العبر في انهيار الشيوعية


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبيك ورسولك وعبدك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا من فضلك وكرمك يا أرحم الراحمين، اللهم اجعل تجمعنا هذا تجمعاً مرحوما، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل فينا شقياً ولا محروماً.

وبعد: فالحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأنعم علينا باتباع سنة وهدي خير الأنام، صلوات الله وسلامه عليه، فإنها نعمة عظيمة لا يعرف قيمتها ولا يقدرها حق قدرها إلا من اطلع على ما عانى العالم منه قديماً، وما يعاني منه حديثاً في ظل العقائد البعيدة عن هدي الله، والمخالفة لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلنا نسمع في هذه الأيام أغرب ما يمكن أن نسمع، وأعجب ما كنا نتوقع أن نسمعه، بل بعضنا لم يكن يتوقع ذلك ولا يخطر له ببال، ألا وهو هذه الأحداث الكبرى التي تجري فيما يسمى بـأوروبا الشرقية.

ولسنا بمعزل عن هذا العالم وعن عقائده وأديانه مهما حاولنا أن نكون بمعزل، وذلك لأن وسائل إعلامنا تكاد تكون -في كثير من الأحيان- صدىً لما تردده وسائل الإعلام العالمية، فما يردد هناك تجده هنا، ويعجب الإنسان ويحار وهو يسمع الأحداث كل يوم، ولكنه لا يعرف تفسيرها، ولا يدري لماذا؟

لأن ما يعرض لديه هو نسخة مطابقة لما يعرض هنالك.

أما نحن المسلمين الذين نملك تفسير الأحداث تفسيراً إسلامياً، فإننا لانجد المفسر أو المحلل الإسلامي الذي يعطينا التحليل وراء وقوع هذه الأحداث، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العالم كله متقارب كما ترونه اليوم.

وما يدور في داخل المعسكر الشيوعي يهمنا، إذ نحن الآن -في العالم الإسلامي- نصطلي بنار الشيوعية الحمراء في أفغانستان وفي مناطق كثيرة جداً من أنحاء العالم الإسلامي، ومعرفتنا لعدونا هي الخطوة الأولى التي لا يمكن تجاوزها في مقاومته وصد كيده وجهاده في سبيل الله عز وجل، ومن هنا كان علينا أن نتطلع إلى معرفة هذه الأحداث ومعرفة ماذا يدور وراءها.

والحقيقة أن الوقت يضيق جداً عن سرد الأمر بالتفصيل ولا سيما ما يتعلق بنشأة الشيوعية، ولماذا نشأت هذه الفكرة؟

ثم كيف طبقت؟

ثم ما هي التعديلات التي جرت عليها؟

ثم التعديل المفاجئ الأخير، وما هي أبعاده؟

وما هي أهدافه؟

والكلام في هذا الموضوع يطول جداً، وإنما أردنا فيما يناسب المقام والمكان هنا أن نحدث إخواننا المسلمين عن بعض العبر التي تهمنا، سواء أكان ما يحدث الآن على يد ميخائيل جورباتشوف تطويراً للشيوعية ووسيلة لتغلغلها في العالم بشكل أكبر كما يرى طائفة من المحللين، أم كان بخلاف ذلك إنقاذاً لها من الانهيار وتغييراً جذرياً لها، وهو كما يرى البعض أنه ما هو إلا عميل أو ألعوبة غربية أرادت تقويض مذهب أمته، وبين هذين التحليلين نستخلص عبراً لا تتغير أياً كانت النتيجة، أو أياً كانت العلة الحقيقية بالنسبة لهذا التغيير المفاجئ، على أنه يجب علينا أن نعطي بعض الضوء على هذا المنهج الخبيث بإيجاز شديد جداً.

أولاً: الشيوعية أو ما يسمى بـالماركسية تنسب إلى اليهودي الألماني كارل ماركس وهو يهودي ابن يهودي لا شك في ذلك، وقد أعانه على وضع هذا المبدأ الخبيث رجل آخر يدعى فريدريك إنجلز، وهذان الرجلان هما اللذان وضعا الأساس الفكري للشيوعية بمفهومها الحاضر.

أصول الشيوعية

أما أصولها فهي مأخوذة من عدة أفكار، من أهمها نظرية داروين التي تعلمونها جميعاً، وهي أن الكائنات الحية مرت بسلسلة من التطورات انتهت بالإنسان؛ فهو المرحلة الأخيرة للتطور، وهذا التطور حتمي وجبري، كما يزعم أولئك الظالمون الكافرون الذين قال الله تعالى فيهم: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].

وثاني هذه المصادر هي: الفلسفة المثالية الألمانية، وقد برع الألمان في الفلسفة النظرية البحتة وتوسعوا فيها، وكان من أبرزهم الفيلسوف الأوروبي الكبير هيجل، الذي أخذ عنه ماركس نظرية النقيض، ولكن هيجل جاء بها نظرية خيالية في علم المنطق كما يسمونها، وجاء ماركس فطبقها على الناس، وقال: إن الناس في صراع، وإن الحياة في صراع، وأساس الصراع -في نظر هذا اليهودي وفي نظر الشيوعية- بين الناس هو الاقتصاد والبحث عن الطعام والشراب، وبناءً على ذلك وعلى الحتمية التي أخذها من النظرية الداروينية، قسموا تاريخ الإنسانية إلى خمس مراحل نوجزها لكم، ولعلكم إن شاء الله تستوعبونها، لتعلموا أن هذا المذهب منافٍ كل المنافاة لما أنزله الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جميع الرسل.

تطور الحياة عند الشيوعية

يقولون: أول مرحلة هي الشيوعية المطلقة "البدائية" فالإنسان -كما يزعمون- في هذه المرحلة بعد أن تطور من مرحلة الحيوان حتى أصبح إنساناً عاش عيشة حيوانية مطلقة، فكانت الشيوعية الأولى وهي الشيوعية المطلقة، فكان الإنسان لا يملك زوجة ولا مالاً ولا شيئاً قط، وإنما يعيش في الغابات هكذا.

المرحلة الثانية:

ثم انتقل الإنسان إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة الرق -كما يسمونها- وهي وجود أقلية مسيطرة تسترق وتستعبد بقية الناس، وتسخرهم عبيداً ليحرثوا وليزرعوا لها الأرض.

المرحلة الثالثة:

وهي مرحلة الإقطاع، وفي هذه المرحلة أصبح الملاك الإقطاعيون يملكون المزارع الكبيرة التي قد تضم عدة مزارع أو قرى يملكها الإقطاعي أو الشريف أو النبيل... إلخ، بمن فيها من عبيد ورقيق إلى آخر ما لا نستطيع التفصيل فيه.

المرحلة الرابعة:

هي مرحلة الرأسمالية، وهي مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، واكتشاف الآلة البخارية وأمثالها، حيث تحول الناس -كما يقولون- من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي الحديث.

المرحلة الخامسة والأخيرة:

بعد مرحلة الرأسمالية، هي مرحلة الشيوعية الأخيرة، فالعالم عندهم يبدأ بـالشيوعية وينتهي بـالشيوعية، والشيوعية الأخيرة لابد أن تحكم العالم.

ويهمنا هنا مسألة أساسية وقضية مهمة جداً وهي ما قررته الشيوعية من أن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أمر حتمي، فيسمونه الحتمية، فهو حتمي قسري جبري قهري ليس للإنسان ولا للشعوب أي إرادة فيه، فالتاريخ يمشي بهم هكذا، وسيتحولون رغماً عن أنوفهم، وليس لهم خيار في هذا التحول، وليس لهم خيار في التراجع عنه مطلقاً، وأيضاً سبب التحول من مرحلة إلى مرحلة هو اكتشاف مادي، فعند الشيوعية أن أفكار الناس وعقائدهم وأديانهم وأخلاقهم وفلسفاتهم وآدابهم هي من نتاج الواقع الذي يعيشونه، فإذا تغير الواقع المادي تغيرت الأديان وتغيرت الحياة، والانتقال من مرحلة إلى أخرى هو بسبب مسألة مادية بحتة وليست عقلية ولا ذهنية.

فمثلاً: الانتقال من الشيوعية الأولى إلى الرق سببه اكتشاف الزراعة، ويقول هؤلاء المفترون الكاذبون: إن الإنسان في المراحل الأولى كان همجياً يأكل كل شيء، ثم اكتشف الزراعة لأنه رأى الثمار تسقط ثم تنبت، فلما اكتشف الزراعة انتقل حتمياً وبغير إرادته إلى مرحلة الرق، فالذين استرقوا -المزارعين- هم تلك الطبقة أو الفئة القليلة.

ثم انتقل الناس إلى مرحلة الإقطاع عندما اكتشفت الآلات الزراعية مثل المحراث، فإذاً الآلة هي سبب نقلة التاريخ، فالتاريخ الإنساني كله يتغير لاكتشاف يكتشف، فاكتشف المحراث فتغير مجرى التاريخ وأصبح العالم كله يخضع لنظام الإقطاع.

بعد ذلك اكتشفت الآلات الصناعية؛ فانقلب وجه التاريخ كله أيضاً فتغير وأصبح رأسمالياً.

ثم الشيوعية -المرحلة الأخيرة من الشيوعية- أيضاً حتمية لأنها تطبيقاً لنظرية النقيض.

والرأسمالية تحمل في ذاتها نقيضها، مما هو نقيض الرأسمالية والرأسماليون الصناعيون يستأثرون بالثروة جميعاً، فتكون النتيجة أن العمال يُضطهدون ويُهضمون، وقد كان ذلك واقعاً أن يثوروا على الرأسمالية، فينشأ من الصراع بين العمال وبين الرأسمالية ظهور القوة الثالثة حسب المنطق الجدلي الجالكسيدي -كما يسمونه- فتنتج قوة ثالثة هذه القوة هي الشيوعية الجديدة متمثلة في دولة البرولوتاريا أي: الدولة العمالية.

هذا هو المذهب الشيوعي نظرياً بإيجاز شديد، لكن واقعياً كيف طبق؟؟

الأدلة الواقعية على بطلان مذهب الشيوعية

أول ما حدث الخلل في هذه الحتميات أن كارل ماركس وهيجل توقعا أن الشيوعية تنجح، وأول ما تنجح في بريطانيا لأنها أكبر دولة صناعية رأسمالية في القرن التاسع عشر، لأنهما كما تعلمون كانا في القرن التاسع عشر، أي قبل مائة سنة أو أكثر فكانت هذه النظريات، وكانت أحوال العمال في بريطانيا تدعوا إلى الرثاء فعلاً، كان النساء والرجال يعملون لمدة ثمانية عشر ساعة تحت الأرض في أنفاق مظلمة ويجرون عربات معبأة بالفحم، من أجل استخراج الفحم لأنه كان الوقود الرئيسي في ذلك الزمن، وكثير منهم يموتون ويدفنون في هذه الأنفاق ليس لهم أي حقوق ولا يؤبه لهم، فقال ماركس: لابد أن العمال سيثورون، فتكون الشيوعية في بريطانيا، لأن حتمية التاريخ هكذا.

فأول ما أكذبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأبطل قوله للعالم كله، أن الدولة البريطانية حتى اليوم لم تصبح دولة شيوعية، وإنما نجحت الشيوعية وقامت في دولة زراعية وهي روسيا القيصرية وكانت دولة زراعية، فانتقلت من مرحلة الزراعة إلى مرحلة الشيوعية دون أن تمر حقيقة بمرحلة الرأسمالية.

فهذا أول تكذيب للنظرية، نحن نعلم كذبها من كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحتاج هذا عند المسلمين إلى نقاش، لكن نتكلم من خلال منطقهم ومنظورهم هم، لأننا وللأسف الشديد ابتلينا بهذه النظريات في بلاد المسلمين، وسوف نعرض له -إن شاء الله- ولا يزال كثير من المسلمين أو من أدعياء الإسلام المعتنقين لهذه النظرية في عمىً وغفلة عن هذه الحقائق الواضحة، إذاً كان هذا أول ما أفسد الحتمية.

الأمر الثاني: أن في عام (1917م) قامت الثورة الشيوعية وحكمت روسيا، فجاء التكذيب الثاني من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما قرره هذا اليهودي وأتباعه، وهو أن المفروض أن تكون الحكومة حكومة عُمالية، فالذي يحكمها المفروض أن يكون العمال، ومع الزمن تتلاشى الدولة نهائياً.

والمفروض في الشيوعية الأخيرة ألا يكون هناك دولة على الإطلاق إنما الناس هكذا يعيشون، وكل يعمل حسب طاقته وله حسب حاجته فقط، وليس هناك دولة ولا ضابط ولا نظام، والذي حصل أنه لما حكم لينين ثم استالين شهدت روسيا دكتاتورية فظيعة تسلطية، لم يكن لها نظير إلا ما يذكره الغرب عن هتلر وعن موسليني وعن أشباههما، واستالين أشد منهما ومن غيرهما، فلم تكن هناك أي حكومة للطبقة الكادحة -كما تسمى- بل كانت الحكومة للحزب الشيوعي، بل كان الثراء الفاحش والاستبداد الفظيع والاستئثار الكامل للسلطة وللثروة؛ وكل شيء لأعضاء الحزب، وأما البقية فبقوا في حالة يرثى لهم.

ثم جاء الانهيار وجاء التكذيب الثالث من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في واقع الشيوعية، عندما كان من المفروض أن تشمل الشيوعية العالم كله، كان التخطيط أن الشيوعية هي دين المستقبل وهي عقيدة المستقبل، وأنه لن يبقى على وجه الأرض أي دولة إلا وتكون فيها الشيوعية.

فمن النكت الظريفة التي في هذا الباب -والتي تعد من نكت التاريخ وهي حقيقة- أنه لما قامت دعوة الإخوة في الهجر التي انطلقت أساساً في هذه البلاد، ثم كانوا هم الجيش الذي كان هو جيش التوحيد؛ وفتح الله على أيديهم هذه البلاد، فلما قامت هذه الحركة تجمع الناس حولها وفي الهجر كانوا يعلمون الناس الأصول الثلاثة والتوحيد والعقيدة ثم ينطلقون للدعوة، ثم كان الجهاد كما تعلمون جميعاً، وقد علقت جريدة البرافدا في روسيا بأن تأثير الثورة الشيوعية وصل إلى وسط صحراء الجزيرة العربية، وها نحن نجد الهجر ونجد الدعاة فيها يترسمون خطى الثورة الشيوعية البلشفية، ولا يمكن للعقل أن يصدقه! ولكن هكذا كل شيء في التاريخ أن الأصل والقاعدة والقانون فيه: هو القانون الذي وضعه ماركس وإنجلز.

ظهور الاشتراكية العلمية

ولو دخلنا إلى جانب آخر من جوانب النقض لوجدنا الشيء العجيب من الناحية الحتمية البحتة، فقد بنت الشيوعية نظريتها على نظرية داروين، وبنتها على أساس أن المادة هي الحقيقة.

ولا بأس أن نستطرد في هذا الأمر قليلاً لأن الإخوة على مستوى جيد من فهم هذا الكلام، وكان ماركس يقول: ليس هناك وجود للغيب -عياذاً بالله- أنكر الغيب كله، الوجود الحقيقي هو وجود المادة، والمادة هي الشيء الموضوعي الوحيد، فما هي المادة؟

قال: المادة لا تحتاج إلى تفسير ولا إلى بيان، فالجدار مادة، والحديد مادة، والجسم مادة، وشيء أمامك تؤمن به وانتهى الأمر، لكن الغيب لا تؤمن به ولا تصدقه، وكان هذا الكلام هو القول السائد والمنتشر، بعد ذلك جاءت نظرية إنشتاين على سبيل المثال، ونظريات علمية أخرى فأصبح تفسير المادة أشبه ما يكون بعلم الغيب؛ لأنك الآن تقول هذا الشيء الذي أمامي مادة.

وحقيقة لو أن لدى أحدنا منظاراً يكبر الأشياء بشكل كبير جداً، لا ستطاع أن يرى المادة بشكل آخر، فسيرى الذرة، ويرى النواة، ويرى الإلكترونات وهي تدور حولها -مثلاً- فلا يرى إلا مجموعة من الأشياء تدور حول بعض، فوجدوا بعد أن مات ماركس أن حركة الإلكترونات حول النواة في أي شيء من المادة؛ أنه يشبه حركة المجموعة الشمسية في الفضاء، بشكل مذهل، فما هي الذرة؟

وما هي النواة؟

وجدوا بالعملية الحسابية التي اكتشفها إنشتاين أن الانشطار الذي يحدث بين الإلكترونات وبين النواة هذا يؤدي إلى القنبلة الذرية التي هي مبنية على هذا الاكتشاف.

إذاً: كل ما قيل في القرن التاسع عشر كله كلام غير عملي، وكله أشبه -كما يقال- بكلام العجائز أمام العقل الإلكتروني، فليس هناك أي نسبة، ومع ذلك يسمونها الاشتراكية العلمية، وإلى الآن الأحزاب الشيوعية في العالم الإسلامي يسمون الشيوعية الاشتراكية العلمية؛ لأنها قائمة على العلم، أما غيرها فهي اشتراكيات غير علمية.

مناطق النفوذ الاشتراكي

وليس ذلك هو المقصود وإنما نقول بعد ذلك: بعد أن كان مخططاً أن تسود الشيوعية العالم كله، وإذا بـخريتشوف يضع تطويراً جديداً أو إعادة بناء، وهي التعايش السلمي عندما اتفق واصطلح مع الرئيس جون كندي -الذي كان رئيس أمريكا في ذلك الوقت- على مبدأ التعايش السلمي، والحرب الباردة بدلاً من الحرب الساخنة، فبدلاً من الصواريخ تبقى الإذاعات والصحف، كل من المعسكرين يطعن في الآخر.

ثم تلا بعد ذلك اقتسام مناطق النفوذ، وقنعت الشيوعية أنها لن تسيطر على العالم، وأكبر المفكرين والمحللين الإسلاميين في موضوع الشيوعية في تلك الفترة هو الأستاذ/ سيد قطب رحمه الله، كان يتوقع أن تسيطر الشيوعية على معظم العالم، وكان هذا هو المتوقع لدى عامة الناس.

وتعلمون أنها بالفعل حاولت أن تسيطر على أكثر العالم، وقد حكمت أوروبا الشرقية جميعاً كما تعلمون، وكانت الأحزاب الشيوعية في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا من أقوى الأحزاب جميعاً، ويمكن أن تصل إلى الحكم.

ثم في العالم الإسلامي وهو أخطر وأهم منطقة يكون الصراع عليها نجد أن الاشتراكية أعلنت عندما أعلن الزعيم الهالك جمال عبد الناصر الاشتراكية مبدأً عاماً، وكانت الدعايات الضخمة ليل نهار، والمليارات تنفق على الدعايات الاشتراكية ومبادئها، فكانت أيضاً مرحلة تطبيقية واضحة وواقعة.

وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان أصله حزباً قومياً، والذي حكم بلاد الشام والعراق، أعلن وأدخل الاشتراكية البلاد فأصبح شعاره ثالوثياً: وحدة، حرية، اشتراكية، وأيضاً دول المغرب العربي: الجزائر -مثلاً- ثم تلتها بعد ذلك مصر، ثم جاءت ليبيا فكانت أيضاً أن أعلنت الاشتراكية، على اختلاف في المناهج.

وفي السودان الحزب الشيوعي كان من أقوى الأحزاب، حتى إنه حكم السودان وقام بثورة في السودان، وكاد أن يحكمها، لكن النميري رجع مرة أخرى وعادت السلطة له.

وفي جنوب الجزيرة العربية الشيوعية حكمت وما زالت إلى الآن، وفي إندونيسيا قامت ثورة كبيرة جداً وكادت أن تحكم هذا البلد المسلم، ولكن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى دمرهم وثار عليهم الشعب، وقضي عليهم والحمد لله، ولكن بقي الشيوعيون لهم قوة لا يستهان بها.

وفي باكستان -كان رئيسها ذو الفقار علي بوتو- كان أيضاً اشتراكياً وينادي بـالاشتراكية، وكانت الأحزاب الشيوعية مثل الحزب الشيوعي البلوتوستاني كانت قوية، وكانت تحاول وتجتهد أن تكون باكستان دولة شيوعية، وكذلك في بلاد الهند.

والصين وهي أكبر دولة آسيوية أصبحت دولة شيوعية بالكامل، وما بقي إذاً إلا مثل اليابان، وفيتنام الجنوبية، وكذلك المناطق التي تسيطر عليها أمريكا سيطرة قوية تماماً.

إذاً: كادت الشيوعية تماماً أن تجتاح العالم، وحتى في أمريكا الوسطى والجنوبية! كانت الشيوعية موجودة، إما أنها تحكم أو أن لها أحزاباً قوية، وهكذا كادت الشيوعية أن تطبق على العالم.

العبرة مما سبق

ومن العبر التي يجب أن نأخذها هنا، أن الغرب لا يملك عقيدة تواجه العقيدة الشيوعية، ولذلك لجأت أمريكا وحلفاؤها إلى اختلاق أحزاب اشتراكية وأحياناً الشيوعية لكنها أمريكية، لما رأوا أن الشيوعية تكاد أن تنتشر وتكتسح العالم، أصبحت أمريكا بنفسها ترعى أحزاباً الشيوعية وتربيها، ثم تحكم المنطقة فتكون قد استهلكت الشعارات، فأخذت الشعار، لكن الحكام الماركسيون الاشتراكيون هم في الحقيقة أمريكيون، يتوجهون أيضاً بتوجه أمريكا، وذلك أيضاً بسبب طغيان هذا المبدأ.

الحيلة الأخرى التي لجأ إليها الغرب أنه لجأ إلى إشاعة الإباحية والانحلال في الشعوب التي يخشى عليها من الشيوعية، لأن الانحلال يضعف أصحابه عن اعتقاد أي عقيدة -أياً كانت- وكما هو معلوم أن الشيوعية عقيدة ومبدأ وثورة، ولهذا حرصت أمريكا أن تكون الدول التي تدور في فلكها أو مواليةً لها أن تكون دولاً منحلة مترفة، بعيدة كل البعد عن كل منهج يمكن أن تحمله، ولا يمكن أن تتحمل أي عقيدة، فهذا يعطي نوعاً من الحصانة ضد تغلغل الفكر الشيوعي، لأن الناس ليس عندهم أي استعداد لقبول أي مبدأ، وإنما يعيشون لشهواتهم ويفكرون في شهواتهم، ويمضون أي شيء من أجل هذه الشهوات، ثم بعد ذلك الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لهم بالمرصاد.

أما أصولها فهي مأخوذة من عدة أفكار، من أهمها نظرية داروين التي تعلمونها جميعاً، وهي أن الكائنات الحية مرت بسلسلة من التطورات انتهت بالإنسان؛ فهو المرحلة الأخيرة للتطور، وهذا التطور حتمي وجبري، كما يزعم أولئك الظالمون الكافرون الذين قال الله تعالى فيهم: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [الكهف:51].

وثاني هذه المصادر هي: الفلسفة المثالية الألمانية، وقد برع الألمان في الفلسفة النظرية البحتة وتوسعوا فيها، وكان من أبرزهم الفيلسوف الأوروبي الكبير هيجل، الذي أخذ عنه ماركس نظرية النقيض، ولكن هيجل جاء بها نظرية خيالية في علم المنطق كما يسمونها، وجاء ماركس فطبقها على الناس، وقال: إن الناس في صراع، وإن الحياة في صراع، وأساس الصراع -في نظر هذا اليهودي وفي نظر الشيوعية- بين الناس هو الاقتصاد والبحث عن الطعام والشراب، وبناءً على ذلك وعلى الحتمية التي أخذها من النظرية الداروينية، قسموا تاريخ الإنسانية إلى خمس مراحل نوجزها لكم، ولعلكم إن شاء الله تستوعبونها، لتعلموا أن هذا المذهب منافٍ كل المنافاة لما أنزله الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى جميع الرسل.

يقولون: أول مرحلة هي الشيوعية المطلقة "البدائية" فالإنسان -كما يزعمون- في هذه المرحلة بعد أن تطور من مرحلة الحيوان حتى أصبح إنساناً عاش عيشة حيوانية مطلقة، فكانت الشيوعية الأولى وهي الشيوعية المطلقة، فكان الإنسان لا يملك زوجة ولا مالاً ولا شيئاً قط، وإنما يعيش في الغابات هكذا.

المرحلة الثانية:

ثم انتقل الإنسان إلى مرحلة أخرى وهي مرحلة الرق -كما يسمونها- وهي وجود أقلية مسيطرة تسترق وتستعبد بقية الناس، وتسخرهم عبيداً ليحرثوا وليزرعوا لها الأرض.

المرحلة الثالثة:

وهي مرحلة الإقطاع، وفي هذه المرحلة أصبح الملاك الإقطاعيون يملكون المزارع الكبيرة التي قد تضم عدة مزارع أو قرى يملكها الإقطاعي أو الشريف أو النبيل... إلخ، بمن فيها من عبيد ورقيق إلى آخر ما لا نستطيع التفصيل فيه.

المرحلة الرابعة:

هي مرحلة الرأسمالية، وهي مرحلة ما بعد الثورة الصناعية، واكتشاف الآلة البخارية وأمثالها، حيث تحول الناس -كما يقولون- من العصر الزراعي إلى العصر الصناعي الحديث.

المرحلة الخامسة والأخيرة:

بعد مرحلة الرأسمالية، هي مرحلة الشيوعية الأخيرة، فالعالم عندهم يبدأ بـالشيوعية وينتهي بـالشيوعية، والشيوعية الأخيرة لابد أن تحكم العالم.

ويهمنا هنا مسألة أساسية وقضية مهمة جداً وهي ما قررته الشيوعية من أن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أمر حتمي، فيسمونه الحتمية، فهو حتمي قسري جبري قهري ليس للإنسان ولا للشعوب أي إرادة فيه، فالتاريخ يمشي بهم هكذا، وسيتحولون رغماً عن أنوفهم، وليس لهم خيار في هذا التحول، وليس لهم خيار في التراجع عنه مطلقاً، وأيضاً سبب التحول من مرحلة إلى مرحلة هو اكتشاف مادي، فعند الشيوعية أن أفكار الناس وعقائدهم وأديانهم وأخلاقهم وفلسفاتهم وآدابهم هي من نتاج الواقع الذي يعيشونه، فإذا تغير الواقع المادي تغيرت الأديان وتغيرت الحياة، والانتقال من مرحلة إلى أخرى هو بسبب مسألة مادية بحتة وليست عقلية ولا ذهنية.

فمثلاً: الانتقال من الشيوعية الأولى إلى الرق سببه اكتشاف الزراعة، ويقول هؤلاء المفترون الكاذبون: إن الإنسان في المراحل الأولى كان همجياً يأكل كل شيء، ثم اكتشف الزراعة لأنه رأى الثمار تسقط ثم تنبت، فلما اكتشف الزراعة انتقل حتمياً وبغير إرادته إلى مرحلة الرق، فالذين استرقوا -المزارعين- هم تلك الطبقة أو الفئة القليلة.

ثم انتقل الناس إلى مرحلة الإقطاع عندما اكتشفت الآلات الزراعية مثل المحراث، فإذاً الآلة هي سبب نقلة التاريخ، فالتاريخ الإنساني كله يتغير لاكتشاف يكتشف، فاكتشف المحراث فتغير مجرى التاريخ وأصبح العالم كله يخضع لنظام الإقطاع.

بعد ذلك اكتشفت الآلات الصناعية؛ فانقلب وجه التاريخ كله أيضاً فتغير وأصبح رأسمالياً.

ثم الشيوعية -المرحلة الأخيرة من الشيوعية- أيضاً حتمية لأنها تطبيقاً لنظرية النقيض.

والرأسمالية تحمل في ذاتها نقيضها، مما هو نقيض الرأسمالية والرأسماليون الصناعيون يستأثرون بالثروة جميعاً، فتكون النتيجة أن العمال يُضطهدون ويُهضمون، وقد كان ذلك واقعاً أن يثوروا على الرأسمالية، فينشأ من الصراع بين العمال وبين الرأسمالية ظهور القوة الثالثة حسب المنطق الجدلي الجالكسيدي -كما يسمونه- فتنتج قوة ثالثة هذه القوة هي الشيوعية الجديدة متمثلة في دولة البرولوتاريا أي: الدولة العمالية.

هذا هو المذهب الشيوعي نظرياً بإيجاز شديد، لكن واقعياً كيف طبق؟؟

أول ما حدث الخلل في هذه الحتميات أن كارل ماركس وهيجل توقعا أن الشيوعية تنجح، وأول ما تنجح في بريطانيا لأنها أكبر دولة صناعية رأسمالية في القرن التاسع عشر، لأنهما كما تعلمون كانا في القرن التاسع عشر، أي قبل مائة سنة أو أكثر فكانت هذه النظريات، وكانت أحوال العمال في بريطانيا تدعوا إلى الرثاء فعلاً، كان النساء والرجال يعملون لمدة ثمانية عشر ساعة تحت الأرض في أنفاق مظلمة ويجرون عربات معبأة بالفحم، من أجل استخراج الفحم لأنه كان الوقود الرئيسي في ذلك الزمن، وكثير منهم يموتون ويدفنون في هذه الأنفاق ليس لهم أي حقوق ولا يؤبه لهم، فقال ماركس: لابد أن العمال سيثورون، فتكون الشيوعية في بريطانيا، لأن حتمية التاريخ هكذا.

فأول ما أكذبه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وأبطل قوله للعالم كله، أن الدولة البريطانية حتى اليوم لم تصبح دولة شيوعية، وإنما نجحت الشيوعية وقامت في دولة زراعية وهي روسيا القيصرية وكانت دولة زراعية، فانتقلت من مرحلة الزراعة إلى مرحلة الشيوعية دون أن تمر حقيقة بمرحلة الرأسمالية.

فهذا أول تكذيب للنظرية، نحن نعلم كذبها من كتاب الله وسنة رسوله، ولا يحتاج هذا عند المسلمين إلى نقاش، لكن نتكلم من خلال منطقهم ومنظورهم هم، لأننا وللأسف الشديد ابتلينا بهذه النظريات في بلاد المسلمين، وسوف نعرض له -إن شاء الله- ولا يزال كثير من المسلمين أو من أدعياء الإسلام المعتنقين لهذه النظرية في عمىً وغفلة عن هذه الحقائق الواضحة، إذاً كان هذا أول ما أفسد الحتمية.

الأمر الثاني: أن في عام (1917م) قامت الثورة الشيوعية وحكمت روسيا، فجاء التكذيب الثاني من عند الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لما قرره هذا اليهودي وأتباعه، وهو أن المفروض أن تكون الحكومة حكومة عُمالية، فالذي يحكمها المفروض أن يكون العمال، ومع الزمن تتلاشى الدولة نهائياً.

والمفروض في الشيوعية الأخيرة ألا يكون هناك دولة على الإطلاق إنما الناس هكذا يعيشون، وكل يعمل حسب طاقته وله حسب حاجته فقط، وليس هناك دولة ولا ضابط ولا نظام، والذي حصل أنه لما حكم لينين ثم استالين شهدت روسيا دكتاتورية فظيعة تسلطية، لم يكن لها نظير إلا ما يذكره الغرب عن هتلر وعن موسليني وعن أشباههما، واستالين أشد منهما ومن غيرهما، فلم تكن هناك أي حكومة للطبقة الكادحة -كما تسمى- بل كانت الحكومة للحزب الشيوعي، بل كان الثراء الفاحش والاستبداد الفظيع والاستئثار الكامل للسلطة وللثروة؛ وكل شيء لأعضاء الحزب، وأما البقية فبقوا في حالة يرثى لهم.

ثم جاء الانهيار وجاء التكذيب الثالث من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في واقع الشيوعية، عندما كان من المفروض أن تشمل الشيوعية العالم كله، كان التخطيط أن الشيوعية هي دين المستقبل وهي عقيدة المستقبل، وأنه لن يبقى على وجه الأرض أي دولة إلا وتكون فيها الشيوعية.

فمن النكت الظريفة التي في هذا الباب -والتي تعد من نكت التاريخ وهي حقيقة- أنه لما قامت دعوة الإخوة في الهجر التي انطلقت أساساً في هذه البلاد، ثم كانوا هم الجيش الذي كان هو جيش التوحيد؛ وفتح الله على أيديهم هذه البلاد، فلما قامت هذه الحركة تجمع الناس حولها وفي الهجر كانوا يعلمون الناس الأصول الثلاثة والتوحيد والعقيدة ثم ينطلقون للدعوة، ثم كان الجهاد كما تعلمون جميعاً، وقد علقت جريدة البرافدا في روسيا بأن تأثير الثورة الشيوعية وصل إلى وسط صحراء الجزيرة العربية، وها نحن نجد الهجر ونجد الدعاة فيها يترسمون خطى الثورة الشيوعية البلشفية، ولا يمكن للعقل أن يصدقه! ولكن هكذا كل شيء في التاريخ أن الأصل والقاعدة والقانون فيه: هو القانون الذي وضعه ماركس وإنجلز.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2595 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2573 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2505 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2458 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2346 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2261 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2254 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2248 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2196 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2164 استماع