أرشيف المقالات

نفحات قرآنية (34)

مدة قراءة المادة : 22 دقائق .
نفحات قرآنية (34)

قال تعالى:-
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 183 - 185].
 
النفحات التي تُزجيها هذه الآيات نفحاتٌ ذات شجون[1]، وهي وإن خُيلت (بالبناء للمجهول) مشرقة مغرية، أو تبدَّت للرائين منتشرة متفرقة - حلقات يمسك بعضُها بحُجَز بعض وتدور كلها - من قريب أو من بعيد، حول المحاور الخلاَّقة التي استبانت لنا منذ الوقفة الأولى، وتعينت أصولاً، ومعالم تحدِّد المسار، وتشي بالغاية.
 
ولقد وقفنا - في المقال الماضي - وقفةً متأنية حِيال مقدَّسات الإسلام الزمانية والمكانية، وعرضْنا للتفاعل المهيب الذي ينتظم الإنسانَ المؤمن، والمقدسات، ورأينا آثار ذلك التفاعُل جلاءً للبصائر، وتزكيةً للأفئدة، وتنشيطًا للدورة الإيمانية في الكيان، وتجديدًا لقوى الرُّوح، وتقوية لمعنويات الدَّاعية حتى يدعو من مركز مطمئنٍ، مرموق، متجاوبًا مع استعدادات زمانه ومكانه، بأسلوب يوفق ويحقق الانسجامَ بين حقائق الإسلام الثابتة وبين مطالب الظروف الزَّمانية والمكانية المتغايرة، وأحجام الناس المتفاوِتة.
 
والداعية الذي لا يَعِي الحقائقَ، ولا يقدِّر الظروف، ولا يستبين الأحجام، داعيةٌ يصرخ - كما يقولون - في وادٍ، وينفخ في رمادٍ، وينعق بما لا يُفهم - بالبناء للمجهول - هو داعيةٌ أصم، أعمى، مشلول.
 
الثرى والثريا:
وأستطرِدُ مرةً أخرى[2] معتذرًا، وقبل أن أضع النقط على الحروف - فأعود إلى "الظروف" الزمانية والمكانيَّة، والواقعية التي تلابس حياةَ الإنسان فتؤثِّر وتُغير، وتُعلي وتخفض، وتبني وتهدم؛ عسى أن يكون الحديثُ المستفيض هدى لفئاتٍ تعيش على هامش الزَّمان والمكان، دون أن يبلوا الواقع، أو يقدروا الظروف، ذيولاً أو نفايات تحت السَّنابك والعجلات، ولقد علمنا أنَّ آفة المسلمين ومشكلة الإسلام تتركَّزانِ في الجاحدين من أبنائه وفي الجامدين.
 
أمَّا الجاحدون فمثلهم كمثل الذين ينكرون الرُّبوبية والألوهية، ينكرون وجود سلطةٍ غيبية وراء الطبيعة تتحكَّم في الكون، وتصرِّف وتدبِّر، والقرآن الكريم وهو يزرع في القلوب شجرةَ التوحيد لم يعرض لهؤلاء الجاحدين كثيرًا تحقيرًا لشأنهم، وتسفيهًا لمذهبهم الذي يَتَعارَض مع الفطرة والعقل.
 
وأمَّا الجامدون ففي كثيرٍ منهم إخلاصٌ، وعند كثير منهم غيرةٌ على الدِّين وحب للإسلام، إلا أنَّ إهمالَهم لعامل الظُّروف المكانية والزمانية والواقعية أبطل فاعليةَ ذلك الحب، وعَزَلَهم عن روح الإسلام المَرِن الفينان، وأوقفهم موقفَ الدُّبِّ الذي قتل صاحبَه؛ ظانًّا أنه يذُب عنه.
 
واعتبارًا لجوانب الخير الدفينة، ينبغي ألا نقطعَ عنهم أناتنا، وأن نواليهم حتى تلتئمَ الحلقة التي تآكلت فقطعت التيار، وأفقدت الفاعلية والإبصار، وحصرتْهم في قواقع خانقة خالوها الوجود فحجروا الدِّين، وجهلوا عمومية الإسلام وشموليته، وأسفُّوا (بفتح السين وتشديد الفاء المضمومة) فرضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف قيد الأوهام والأحلام، وإذا قُدِّر لهم أن يغوصوا ففي الحفر مع الديدان والهوام، وإذا حلَّقوا كان سماؤهم المهدي المنتظر آية آخر الزَّمان، ولا غرابة فقدْ شاهدناهم، واستمعنا لهم في حضرة عالمٍ كبير شدُّوا إليه الرِّحال، وعبروا البحارَ ليسألوه عن أجساد الأنبياء، هل تأكلُها الأرض فتبلى؟ وعن درجة الكفر الذي يتبوَّؤها منكِرُ المهدي المنتظر، وعن عدد الذبذبات التي ينبغي أن تصدرَها السَّبابة والمصلي في وضع التشهد[3]...
إلخ، أي بؤس هذا؟ وأي انحدار؟ ذلك وعدونا يقطعُ بمراكبِه أجوازَ الفضاء، ويحطُّ على الزهرة والمريخ، ويرى ويسمع بالأقمار، فما أبعد الثَّرى من الثُّريَّا!
 
إنَّ الله أرسل رسولَه بالهدى ودين الحق ليظهرَه على الدِّين كله، وكلمة "الدين" بأداتها "أل" التي تفيد الاستغراق ويتابعها "كله" الذي يفيد التوكيد، تعني كافَّةَ المذاهب، والأيديولوجيات الغابرة والمعاصرة سماويها وأرضيها، ولكن الدين نزل رفيعًا ظاهرًا وانتشر، وتمكَّن رفيعًا ظاهرًا، فما معنى "ليظهره"؟
 
إنَّ الدِّين هو المعتصَم والملاذ والمعراج، وإظهاره يعني - ضمن ما يعني - ظهور الملتزمين، ورفعة المعتنقين؛ ﴿ لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الأنبياء: 10]، ﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ ﴾ [الزخرف: 44].
 
والمصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - عاش ما عاش يُجاهد كي يرفع النَّاس إلى مستوى الدين.
 
وظني أنَّ من ظلَّ قانعًا بالوِهاد، يعطي الدنايا منكسًا وضيعًا، ينبغي عليه أن يقوِّم (بتشديد الواو المكسورة) من جديد درجةَ انتمائه للإسلام الرفيع العزيز.
 






إِذَا أَنْتَ غَمَّتْ عَلَيْكَ السَّمَاءُ
وَضَلَّتْ حَوَاسُكَ عَنْ صُبْحِهَا


فَعِشْ دُودَةً فِي ظَلاَمِ الْقُبُورِ
تَغُوصُ، وَتَسْبَحُ فِي قَيْحِهَا






 
درس كوني على الطريق:
تعاقبُ الليل والنهار ظاهرةٌ كونيَّة تطوي وتنشر كلَّ الكائنات، وهي ظاهرةٌ معلومة بالضَّرورة، ورغم هذا أطال القرآنُ الوقوفَ عندها، والتمعُّن في أعراضِها وآثارها، تلمَّسْ هذا وأنت تتدبر مثل قوله - تعالى -: ﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ﴾ [الزمر: 5]، ومثل قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا ﴾ [الأعراف: 54]، ومثل قوله - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا ﴾ [الفرقان: 62].
 
ومثل قوله - تبارك وتعالى -: ﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ * وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ [يس: 37 - 40]
 
وظنِّي أنَّ مثل هذه اللفَتات الكريمة فوق أنها تبصِّر بعظمة الله، وقدرته وعلمه، وفوق أنها تربِّي في المسلم القدرةَ على التأمُّل والتدبُّر والبحث العلمي - تربط النَّاسَ بما وراء هذه الظاهرة من:
1- مضاء الزَّمن: كالسيف القاطع، واختراقه أحشاءَ كلِّ الكائنات.
 
2- مضيه: كالبرق الخاطف، وتقلبه بما حوى وأوعى بكلمة الله الذي قدر المنقلب والمثوى ﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ [النور: 44]
 
3- ومن: تأثيره وتغلغل إشعاعاته في الأعماق بشكل يورِثُ اللهاث، ويورد المُنْقَلَبَ المحتوم منقلبَ المعرضين، أو منقلبَ الشَّاكرين؛ ﴿ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ ﴾ [آل عمران: 144].
 
وتروعك - خلال الآيات - الحركةُ الدائبة، والحيويَّة الفيَّاضة، والنبض الذي تجد صداه في قلبِك حين تندمج في الآيات، وتنفذ منها إلى الحياة، ثمَّ تُشد - بالبناء للمجهول - بأسبابِها إلى الممات، وتستهويك الإيحاءات الدَّقيقة التي تنبعث هادية مُعبرة، ومن تلك الإيحاءات:
1- أنَّ الكون فلكٌ دوَّار، وأنَّ كل ما فيه يدور تلقائيًّا، وبالتَّبعية.
 
2- وأنَّ من فقد الحركة الذاتية فلم يدر طوعًا، انفردت به التبعية فدار كرهًا بلا اتِّزان ولا انضباط ولا إرادة، وتبارك الذي ﴿ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ [فصلت: 11].
 
3- وأنَّ الكائنات - ولا سيما الأناسي - لم توجَد لتظلَّ خامدة هامدة، بل لتنتعش وتنشطَ حول محاورها - محكومة بسنن الله، وقوانينه التي تحل في الزمان وفي المكان - مستبقة جادة حتى مغرب الشمس ﴿ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ [يس: 40].
 
ولعلَّ من مظاهر الاستباق الذي تخوضه الكائنات:
1- اختلاف الليل والنهار طولاً وقِصَرًا حسب تباين الفصول، أو مواقع البلاد.
 
2- واختلاف الصَّيْف والشتاء وغيرهما من الفصولِ ضِيقًا واتساعًا، وحرارةً وبردًا.
 
3- واختلاف البِقاع المحكومة بقوانين الله في الزَّمان والمكان، ازدهارًا وإقفارًا، وامتلاءً وخَواءً، وقوةً وضعفًا.
 
4- وامتداد النهار في بعض البلاد، والتفاف بلادٍ أخرى في ليل طويل.
 
نحو حتفه بظِلْفِه:
إنَّ الكون بكلِّ مفاعلاته ومحتوياته، يستحث الخُطى إلى الأجل المسمَّى الفاغر فمه:
1- ليلتقمَ الأفراد ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].
 
2- وليلتقم الأُمم ﴿ مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ﴾ [الحجر: 5].
 
3- وليلتقم القُرى ﴿ وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 4].
 
مصايرُ مبصرة تتربَّص بكلِّ الكائنات، يسجلها المولى بارزةً كي ترتفعَ زاجرة، واعظةً محرِّكة للضمائر موقظة من السُّبات العميق ﴿ فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ [الحج: 45، 46].
 
هكذا تتدافع الكائنات، ويخلفُ اللاحِقُ السابقَ ليؤثر كما تأثر، وليرْبِي التراث الذي آل إليه حتى يؤول إلى غيره أربى وأرحب، ولقد اقتضتْ حكمة الله التدرجَ في إيجاد الكون، وإشارة إلى أنَّ الحكمة في هذا أجل من أن تعيها العقولُ المحدودة يختم الله الآيات التي تعكس مشهدَ الخلق بقوله: ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [يس: 38]، ﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ [فصلت: 9 - 12].
 
واقتضت حكمتُه كذلك أنْ يظلَّ هذا الكون متغيرًا متطورًا نشطًا، حتى يعدو الإنسان قدرَه ويعيد ظنه، ويعميه غرورُه، ويبلغ الذروة التي تشرف على الهاوية؛ ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24].
 
كن على سفر:
روى البخاري عن علىٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: "ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مُقبلة".
 
وارتحال الدُّنيا على أجنحة الليالي والأيام حقيقةٌ ملموسة، أمَّا ارتحال الآخرة فأمرٌ اعتباري، فهي تدنو منك بقدر ما تبتعد أنت عن الدُّنيا، بقدر ما يتناقص عمرُك، تمامًا كما تدنو البقعةُ المطلوبة من المسافر كلما طوى نحوها الأشواط، والدنيا المرتحلة كالمركبة المتحرِّكة لا بد أن يسايرَها الراكبُ بكل كتلته، متجاوبًا متأثِّرًا منسجمًا، فإنَّ فَقَدَ الانسجامَ فَقَدَ اتزانَه وانقلب.
 
وعلي - رضي الله عنه - استعار هذا التصويرَ من نبينا - عليه الصلاة والسلام - الذي ألمح إلى أنَّ قدر الإنسان يكون دائمًا متحرِّكًا غيرَ جامد، وأنَّ الأيام مركبُ الأنام إلى مراميهم، فقال فيما رواه أحمدُ وابنُ ماجه والترمذيُّ عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: ((ما لي وللدنيا؟ وما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحت ظلِّ شجرة ثم راح وتركها))[4].
 
ذلك لأنَّ الدنيا المتغيرة المتلاشية عَرَضٌ زائل وَفْقَ ما روى عمرو - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خطب يومًا فقال: ((ألا إنَّ الدنيا عرَض حاضر يأكل منه البَرُّ والفاجر، ألا وإنَّ الآخرة أَجَلٌ صادق ويحكم فيه مَلِكٌ قادر...))[5].
 
ويجدر - قبل أن نمضي - أنْ نومئ إيماءً إلى إيحاءِ كلمات: "راكب" و"استظل" و"راح وتركها"، فكلها كلماتٌ تشي بالحركة والعلو، وبأنَّ المؤمن لا يهمِلُ الدُّنيا إهمالاً، بل ينعم ببردها ويستظل بظلِّها، وبأنَّ حق اتخاذ القرار مكفولٌ للمؤمن، هي المقبلة، وهو باختياره بعوض "راح وتركها".
 
والدُّنيا ككل الأعراض حائلة ثائرة، متقلِّبة تضم فتحنو، وتغط[6] فتعصر، وتطوي وتنشر، والمرء - كي يأمن - لا بد أنْ يكون مرنًا، يحسن استخدام القوى الفعَّالة التي حباه الله بها، والتي تعتم في داخله، فإذا تجاوب مستمسكًا بعرى الإسلام، مسترشِدًا بنور الإيمان بَذَّ الأقرانَ وسبق، وإلا اختلَّ توازنُه وسقط نهب المدى، وتحت الأقدام، ولا يكفيه أن يتعلقَ بأذيال القادرين.
 
والحركة في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - "مالي وللدنيا..."، تبدو وكأنَّها تنبعث من الرَّاكب وحده - فهو الظَّاعن[7]، وهو المستظِلُّّ، وهو الرَّائح التارِك - والحقُّ أنَّ الدنيا هي المركب، وعلى متنها العريض الممتد تنتظم أفواج بعد من بعد أفواج، ولكلِّ فوج "محطته" الأخروية، ومنزله المحتوم، أما القطار - بعرباته الجمَّة - فماضٍ حتَّى يأتي أمرُ الله.
 
الحركة إذًا في الأصل حركة المركب، أمَّا الراكب فتابِعٌ، ودوره التنسيق وإيجاد الانسجام، واستثمار حركة المركب والركب، في هدي الدين على النحو الذي يرضي المولى - جل وعلا - ويحقق الخلافة.
 
وهؤلاء الذين يعمرون الدنيا - متعاقبين - معادنُ متفاوتة، وهم - متكاملين - يتبعون مركزَ الخلافة في صياغة هذه الدُّنيا، واللاحقون - بحكم انتفاعهم بتراث السابقين، وإثرائهم للتراثِ بما استحدثوا وجمعُوا وأوعوا - أوضحُ رؤية، وأضبط حركة، وأحسن مرتفقًا، وأعظمُ مسؤولية من السابقين، وهم - بما أتيح لهم - رُفعوا (بالبناء للمجهول) درجات دنيوية عن الأولين، فبلاؤهم أشدُّ، ومحنتهم أجلُّ، وظني أنَّ هذه المعاني هي التي تسبق إلى خواطرِنا حين نتدبر قولَه - سبحانه -: ﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [الأنعام: 165]
 
إنَّ كل جيل يضيف من ثقله على مواقع السَّابقين فترْبُو وتعلو، ويحتاج شاغلوها المتميزون بصياغة فكريةٍ جديدة، إلى عطاء متميِّزٍ جديد.
 
(طابع الأرض، وصبغة الظروف):
مما رواه أحمدُ والترمذي عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنَّ الله خلق آدم من قبضةٍ قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدمَ على قدر الأرض، فيهم الأحمرُ والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث، والطيب)).
 
فالإنسان - كما يقولون - طرْحُ الأرض ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ...
[طه: 55]، وهو - كالأرض - يخضع لعوامل التَّعرية، وعوامل التنمية ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [الحج: 5]، وهو - ككل ما تنبت الأرض - قد يمسخ شجرة خبيثة، وقد يسمق شجرة طيبة أصلُها ثابت، وفرعُها في السماء تؤتي أكلَها كل حين بإذن ربها.
 
ولكنَّ الإنسان - مع هذا - حفيدُ أمسه ووليد يومه وصدى ظروفه، فصِلَتُه بماضيه وثيقة، وصلته بحاضره أوثق، لأنَّ الماضي بجميع أحواله رافد من روافد الحاضر، وملامح الماضي دائمًا ترتسم على مُحَيَّا (بضم الميم، وفتح الحاء، وتشديد الياء) الحاضر، وعلى ضوء هذا البيان يمكن أن نفهم ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: "سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أكرم؟ قال ((أكرمهم عند الله أتقاهم)) قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: ((فأكرمُ النَّاسِ يوسف نبيُّ الله، ابن نبي الله ابن نبي الله، ابن خليلِ الله))، قالوا ليس عن هذا نسألك، قال: ((فعن معادنِ العرب تسألون))، قالوا: نعم، قال: ((فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا))؛ متفق عليه.
 
والمعنى: أنَّ أريج الأصول العَطِر يزكِّي الفروع، وأنَّ الماضي يفرغ من شرِّه وخيره على الحاضر، وعبارة "إذا فقهوا" تشير إلى اصطباغ الشخصية بصبغة الظروف.
 
شخصية الإنسان إذًا تتأثر بالتَّاريخ وبالزمان والمكان، وبالظروف المادية والمعنويَّة الملابسة.
 
وليس معنى هذا أنَّ الأناسيَّ الذين تجمعهم مؤثراتٌ متماثلة يتساوون بالضرورة، كيف وهناك حظ الإنسان من أمه الأرض؟ هذا الحظ الذي يختلف قوةً وضعفًا، كثرة، وقلة، ويدق دقة التغاير الذي بين نبرات الأصوات، أو بين بصمات البنان ﴿ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ ﴾ [القيامة: 4] إنَّ لميراث الأرض وزنًا بين الصفات المتفاعلة التي تبني شخصية أي إنسان.
 
ونبادرُ فنعلن أنَّ هذا التفاعل الحيويَّ سنةُ الله في الكون والكائنات، فهو بعيدٌ كل البعد عما ادَّعاه الطبيعيون أصحاب شعار: ﴿ مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ﴾ [الجاثية: 24] مِنْ أنَّ هذا الكون أزليُّ العناصر، قديم المركبات، وأنَّ عناصره تتفاعل منذ القِدَم ذاتية، فتلتئم وتنفصِم، وتجتمع وتفترق… إلخ، هكذا بلا مدبر ولا موجِّه ولا مهيمن، بل بقواها الساذجة المكتومة التي لا تعي، إنَّ وراء كلِّ الظواهر الكونيَّة قوة الخالق البارئ المصور، ملهم النفوس فجورَها، وتقواها وهاديها النَّجْدَيْن.
 
وانفعال الأنفس بالأجواء الكونية التي تكتنفها تحسه وأنت تتدبَّر آيات قرآنية، تلفت النهي إلى آيات كونية، ثمَّ تتحدث عن النفس باعتبارها آية، وإيحاء بارتباطها العميق الدَّقيق بتلك الظواهر التي سبقت، وبحركتها وإشعاعاتها… إلخ، وتنبيهًا إلى أنَّ النفس تتأثر بما تبث هذه الأجرام، وبما تعكِس ﴿ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس: 1 - 8]، وعطاء هذه الأجرام يختلف بلا شكٍّ من بيئة لبيئة، وإذا أخذنا في الاعتبار قدرةَ أهل هذا القرن على ارتياد الآفاق، واستغلال الفضاء، والاستفادة بالطاقة الشمسية - أمكننا أن نقول: إنَّ عطاءَها يختلفُ من زمنٍ إلى زمن.
 
والنتيجة المُستفادة من كلِّ ما سردْنا هي: (أنَّ إنسان اليوم واسعُ الإمكانات، جمُّ المعلومات متشابك الصِّلات، مزدحم الفكر، فلا بد له من أسلوبٍ عصريٍّ باهر يقنعه ويمتعه، ويؤثر فيه).
 
يتبع.



[1] متصلة.


[2] هدفنا من هذا الاستطراد الطويل توطيد أرضية علمية وفكرية صلبة يتأكد من خلالها أنَّ الإنسانَ يتفاعل تفاعلاً كيمائيًّا مع الأجواء التي تحتويه، وأنَّ رُؤيته - البشرية - تتكيف بهذا التفاعل، وأنَّ إفرازاته تخضع لتأثير الزمان والمكان والملابسات، لعلنا بهذا البيان نزحزح أولئك الذين اتخذوا رؤى الفقهاء دينًا وأسفارهم دساتير، فانطووا فيها وانسلخوا عن زمانهم المتميز.


[3] كان هذا في موسم الحج الماضي 1404.


[4] ورد هذا المعنى في حديث رواه البيهقي "في الشعب" عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((...
وهذه الدنيا مرتحلة ذاهبة، وهذه الآخرة مرتحلة قادمة...)
)



[5] رواه الشافعي، وروى نحوه أبو نعيم "في الحلية" بإسناد ضعيف.


[6] تضم بشدة.


[7] المسافر.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣