أرشيف المقالات

دين الله واحد

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمد محمد المدني أن جميع الرسالات الإلهية التي أرسل الله بها الرسل لهداية الناس إنما يقصد بها أمران: أحدهما: تقرير الواقع في شأن الألوهية وما يصدر عنها من إرسال الرسل، وتنزيل الكتب، والبعث والجزاء.
والآخر: هو التدرج بالناس في مدارج الكمال، ومدهم بالحكام التشريعية لتي تصلح بها أحوالهم، وتستقر بها سعادتهم ومن الطبيعي أن تتفق الرسالات كلها في الأمر الأول لأنه رجوع بالبشر إلى شيء متقرر ثابت لا يختلف باختلاف العصور والأحوال، وان ينحصر الخلاف في دائرة المناهج والشرع التفصيلية التي تتغير بتغير الزمان، ويتدرج الإنسان في مراتبها بحسب أطواره وبيئاته ودرجة رقيه في العقل والتفكير.
ولذلك كان (الدين) واحداً على لسان كل رسول بعث، وكانت (الشرائع) مختلفة في تفاصيل الأحكام والتعبدات (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً) وقضية اتحاد الدين على اختلاف الرسل قضية يقررها القرآن الكريم في كثير من المواضع، ويكررها على أساليب مختلفة، لتستقر في النفوس، وتؤمن بها القلوب، ويعلم الناس أنهم جميعاً على كلمة سواء، وأنه لا مبرر للتفرق والتنازع والعصبيات. يقول الله تعالى: (أن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن الله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم اجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون). وهذه الآية تفيد أن أصول الدين ثلاثة: 1 - الأيمان بالله على وجهه الصحيح الذي بين في آيات أخرى، بأن يشهد الإنسان أن لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا إياه، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يوالي ولا يعادي إلا فيه، ولا يعمل إلا لوجهه.
2 - الأيمان باليوم الآخر، بأن يعتقد أن الله سيبعث الناس من الأحداث ليحاسبهم على ما قدموا من خير أو شر فيكافئ لمحسن على إحسانه، ويجزي المسيء بإساءته. 3 - العمل الصالح الذي من شأنه أن يسعد المجتمع البشري ويزيل الشرور والفساد، وينشر الطمأنينة والأمن، ويمكن كل إنسان من أداء واجبه وأخذ حقه على وجه سليم يفضي إلى نزاع، ولا يؤدي إلى ظلم. هذه هي أصول الدين التي يتفرع منها كل ما سواها، وقد تضافر رسل الله أجمعون على تبليغها، وبذل كل واحد منهم في سبيل تقريرها والتمكين لها ما ملكه الله من جهد وآتاه من عمر، وتلقوها عهداً من الله يبشر فيه سابقهم بلا حقهم.
ويؤيد لا حقهم سابقهم، وفي ذلك يقول الله عز وجل (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم وأخذنا منهم ميثاقاً غليظاً) (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما أتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري؟ قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين). والقرآن الكريم يسوق لنا قصص الأنبياء الذين أرسلهم الله أقوامهم فنجد الرسالة التي جاءوا بها تكاد تتفق حتى في الألفاظ التي تحدث بها كل رسول: ففي سورة (هود) يقص الله علينا أن نوحاً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون) ز وأن صالحاً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها). وأن شعيباً قال لقومه: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان). ويقص القرآن علينا مثل ذلك أيضاً في سورة الشعراء: يذكر نوحاً وقومه فيقول: (كذبت قوم نوح المرسلين إذا قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون.
وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين). ويذكر هوداً وقومه فيقول: (كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون، إني لكم رسول أمين، فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من اجر إن اجري إلا على رب العالمين). ويذكر بهذا النص نفسه صالحاً وقومه، ولوطاً وقومه، وشعيباً وقومه، فيبين لنا أنه لا اختلاف حتى في التعبير، ولذلك يقول الله عز وجل: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة). وكما نجد هذه الوحدة فيما دعا إليه الرسل قد تناسقت حتى ظهرت في الألفاظ والعبارات التي عبر بها عنها، نجد أقوام هؤلاء الرسل جميعاً يكادون يتفقون في الرد على هؤلاء الرسل ومعارضتهم في دعواهم، وفي مقدمتهم السادة والكبراء: فالملأ من قوم نوح يقولون: (ما نراك إلا بشراً مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادئ الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين). ويصل الأمر بهم في التحدي إلى أن يقولون: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين). وعاد يقولون لنبيهم (يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين). وقوم صالح يقولون له متهكمين: (يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما كان يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء؟ إنك لأنت الحليم الرشيد). ويصل بهم الأمر إلى أن يقولوا له: يا شعيب ما نفقة كثيراً مما تقولون وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز). وهكذا تشابهت قلوبهم، وتوافقوا على رفض الدعوة بأسلوب واحد ومعنى واحد، ولذلك يقول الله عز وجل: (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) ويقول: (كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحراً أو مجنون، أتواصوا به بل هم قوم طاغون). ومالنا نذهب هذا المذهب والقرآن الكريم يعلن في كثير من الآيات وحدة الدين على نحو قاطع إذ يقول: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى: أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه). ويقول: (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهرون وسليمان وآتينا داود زبورا، ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما). بل يذهب إلى أبعد من ذلك في التحديد والتوحيد فيعلن أن دين الله منذ كان هو (الإسلام)، ولن يقبل الله سواه، وأن الذين اختلفوا فيه من أهل الكتاب إنما كان اختلافهم بغياً وتجاوزاً وكفراً (أن الدين عند الله الإسلام، وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم، ومن يكفر بآيات الله فأن الله سريع الحساب، فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم، فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد) (ومن يبغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين). والإسلام في الأصل معناه الانقياد والخضوع، وقد استعمل بهذا المعنى في القرآن الكريم، فكل من (أسلم وجهه لله وهو محسن) أي أستسلم لأمر الله ورضى به وعمل صالحاً، فهو في نظر القرآن مسلم، ولذلك جعله الله مقابلاً للشرك في مثل قوله: (قل إني نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله لما جاء في البينات من ربي وأمرت أن أسلم لرب العالمين) وجعله مقابلاً للكفر في مثل قوله (أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون) كما وازن بين المسلمين والمجرمين في قوله: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) والقول القويم بقوله (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين) وتحدث عن عباده المؤمنين الذين سيدخلهم الجنة يوم القيامة من سائر الأمم بقوله (يا عباد لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون). وقد جاء في القرآن الكريم وصف كثير من الأنبياء ومن أرسلوا إليهم (بالإسلام): فنوح يقول: (وأمرت أن أكون من المسلمين) وإبراهيم وإسماعيل يدعوان ربهما قائلين (ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك)، ويقول الله بأنه (كان حنيفاً مسلماً)، ويوسف يدعو ربه فيقول (أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين)، وسليمان يكتب إلى أهل سبأ (أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين) ويقول لقومه (أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين) وملكة سبأ تقول: (وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين) وموسى يقول لقومه (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين) وفرعون حين يدركه الغرق يقول (آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) وقد وصف الله قرية لوط بقوله (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) وقص علينا فيما حكاه عن الجن انهم يقولون: (وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً). بهذا كله يتبين أن (الإسلام) على لسان هؤلاء جميعاً، وفي هذه الاستعمالات كلها، هو الانقياد لله والخضوع له في العقيدة والعبادة والعمل خضوعاً لا يعرف الشرك ولا الواسطة، ولهذا يعتبر الله جميع الأنبياء وجميع الذين أوتوا الكتاب مسلمين بهذا المعنى فيقول عن الأنبياء (يحكم بها النبيون الذين أسلموا) ويقول عن أهل الكتاب (الذين أتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين) ويقول عن الذين كفروا بعيسى وزعموا أن ما جاء به من البينات سحر (ومن اظلم ممن أفترى على الله الكذب وهو يدعي إلى الإسلام). ولهذا أيضاً يقول القرآن الكريم على لسان محمد ﷺ: (إنما أمرت أن أعبد رب البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين). ويأمر المسلمين أن يقولوا (آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون). ويأمر بتوجيه الدعوة إلى أهل الكتاب على هذا النحو فيقول (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا أشهدوا بأنا مسلمون). هذا هو دين الله الذي جاءت به كل الرسل، ونزلت به كل الكتب، وقد كان دين محمد ﷺ هو خاتمة هذه الرسالات كلها، وهو الذي أثبتها، ولولاه ما عرف أمر الرسول عن طريق تطمئن إليه القلوب، وهو الذي نقاها مما أضيف إليها، ولولاه ما عرف صحيح من زائف، وهو الذي أتى بالشرعة الصالحة المناسبة لما وصل إليه الإنسان من وقى في العقل والتفكير والمعرفة، ولولاه لظلت البشرية تتخبط في ظلمات الأهواء والشهوات والعصبيات، ولهذا كله تمخض معنى الخضوع لله والانقياد لأمره على ما رسم لعباده في دين محمد ﷺ فصار لفظ (الإسلام) علماً عليه، وأنبأنا الله أنه هو الذي أرتضاه بقوله في أواخر ما نزل على الرسول، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليه نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً) فلم يعد لأحد من البشر بعد ذلك أن يرفضه زاعماً أنه مؤمن بسواه، فإنه هو الدين وليس له (سوى)، ومن آمن به فقد آمن برسالات الله كلها، ومن رفضه فقد رفض رسالات الله كلها تلك هي الحقيقة ولن يستريح أهل الأرض حتى يؤمنوا بها، ويبنوا حياتهم وعلاقاتهم على أساسها (قل يا أيها الناس إنسي رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض ولا إليه إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته وأتبعوه لعلكم تهتدون). محمد محمد المدني المدرس في كلية الشريعة

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢