كتاب أحكام الميت [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده رسوله, اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد, وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

فقال المصنف رحمه الله: [الباب الرابع في صفة المشي مع الجنازة], سبق أن رجحنا اعتماداً على ما ذكره ابن رشد وعلق عليه حلاق , أن الراكب يمشي أمام الجنازة , ولكنا رجعنا إلى أصول مخرج الحديث من الأمهات فوجدنا أن لفظ الحديث: (الراكب يسير خلف الجنازة)، هذا لفظ، وفي لفظ آخر: (الراكب خلف الجنازة), وراجعناه في المصادر فوجدنا على أن ما في كتاب ابن رشد لم يوجد في المصادر, ونظرنا إلى تعليق حلاق فكأنه أخذه من كتبه السابقة التي بحث فيها الحديث, وهنا ما هو إلا أن رأى الحديث, ولم يراجعه على الأصول، فأخذ تعليقاته وكتبها عليه من دون أن يراجع الحديث على الأصول, فكان منه إقراراً لهذا الخطأ, ولهذا رأينا أن نعلق على ما كتبناه أولاً على قوله: [أنه يجوز المشي أمام الجنازة وخلفها, وعن يمينها وعن يسارها, على أن يكون قريباً منها, إلا الراكب فيسير خلفها] بعد كتابة هذا الترجيح رجعنا إلى الحديث في الأصول, فوجدناه كالآتي:

أولاً: بلفظ: (الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي حيث شاء؛ خلفها, وأمامها، وعن يمينها, وعن يسارها, قريباً منها), وهذا اللفظ الأول, أخرجه أبو داود في الجزء الثالث صفحة خمسمائة واثنتين وعشرين, الحديث رقم ثلاثة آلاف ومائة وثمانين, و أحمد في الجزء الرابع صفحة مائتين وثمان وأربعين, ومائتين وتسع وأربعين, بلفظ: (الراكب خلف الجنازة, والماشي حيث شاء منها), وأخرجه الترمذي , في الجزء الثالث، صفحة ثلاثمائة وتسع وأربعين, و أحمد في الجزء الرابع، صفحة مائتين وسبع وأربعين.

نعم. و ابن ماجه في الجزء الرابع، صفحة مائتين وخمس وسبعين, هذا ما وجدناه في الأصول, و حلاق لم يتنبه في البداية لمخالفة الأصول عند تخريجه للحديث, فلعله نقل التخريج من كتبه التي سبق أن خرج الحديث فيها, ولم يقارن لفظ الحديث هنا بلفظه في الأصول المخرج فيها, فحصل منه هذا الخطأ، وهذا شأن كل إنسان، والكمال المطلق لله, وعلى ما تقرر فالراجح في المسألة أن الراكب يسير خلفها.

[الباب الخامس: في صفة الصلاة على الجنازة, وهذه الجملة يتعلق بها بعد معرفة وجوبها فصول:

أحدها: في صفة صلاة الجنازة.

والثاني: على من يصلي, ومن أولى بالصلاة.

والثالث: في وقت هذه الصلاة.

والرابع: في مواضع هذه الصلاة.

والخامس: في شروط هذه الصلاة.

الفصل الأول: في صفة صلاة الجنازة, وأما صفة صلاة الجنازة فإنها يتعلق بها مسائل ]:

قال: [ المسألة الأولى: اختلفوا في عدد التكبير في الصدر الأول اختلافاً كثيراً من ثلاث إلى سبع، أعني الصحابة رضي الله عنهم، ولكن فقهاء الأمصار على أن التكبير في الجنازة أربع, إلا ابن أبي ليلى و جابر بن زيد فإنهما كانا يقولان: أنها خمس ].

يعني يقول: أن الاختلاف وقع في الصدر الأول, أما بعد الصدر الأول فوقع الاتفاق على أنها أربع, وسيأتي في التعليق على أنها من العمل المخير.

سبب اختلاف العلماء في عدد تكبيرات صلاة الجنازة

قال: [ وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه, وخرج بهم إلى المصلى, فصف بهم وكبر أربع تكبيرات ), وهو حديث متفق على صحته ].

هذا الحديث استدل به ابن رشد على أن التكبيرات أربع.

اقوال العلماء في صلاة الغائب

وهناك من يستدل بالحديث على حكم آخر مختلف فيه, وهو صلاة الغائب، فيرى الشافعي وجماعة أنه يصلى على الغائب, استناداً على هذا الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نعاه وصلى عليه وهو غائب.

ويرى أبو حنيفة وجماعة أنه لا يصلى على الغائب.

وسبب اختلافهم فهم هذا الحديث فـالشافعي يقول: أنه سنة متبعة لكل غائب, و أبو حنيفة ومن معه يقول: إن هذه خاصة بهذا الرجل, لأن الصحابة فهموا من هذا أنه خاص بـالنجاشي ، ولذلك لم ينقل عنهم الصلاة على الغائب من الخلفاء ولا على غيرهم من الأموات، فهم نقلوا الحديث وفهموا منه أنه خاص بالغائب, وقد يكون هذا القول هو الأقرب؛ لأنه لو كان ذلك حكماً عاماً لعمله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يعملوه.

وجمع ابن تيمية بين القولين، فقال: إذا مات رجل بأرضٍ لم يصل عليه فيها، كـالنجاشي , فهذا يصلى عليه لهذا الحديث، أما لو مات بأرض وصلي عليه فقد حصل المقصود, فكان جمعه جمعاً حسناً.

ومن هنا نرى أنما قاله ابن تيمية هو الراجح، وأنه إذا تحقق أن رجلاً كان مثلاً في بلاد كافرة, وله عمل، ولم يصل عليه، فلا مانع أن نصلي عليه صلاة الغائب.

تولي المسلم مناصب سيادية في الدول الكافرة

واستدل به ابن تيمية على معنى لم نجد أحداً قبله ولا بعده ذكر ذلك المعنى, وهذا المعنى هو ما ينطبق على بعض السياسات العصرية التي يوجد فيها الأخذ والرد.

يقول ابن تيمية في كتابه الفتاوى: ذكر مؤمن أهل الكتاب فـعبد الله بن سلام ليس من مؤمن أهل الكتاب، وإنما هو من المؤمنين؛ لأنه اعتنق الإسلام بجميع أحكامه وطبقه بين المؤمنين, فكل من أسلم بين المؤمنين من أهل الكتاب وصار كجملة المسلمين, فهذا لا يقال له مسلمُ أهل الكتاب, ولكن من كان كـالنجاشي آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم في بلد, ولم يستطع أن يظهر دين الإسلام كاملاً, واقتضت مصلحته أن يبقى في بلده, ولا يطبق بعض أحكام الإسلام، فهذا يسمى بمؤمن أهل الكتاب. هذا كلام ابن تيمية في الفتاوى.

ومن هنا نرى مثل أربكان لما يكون في دولة مرتدة، وتسلم إليه رئاسة الوزراء، وغيره ممن سيأتي مثله, فهل نقول له: ابق وطبق ما أمكنك ولو جزءاً يسيراً أو لا؟ كلام ابن تيمية يدل على أنه لا مانع أن يبقى، وأن يشغل منصباً ولو رئاسة الدولة.

يرأس هذه الدولة الكافرة ليطبق كذا, ولو إزالة المظالم، وإن تبقى بعض أشياء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر النجاشي على ما عمل، وقال: (مات أخوكم كذا وكذا), مع أنه لم يطبق أي شيء, غير أنه يطبق في نفسه, ويرفع المظالم, يطبق في نفسه ما عرفه من دين الإسلام, ويرفع المظالم عن البلد, حتى أنه لما مات لم يجد أحداً يصلي عليه, فدفن على تقاليد النصرانية.

فهذا يدل دلالة كاملة على ما يقال الآن في السياسة العصرية أن المسلم إذا ارتقى إلى رئاسة وزراء, أو رئاسة دولة, وأمكنه أن يزيل بعض المظالم، ولكنه لم يمكنه أن يطبق الشريعة التي هو فيها, أنه لا مانع, وهذا في شرعنا فالرسول صلى الله عليه وسلم أقر النجاشي على ذلك.

وفي شرع غيرنا يوسف : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وقال الله تعالى في قصته لما تكلم عن أخيه أنه سرق: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ [يوسف:76]، يعني: أن النظام والقانون في دين الملك أن السارق يغرم غرامات فقط. ولكن دين يعقوب أنه يستعبد ويكون هذا جزاؤه, فلولا أنهم هم الذين حكموا على أنفسهم لكان يوسف سيحكم بدين الملك.

فهذا يدل على أنه إذا كان هناك رئيس دولة, أو هناك رئيس وزراء، وكانت الدولة مرتدة, واستطاع هو أن يخفف بعض الأشياء, وبعض الأشياء لا بد أن تجري على القانون المخالف, وليس في استطاعته رده, فهذا لا يجعله يتخلى ويترك كل الأمور، بل يمسك زمام الحكم, ويعمل ما استطاع, فهذا شرع في وقت يعقوب وفي وقت يوسف ، وفي شرع الرسول صلى الله عليه وسلم كما في قصة النجاشي ، فكتب ابن تيمية تشير إلى مسائل قد توجد لها تطبيقات في هذا الوقت.

فإن قيل: إن يوسف لما تولى خزائن الأرض طبق شرع الله؟

فيقال: فيها طبق, ولكن في قانون الملك كله نظام الملك لم يطبق ديانة يعقوب.

نعم، زال المظالم منها, ولكنه لم يطبق شرع يعقوب الديانة السماوية, التوحيد و.. و.. إلخ، بل القوانين, قال: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76], فلو تحاكموا إلى ديانة الملك فسيقول له: يغرم بمثله. وكفى لكن سألوه: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75]، فأخذ الحكم من إخوانه, أما دين الملك فكيف يستطيع أن يطبق عليهم؛ لأنه لو طبق دين الملك لم يأخذه, إذاً هذا الذي يؤخذ من هذا الحديث, وإن كان قد خرجنا عن الدرس, ولكن للفائدة.

فإن قيل: فهل يجوز البقاء في الدول الكافرة للمسلم إذا كانت تجري عليه أحكامها؟

فيقال: لا، لكن إذا كانت اقتضت مصلحة لجلوسه, مثل: رئيس دولة. يدفع فيها مفاسد وما استطاع, فهذا يسمى مسلم أهل الكتاب.

تابع سبب اختلاف العلماء في عدد تكبيرات صلاة الجنازة

[ ولهذا أخذ به جمهور فقهاء الأنصار على أنها أربع تكبيرات, وجاء في هذا المعنى أيضاً من (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر مسكينة فكبر عليها أربعاً). وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد بن أرقم يكبر على الجنازة أربعاً، وإنه كبر على جنازة خمساً، فسألناه؟ فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها). وروي عن أبي خيثمة عن أبيه, قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على الجنازة أربعاً وخمساً, وستاً وسبعاً وثمانياً، حتى مات النجاشي ، فصف الناس وراءه فكبر أربعاً، ثم ثبت صلى الله عليه وسلم على الأربع حتى توفاه الله)], ولكن هذا الحديث فيه ضعف, [وهذا فيه حجة لائحة للجمهور].

الراجح أن التكبير على الجنازة من العمل المخير, فيكبر عليها أربعاً أو خمساً إلى تسع تكبيرات, كل ذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإيهما فعل أجزأه، والأولى التنويع, فيعمل هذا تارةً، وهذا تارة, كما هو الشأن في أمثاله, مثل: أدعية الاستفتاح, وصيغ التشهد.

أما التكبير أربعاً، فقد ثبت في حديث ابن عباس في قصة الرجل الذي مات ليلاً -وبعضهم قال: امرأة، وبعضهم شك- ( فصلى النبي صلى الله عليه وسلم على قبره ) متفق عليه.

وقد نقول: هل الشيخ الألباني غفل عن هذه الأدلة؟

فنقول: لعل الشيخ الألباني ما رجحت عنده هذه الأدلة, وتمسك بأنها ليست بصلاة, وقد قلت عدة مرات: يقول الشافعي : ما أقوله صحيح، ويمكن أن يكون خطأ، وما يقوله غيري أعتقد أنه خطأ، ويمكن أن يكون صحيحاً. فهذا أنا كل ما أقوله أعتقد أنه صحيح, ولكن يمكن أن يكون خطأ، ولهذا أقول: لا تتبعوني تقليداً، ولكن اتبعوني اقتناعاً, التقليد لا تعرف هل هو صح أو غلط, إن اقتنعت اتبعت، وإن ما اقتنعت فأنت غير ملزم بقولي.

سبب اختلاف العلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة

[ وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر، وهل يتناول أيضاً اسم الصلاة صلاة الجنازة أم لا؟ أما العمل فهو الذي حكاه مالك عن بلده.

وأما الأثر فهو ما رواه البخاري عن طلحة بن عبد الله بن عوف قال: صليت خلف ابن عباس على جنازة فقرأ بفاتحة الكتاب، فقال: لتعلموا أنها سنة]. وفي قوله: جهر بفاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنها سنة. دليل على أنه لا مانع من الجهر ببعض الأذكار للتعليم فقط, أما إذا حصل التعليم فلا نقول: بأن الجهر لا بأس به؛ لأنه ينشط الذاكرين على الذكر ونحوه بل نقول: أنه بدعة إضافية, ولكن للتعليم فلو وجد أناس ما يعرفون ذكراً فأردت أن أذكرهم أو أعلمهم به، فلا مانع أن أجهر حتى يتعلموا، لكن أن نجتمع كل ليلة عند المغرب, ونقرأ الأوراد بصوت واحد أو ياسين على الميت بصوت واحد، فهذا, بدعة إضافية.

المراد بالبدعة الإضافية

فيقال: فإن قيل: وما البدعة الإضافية؟

البدعة الإضافية هي ما شرعت بأصلها ومنعت بوصفها, فالأذكار مثلاً مشروعة، وقراءة القرآن مشروعة, وأذكار المساء والصباح مشروعة، ولكن وصفها وهو أن نجتمع بصوت واحد ونقرأ فهذا ليس بمشروع, ويدل على أن البدعة الإضافية -وإن كان فيها خلاف- ليست بمشروعة، ما نقل بسند صحيح عن ابن عمر أن رجلاً عطس فقال: الحمد لله, والصلاة والسلام على رسول الله, فقال له ابن عمر : وأنا أقول معك: والصلاة والسلام على رسول الله, ولكن ما هكذا علمنا رسول الله, فالصلاة والسلام على الرسول -( من صلى علي واحدة صلى الله عليه بها عشراً)- مشروعة بأصلها، لكن بوصفها في هذا الموضع -وهو عند العطاس- ليست بمشروعة، وهناك أدلة أخرى طويلة.

حجة من رأى قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة

[ فمن ذهب إلى ترجيح هذا الأثر على العمل, وكان اسم الصلاة يتناول عنده صلاة الجنازة، قال: وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، رأى قراءة فاتحة الكتاب فيها ]، مطلقة والأدلة ليست ظاهرة في الموضوع؟ بل هي أدلة مطلقة, ولكن يعمل, [ ويمكن أن يحتج لمذهب مالك بظواهر الآثار التي نقل فيها دعاؤه صلى الله عليه وسلم على الجنازة, ولم ينقل فيها أنه قرأ ], منها: ما أخرجه مسلم من حديث عوف بن مالك قال: ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه، وهو يقول: اللهم اغفر له وارحمه, وعافه واعف عنه, وأكرم نزله، ووسع مدخله, واغسله بالماء والثلج والبرد, ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس, وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه, وأدخله الجنة, وأعذه من عذاب القبر أو عذاب النار ), قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت, يعني: لهذا الدعاء.

ويشبه هذا لما قتل زيد بن علي وصلب على خشبة مرتفعة، فقال أحد يرثيه:

علو في الحياة وفي الممات لعمري تلك إحدى المعجزات

فقال بعض من سمع هذه القصيدة: تمنيت أن أكون أنا هو, يعني: أن يكون هو الذي قتل وصلب, وقيلت فيه هذه المرثية.

وهذا الراوي يقول: أنه تمنى أن يكون هو هذا الميت, حين سمع دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم مستجاب.

الشيخ: أقول: [وذكر الطحاوي عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: وكان من كبراء الصحابة وعلمائهم، وأبناء الذين شهدوا بدراً، ( أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أن السنة في الصلاة على الجنازة أن يكبر الإمام ثم يقرأ فاتحة الكتاب سراً في نفسه، ثم يخلص الدعاء في التكبيرات الثلاث ). قال ابن شهاب : فذكرت الذي أخبر به أبو أمامة من ذلك لـمحمد بن سويد الفهري ، فقال: وأنا سمعت الضحاك بن قيس يحدث عن حبيب بن مسلمة في الصلاة على الجنازة بمثل ما حدثك به أبو أمامة ].

إذاً: الراجح في المسألة أنه يسلم تسليمتين مثل تسليمه في الصلاة المكتوبة.

وفي القراءة الراجح أن يقرأ بفاتحة الكتاب وسورة سراً, والآن ندخل في المسألة الثالثة وهي التسليم من صلاة الجنازة.

التسليم من صلاة الجنازة

[ التسليم من صلاة الجنازة.

واختلفوا في التسليم من صلاة الجنازة، هل هو واحد أو اثنتان؟ فالجمهور على أنه واحدة، ومنهم أحمد , وقالت طائفة و أبو حنيفة : يسلم تسليمتين, واختاره المزني من أصحاب الشافعي ، وهو أحد قولي الشافعي ]، والراجح في مذهب الشافعي .

[ وسبب اختلافهم اختلافهم في التسليم من الصلاة، وقياس صلاة الجنازة على صلاة المفروضة، فمن كان عنده التسليمة واحدة في الصلاة المكتوبة، وقاس صلاة الجنازة عليها قال: بواحدة, ومن كان عنده تسليمتان في الصلاة المفروضة, قال هنا: بتسليمتين, إن كانت عنده تلك سنة فهي سنة ], يعني الثانية, [ وإن كانت فرضاً فهي فرض.

وكذلك اختلف المذهب، هل يجهر فيها أو لا يجهر بالسلام؟].

أقول: الراجح أنه يسلم تسليمتين, مثل تسليمه في الصلاة المكتوبة، إحداها عن يمينه، والأخرى عن يساره؛ لحديث عبد الله بن مسعود قال: ( ثلاث خلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلهن فتركهن الناس؛ إحداهن: التسليم على الجنازة مثل التسليم في الصلاة ). أخرجه البيهقي بإسناد حسن, وثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن مسعود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلم تسليمتين في الصلاة ), فهذا يبين أن المراد بقوله في الحديث الأول: مثل تسليمه في الصلاة. أنه يريد التسليمتين المعهودتين في الصلاة.

ويجوز الاقتصار على التسليمة الأولى فقط؛ لحديث أبي هريرة : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة فكبر عليها أربعاً وسلم تسليمة واحدة), أخرجه الدارقطني و الحاكم , وعنه البيهقي ، وإسناده حسن.

قال: [ وسبب الاختلاف اختلاف الآثار في ذلك، وذلك أنه روي من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه, وخرج بهم إلى المصلى, فصف بهم وكبر أربع تكبيرات ), وهو حديث متفق على صحته ].

هذا الحديث استدل به ابن رشد على أن التكبيرات أربع.

وهناك من يستدل بالحديث على حكم آخر مختلف فيه, وهو صلاة الغائب، فيرى الشافعي وجماعة أنه يصلى على الغائب, استناداً على هذا الحديث؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نعاه وصلى عليه وهو غائب.

ويرى أبو حنيفة وجماعة أنه لا يصلى على الغائب.

وسبب اختلافهم فهم هذا الحديث فـالشافعي يقول: أنه سنة متبعة لكل غائب, و أبو حنيفة ومن معه يقول: إن هذه خاصة بهذا الرجل, لأن الصحابة فهموا من هذا أنه خاص بـالنجاشي ، ولذلك لم ينقل عنهم الصلاة على الغائب من الخلفاء ولا على غيرهم من الأموات، فهم نقلوا الحديث وفهموا منه أنه خاص بالغائب, وقد يكون هذا القول هو الأقرب؛ لأنه لو كان ذلك حكماً عاماً لعمله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنهم لم يعملوه.

وجمع ابن تيمية بين القولين، فقال: إذا مات رجل بأرضٍ لم يصل عليه فيها، كـالنجاشي , فهذا يصلى عليه لهذا الحديث، أما لو مات بأرض وصلي عليه فقد حصل المقصود, فكان جمعه جمعاً حسناً.

ومن هنا نرى أنما قاله ابن تيمية هو الراجح، وأنه إذا تحقق أن رجلاً كان مثلاً في بلاد كافرة, وله عمل، ولم يصل عليه، فلا مانع أن نصلي عليه صلاة الغائب.

واستدل به ابن تيمية على معنى لم نجد أحداً قبله ولا بعده ذكر ذلك المعنى, وهذا المعنى هو ما ينطبق على بعض السياسات العصرية التي يوجد فيها الأخذ والرد.

يقول ابن تيمية في كتابه الفتاوى: ذكر مؤمن أهل الكتاب فـعبد الله بن سلام ليس من مؤمن أهل الكتاب، وإنما هو من المؤمنين؛ لأنه اعتنق الإسلام بجميع أحكامه وطبقه بين المؤمنين, فكل من أسلم بين المؤمنين من أهل الكتاب وصار كجملة المسلمين, فهذا لا يقال له مسلمُ أهل الكتاب, ولكن من كان كـالنجاشي آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم في بلد, ولم يستطع أن يظهر دين الإسلام كاملاً, واقتضت مصلحته أن يبقى في بلده, ولا يطبق بعض أحكام الإسلام، فهذا يسمى بمؤمن أهل الكتاب. هذا كلام ابن تيمية في الفتاوى.

ومن هنا نرى مثل أربكان لما يكون في دولة مرتدة، وتسلم إليه رئاسة الوزراء، وغيره ممن سيأتي مثله, فهل نقول له: ابق وطبق ما أمكنك ولو جزءاً يسيراً أو لا؟ كلام ابن تيمية يدل على أنه لا مانع أن يبقى، وأن يشغل منصباً ولو رئاسة الدولة.

يرأس هذه الدولة الكافرة ليطبق كذا, ولو إزالة المظالم، وإن تبقى بعض أشياء؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر النجاشي على ما عمل، وقال: (مات أخوكم كذا وكذا), مع أنه لم يطبق أي شيء, غير أنه يطبق في نفسه, ويرفع المظالم, يطبق في نفسه ما عرفه من دين الإسلام, ويرفع المظالم عن البلد, حتى أنه لما مات لم يجد أحداً يصلي عليه, فدفن على تقاليد النصرانية.

فهذا يدل دلالة كاملة على ما يقال الآن في السياسة العصرية أن المسلم إذا ارتقى إلى رئاسة وزراء, أو رئاسة دولة, وأمكنه أن يزيل بعض المظالم، ولكنه لم يمكنه أن يطبق الشريعة التي هو فيها, أنه لا مانع, وهذا في شرعنا فالرسول صلى الله عليه وسلم أقر النجاشي على ذلك.

وفي شرع غيرنا يوسف : قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]، وقال الله تعالى في قصته لما تكلم عن أخيه أنه سرق: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ [يوسف:76]، يعني: أن النظام والقانون في دين الملك أن السارق يغرم غرامات فقط. ولكن دين يعقوب أنه يستعبد ويكون هذا جزاؤه, فلولا أنهم هم الذين حكموا على أنفسهم لكان يوسف سيحكم بدين الملك.

فهذا يدل على أنه إذا كان هناك رئيس دولة, أو هناك رئيس وزراء، وكانت الدولة مرتدة, واستطاع هو أن يخفف بعض الأشياء, وبعض الأشياء لا بد أن تجري على القانون المخالف, وليس في استطاعته رده, فهذا لا يجعله يتخلى ويترك كل الأمور، بل يمسك زمام الحكم, ويعمل ما استطاع, فهذا شرع في وقت يعقوب وفي وقت يوسف ، وفي شرع الرسول صلى الله عليه وسلم كما في قصة النجاشي ، فكتب ابن تيمية تشير إلى مسائل قد توجد لها تطبيقات في هذا الوقت.

فإن قيل: إن يوسف لما تولى خزائن الأرض طبق شرع الله؟

فيقال: فيها طبق, ولكن في قانون الملك كله نظام الملك لم يطبق ديانة يعقوب.

نعم، زال المظالم منها, ولكنه لم يطبق شرع يعقوب الديانة السماوية, التوحيد و.. و.. إلخ، بل القوانين, قال: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76], فلو تحاكموا إلى ديانة الملك فسيقول له: يغرم بمثله. وكفى لكن سألوه: قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ [يوسف:75]، فأخذ الحكم من إخوانه, أما دين الملك فكيف يستطيع أن يطبق عليهم؛ لأنه لو طبق دين الملك لم يأخذه, إذاً هذا الذي يؤخذ من هذا الحديث, وإن كان قد خرجنا عن الدرس, ولكن للفائدة.

فإن قيل: فهل يجوز البقاء في الدول الكافرة للمسلم إذا كانت تجري عليه أحكامها؟

فيقال: لا، لكن إذا كانت اقتضت مصلحة لجلوسه, مثل: رئيس دولة. يدفع فيها مفاسد وما استطاع, فهذا يسمى مسلم أهل الكتاب.