يقرءون من العربية مثل غيرهم، انظر إلى طلاب العلم في هذا الزمان! تجد أن قراءتهم في العربية قليلة جداً، بل إن بعض الفضلاء من مشايخنا حينما سئل عن كتاب لسان العرب، قال: هذا لا يقرأ، هذا مرجع، أما الصحابة فكانوا يعرفون العلم والعربية يقول عروة: ما رأيت مثل عائشة ، كان الشعراء يأتون فتعطيهم، ثم يخرجون فيأتي أهل الفقه فتعطيهم، ثم يخرجون. فـعروة يقول : ما رأيت مثل عائشة في زمن كثرة الصحابة وهذا مما يدل على أن عائشة وعمرها كان في العشرينات، ويقول عطاء بن أبي رباح و طاوس: ما رأينا أعلم من ابن عباس والله لقد خطبنا يوم عرفة ففسر لنا سورة البقرة آية آية، والله لو سمعها الترك وأبناء الترك لأسلموا؛ وذلك من شدة وضوح البيان وكثرة العلم.

فهذا يدل على أن علمهم غير علمنا تماماً، يعني: من حيث الوضوح والدقة وعدم التكلف، ومعرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

ابن منظور عندما ألف كتاب لسان العرب قال: هذه لغتكم يا أهل العرب، وفيها عشرون ألف كلمة لا تتداول في هذا الزمان مع أن أصله من فارس، أما الآن في زماننا فهناك كلمات أكثر لا شك لا تتداول.

اقرءوا خطبة عائشة رضي الله عنها في معركة الجمل، وأنا أجزم لو أن الواحد منا معه مختار الصحاح لـلرازي لن يفهمها؛ لأن ثمة كلمات لا توجد في مختار الصحاح، مما يدل على أن علم العربية عندهم كان من الأهمية بمكان، يقول ابن عباس : ما رأيت مثل عمر ! لا يكاد يقول قولاً إلا ويستشهد له ببيت للعرب، واليوم لا نحسن حتى السليقة ولا نقرأ أبيات الشعر قراءة صحيحة! وكثير من طلاب العلم المهتمين بالحديث، والمهتمين بالفقه تجده حينما يقال له: اقرأ الأدب حتى يكون في لغتك نوع من النضج، ويكون فهمك لمراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ليس فيه تكلف يقول: والله إنها مضيعة للوقت، وهذا خطأ.

يقول الإمام أحمد رحمه الله: كتبت بيدي من العربية أكثر مما كتبه أبو عمرو بن العلاء يعني: وأنتم تعرفون علم العربية عند الشافعي رحمه الله، فإنه درس لغة هذيل وهو ابن أربع عشرة سنة، حتى كان يفسر لغة هذيل وهو على صخرة، فيمر مسلم الزنجي فيسمعه وينبهر من قوة بيانه ويقول: يا ليت هذا كان في معرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.

فتؤثر هذه الكلمة من مسلم الزنجي في الشافعي رحمه الله يقبل على العلم فيفتح الله عليه، ويقول ابن هشام -الذي ما مر على الزمان مثله في العربية- جالست محمد بن إدريس الشافعي وأريته يتكلم، والله ما لحن قط، ولا رأيته قال كلمة قلت: لو أن غيرها قالها أفصح منها.

واقرأ الآن كتاب الأم للشافعي تجد أنك تقول: ليس فيه عبارة فيها ركاكة؛ لأن اللغة تختلف تماماً بينك وبينهم، مع أن الإمام الشافعي أخذها بالدراسة، فما بالك بالصحابة الذين أخذوها بالجبلة والطبيعة، يقول ابن عباس فيما صح عنه مما رواه ابن جرير : إذا أعيتكم الآيات، فعليكم بلغة العرب، ثم فسر قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [القلم:42]، والأثر معروف.

ولهذا يقول عمر بن عبد العزيز : قف حيث وقف القوم، فإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشف الأمور كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم: حدث بعدهم فما أحدثه إلا من مخال هديهم ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، لقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدىً مستقيم.

ويقول ابن تيمية رحمه الله في بعدهم عن الهوى: لأن عندهم من الإخلاص ما ليس عند غيرهم، والمخلص لله محفوظ من الشيطان الذي يأمر باتباع الهوى، كما قال تعالى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42]، والغي هو اتباع الهوى.

والخشية تمنع من اتباع الهوى، قال تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:40-41]، والكمال في عدم اتباع الهوى، وفي العلم ما تابع فيه صاحبه محمداً صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا يقول ابن تيمية رحمه الله: وليس الذي يثير النزاع هو الاجتهاد السائغ إذ كان ذلك موجوداً في عهد الصحابة رضي الله عنهم، وإنما الذي يثير النزاع هو الاجتهاد الذي فيه نوع بغي وعدوان؛ لأن الله يقول: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ [آل عمران:19]، فلأجل هذا ما احتاج الصحابة إلى أن يتعبوا أنفسهم في الردود، هذا يرد على هذا في هذه المسألة، ثم يأتي آخر ويرد على رده، ثم يأتي آخر فيرد على رد رده، وهكذا حتى يكون هذا شغلهم الشاغل.

فما كانت هذه طريقة السلف، نعم الرد على المخالف في العقائد أصل من أصول أهل السنة والجماعة، أما في الفروع فإنهم يذكرونها كيفما اتفق، يعني: ما يهتمون فيها، ولا بأس أن يؤلف الإنسان كتاباً مرة، لكن لا يتعب نفسه في الرد على فلان وإذا رد عليه شخص فلا يرد عليه أيضاً.

يقول الشافعي رحمه الله: ولو أردت أن أرد على كل قائل مقالته لاستطعت، ولو أردت أن أرد على كل قائل مقالة في كتاب لاستطعت، ولكن هذا ليس من هديي ولا من طريقتي؛ لأنك تكون في شغل، فيكون ذهنك منصب على هذه المسألة فلا تصلي إلا وأنت تفكر في المسألة، ولا تمشي إلا وأنت تفكر بهذه المسألة، ثم تجمع وتتعب، وهي مسألة بسيطة جداً.

ولهذا يا إخوان! بهذه تجدون الذين يهتمون بالتأليف وقت الصغر يحرمون التأصيل حال الكبر؛ لأنهم انشغلوا بالتأليف، فربما عرفوا المسائل الكبار وخفيت عليهم، وأهل العلم كانوا يتعلمون صغار العلم قبل كباره، وكلما كان العلم بهذا الترقي كلما كان ذلك أبعد عن التكلف، وأقرب إلى مجانبة الهوى؛ ولهذا أخذ السلف بنصيب وافر من قول الله تعالى: كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ [آل عمران:79]، قال البخاري : الرباني الذي يعلم صغار العلم قبل كباره.

الأمر الأول: لأنهم أعلم هذه الأمة، فهم فوقنا في كل علم وفقه ودين وهدى، ورأيهم لنا خير من رأينا لأنفسنا، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله؛ ولهذا يقول ابن مسعود : من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات، أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانوا والله أفضل هذه الأمة وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

قال ابن تيمية : ولم يتنازع أهل العلم والإيمان فيما استفاض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم )، قال: وكل من له لسان صدق ممن هو مشهور بالعلم أو الدين معترف بأن خير هذه الأمة هم الصحابة، وأن المتبع لهم أفضل من غير المتبع لهم، ولم يكن في زمنهم أحد من هذه الصنوف الأربعة، يعني: (قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) قال: ولا تجد إماماً -هذا يا إخوان مهم جداً- في العلم والدين كـمالك بن أنس و أبي حنيفة و الثوري و الشافعي و أحمد بن حنبل و إسحاق ، ومثل الفضيل و أبي سليمان الداراني و معروف الكرخي وأمثالهم إلا وهم مصرحون بأن أفضل علمهم ما كانوا فيه مقتدين بعلم الصحابة، وأفضل عملهم ما كانوا مقتدين فيه بعمل الصحابة، وهم يرون أن الصحابة فوقهم في جميع أنواع وأبواب الفضائل والمناقب، والذين اتبعوهم من أهل الآثار النبوية، وهم أهل الحديث والسنة، العالمون بطريقتهم المتبعون لها، وهم أهل العلم بالكتاب والسنة في كل عصر ومصر.

وقد بين أبو العباس بن تيمية أن أهل الحديث ليسوا هم الذين يهتمون بعلم الرجال كما يظن كثير من الناس، بل إن أهل الحديث هم الذين يعتمدون في أقوالهم على مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه، ولو كانوا غير مهتمين بعلم الرجال، كما ذكر ذلك في القواعد النورانية؛ ولهذا قال: فـمالك بن أنس من أهل الحديث، و الشافعي من أهل الحديث، و الأوزاعي من أهل الحديث، و أبو محمد بن قدامة من أهل الحديث؛ لأنهم كانوا يعتمدون في أقوالهم بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبما ثبت في كتاب الله جل جلاله وتقدست أسماؤه.

إذاً: كل من جاء بعد الصحابة يعرف فضلهم وعلمهم، بل -وهذه نقطة مهمة- إنهم يتركون القياس فيما يرونه في أنفسهم صحيحاً؛ لأجل مخالفة قول الصحابة، حتى أبو حنيفة رضي الله عنه ورحمه كان يترك القياس إذا علم أن الصحابي الفقيه قد صح عنه خلاف قوله.

يقول ابن تيمية : وحاشا الأئمة أن يخالفوا قول الله أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم كيف و أبو حنيفة رحمه الله يترك القياس لأجل مخالفة قول الصحابة، فرأى الوضوء من النبيذ؛ لأنه بلغه عن إبراهيم النخعي عن أصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود أنه كان يتوضأ بالنبيذ، مع أنه يخالف القياس، والرواية عن ابن مسعود فيها كلام، ولا تصح عنه بسند صحيح، ومع ذلك ترك أبو حنيفة القياس لأجل قول الصحابي، فهذا يدل على أنهم يعلمون ويقرون بعلم الصحابة وفضلهم.

فإذا ثبت لك أن الصحابة هم أعلم الأمة، فإنه أحرى بطالب العلم الذي يريد معرفة الحق ومعرفة مراد الله ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم إذا عرف قول صحابي وعرف صحة الإسناد إليه أن يتشبث به؛ لأن الصحابة -وهذه نقطة مهمة -أيها الإخوة- كما قلت: لم تتأثر أقوالهم بطبيعتهم مثل تأثر من جاء بعدهم، وأيضاً تجد أن كل إمام من أئمة المذاهب المتبعة قد بنى قولاً من أقواله على واقع بلده؛ ولهذا يقولون: عندما ضاعت الأمانة رووا حديث الفساق، أو قبلت شهادة الفساق.

أيضاً تجد أنهم أحياناً يذكرون المصالح المرسلة، وأحياناً يأتون بسد الذرائع، وأحياناً يأتون بما يسمى بما جرى عليه العمل، وأحياناً يأتون بما يسمى بالاستحسان، وأحياناً يأتون بما يسمى بالاستصحاب، كل هذه القواعد ربما أن الصحابة لم يكن اهتمامهم كثيراً بها، فأنت إذا أخذت قول الصحابي خاصة في هذا الزمان الذي أصبح العالم فيه قرية واحدة كان الاهتمام بقول الصحابي أولى من الاهتمام بأقوال الأئمة المتبع أقوالهم، وإن كان هؤلاء الأئمة الكبار كل واحد مدرسته مبنية على قول صحابي، فـأبو حنيفة مدرسته مبنية على قول عبد الله بن مسعود فإنه أخذ العلم عن حماد بن أبي سليمان و حماد عن إبراهيم النخعي و إبراهيم النخعي عن أصحاب ابن مسعود وأصحاب ابن مسعود عن ابن مسعود ، وابن مسعود لا يكاد يخرج عن قول عمر ، ولهذا عدت المسائل التي خالف فيها ابن مسعود قول عمر بالأصابع، وباقي المسائل تجد أن ابن مسعود يوافق فيها قول عمر .

إذاً كان الأئمة منهم يتبعون علماء الصحابة فكانوا أعلم، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله و ابن حزم : ولا يكاد ابن عمر يقول قولاً فيما لم يجده في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وقد أخذه من زيد بن ثابت .

وإذا كان هذا الأمر كذلك فإنه يدل على أنهم يسيرون على مدرسة.

ومالك مدرسته مدرسة أهل المدينة، كـابن عمر و الزهري ومن كان في المدينة.

والشافعي كان يسير على مدرستين: مدرسة زيد بن ثابت ، ومدرسة ابن عباس ؛ لأنه تتلمذ على أهل الحجاز في مكة.

و أحمد بن حنبل رحمه الله تتلمذ على فقه آثار السلف، يقول ابن تيمية : ولهذا لا يكاد يوجد لـأحمد قول انفرد فيه عن الأئمة إلا والحق في الغالب لا يخرج عن قوله؛ لأنه متبع لآثار من جاء قبله، وهذا فقه عظيم يا إخوان! ولهذا تجدون أن الإمام أحمد رحمه الله أقعد أصحاب المذاهب في باب المعاملات المالية؛ لأنه أخذ مدرسة مالك بن أنس التي أخذها عن سعيد بن المسيب، وزاد عليها آثار من جاء بعده، فكان فقه أحمد أولى؛ ولهذا نجد -كما سوف يأتي إن شاء الله- أن الشروط في البيوع، أو الشروط في العقود جمهور الفقهاء يمنعونها في الجملة، و أحمد يجوزها على روايتين:

الرواية الأولى: جوز شرطين ومنع الباقي، والرواية الثانية: جوز جميع الشروط إذا لم تخالف الكتاب والسنة، وهو اختيار ابن تيمية و ابن القيم ، وهو قول عمر بن الخطاب : مقاطع الحقوق عند العقود، وكذلك قول ابن مسعود و ابن عباس .