كتاب الزكاة [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد, وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [ حكم من منع الزكاة ولم يجحد وجوبها ]، يعني: منعها بخلاً وهو يعتقد أنها واجبة, فما حكم هذا؟

قال: [ فذهب أبو بكر رضي الله عنه إلى أن حكمه حكم المرتد, وبذلك حكم في مانع الزكاة من العرب، وذلك أنه قاتلهم وسبى ذريتهم, وخالفه في ذلك عمر رضي الله عنه، وأطلق من كان استرق منهم, وبقول عمر قال الجمهور ]، ومنهم الأئمة الأربعة قالوا: إذا كان لم يجحد وجوبها فهو فاسق مرتكب كبيرة.

[ وذهبت طائفة إلى تكفير من منع فريضة من الفرائض, وإن لم يجحد وجوبها ] أي أن طائفة من العلماء قالوا: من ارتكب كبيرة سواءً كانت تلك الكبيرة ارتكاباً لمنهي عنه كالزنا، أو كانت تركاً لمأمور به كالصلاة، أو أي شيء من الكبائر؛ فإنه يكون كافراً, وهؤلاء انقسموا إلى قسمين:

قسم قالوا: إنه كافر في الدنيا والآخرة، ومخلد في النار.

والقسم الآخر قالوا: هو بين منزلتين؛ منزلة بين منزلتي الإيمان والكفر، ولكنه مخلد في النار يوم القيامة.

فهذا المذهب هو مذهب الخوارج الذين يقولون: هو كافر في الدنيا ومخلد في النار في الآخرة, والذين يقولون: هو بين منزلتين بين الإيمان والكفر ومخلد في النار هم المعتزلة, لأنهم يقولون: إن العمل شرط في الإيمان؛ فمن ارتكب معصية فقد خرج من الإيمان, وهؤلاء أخذوا بجانب من أدلة الشريعة وأغفلوا الأدلة الأخرى.

أدلة الخوارج والمعتزلة في تخليد أهل المعاصي في النار

فمما أخذوا به قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن, ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )، فقالوا: الحديث هذا يدل على خروجه من الإيمان؛ بارتكاب المعاصي.

ومن الأدلة التي استدلوا بها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )؛ فقالوا: هذا يدل على أن مرتكب المعاصي مخلد في النار, وكذلك مما استدلوا به آية القتل, وذكر فيها أنه مخلد في النار، فهذه هي أدلتهم.

ولكن أهل السنة ردوا عليهم, وقالوا: إنهم أخذوا بجانب من أدلة الشرع وتركوا الجانب الآخر، وكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تبين الأدلة العامة والمجملة وترد مذهب المعتزلة والخوارج.

أدلة أهل السنة والجماعة على دخول أهل المعاصي الجنة

أما كتاب الله فهو أن الله سبحانه وتعالى قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا [فاطر:32]، يعني: أُورث القرآنَ المصطفون من الخلق, ثم ذكرهم فقال: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ[فاطر:32]، ثم قال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [الرعد:23]؛ فقال: إن الثلاثة كلهم يدخلون الجنة, وإن كان الأول وهو الظالم يدخل تحت المشيئة, فقوله: ((يَدْخُلُونَهَا)) عام للثلاثة، فقوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا[فاطر:32]؛ قد يقال: كيف يقال للظالم: إنه مصطفى؟! فالجواب أن الظالم اصطفاه الله من الكافرين, والمقتصد وهو الذي لديه حسنات وسيئات، فهذا اصطفاه الله من الظالمين، والسابق بالخيرات وهو الذي غلبت حسناته سيئاته فاصطفاه الله من المقتصدين.

ثم قال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [الرعد:23]، فالواو في قوله: ((يَدْخُلُونَهَا)) عامة للثلاثة الأصناف وهذه الآية تسمى أرجى آية في كتاب الله, ويحق أن تكتب هذه الواو بماء العين وذلك لأن الضمير في (يدخلونها) عائد إلى الثلاثة, وقدم الظالم؛ حتى لا يحزن، وأخر السابق بالخيرات حتى لا يُعجب بعمله، فهذه الآية تدل على أن الجنة محل للمؤمنين ولو كان فيهم الظالم والمقتصد والسابق بالخيرات.

ثم هناك آيات أخرى دلت على أن الكافرين لا يقام لهم يوم القيامة وزناً, ويكبكبون إلى النار وأن المؤمنين لا بد أن يقام لهم الوزن, وكونه يقام لهم الوزن؛ فلا بد أن توزن الكبائر والصغائر والأعمال الصالحة.

أقسام الناس في الميزان يوم القيامة

والناس في الميزان يوم القيامة على أربعة أقسام:

القسم الأول: من ثقلت موازينه من المؤمنين فهو في الجنة؛ بإخبار الله، وهذا الخبر لا يتخلف وعد الله لا يخلف الله وعده, فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:6-7].

والقسم الثاني: من استوت سيئاته وحسناته يوم القيامة في الميزان، فعدل الله يقتضي ألا يدخل النار, ورحمته تقتضي أن يدخل الجنة؛ فيعامل بعفوه وعدله، فعدله لا يُدخله النار، وعفوه يدخله الجنة.

والقسم الثالث: من كثرت سيئاته على حسناته, فهذا يدخل في قوله تعالى: إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]؛ فهذه الآية تدل على أن المؤمن الذي لديه حسنات وسيئات, وزادت سيئاته على حسناته, أنه تحت المشيئة؛ فإن شاء عذبه وإن شاء غفر له, وأن العذاب يوم القيامة إنما هو لأجل أن يطهر بالنار؛ إذ أنها آخر المطهرات للمؤمن, والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب؛ ولهذا الملائكة تبشر الطيبين سواء خرجوا طيبين في الدنيا أو من القبر أو من المحشر أو على الصراط, إذا طاب الإنسان بشرته الملائكة بدخول الجنة, وإذا لم يطب دخل النار وبشرته بعد خروجه من النار بأنه من أهل الجنة.

إذاً: المؤمن من أهل الجنة, وإن دخل النار فهو من أهل الجنة؛ لأنه لا يدخلها إلا للتطهير فقط, وليست النار محل سكن للمؤمنين، فمسكنه هي الجنة.

وكذلك الآيات القرآنية تبين أن مرتكب الزنا حده الجلد، وشارب الخمر حده الجلد، ولو كان كما تقول المعتزلة والخوارج لكان حده القتل.

فهذا يدل على بطلان مذهب الخوارج والمعتزلة, وهذا من القرآن.

أما من السنة فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( من قال: لا إله إلا الله نفعته يوماً من الدهر ), فلا بد من أن يخرج من النار, وفي الحديث الآخر الذي أخرجه البخاري عن أبي ذر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة. قال أبو ذر : وإن زنى وإن سرق, قال: وإن زنى وإن سرق, قال: وإن زنى وإن سرق, قال: وإن زنى وإن سرق وعلى رغم أنف أبي ذر )، فهذا يدل على أن مرتكب الكبيرة إذا كان موحداً سيئول أمره إلى دخول الجنة, ودلت أحاديث أخرى في الصحيحين على أنه ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ), ( ومثقال خردلة من إيمان ) ( ومثقال ذرة من إيمان ), فهذه أحاديث تدل على أن الإنسان إذا كان مؤمناً ولكنه ارتكب الكبائر، ومات ولم يتب منها فإنه لا بد وأن يخرج يوماً من الدهر من النار ويدخل الجنة، فهو من أهل الجنة وليس من أهل النار؛ لأن النار إنما دخلها عقوبة وتطهيراً، وأما مسكنه الذي هو دار الخلود فإنه الجنة.

وكذلك يقال: لو أن إنساناً من الحديدة ونقل إلى سجن في صنعاء، فسئل وقيل له وهو في صنعاء: أأنت من أهل صنعاء؟ فسيقول: لا! لست من أهل صنعاء، إنما أنا من أهل الحديدة؛ فالمؤمن إذا قيل له: أنت من أهل النار؟ فيقول: لا! أنا من أهل الجنة, وما النار إلا تطهير كما يقول علماء الطب: آخر الدواء الكي, كما نقول الآن: آخر العلاج العملية.

أقسام النجاسات عند علماء التزكية

وقد قال علماء التزكية: إن هناك مطهرات للذنوب, وإن الذنوب هي بمنزلة النجاسة المعنوية، والنجاسة من حيث هي تنقسم إلى قسمين: نجاسة معنوية ونجاسة حسية, وكل منها ينقسم إلى قسمين فالمجموع أربعة أقسام.

فالنجاسة الحسية مثل البول والغائط، ومثل الكلب والخنزير والخمر.

قسما النجاسة الحسية

والنجاسة الحسية تنقسم إلى قسمين: نجس الذات ومتنجس الذات، فنجس الذات لا يطهر إلا بالاستحالة بأن ينقلب من صفة إلى صفة أخرى, أما المتنجس الذي أصله طاهر، فإن له مطهرات تسمى: مطهرات الإزالة, وهي كثيرة منها: الماء، ومنها الريح، ومنها الجفاف، ومنها التراب.. إلى غير ذلك، فالكلب والخنزير والخمر لا تطهر إلا بالاستحالة،ااا أي: أن يستحيل من صفة إلى صفة أخرى، ولو أن كلباً ميتاً رمي في مملحة وجاء عليه الدهر فأصبح ملحاً؛ فإنه لا يقال: إنه كلب، بل يقال: إنه ملح, فيصير طاهراً.

ومثله الخنزير، وكذلك الخمر إذا استحال وصار خلاً؛ فإنه يكون طاهراً؛ لأنه صار خلاً؛ ولهذا قال بعض العلماء:

وما شيء إذا فسدا تحول غيه رشدا

زكي الأصل والده ولكن بئس ما ولد

يعني به الخمر, وما شيء إذا فسد، يعني: صار خلاً، تحول غيه رشداً, زكي الأصل والده: العنب, ولكن بئس ما ولد، وهو الخمر ؛ إذاً الخمر يطهر بالاستحالة والثوب يطهر بالغسل.

قسما النجاسة المعنوية

وأما النجاسة المعنوية فتنقسم إلى قسمين:

نجاسة ذات، ومتنجس؛ فالكافر نجس العين فلا يطهر إلا بالاستحالة, ... أنوهو: انتقاله من الكفر إلى الإيمان وشهادة أن لا إله إلا الله؛ فالتوبة تسمى مطهرات الاستحالة, تطهر الكافر وتطهر المؤمن فإذا أسلم الكافر فلا يقال له: كافر, وإنما يقال له: مؤمن, وكذلك الفاسق لا يقال له: فاسق، وإنما يقال له: تائب وصالح وطيب، ولا يقال له: أنت فاجر؛ لأنه استحال من صفة إلى صفة, إذاً الكافر لا تطهره إلا الاستحالة وهي دخوله الإسلام، أما النار فلا تطهره بل هي عذاب وعقوبة له: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا[النساء:56].

كفارات ذنوب المؤمن في الدنيا والآخرة

أما المؤمن فله مطهرات ذكرها علماء التزكية, فقالوا: من مطهرات المؤمن كما في الأحاديث الصحيحة والآيات الكريمة أنه من كثرت حسناته على سيئاته؛ فإنه يكون طيباً تقول له الملائكة عند الموت: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]؛ وذلك أن المعصية في مقابل تلك الحسنات ما هي إلا كقطرة بول في قربة من ماء.

الثاني من المطهرات: من كثرت عليه في الدنيا المصائب حتى أتت على ذنوبه فكفرتها؛ فهذا الرجل يطهر في الدنيا وتأتيه الملائكة وتقول له: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، حتى الشوكة يشاكها تنقص من ذنوبه, فإن لم يطهر بكثرة الحسنات ولا بما ابتلي به من المصائب في الدنيا؛ فشرع الله صلاة الجنازة؛ لتخفف عنه من تلك الذنوب، أو لتمحوها، لذا كان من حكمة الله أن المكفرات الدنيوية تنتهي بالصلاة, فإن بقيت بعض الذنوب على العبد فهناك عذاب القبر قد يطهره ويخرج منه فتقول له الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، ولكن إذا لم يخرج من عذاب القبر ويطهر بما أصابه من عذاب القبر فهناك يوم المحشر مقداره خمسون ألف سنة، فيعامل الناس فيه على وفق أعمالهم ( فالمتكبرون يحشرون كأمثال الذر ) والذين يأكلون أموال الناس، ولا يخرجون الزكاة تطاردهم تلك الأموال ثعابين، حتى تعلوا على رقابهم، ثم تقرصهم خمسين ألف سنة؛ فإن طهروا بذلك تلقتهم الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، وإن لم يطهروا فهناك الميزان، وهناك كتب الأعمال، وهناك الصراط، فيمشون على الصراط على قدر أعمالهم، فمنهم من يمشي كالبرق ومنهم من يمشي كأسرع خيل, ومنهم من يمشي على رجليه ومنهم من يمشي على يديه ورجليه ويحبوا حبواً, ومنهم من يكبوا ومنهم من تتخطفه الكلاليب, من هاهنا وهاهنا، ومرة يصرع على الصراط حتى يكاد أن يسقط، ولكنه يتمسك بالصراط حتى يخرج، فيقول: الحمد لله الذي جعلني من أسعد عباده، ومنهم من يسقط على الصراط، يتساقطون عن اليمين وعن الشمال وينزلون في النار، فإذا نزلوا في النار قال في الحديث الصحيح: ( أكلتهم النار.. ) كما في الحديث الآخر: ( حتى يصيروا فحماً )، ثم بعد ذلك ( يمكثون في النار ما شاء الله أن يمكثوا حتى يتطهروا من ذنوبهم بالنار، كما يطهر الذهب والفضة من الخبث بالنار، ويخرجون إلى نهر الحياة وينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل)، ومن هنا تتلقاهم الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، فيدخل أهل الجنة الجنة, ويناديهم الله: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ [المؤمنون:112- 113], يقول: نعم ما لبثتم زمناً يسيراً عملتم فيه بطاعتي، وجازيتكم برضائي رضىً، لا أسخط عليكم بعده أبداً، يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ثم ينادي أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون فيها ولا يحيون: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ [المؤمنون:112] قالوا: لبثنا يوماً أو بعض يوم قال: بئس ما لبثتم زمناً يسيراً، عملتم فيه بمعصيتي فجازيتكم غضباً لا أرضى عليكم بعده أبداً، يا أهل النار! خلود فلا موت.

الرد على المعتزلة والخوارج في كون مرتكب الكبيرة خالداً في النار

يبقى ما استدل به المعتزلة والخوارج وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، فقالوا: نفى عنه الإيمان، فما الجواب عليه؟

الجواب عليه أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطبنا باللغة العربية، وبالأساليب العربية التي نفهمها نحن، ونتعامل بها فيما بيننا صباح مساء, فمن الأساليب العربية أنك إذا ما نفيت عن شخص صفة فقد تنفيها وتريد نفي الكمال لا نفي الأصل, وذلك أنه إذا كان هناك رجلان يتعاطيان عمل النجارة، وكان أحدهما كاملاً بالنجارة والآخر ليس بكامل؛ فسئلت، فتقول: فلان نجار, وفلان ليس بنجار, أي: ليس بكامل في النجارة, فمعنى الحديث: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ), أي: لا يزني وهو كامل الإيمان؛ لأن كمال الإيمان يتصارع مع الشيطان والشهوة فيغلبها, أما إذا ضعف الإيمان فيتصارع مع الشهوة والشيطان؛ فيُغلب ويرتكب المعصية, ولكن المؤمن وإن غلب من الشيطان والشهوة؛ ففي بعض الحالات يأتي ويعقد صلحاً مع الشيطان والشهوة؛ حتى لا يتجاوز الذنب الكبير, فمثلاً عندما يطلب الشيطان منه الزنا يأتي الإيمان فيقول: نخففه نخففه لا يكون زنا! الزنا كبير! دعه يكون قُبلة ويكون كذا ويكون كذا، فيخفف تلك المعصية, وهذا نتيجة ما لديه من الإيمان؛ فإخوة يوسف خرجوا وهم مصرون على قتله, أليس كذلك؟ ولكن جاء الإيمان: قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ [يوسف:10]، فخفف تلك المعصية من القتل إلى أن يلقى في الجب، فهذا نتيجة الإيمان.

وكذلك من نتائج الإيمان على أنه إذا كانت الشهوة عارمة، وغلبت ذلك الإيمان وصرعته ثم انقضت الشهوة فبعد انقضائها ينتبه الإيمان ويستيقظ ويؤنبه وكذا مع هذا الرجل يقول له: ما كان ينبغي لك أن تعمل هذه المعصية لا بد أن تتوب وكذا وكذا.. فيأتي ويؤنبه, ولهذا في الحديث ( من أساءته معصية وسرته حسنة فذلك المؤمن ), ولهذا قد يعزم على التوبة كما قال إخوة يوسف : وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ [يوسف:9]، عزموا على التوبة.

إذاً الحديث معناه: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) أي: ليس بكامل الإيمان, وهذا هو القول الصحيح.

كذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )، يعني: على أنه لا يتصور على أن تكون تلك القذارة موجودة في قلبه ولم تطهر بالمطهرات الصادقة فيدخل الجنة بها, بل لا بد أن تطهر ولو بالنار؛ حتى تقول له الملائكة: سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73]، هذا هو مذهب أهل السنة , والاستدلال لمذهبهم، والرد على مذهب المعتزلة والخوارج .

معنى الإيمان عند أهل السنة والمعتزلة والمرجئة

قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم هل اسم الإيمان الذي هو ضد الكفر ينطلق على الاعتقاد دون العمل، فقط أو من شرطه وجود العمل معه ] فقالت المعتزلة: من شرط الإيمان وجود العمل معه, [ ومنهم من رأى أن من شرطه وجود العمل معه ] وهم من الخوارج والمعتزلة, [ ومنهم من لا يشترط ذلك ], وهنا فرقة أخرى على طرفي نقيض مع المعتزلة والخوارج, ليست من أهل السنة، ولكنهم مخالفون تماماً لأهل السنة وللمعتزلة والخوارج, وهم من أشر الفرق يسمون: بالمرجئة, وهؤلاء يقولون: الإيمان التصديق في القلب فقط, ولو لم ينطق معه صاحبه بشهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمداً رسول الله, ولم يفعل أي خير، ولكنه مصدق بقلبه بهذه الرسالة، أو بوحدانية الله فهو مؤمن كامل الإيمان, ويقولون: كما أنه لا ينفع مع الكفر طاعة؛ فلا يضر مع الإيمان معصية، هذه من قواعدهم، ويستدلون ببعض الأحاديث, مثل حديث: ( من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق, وإن زنى وإن سرق ).. إلى غير ذلك؛ فيأخذون جانباً من أدلة الشريعة، ويتركون الجانب الآخر فيقعون في هذا الخطأ, فالمعتزلة أخذوا جانباً، وهؤلاء أخذوا جانباً ولم يجمعوا بين الأدلة.

الرد على مذهب المرجئة من الكتاب والسنة

والرد على هؤلاء المرجئة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:

أما من كتاب الله فهو قول الله سبحانه وتعالى, في حق عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي طالب : إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56] مع أنه كان مصدقاً بقلبه برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال في ذلك:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا

والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا

فلم ينفعه التصديق بالقلب بدين الإسلام؛ لأنه لم يقل: لا إله إلا الله, وقال لولا الملامة وكذا.. لقال: لا إله إلا الله، وكذلك قال الله في فرعون : وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا [النمل:14]، يعني كان جحودهم؛ لأجل الظلم والعلو وليس لأجل التكذيب، فكذلك حكم عليهم بأنهم من أهل النار، فهؤلاء المرجئة يرد عليهم كتاب الله وترد عليهم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، التي فيها كثير من الأحاديث تدل على أن من عمل كذا من المؤمنين فجزاؤه كذا، ومن عمل كذا فجزاؤه كذا, والتفاضل بين المؤمنين، ويرد على قولهم: من صدق بقلبه ولم ينطق بالشهادة فهو كامل الإيمان هذا الحديث: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, ويؤمنوا بي )، وفي رواية: ( حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، فإن قالوها فقد عصموا دماءهم وأموالهم، وحسابهم على الله )، والمرجئة تقول: لا يضر مع الإيمان معصية.

طرفا النقيض في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله

إذاً: نحن الآن بين أناس بعضهم قد يسخر أقلامه للباطل ويغلبها الهوى, ولكن ينبغي ألا يغلبها الهوى، ينبغي أن يعودوا إلى أقوال العلماء الصادقين والدعاة المخلصين والمجتهدين والمجددين, وينظروا ماذا قالوا في تلك الأحكام، نرى الآن جماعة يتساهلوا باسم الحكم بغير ما أنزل الله، ويقولون: الحكم بغير ما أنزل الله ليس بكفر، وينكرون على من يقول الحكم بغير ما أنزل الله كفر, ونرى جماعة أخرى يتشددون ويحكمون على الأعيان بأن من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، ويكفرون الشعوب كلها، وهذا كله تساهل وجري وراء الأهواء، فهؤلاء الذين يقولون: إن الحكم يغير ما أنزل الله ليس بكفر؛ فإنهم يكونون أشبه شيء بالمرجئة ، والذين يحكمون على الناس كلهم بأنهم كفار، أشبه شيء بالخوارج.

التفريق بين إطلاق الحكم العام وبين تنزيله على الأفراد

وإذا نظرنا إلى كتب ابن تيمية , وهناك كتاب الطريق إلى الجماعة الأم، قد لخص في هذا الموضوع كلاماً كثيراً للإمام ابن تيمية ، وذكر أن الحكم بما أنزل الله، وأن المعاصي التي حكم الله عليها أنها كفر نطلق عليها كفر، فنقول: من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر، ولكن التعيين والحكم على الأشخاص هذا أمر يناط بالحاكم الشرعي ولا يناط بالدعاة, فلا يقال: فلان كافر! يقتل، فهذا ليس من واجب الداعي إلى الله والكاتب؛ لأن هذا الحكم لا بد فيه من وجود الأمور المثبتة له وانتفاء الموانع عنه ومن ثم يصدر الحكم الشرعي في كفر فلان, وفلان؛ ولهذا ألف الإمام الهضيبي كتاباً سماه: دعاة لا قضاة؛ فإذاً نحن لا نكفر الأشخاص, ولا نقول: فلان كافر ولكن نقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، والحكم بغير ما أنزل الله هو الكفر, لكن فلاناً يمكن أن يكون صدر الحكم منه بغير ما أنزل الله عن اعتقاد, وإنما صدر عن محاباة لقرابة, أو صدر عن طمع في مال أو عن رغبة في منصب, وهو يعتقد أنه مخطئ ومجرم وعاصٍ لله سبحانه وتعالى؛ فلهذه الموانع لا نستطيع أن نحكم على الشخص ذاته بأنه كافر، ولكن نقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، ولا نستطيع أن نقول إنه مؤمن بل نسكت عنه، كنا ندرس هذه الآية زمن طغيان جمال عبد الناصر ، وزجه للإخوان سيد قطب وغيره في السجون، وزمن إشعاله الحرب في اليمن. فدرسنا الشيخ الشنقيطي : وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، وقعد يشرحها ويبين معانيها, فانتصب طالب وقال: يا شيخ! مثال ذلك جمال عبد الناصر ؟ يريده أن يمثل بـجمال عبد الناصر , فماذا قال الشيخ؟ وإن كان جمال عبد الناصر قد ارتكب أشياء مكفرة؛ إذ قيل عنه: إنه ادعى النبوة أو كذا، فقال: أنا لم آت في هذا الفصل لأقيم الأشخاص وإنما لأشرح كتاب الله, أو لأفسر كتاب الله، فهكذا لا يجوز التهجم على الناس، ونقول: فلان كافر وفلان كافر.. لا، ولكن نقول: إن الدولة إذا لم تحكم بما أنزل الله، وقدمت القوانين الوضعية؛ فهذا كفر، ولكن إذا أردنا أن نقول: إن الرئيس الفلاني كافر مخلد في النار! فلا نستطيع هذا؛ لأنه يجوز أن يكون ذلك الرئيس يعتقد وجوب حكم ما أنزل الله، ولكنه يخاف على الكرسي، وذلك لأن أمريكا ستدبر له انقلاباً في اليوم التالي، إذاً هذا القول الراجح في ذلك أن نعطي الأحكام الشرعية مقتضاها وأما التعيين فيناط بالقضاة.

الأعمال التي توجب كفر فاعلها مطلقاً

إلا أن هناك أشياء أجمع العلماء على أنها مخالفة وأن فاعلها كافر، فمن الكفر ما يكون عملياً يكفر فاعله بمجرد الفعل ولا نقول: لعله اعتقاد، فهذا لا نبحث عن اعتقاده ونحكم على الشخص بأنه كافر, فلو رأينا إنساناً يذهب ويسجد لصنم من دون الله فلا نقول: يمكن أن هذا لا يعتقد هذا الفعل بل نحكم عليه بالكفر؟!

ومثل من يسب الله والرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا لا نقول: لا بد فيه من اعتقاد؟.. لا، بل يكفر بمجرد السب، ومثل من يأخذ المصحف ويلطخه بالقاذورات فلا نقول: لا بد فيه من اعتقاد؟ بل هؤلاء مرتدون.

فكذلك من صدر منه شيء لا يقبل إلا أن يكون ردة؛ فهذا لا يصح أن نقول لعل هناك موانعاً ولكن نحن نتكلم في شيء يحتمل أن يكون فيه موانع، كما قال ابن عباس في الحكم بغير ما أنزل الله: كفر دون كفر.

هذا حكم عام، أما من تكون عقيدته فاسدة مثل النصيرية, فقد قال ابن تيمية : إنهم أشد كفراً من اليهود والنصارى, وذكر معتقداتهم وأنهم يعتقدون ألوهية علي إلى غير ذلك, والدروز كذلك، فهؤلاء عقيدتهم باطلة، والذي هذه عقيدته فهو كافر بها.

أدلة المعتزلة والخوارج والمرجئة في معنى الإيمان والرد عليهم

قال: [ فمن شبه سائر الأفعال الواجبة بالقول قال جميع الأعمال المفروضة شرط في العلم الذي هو الإيمان ] وهم الخوارج والمعتزلة, [ ومن شبه القول بسائر الأعمال التي اتفق الجمهور على أنها ليست شرطاً ] مثل أن نقول: الجمهور يقولون: إن العبد لا يكون مسلماً إلا إذا قال: لا إله إلا الله, فتقول المرجئة: لا، شهادة أن لا إله إلا الله تشبه سائر الأعمال، فلا يشترط أن يقول: لا إله إلا الله لكي يكون مؤمناً [ ومن شبه القول بسائر الأعمال التي اتفق الجمهور على أنها ليست شرطاً في العلم الذي هو الإيمان, قال: التصديق فقط هو شرط الإيمان، وبه يكون حكمه عند الله حكم المؤمن والقولان شاذان ] يعني قول الخوارج والمعتزلة وقول المرجئة.

[ واستثناء التلفظ بالشهادتين من سائر الأعمال هو الذي عليه الجمهور ] جمهور أهل السنة والجماعة؛ ولهذا نقول: قول الجمهور هو الراجح؛ ويدل عليه حديث أبي هريرة يرفعه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله, فمن قال لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله )، فالخلاصة أن تارك الزكاة لا يكفر إلا إذا جحدها وقتال أبي بكر لهم لأنهم جحدوا وجوبها.

فمما أخذوا به قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن, ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )، فقالوا: الحديث هذا يدل على خروجه من الإيمان؛ بارتكاب المعاصي.

ومن الأدلة التي استدلوا بها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )؛ فقالوا: هذا يدل على أن مرتكب المعاصي مخلد في النار, وكذلك مما استدلوا به آية القتل, وذكر فيها أنه مخلد في النار، فهذه هي أدلتهم.

ولكن أهل السنة ردوا عليهم, وقالوا: إنهم أخذوا بجانب من أدلة الشرع وتركوا الجانب الآخر، وكتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم تبين الأدلة العامة والمجملة وترد مذهب المعتزلة والخوارج.