أرشيف المقالات

الرحلة في طلب الحديث

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
الرحلة في طلب الحديث

قام المسلمون برحلاتٍ من أجل جمعِ الحديث، وبدأت هذه الرحلات من عصر الصحابة، وزادت قوة على مرِّ الأيام، فجابر بن عبدالله سافر على راحلته شهرًا؛ ليسمع رواية محدِّث، ورحل إلى بيت المقدس؛ ليسمع حديثًا من أبي الدرداء، ومكحول تجشَّم السفر بين مصر والشام والعراق والحجاز؛ لسماع الحديث، وسعيد بن المسيب كان يواصل الأسفار بالليل والنهار؛ لسماع حديث واحد أو عدد من الأحاديث.
 
وبذلوا لطلبهم الحديث كل غالٍ وثمين، فالزهري أنفق ما عنده في طلب الحديث، وكان عمله يلهيه عن أهله، حتى إن زوجته قالت: والله، لهذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاث ضرائر، وأنفق ابن المبارك في طلب الحديث أربعين ألف درهم، حتى لم يبقَ له نعلٌ، فكان يمشي حافيًا.
 
أما عدد طلبة الحديث، فكان كبيرًا، حتى ليظن القارئ أن ما يذكر من أرقام أقرب إلى الأسطورة منه إلى الحقيقة، فقد بلغ مثلاً عدد تلامذة الحديث في الكوفة في زمن ابن سيرين أربعة آلاف، وكان مسجد المدينة يضيق بالطلبة الذين يحضرون دروس مالك بن أنس، وكان يحضر دروس الحديث التي يلقيها علي بن عاصم ثلاثون ألف طالب.
 
ولكل حديث نبوي متنٌ وإسناد، فالمتن هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإسناد هو سلسلة الرجال الذين نُقل عنهم الحديث، ابتداءً من الصحابي الذي سمع الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، حتى انتقاله إلى الراوي، من ذلك الحديث الذي رواه البخاري، ونصه: "حدَّثنا أبو النعمان محمد بن الفضل حدثنا جرير بن حازم حدثنا الحسن حدثنا عبدالرحمن بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبدالرحمن بن سمرة، لا تسأل عن الإمارة؛ فإنك إن أُوتيتَها عن مسألة، وُكِلت إليها، وإن أوتيتها من غير مسألة، أُعِنت عليها...)).
 
فعبارة: "حدثنا أبو النعمان محمد بن الفضل حدثنا جرير بن حازم حدثنا الحسن حدثنا عبدالرحمن بن سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم"، هذه العبارة جميعها تسمى إسنادًا، ومتن هذا الإسناد هو قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عبدالرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أوتيتَها عن مسألة، وُكِلت إليها، وإن أوتيتَها من غير مسألة، أُعِنت عليها)).
 
فإسناد هذا الحديث هذا متنُه، ومن التحريف إذا جعلناه لمتن حديث آخر، ومتن هذا الحديث هذا إسناده، ومن التحريف إذا جعلناه لإسناد حديث آخر، والرواة والحفاظ كانوا يحفظون أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمتونها وأسانيدها.
 
ويعُدُّ المحدِّثون عدمَ ترتيب الرجال في السند أو إسقاط واحد منهم بعدم ذكره، يعدُّون وجود مثل هذا في الحديث علامةً من علامات ضعفه، فيسمونه حديثًا ضعيفًا؛ لذلك كان أصحاب الحديث الصحيح يحفظون ويروون الأحاديث بمتونها وأسانيدها الخاصة بها، مع المحافظة على الترتيب في رجال السند من غير تقديم أو تأخير، ومن غير أن ينسوا واحدًا منهم.
 
وقد ضبط كلُّ راوٍ من رواة الحديث الصحيح حفظَ كلِّ سند دون الإخلال بترتيب رجاله، وقد كان كل منهم آيةً في الحفظ في هذا الباب.
 
وكان كثيرٌ من أهل الحديث يمتحنون الرواةَ بقلب الأحاديث وإدخالها عليهم، فهذا الخطيب البغدادي يروي في هذا المجال عن البخاري ما يكبره في أعيننا ويعظمه في نفوسنا، قال: فإنهم اجتمعوا - أي: علماء بغداد - حين قدِم عليهم البخاري، وعمدوا إلى مائة حديث من أحاديثه، فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا لإسناد آخر، وإسناد هذا لمتن آخر، ودفعوها إلى عشر أنفس، إلى كل رجل عشرة، وأمروهم إذا حضر المجلس يلقون ذلك على البخاري، فحضر المجلس أصحابُ الحديث من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم من البغداديين، فلمَّا اطمأن المجلس بأهله، انتدب إليه رجل من العشرة، فسأله عن حديث من أحاديثه بعد أن قلب متنه وإسناده، فقال البخاري: لا أعرفه، فسأله عن آخر كالأول، فقال: لا أعرفه، فما زال يلقي عليه واحدًا بعد واحد حتى فرغ من عَشَرته، والبخاري يقول: لا أعرفه، فقال الفقهاء ممَّن في المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض: فهِم الرجل، ثم انتدب إليه رجل من العشرة عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال البخاري: لا أعرفه، ثم انتدب إليه الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من الأحاديث المقلوبة، والبخاري لا يزيد على: لا أعرفه، فلما علم البخاري أنهم فرغوا، التفت إلى الأول منهم، فقال: أما حديثك الأول، فهو كذا، وحديثك الثاني فهو كذا، والثالث والرابع على التوالي، حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى إسناده، وكل إسناد إلى متنه، وفعل بالآخرين مثل ذلك، ورد متون الأحاديث كلها إلى أسانيدها، وأسانيدها إلى متونها، فأقرَّ له الناس بالحفظ، وأذعنوا له بالفضل.
 
ولم يكن أهل الحديث أهلَ علمٍ وذكاء وقوة حافظة فحسب، بل كانوا أيضًا أهل إيمان وتقوى وزهد، فقد طلب الأمير خالد - أميرُ بخارى - من البخاري أن يعلِّم أولاده في البيت، فقال له: إن العلم يؤتى إليه ولا يأتي إلى أحد، فغضب عليه ونفاه.
 
ومن قبلُ كان كذلك الإمام مالك، لما سافر هارون الرشيد إلى المدينة المنورة لزيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذهب إلى المسجد النبوي الشريف، فرأى الإمام مالكًا - رضي الله عنه - يدرِّس العلم، فقال للإمام مالك: يا مالك، ما ضر لو جئتنا لتدرس العلم لنا في بيتنا، فقال الإمام مالك: يا هارون، إن العلم لا يأتي، ولكنه يؤتى إليه، فقال له: صدقت يا إمام دار الهجرة، وسوف آتي إليك في المسجد، فقال له الإمام مالك: يا هارون، إذا جئتنا متأخرًا، فلن أسمح لك أن تتخطى رقاب الناس في المسجد، فقال له هارون الرشيد: سمعًا وطاعة، وبينما كان الإمام مالك - رضي الله عنه - يلقي درسًا بعد صلاة العصر دخل هارون الرشيد المسجد ودخل معه رجل ووضع الكرسي لهارون الرشيد، فنظر الإمام مالك إلى هارون الرشيد فوجده جالسًا على الكرسي في المسجد، فغيَّر مجرى الحديث، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن تواضع لله رفعه، ومن تكبَّر وضعه الله))، ففهِم هارون الرشيد المعنى، وأمر أن يُرفَع الكرسي من تحته، وجلس على الأرض كما يجلس الناس، وبعد ذلك دخل على الإمام مالك قبل سفرِه وأعطاه هدية، وقال له: يا مالك، خذ هذه الهدية، وكانت أربعمائة دينار، فقال له الإمام: أعفني يا أمير المؤمنين، أنا لا أستحق الصدقة، ولا أقبل الهدية، فقال له الرشيد: ولماذا لا تقبل الهدية، والنبي - صلى الله عليه وسلم - قبل الهدية؟ فقال له مالك: أنا لست نبيًّا، ثم قال له: خذ مالَك وتوكل على الله، وبعد ذلك دعا الرشيد الإمام مالكًا لزيارة بغداد عاصمة الخلافة العباسية آنذاك، فرفض الإمام مالك، وقال: والله لا أرضى بجوارِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بديلاً.
 
فالله - سبحانه - لأنه قال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9]، هيَّأ لرسولِه - صلى الله عليه وسلم - صحابةً وتابعين لا مثيل لهم في الدنيا، بعظم تقواهم وعلمهم وحفظهم لكتاب الله وحديث رسوله، وشدة حرصهم على نقل كلام الله وكلام رسوله للناس من غير نقص ولا زيادة ولا تحريف.
 
اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علِمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم، اللهم آمين!

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢