الإيمان والكفر [11]


الحلقة مفرغة

ما زلنا في الكلام على قضية الرد على طرفي الانحراف في قضية الإيمان والكفر، وهم الغلاة من المرجئة، ثم في الطرف الآخر الخوارج والمعتزلة، وذلك ضمن حديثنا عن ستة مباحث تتعلق بمسائل أصول الدين، كما ذكرها الشيخ حافظ حكمي رحمه الله في معارج القبول، يقول: ولا نقول إنه في النار مخلد بل أمره للباري تحت مشيئة الإله النافذه إن شا عفا عنه وإن شا أخذه بقدر ذنبه وإلى الجنان يخرج إن مات على الإيمان والعرض تيسير الحساب في النبا ومن يناقش الحساب عذبا وذكرنا في الرد على المرجئة كلام إمام الأئمة أبي بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى، وملخصه: أن المرجئة يأخذون بطرف من النصوص ويهملون الطرف الآخر الذي يفسرها ويوضحها ويبينها؛ فهم يزعمون أن النار حرمت على كل من قال: لا إله إلا الله، ولا يمكن أن يدخل النار أبداً، وهم بالتالي يؤولون كل ما خالف هذا الاعتقاد من النصوص، فذكرنا في رد الإمام أبي بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى على هؤلاء حينما ذكر بعض أدلتهم مثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، ومثل: قوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة)، إلى غير ذلك من النصوص، فقلنا: إن هذه النصوص ليست على إطلاقها، بل لابد من تقييدها وفهمها في ضوء جملة أخرى من النصوص، فمثل هذه النصوص إنما تأتي في فضيلة عمل معين من الأعمال الصالحة فقط، لكن لا تعني أن كل الإيمان هو ما ورد في هذا الحديث، فلا يجوز أن تقول: إن من قال: لا إله إلا الله. قد أتى بكل الإيمان، فهذه النصوص إنما هي في فضائل هذه الأعمال، وليست هي جميع الإيمان، بدليل أنه لا يخالف أحد أبداً في أن من قال: لا إله إلا الله ثم ضم إليها شهادة أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، ثم هو في نفس الوقت مع أنه قال لا إله إلا الله محمد رسول الله، لكنه لم يؤمن بأي واحد من الأنبياء، فلم يشهد بعيسى ولا بموسى ولا بنوح ولا بهود ولا بغير ذلك من الأنبياء الذين يشهد لهم بالنبوة والرسالة، فهل يكون مسلماً مؤمناً؟! وهل يحرم على النار أم أنه يكفر بذلك؟! لاشك أنه يكفر بذلك؛ لأن الإيمان عبارة عن حقيقة مركبة من أجزاء لا تنفك ولا ينفصل بعضها عن بعض أبداً بأي حال من الأحوال، فالتكذيب بنبي واحد تكذيب بجميع الأنبياء، ولذلك يقول تبارك وتعالى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، ومع أن الذي أرسل إليهم كان رسولاً واحداً، لكن التكذيب برسول واحد هو تكذيب بجميع رسل الله عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. فلا يمكن أبداً ولا يوجد أبداً في علماء المسلمين من يقول: إن من قال: لا إله إلا الله حرم على النار، أو دخل الجنة، حتى ولو لم يشهد بالنبوة وبالرسالة، أو قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكذب بالجنة أو النار أو البعث والنشور، هل يعد مؤمناً مسلماً أم أنه يكفر بذلك؟ كلا لا ينطبق عليه هذا الحديث، فإذا صح أن يستدل بمثل هذه الأحاديث في فضيلة كلمة التوحيد صح بالتالي أن يحتج جاهل معاند بحديث: (من علم أن الصلاة عليه حق واجب دخل الجنة) إذا صح هذا الحديث جاز أن يدعي جاهل آخر بأن كل الإيمان هو أن تؤمن وتصدق أو تعلم بأن الصلاة عليك حق واجب، وتكون مؤمناً بمجرد ذلك وإن لم تقر بلسانك ولم تصدق بقلبك بشيء مما أمر الله بالتصديق به، وأنك إذا علمت أن الصلاة حق واجب فأنت تدخل الجنة حتى لو أتيت جميع المحرمات وعطلت جميع الواجبات. وبالتالي أيضاً يمكن أن يأتي جاهل ثالث فيستدل بمثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها حرمه الله على النار)، يعني: صلاة الصبح وصلاة العصر؛ فإن فعل هاتين الصلاتين فقط توجب دخول الجنة، حتى ولو لم يأت الإنسان بأي شيء من المأمورات ولم يجتنب شيئاً من المنهيات. هذه الأحاديث وأمثالها إنما هي في فضيلة هذا العمل، ولا يمكن أن يفهم منها أن جميع الإيمان هو أن تأتي بما ورد في مثل هذه النصوص. فحقاً لا إله إلا الله كلمة النجاة وكلمة التوحيد، لكن للا إله إلا الله لوازم ومقتضيات وشروط قُيد دخول الجنة باستيفائها. أنت حينما تقدم أوراقاً لأي جهة رسمية، فهناك أوراق أساسية تطلب منك، وإذا قصرت في تقديم إحدى هذه الأوراق المطلوبة يقال لك: مطلوب منك استيفاء باقي الأوراق، فكذلك للا إله إلا الله شروط ومقتضيات ولوازم لابد من الإتيان بها، وإذا كانت لا إله إلا الله هي مفتاح الجنة، لكن كل مفتاح له أسنان، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك، والأسنان هي الأعمال ومقتضيات هذا الإيمان. فكل ما ورد في فضيلة لا إله إلا الله لا يفهم منه أن كل الإيمان أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإلا فعلى هذه الطريقة المعوجة في فهم النصوص يمكن أن يأتي إنسان جاهل فيقول: إن كل الإيمان هو أن تقاتل في سبيل الله فواق ناقة، وهو الوقت ما بين حلبة وأخرى للناقة، وقت يسير جداً ويستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة)، فهل كل الإيمان أن تقاتل في سبيل الله هذه الفترة القصيرة من الزمن؟ أو هل كل الإيمان أن تغبر قدماك في سبيل الله، وتستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار)؟ هل يكون الإنسان مؤمناً كامل الإيمان فقط بأن تغبر قدماه في سبيل الله حتى ولو عطل كل الأوامر؛ فما صلى ولا صام ولا زكى وشرب الخمر وفعل الفواحش وسرق.. إلى آخر هذه المحرمات؛ ولأنه اغبرت قدماه في سبيل الله دخل الجنة وحرم على النار؟ كلا. أو هل كل الإيمان أن يعتق الإنسان رقبة مؤمنة حتى ينجو؛ ويستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار) ؟ هذا فقط يستدل به على فضيلة عتق الرقبة، لكن لا يقال: هذا هو كل الإيمان. كذلك أيضاً هل كل الإيمان أن يبكي الإنسان من خشية الله، ويستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى) ؟ كلا، هذه في فضيلة البكاء من خشية الله، وليس معنى الحديث أن كل الإيمان أن تأتي بهذا العمل. أو هل كل الإيمان أن تصوم يوماً تطوعاً في سبيل الله، وتستدل على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً)؟ كلا، هذا إنما هو في فضيلة هذا العمل الصالح، وليس معنى ذلك أن كل الإيمان الإتيان بهذه الشعب من الأعمال الصالحة.

بعد أن استعرض الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى هذه الجملة من النصوص لإبطال مذهب المرجئة شرع في بيان ما تشبث به الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: إن من فعل أي معصية يدخل النار ولا يخرج منها؛ لأنه يكفر بالمعصية حتى لو بالذنب دون الشرك ودون الكفر، والله تبارك وتعالى بين أن هناك من الذنوب ما هو شرك وما هو دون الشرك، فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فهم يعدون أن كل من أتى ذنباً حتى لو كان من الذنوب غير المكفرة، فإنه إذا دخل النار -بناء على النصوص التي تثبت أن المعاصي تستوجب النار- لا يخرج منها، ومن ثم كذبوا بأحاديث الشفاعة؛ لأنها تبطل مذهبهم بالكلية، وإلا فهل يجوز أن يقال: أخرجوا من النار من ليس فيها؟ أو أن يقال: يخرج من النار من ليس في النار؟ كلا. فلأن أحاديث الشفاعة تبطل مذهبهم الباطل، ومنها: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)؟ فلذلك كذبوا بها حتى لا تزعجهم ولا تقلقهم.

عقيدة الخوارج والمعتزلة في مرتكب الكبيرة

يقول الإمام رحمه الله تعالى الإمام ابن خزيمة : باب ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة من جهة النقل جهل معناها فرقتان: فرقة المعتزلة والخوارج، احتجوا بها وادعوا أن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها مخلد في النار محرم عليه الجنان. الكلام بالنسبة للخوارج فيمن فعل الكبيرة ولم يتب منها، هم يقولون: إذا فعل المعاصي فقد كفر وارتد وعاد إلى الإسلام بالتوبة، فبالتالي لا يختلفون في أن من تاب فهو ناج بغض النظر عن تكييف هذه التوبة، أما أهل السنة والجماعة فيعتقدون: أن من تاب إلى الله توبة صحيحة تاب الله عليه، حتى ولو من أكبر الذنوب وهو الشرك بالله تبارك وتعالى، فباب التوبة مفتوح له ولا يغلق أبداً حتى تطلع الشمس من المغرب، أو قبل الغرغرة في حق عمر الإنسان، فليست القضية معهم في شأن الذي تاب؛ لأن الذي تاب توبته مقبولة، وهو ناج إن شاء الله؛ ما دامت التوبة صحيحة مستوفية لشروطها، لكن أهل السنة يعتقدون أن إيمانه ينقص بهذه المعصية، والخوارج يعتقدون أن إيمانه يحبط تماماً، وأنه إذا تاب يعود إلى الإسلام من جديد، حتى وصل الأمر أنهم كفروا الأنبياء، بعض الخوارج الجدد يعتقدون بتكفير بعض الأنبياء، فلما كنا نستدل عليهم في بعض المناقشات ببعض النصوص ونعتقد أنها سوف تفحمهم، ونقول لهم قال آدم عليه السلام: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23]، وقال يونس عليه السلام: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] قالوا: إن يونس كفر ثم عاد إلى الإسلام بالتوبة والعياذ بالله، فتجرءوا حتى على مقامات الأنبياء، بل حتى على خاتم الأنبياء وسيدهم عليه الصلاة والسلام، فالعياذ بالله من هؤلاء الهالكين الجهال الضالين، وذلك تبعاً لانحرافهم في تفسير قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1]. فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرمه، وإنما أخذ على نفسه أن يجتنب العسل؛ لما يصدر عنه من رائحة اشتكت منها بعض أزواجه. هذه قضية أخرى، ولم يكن تحريماً لما أحل الله. على أي الأحوال وصل بهم الجهل إلى هذا الحد من العدوان والظلم والبهتان، فادعى الخوارج والمعتزلة أن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها فهو مخلد في النار محرم عليه الجنان. أما المرجئة فقد كفرت بهذه الأخبار وأنكرتها ودفعتها، جهلاً منها بمعانيها.

بيان معاني نصوص الوعيد التي يستدل بها المعتزلة والخوارج

يقول: وأنا ذاكرها بأسانيدها وألفاظ متونها، ومبين معانيها بتوفيق الله، ثم ذكر بأسانيده حديث أسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص وأبي بكرة رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام)، وفي حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من انتسب لغير أبيه لم يرح بريح الجنة، وريحها يوجد من مسيرة سبعين عاماً)، فمثل هذه الأحاديث يفهم منها أنه حرمت عليه رائحة الجنة، فأخذوا منها أنه كافر كفراً أكبر، مثل: المشرك النصراني الذي يعتقد أن الله ثالث ثلاثة، ومثل: اليهود والمجوس .. كلهم سيان، ويستدلون بمثل هذا الحديث: (فالجنة عليه حرام)، كذلك حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات)، أي: نمام. ففهموا أن الشخص الذي يمشي بين الناس بالنميمة يحرم عليه الجنة، فيستدلون بهذه النصوص على كفر من ارتكب هذه المعصية. والجواب على هذا: أن نجمع بين هذا الحديث وبين مرور النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين فقال: (إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس، ثم وضع النبي صلى الله عليه وسلم جريدتين رطبتين على قبريهما وقال: اللهم خفف عنهما ما لم ييبسا)، يعني: ما دامت الجريدتان رطبتين لينتين؛ فيدعو الله أن يخفف عنهما ما لم تيبسا. الظاهر من الحديث أنهما ماتا بغير توبة؛ لأنهما إذا كانا تابا توبة صحيحة فالتوبة مقبولة. فالشاهد قوله: (اللهم خفف عنهما ما لم ييبسا)، فدخولهما تحت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم يؤيد أنهما ليسا بكافرين وليسا من المشركين؛ لأن الله حرم المغفرة والاستغفار والجنة على المشركين، ففي ضوء هذا يفهم هذا الحديث: (لا يدخل الجنة قتات)، يعني: نمام. وحديث أبي أمامة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل: وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: وإن كان قضيباً من أراك)، الأراك هو عود السواك، لو كان الذي اغتصبه أو سرقه بهذا اليمين أو استولى عليه بغير حق هو عبارة عن عود من السواك فقد حرم الله عليه الجنة. وحديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة نمام، ولا عاق، ولا مدمن خمر)، وحديث جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع)، أي: قاطع رحم، وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه، والديوث، ورجلة النساء)، أي: المرأة المسترجلة التي تتشبه بالرجال في ملابسها أو هيئتها أو كلامها.. إلى آخره، وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن خمر، والمنان بما أعطى)، وحديث أبي بكرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قتل نفساً معاهدة بغير حقها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها)، يعني: من قتل يهودياً أو نصرانياً من الذين لهم ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه يحرم عليه الجنة؛ فهذا يحرم قتله لأنه معصوم، والمعصوم إما المسلم وإما الذمي. إذاً: الذمي المعاهد لا يجوز ظلمه ولا قتله ولا الاعتداء على ماله ولا نفسه؛ لأنه إذا كان من أهل الذمة فبينه وبين المسلمين ذمة وعهد؛ فلا يجوز أن تخفر هذه الذمة أو تنقض.

كلام ابن خزيمة في معنى أحاديث الوعيد

قال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة رحمه الله تعالى: معنى هذه الأخبار إنما هو على أحد معنيين: أحدهما: لا يدخل الجنة. أي: بعض الجنان. يعني: لا يدخل جنة معينة، أو أن جزءاً معيناً من الجنة محرم على من أتى هذه الذنوب. يقول: أحدهما: لا يدخل الجنة، أي: بعض الجنان؛ إذ النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلم أنها جنان من جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها، فالجنة مراتب ودرجات متفاوتة تفاوتاً عظيماً. وهذه الأخبار التي ذكرها: من فعل كذا لبعض المعاصي حرم الله عليه الجنة، أو لم يدخل الجنة، معنى ذلك: لا يدخل بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأنبل وأكثر نعيماً وسروراً وبهجة وأوسع؛ أنه أراد لا يدخل شيئاً من تلك الجنان التي هي في الجنة، وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قد بين خبره الذي روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يدخل الجنة عاق، ولا منان، ولا مدمن خمر)، بين أنه إنما أراد حضيرة القدس من الجنة على أحد المعنيين. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: (لا يدخل حظيرة القدس سكير، ولا عاق، ولا منان). فهذا الحديث يوضح الحديث الأول. فتحمل بعض هذه النصوص على هذا الاحتمال الأول، أو على الثاني: منطقة معينة من الجنة تحرم على من أتى هذه الذنوب. قال: ولكنه يدخل الجنة، لكن جنات معينة ودرجات معينة من الجنة يدخلها من لم يأت بهذه المعاصي، أما من أتى بها فهو وإن دخل الجنة لكن يكون في مرتبة دون تلك التي دخلها من عافاه الله منها. قال: والمعنى الثاني: أن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد فإنما هو على شريطة إلا أن يشاء الله تعالى أن يغفر له. يعني: من فعل كذا فهو في النار، أو حرم الله عليه الجنة، أو لا يجد ريح الجنة إلا أن يعفو الله عنه. فيقدر هذا الشرط لفهم الحديث فهماً صحيحاً. فيقول: إن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد فإنما هو على شريطة إلا أن يشاء الله تعالى أن يغفر له ويصفح ويتكرم ويتفضل، فلا يعذب على ارتكاب تلك الخطيئة، إذ الله عز وجل قد أخبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر دون الشرك من الذنوب، كما في قوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فإذا قيل لك: ما الدليل على الاشتراط؟ فالدليل هو: (( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))، فلا يدخل تحت المشيئة إلا من سلم من الشرك وإن استحق دخول النار، وقد يعافى من دخول النار إذا شاء الله أن يعافيه ويعفو عنه بسبب من أسباب كثيرة جداً سنذكرها إن شاء الله في حينها. يقول: واستدللت أيضاً بخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى، وساق بإسناده إلى قيس بن محمد بن الأشعث : أن الأشعث وهب له غلاماً فغضب عليه بعدما وهبه الغلام، وقال: والله ما وهبت لك شيئاً، فلما أصبح رده عليه ثانية وندم، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف على يمين صبراً ليقتطع مال امرئ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان؛ إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه). الشاهد تعليق العقوبة على مشيئة الله تبارك وتعالى، وقد تقدم حديث عبادة بن الصامت رضي الله تبارك وتعالى عنه في قصة البيعة، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه: (بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف؛ فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه؛ فبايعناه على ذلك). الشاهد أنه بعدما أخذ عليهم ألا يشركوا بالله تبارك وتعالى شيئاً أخذ عليهم أيضاً ألا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم في جملة أخرى من المعاصي، ثم قال: (فمن وفى منكم فأجره على الله) هذا المسدد الموفق الذي وفى بالبيعة ولم يخالف ولم يرتكب شيئاً من هذا. قوله: (ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له)، المقصود من أتى بشيء دون الشرك يستوجب حداً من الحدود فعوقب في الدنيا بإقامة الحد عليه، فإقامة الحد تطهير وكفارة لهذا الذنب، سواء أقر عند الحاكم أو شهد عليه الشهود بأنه فعل فأقيم عليه الحد، لكن إذا ستره الله فليستر على نفسه طمعاً في رحمة الله، كما ستر عليه في الدنيا يستر عليه في الآخرة، لكن لا يفضح نفسه ولا يكشف ستر الله تبارك وتعالى عليه. وذلك لقوله: (ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه). الشاهد: دخول السارق أو الزاني أو القاتل أو فاعل أي شيء من هذه المخالفات تحت المشيئة، وهذا يدل على أنه فعل شيئاً دون الشرك، وعلى أنه مؤمن ناقص الإيمان بمعصيته، لكن ليس مؤمناً إيماناً مطلقاً كما بينا ذلك مراراً. يقول الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله: فاسمعوا الخبر المصرح بصحة ما ذكرت أنها جنان في جنة، واسم الجنة واقع على كل جنة منها على الانفراد، فيستدل بذلك على صحة تأويلنا الأخبار التي ذكرنا عن النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لبعض المعاصي لم يدخل الجنة، إنما أراد بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأفضل وأنبل وأكثر نعيماً وأرفع، إذ محال أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة. يريد: لا يدخل شيئاً من الجنان، ويخبر أنه يدخل الجنة، فتكون إحدى الكلمتين دافعة للأخرى، وأحد الخبرين دافعاً للآخر. ففي الحديث: (من قال لا إله إلا الله صادقاً من قلبه دخل الجنة أو حرمه الله على النار) إلى آخر الجملة الأخرى من الأحاديث، فمن يقول: لا إله إلا الله، فهو بذلك يستحق الجنة، ثم يأتي نص آخر فيكون هذا الشخص الذي فعل معصية معينة تحرم عليه الجنة أو يدخل النار. فالمقصود أن هناك تعارضاً في الظاهر لا يقع في الحقيقة بين النصوص، فهذا الجنس من الأخبار لا يدخله النسخ؛ لأنه يلزم من ذلك التضارب في أشياء لا يدخل فيها النسخ، لكن هذا من ألفاظ العام الذي يراد به الخاص.

درجات الجنة وتعددها

ساق بإسناده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه: أن الربيع أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! أنبأني عن حارثة أصيب يوم بدر، فإن كان في الجنة صبرت واحتسبت، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، فقال: (يا أم حارثة )، هذه ولدها قتل شهيداً رضي الله عنهما، فأتت النبي عليه الصلاة والسلام تقول له: يا رسول الله! أخبرني عن حارثة أصيب يوم بدر؛ فإن كان في الجنة صبرت واحتسبت، ويكون لها في ذلك عزاء، وإن كان غير ذلك اجتهدت في البكاء، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا أم حارثة ! إنها جنان في جنة، وإنه أصاب الفردوس الأعلى) رضي الله عنه، فهذا نص على أنها جنان في جنة، يعني: الجنة الكبرى مكونة من جنان تتفاوت في منازلها وسعتها وشرفها.

قال أبو بكر : قد أمليت أكثر طرق هذا الخبر في كتاب الجهاد، وقد أمليت في كتاب ذكر نعيم الجنة: ذكر درجات الجنة وبُعد ما بين الدرجتين، منها: إخبار النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء لتفاضل ما بينهما. هذه مرتبة أعلى بكثير، فهم يتراءون وينظرون إلى منازلهم وهم في الجنة كما تنظرون أنتم وأنتم في الأرض إلى الكوكب الدري الغابر في أفق من آفاق السماء، كم يكون بعيداً عنكم، فهذا تفاضل ما بين أهل الغرف وأصحاب الغرفات، وبين أناس في عموم أهل الجنة يتراءون هؤلاء الذين شرفهم الله بهذه المنزلة، فهذا يدل على أن الجنة نفسها درجات، كما قال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]، فدرجات الجنة تذهب علواً ودركات النار تذهب سفلاًً.

وأيضاً يقول صلى الله عليه وسلم لما حكى هذا الحديث وأخبرهم: (أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء؛ لتفاضل ما بينهم، فقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين)، يعني: هذه المنزلة قد يبلغها أناس ليسوا من الأنبياء ولا من المرسلين بل هم رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين.

يقول: وأمليت أخبار النبي صلى الله عليه وسلم بين كل درجتين من درج الجنة مسيرة مائة عام. بين كل درجتين مسيرة تقطع في مائة سنة.

فمعنى هذه الأخبار التي فيها ذكر أن من يرتكب بعض الذنوب لا يدخل الجنة معناها: لا يدخل العالي من الجنان التي هي دار المتقين الذين لم يرتكبوا تلك الذنوب والحوبات والخطايا.

ثم قال: وقد يجوز أن يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة. يريد لم يدخل الجنة التي يدخلها من لم يرتكب هذه الحوبة؛ لأنه يحبس عن دخول الجنة إما للمحاسبة على الذنب، أو لإدخاله النار ليعذب بقدر ذلك الذنب، إن كان ذلك الذنب مما يستوجب به المرتكب العقاب، إن لم يسمح الله ويصفح ويتكرم فيغفر ذلك الذنب. يعني: يدخل الجنة مع أول الداخلين لكن يحبس حتى يقتص منه، أو إذا كان الذنب يستوجب النار يدخل النار فترة حتى يتطهر، ثم يدخل الجنة إن كان مات على التوحيد، فهذه الأخبار إذا لم تحمل على هذه المعاني كانت على وجه التهاتر والتكاذب، وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، على ما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه. يعني: ظنوا بكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام أحسن وأهدى الظن، وأهدى الفهم وأتقاه لله وأهناه، ثم ساق بإسناده عن علي رضي الله تبارك وتعالى عنه هذا الأثر فذكره.

فخلاف هذا المسلك الذي سلكه العلماء هو مسلك القاصرين الجهلاء الذين ينظرون بعين واحدة هي عين الرجاء، أو عين التخويف والوعيد والتهديد دون أن يجمعوا بين النصوص بهذا الجمع.

ثناء حافظ حكمي على طريقة ابن خزيمة

يقول الشيخ حافظ حكمي بعدما سرد هذا الكلام: انتهى كلامه باختصار، وهذا كلام متين من إمام متضلع من معاني الكتاب والسنة، ذي خبرة وعلم لمواردها ومصادرها.

وقوله رحمه الله تعالى: وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يعن رحمه الله التأويل الفاسد الذي اصطلح عليه المتكلمون المتأخرون من صرف النصوص عن معانيها إلى الاحتمالات البعيدة. هذا هو التأويل الفاسد، الذي هضموا به معاني النصوص بما اقتضته عقولهم السخيفة، وليس ذلك من طريقته -أي: ابن خزيمة - ولا من شأنه رحمه الله، وإنما عنى ما أشار إليه في غير موضع من كتبه من حمل المجمل على المفسر، والمختصر على المتقصي، والمطلق على المقيد، والعموم على الخصوص.. وما أشبه ذلك من التأليف بين النصوص ومدلولاتها؛ لئلا تكون متناقضة يرد بعضها معنى بعض، لأن هذا التناقض مما ينزه عنه كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]، فهذه طريقة جميع أئمة المسلمين من علماء التفسير والحديث والفقه في أصول الدين وفروعه رحمهم الله تعالى ورضي عنهم.

الجمع بين عفو الله وعقابه لمن رجحت كفة سيئاته

يقول: مسألة: فإن قيل: وما الجمع بين ما تقدم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في من ارتكب حداً لم يقم عليه فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبه، وبين ما صرحت به النصوص التي في الميزان والحساب والجنة من أن من رجحت خطاياه وسيئاته بحسناته تمسه النار ولابد؟ يعني: لا إشكال في ذلك ولا منافاة ولله الحمد، وقد حصل جمع فاصل للنزاع بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الذي ذكرناه: بأن من يشأ الله عز وجل أن يعفو عنه يحاسبه الحساب اليسير الذي فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالعرض، وبين أن من نوقش الحساب عذب، فهو يحاسب، لكن صورة حساب الشخص الذي مات على ذنب من هذه الذنوب واستوجب الحد ولم يقم عليه وستر الله عليه؛ فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه. فالجواب: أن من شاء الله أن يعفو عنه فإنما يحاسب حساباً يسيراً، ما الحساب اليسير؟ مجرد عرض الأعمال عليه، ثم يقال له: (فإني أسترها عليك اليوم كما سترتها عليك في الدنيا). أما الشخص الذي مات على معصية دون أن يتوب منها فهذا سوف يحاسب حساباً عسيراً، كيف يكون الحساب؟ بالمناقشة، متى ما نوقش وحصل أخذ ورد، في هذه الحالة يكون الله قد شاء أن يعذبه. يقول عليه الصلاة والسلام: (يدنو أحدكم من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه، فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. فيقول: أعملت كذا وكذا؟ فيقول: نعم. فيقرره بها، ثم يقول: إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم) ، وأما الذين يدخلون النار بذنوبهم فهم ممن يناقش الحساب، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، نسأل الله عز وجل أن ييسر حسابنا، ويتجاوز عنا، ويغفر لنا بمنه وكرمه آمين.

يقول الإمام رحمه الله تعالى الإمام ابن خزيمة : باب ذكر أخبار رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة من جهة النقل جهل معناها فرقتان: فرقة المعتزلة والخوارج، احتجوا بها وادعوا أن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها مخلد في النار محرم عليه الجنان. الكلام بالنسبة للخوارج فيمن فعل الكبيرة ولم يتب منها، هم يقولون: إذا فعل المعاصي فقد كفر وارتد وعاد إلى الإسلام بالتوبة، فبالتالي لا يختلفون في أن من تاب فهو ناج بغض النظر عن تكييف هذه التوبة، أما أهل السنة والجماعة فيعتقدون: أن من تاب إلى الله توبة صحيحة تاب الله عليه، حتى ولو من أكبر الذنوب وهو الشرك بالله تبارك وتعالى، فباب التوبة مفتوح له ولا يغلق أبداً حتى تطلع الشمس من المغرب، أو قبل الغرغرة في حق عمر الإنسان، فليست القضية معهم في شأن الذي تاب؛ لأن الذي تاب توبته مقبولة، وهو ناج إن شاء الله؛ ما دامت التوبة صحيحة مستوفية لشروطها، لكن أهل السنة يعتقدون أن إيمانه ينقص بهذه المعصية، والخوارج يعتقدون أن إيمانه يحبط تماماً، وأنه إذا تاب يعود إلى الإسلام من جديد، حتى وصل الأمر أنهم كفروا الأنبياء، بعض الخوارج الجدد يعتقدون بتكفير بعض الأنبياء، فلما كنا نستدل عليهم في بعض المناقشات ببعض النصوص ونعتقد أنها سوف تفحمهم، ونقول لهم قال آدم عليه السلام: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا [الأعراف:23]، وقال يونس عليه السلام: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:87] قالوا: إن يونس كفر ثم عاد إلى الإسلام بالتوبة والعياذ بالله، فتجرءوا حتى على مقامات الأنبياء، بل حتى على خاتم الأنبياء وسيدهم عليه الصلاة والسلام، فالعياذ بالله من هؤلاء الهالكين الجهال الضالين، وذلك تبعاً لانحرافهم في تفسير قوله تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ [التحريم:1]. فالمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرمه، وإنما أخذ على نفسه أن يجتنب العسل؛ لما يصدر عنه من رائحة اشتكت منها بعض أزواجه. هذه قضية أخرى، ولم يكن تحريماً لما أحل الله. على أي الأحوال وصل بهم الجهل إلى هذا الحد من العدوان والظلم والبهتان، فادعى الخوارج والمعتزلة أن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها فهو مخلد في النار محرم عليه الجنان. أما المرجئة فقد كفرت بهذه الأخبار وأنكرتها ودفعتها، جهلاً منها بمعانيها.