كتاب الصلاة [16]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله نحمده ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله, اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد, وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثانية: ذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتدال من الركوع وفي الركوع غير واجب ] يعني: الرفع من الركوع والطمأنينة فيه, هل هو ركن مقصود لذاته أو المقصود به تمييز الركوع, هوي للركوع أم هوي للسجود, هذا الاعتدال، والجلوس بين السجدتين, هل هما ركنان مستقلان أو المقصود بهما الفصل, وبين السجدتين, فأبو حنيفة يرى أنهما ليسا بركنين مستقلين, وإنما المقصود بهما الفصل, فأدنى ارتفاع من الركوع أو اعتدال من السجود يكفي, ولكن الجمهور: على أنهما ركنان مقصودان, وأنه لا بد فيهما من الطمأنينة, وحديث المسيء صلاته يشير إلى أنها أركان مستقلة، وأنه لا بد فيها من الطمأنينة.

قال: [ وقال الشافعي : هو واجب ] وهو قول أحمد ، [ واختلف أصحاب مالك : هل ظاهر مذهبه يقتضي أن يكون سنة أو واجباً؟ إذ لم ينقل عنه نص في ذلك. والسبب في اختلافهم: هل الواجب الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم، أم بكل ذلك الشيء الذي ينطلق عليه الاسم؟

فمن كان الواجب عنده الأخذ ببعض ما ينطلق عليه الاسم لم يشترط الاعتدال في الركوع ]. يعني: لم يشترط في الركوع الطمأنينة فيه.

[ ومن كان الواجب عنده الأخذ بالكل اشترط الاعتدال، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحديث المتقدم للرجل الذي علمه فروض الصلاة: ( اركع حتى تطمئن راكعاً، وارفع حتى تطمئن رافعاً )].

والحديث صحيح, متفق عليه.

[ فالواجب اعتقاد كونه فرضاً، وعلى هذا الحديث عول كل من رأى أن الأصل لا تحمل أفعاله في سائر أفعال الصلاة مما لم ينص عليها في هذا الحديث على الوجوب ].

يقول: هذا الحديث نص على أن أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم على الوجوب, وما لم ينص عليه في هذا الحديث فهي على السنة.

[ حتى يدل الدليل على ذلك، ومن قبل هذا لم يروا رفع اليدين فرضاً ].

لأنها ما جاءت في حديث المسيء صلاته.

[ ولا ما عدا تكبيرة الإحرام والقراءة من الأقاويل التي في الصلاة ].

قالوا: إن تكبيرة الإحرام فرض؛ لأنها نص عليها، لكن تكبيرات الركوع والسجود لم ينص عليها في هذا الحديث، لكنه نص عليها كما ذكر ذلك في كتاب صفة الصلاة للشيخ: ناصر الدين الألباني , قال: ( وكبر وركع ).

[ فتأمل هذا، فإنه أصل مناقض للأصل الأول وهو سبب الخلاف في أكثر المسائل ].

بمعنى أن أفعاله لا تدل على الوجوب، وذاك يقول: أنها تدل على الوجوب.

لكن الراجح على أن الطمأنينة واجبة في كل أركان الصلاة لحديث المسيء صلاته.

قال المصنف رحمه الله: [ المسألة الثالثة: اختلف الفقهاء في هيئة الجلوس ].

هيئات الجلوس في الصلاة ثلاث: هيئة الجلوس بين السجدتين، والجلوس للتشهد الأول, والجلوس للتشهد الأخير, ولكن المراد به هنا الجلوس بين التشهد الأول والتشهد الأخير, وجلوس التشهد له هيئتان: إما الافتراش وإما التورك, ولكن اختلفوا في ذلك.

أقوال العلماء في مكان التورك من جلسات الصلاة

فقال مالك : التورك في جميع جلسات الصلاة، وهو: أن يخرج الرجل اليسرى وينصب اليمنى، ويحلس على وركه, في جميع جلسات الصلاة.

وقال أبو حنيفة : الافتراش وهو أن يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى في جميع جلسات الصلاة.

وقال الإمام الشافعي : إن الافتراش يكون في الجلسة الوسطى, والتورك يكون في الجلسة التي يعقبها السلام, وقال الإمام أحمد : إن الافتراش يكون في الجلسة الوسطى, وفي الصلاة التي فيها تشهد واحد.

فإن قال قائل: ما الفرق بين أحمد و الشافعي في التشهد الذي يكون فيه الافتراش؟ فنقول: إن أحمد يرى أن التورك يكون في التشهد الأخير من الصلاة التي فيها تشهدان. بينما يرى الشافعي أن الافتراش في الجلسة التي يعقبها السلام.

[ فقال مالك وأصحابه: يفضي بأليتيه إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى ويثني اليسرى، وجلوس المرأة عنده كجلوس الرجل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينصب رجله اليمنى ويقعد على اليسرى، وفرق الشافعي بين الجلسة الوسطى والأخيرة، فقال في الوسطى بمثل قول أبي حنيفة ، وفي الأخيرة بمثل قول مالك ].

أما مذهب أحمد : فيتورك في الأخيرة في الصلاة, التي فيها تشهدان, ويفترش في الصلاة التي فيها تشهد واحد كالفجر.

سبب اختلاف العلماء في جلسة التورك

قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم في ذلك تعارض الآثار، وذلك أن في ذلك ثلاثة آثار: أحدها: وهو ثابت باتفاق حديث أبي حميد الساعدي الوارد في وصف صلاته صلى الله عليه وسلم وفيه: ( وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته )]. وهذا الحديث أخرجه البخاري .

وفيه أخذ للشافعي ، وأخذ لـأحمد .

فـالشافعي يعلل: بأن الجلسة الأخيرة يعقبها السلام, فلا يحتاج إلى قيام بعدها, أما سائر الجلسات فيعقبها قيام، فالافتراش يكون أسهل له للنهوض, أما التي يعقبها سلام فإنه لا ينهض بعد، فالتورك له هو الأحسن.

أما أحمد فيعلل: بأن التورك جيء به في الصلاة التي فيها جلستان للفرق بين الجلسة الأولى والجلسة الثانية, فإذا لم تكن هناك جلستان فلا يؤتى به؛ لأنه لا حاجة إلى التفريق وكل له فهمه من هذا الحديث.

[ والثاني: حديث وائل بن حجر ، وفيه: ( أنه كان إذا قعد في الصلاة نصب اليمنى وقعد على اليسرى )].

هذا مطلق، لم يفصل, أما حديث أبي حميد فقد فصل.

[ والثالث: ما رواه مالك عن عبد الله بن عمر أنه قال: ( إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى )، وهو يدخل في المسند لقوله فيه: إنما سنة الصلاة، وفي روايته عن القاسم بن محمد ؛ أنه أراهم الجلوس في التشهد، فنصب رجله اليمنى، وثنى اليسرى، وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وحدثني أن أباه كان يفعله ] هذا مأخذ لـمالك [ فذهب مالك مذهب الترجيح لهذا الحديث ].

إذاً مالك رجح رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، وقال: على أنه فعله عبد الله بن عمر وابنه.

[ وذهب أبو حنيفة مذهب الترجيح لحديث وائل بن حجر .

[ وذهب الشافعي مذهب الجمع على حديث أبي حميد . وذهب الطبري مذهب التخيير ].

أي: أن هذه الأفعال كلها صحيحة فهو من باب التخيير, يعني: قد يكون كلامه صحيحاً.

[ وقال: هذه الهيئات كلها جائزة، وحسن فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول حسن، فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض ].

بمعنى: إذا اختلفت أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فالأولى أن نحملها على التخيير.

[ وإنما يتصور ذلك التعارض أكثر في الفعل مع القول أو في القول مع القول ].

هذا الذي يتصور فيه معارضة, أما الأفعال فتحمل على التخيير.

الراجح في أقوال العلماء في التورك

قلت: حديث أبي حميد مبين مفصل, وحديث وائل و ابن عمر مجملة غير مفصلة, لا في الأول، ولا في الثاني, وأنا أرجح العمل بحديث أبي حميد .

لكن يبقى الترجيح بين مذهب أحمد و الشافعي ؛ لأنهما أخذا بحديث أبي حميد , فـأحمد علل بالتفريق بين الجلستين, و الشافعي علل بعقب السلام للجلسة الأخيرة, فلا يحتاج بعدها إلى نهوض, بخلاف بقية الجلسات غير الأخيرة، فإن المصلي بحاجة إلى أن ينهض بعدها، والافتراش أعون له على ذلك, وكلا القولين يحتملهما الحديث.

لكني أنا ما رجحت واحداً من القولين؛ لأن الحديث يحتمل هذا وهذا.

فقال مالك : التورك في جميع جلسات الصلاة، وهو: أن يخرج الرجل اليسرى وينصب اليمنى، ويحلس على وركه, في جميع جلسات الصلاة.

وقال أبو حنيفة : الافتراش وهو أن يجلس على رجله اليسرى وينصب اليمنى في جميع جلسات الصلاة.

وقال الإمام الشافعي : إن الافتراش يكون في الجلسة الوسطى, والتورك يكون في الجلسة التي يعقبها السلام, وقال الإمام أحمد : إن الافتراش يكون في الجلسة الوسطى, وفي الصلاة التي فيها تشهد واحد.

فإن قال قائل: ما الفرق بين أحمد و الشافعي في التشهد الذي يكون فيه الافتراش؟ فنقول: إن أحمد يرى أن التورك يكون في التشهد الأخير من الصلاة التي فيها تشهدان. بينما يرى الشافعي أن الافتراش في الجلسة التي يعقبها السلام.

[ فقال مالك وأصحابه: يفضي بأليتيه إلى الأرض، وينصب رجله اليمنى ويثني اليسرى، وجلوس المرأة عنده كجلوس الرجل. وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينصب رجله اليمنى ويقعد على اليسرى، وفرق الشافعي بين الجلسة الوسطى والأخيرة، فقال في الوسطى بمثل قول أبي حنيفة ، وفي الأخيرة بمثل قول مالك ].

أما مذهب أحمد : فيتورك في الأخيرة في الصلاة, التي فيها تشهدان, ويفترش في الصلاة التي فيها تشهد واحد كالفجر.

قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم في ذلك تعارض الآثار، وذلك أن في ذلك ثلاثة آثار: أحدها: وهو ثابت باتفاق حديث أبي حميد الساعدي الوارد في وصف صلاته صلى الله عليه وسلم وفيه: ( وإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة قدم رجله اليسرى ونصب اليمنى، وقعد على مقعدته )]. وهذا الحديث أخرجه البخاري .

وفيه أخذ للشافعي ، وأخذ لـأحمد .

فـالشافعي يعلل: بأن الجلسة الأخيرة يعقبها السلام, فلا يحتاج إلى قيام بعدها, أما سائر الجلسات فيعقبها قيام، فالافتراش يكون أسهل له للنهوض, أما التي يعقبها سلام فإنه لا ينهض بعد، فالتورك له هو الأحسن.

أما أحمد فيعلل: بأن التورك جيء به في الصلاة التي فيها جلستان للفرق بين الجلسة الأولى والجلسة الثانية, فإذا لم تكن هناك جلستان فلا يؤتى به؛ لأنه لا حاجة إلى التفريق وكل له فهمه من هذا الحديث.

[ والثاني: حديث وائل بن حجر ، وفيه: ( أنه كان إذا قعد في الصلاة نصب اليمنى وقعد على اليسرى )].

هذا مطلق، لم يفصل, أما حديث أبي حميد فقد فصل.

[ والثالث: ما رواه مالك عن عبد الله بن عمر أنه قال: ( إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى، وتثني اليسرى )، وهو يدخل في المسند لقوله فيه: إنما سنة الصلاة، وفي روايته عن القاسم بن محمد ؛ أنه أراهم الجلوس في التشهد، فنصب رجله اليمنى، وثنى اليسرى، وجلس على وركه الأيسر ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر ، وحدثني أن أباه كان يفعله ] هذا مأخذ لـمالك [ فذهب مالك مذهب الترجيح لهذا الحديث ].

إذاً مالك رجح رواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، وقال: على أنه فعله عبد الله بن عمر وابنه.

[ وذهب أبو حنيفة مذهب الترجيح لحديث وائل بن حجر .

[ وذهب الشافعي مذهب الجمع على حديث أبي حميد . وذهب الطبري مذهب التخيير ].

أي: أن هذه الأفعال كلها صحيحة فهو من باب التخيير, يعني: قد يكون كلامه صحيحاً.

[ وقال: هذه الهيئات كلها جائزة، وحسن فعلها لثبوتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول حسن، فإن الأفعال المختلفة أولى أن تحمل على التخيير منها على التعارض ].

بمعنى: إذا اختلفت أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فالأولى أن نحملها على التخيير.

[ وإنما يتصور ذلك التعارض أكثر في الفعل مع القول أو في القول مع القول ].

هذا الذي يتصور فيه معارضة, أما الأفعال فتحمل على التخيير.

قلت: حديث أبي حميد مبين مفصل, وحديث وائل و ابن عمر مجملة غير مفصلة, لا في الأول، ولا في الثاني, وأنا أرجح العمل بحديث أبي حميد .

لكن يبقى الترجيح بين مذهب أحمد و الشافعي ؛ لأنهما أخذا بحديث أبي حميد , فـأحمد علل بالتفريق بين الجلستين, و الشافعي علل بعقب السلام للجلسة الأخيرة, فلا يحتاج بعدها إلى نهوض, بخلاف بقية الجلسات غير الأخيرة، فإن المصلي بحاجة إلى أن ينهض بعدها، والافتراش أعون له على ذلك, وكلا القولين يحتملهما الحديث.

لكني أنا ما رجحت واحداً من القولين؛ لأن الحديث يحتمل هذا وهذا.

قال المصنف رحمه الله: [ الجلسة الوسطى والأخيرة ], يعني: حكم الجلسة الوسطى والأخيرة.

[ اختلف العلماء في الجلسة الوسطى والأخيرة، فذهب الأكثر في الوسطى إلى أنها سنة وليست بفرض، وهم أبو حنيفة و مالك و الشافعي وشذ قوم وقالوا: إنها فرض ].

ومنهم أحمد قال: إن الجلسة الوسطى فرض.

خلاف العلماء في حكم التشهد الأخير

قال رحمه الله: [ وكذلك ذهب الجمهور في الجلسة الأخرى إلى أنها فرض].

وهم: الشافعي و أحمد فيقولون: الجلسة الأخيرة واجبة ويجب أن نتشهد فيها.

وقال أبو حنيفة : الجلسة الأخيرة واجبة ولكنه يسكت ولا يقول شيئاً, وإذا أراد أن يتشهد فهو سنة, فهو أوجب الجلسة بدون التشهد.

[ وشذ قوم فقالوا: إنها ليست بفرض، وهو مالك , فقال: الواجب القعود بقدر السلام ], تقوم من السجود وتقول: السلام عليكم ورحمة الله, السلام عليكم ورحمة الله ويكفي.

سبب اختلاف العلماء في حكم التشهد الأخير

قال المصنف رحمه الله: [ والسبب في اختلافهم: هو تعارض مفهوم الأحاديث وقياس إحدى الجلستين على الثانية ].

فبعضهم يقيس الأولى على الثانية فيقول: فرض, وبعضهم يقيس الثانية على الأولى فيقول: سنة.

[ وذلك أن في حديث أبي هريرة المتقدم: ( اجلس حتى تطمئن جالساً )].

يعني: في حديث المسيء صلاته.

[ فوجب الجلوس على ظاهر هذا الحديث في الصلاة كلها، فمن أخذ بهذا قال: إن الجلوس كله فرض ].

حتى الجلسة الوسطى. [ ولما جاء في حديث ابن بحينة أنه عليه الصلاة والسلام أسقط الجلسة الوسطى، ولم يجبرها، وسجد لها ] أخرجه البخاري , [ وثبت عنه أنه أسقط ركعتين فجبرهما ].

كما أخرجه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة , وكذلك أسقط ركعةً فجبرها كما ثبت ذلك عند مسلم و أبي داود من حديث عمران بن حصين , قال الفقهاء قالوا: فلما جبر الجلسة الوسطى بين الركعتين بالسجود, والركعة والركعتين أعادها, قلنا: إن الجلسة سنة, ولو كانت واجبة لما جبرها بالسجود ولم يعدها.

[ ففهم الفقهاء من هذا الفرق بين حكم الجلسة الوسطى وحكم الركعة، فكانت الركعة عندهم فرضاً بإجماع، فوجب ألا تكون الجلسة الوسطى فرضاً، فهذا هو الذي أوجب أن فرق الفقهاء بين الجلستين، ورأوا أن سجود السهو دون إعادة ما فات إنما يكون للسنن دون الفروض، ومن رأى أنها فرض قال: السجود للجلسة الوسطى شيء يخصها دون سائر الفرائض، وليس في ذلك دليل على أنها ليست بفرض ].

الراجح في حكم التشهد الأول والأخير

وعلى كل حال: الجلسة الأخيرة هي الفرض وأما الجلسة الوسطى فهي سنة.

وللشافعية تقسيم يقولون: إن المتروك من الصلاة ثلاثة أشياء: فرض فيجب الإتيان به. كالركوع والركعة، والسجود للسهو, وبعض كالجلسة الوسطى فيجب السجود له دون الإتيان به, وسنة, يعني: كتكبيرات الركوع ورفع اليدين، فلا يجب الإتيان به, ولا سجود السهو عنه.

أما الحنابلة فيقولون: إن الصلاة تنقسم إلى أركان وواجبات وسنن, وأن الواجب هو الذي يقوم مقامه سجود السهو, وأما الفرض فلا بد من الإتيان به وسجود السهو. فالحنابلة يقولون: إن الجلسة الوسطى واجبة وهو الراجح.

والدليل ما أخرجه أبو داود و البيهقي بسند جيد: أنه صلى الله عليه وسلم أمر المسيء صلاته بالجلوس الأوسط فقال له: ( إذا جلست في وسط الصلاة فاطمئن وافترش فخذك اليسرى ثم تشهد ), وهذا ذكره شيخنا الألباني في صفة الصلاة (ص167).

[ وأما من ذهب إلى أنهما كلتيهما سنة ].

يعني الجلسة الأولى والجلسة الثانية كـأبي حنيفة .

[ فقاس الجلسة الأخيرة على الوسطى, بعد أن اعتقد في الوسطى بالدليل الذي اعتقد به الجمهور أنها سنة ].

فالجمهور اعتقدوا أنها سنة، ولم يجبرها بسجود السهو، وكذلك قالوا في الأخيرة.

[ فإذاً السبب في اختلافهم هو في الحقيقة آيل إلى معارضة الاستدلال لظاهر القول أو لظاهر الفعل، فإن من الناس أيضاً من اعتقد أن الجلستين كليهما فرض، من جهة أن أفعاله صلى الله عليه وسلم عنده الأصل فيها أن تكون في الصلاة محمولة على الوجوب، حتى يدل الدليل على غير ذلك كما ما تقدم ].

وهذا كما تقدم قول أحمد .

[ فإذاً الأصلان جميعاً يقضيان هاهنا أن الجلوس الأخير فرض ]. سواء قلنا: إن الفعل يحتمل الوجوب أو يحتمل الندب, وعليه فإن الجلسة الأخيرة فرض؛ لأنه ورد الأمر بها, وما اقتصرنا على الفعل، وإنما اقتصرنا على القول أي: إنه ذكر فيها الأمر, هذا عند المصنف, ولكن الراجح أن الجلسة الوسطى -كما قال أحمد -: فرض، وليس اعتمادنا على الفعل وإنما اعتمادنا على القول وأمر المسيء صلاته.

[ ولذلك عليه أكثر الجمهور من غير أن يكون له معارض إلا القياس ]. أي: وهو قياس الجلسة الأخيرة على الأولى.

[ (وأعني: بالأصلين القول والعمل) ].

فالقول والعمل يقتضي أن الجلسة الأخيرة واجبة؛ لأنه فعلها وأمر بها, وعند أحمد : القول والعمل يقتضي أن الجلسة الوسطى واجبة.

[ ولذلك أضعف الأقاويل من رأى أن الجلستين سنة والله أعلم ].