كتاب الطهارة [34]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:

قال المصنف رحمه الله: [ الباب الثاني في معرفة أنواع النجاسات.

وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم الذي ليس بمائي، وقد ذكرنا ذلك في المسألة الأولى ].

ذكر خلاف العلماء في حكم ميتة ما لا دم له وميتة البحر

قال المصنف رحمه الله: [المسألة الأولى: اختلفوا في ميتة الحيوان الذي لا دم له]، يعني الحيوانات الصغار التي إذا أخذت عضو منها لا يسيل الدم..

[وفي ميتة الحيوان البحري] أي: الذي مات بنفسه في البحر، ليس بسبب عزل الماء ولا بسبب الاصطياد.

[ فذهب قوم إلى أن ميتة ما لا دم له ] يعني: يسيل [ طاهرة، وكذا ميتة البحر وهو مذهب مالك وأصحابه ]، وكذلك مذهب أحمد ، قالوا: إن هذه ميتتها طاهرة.

[ وذهب قوم إلى التسوية بين ميتة ذوات الدم والتي لا دم لها في النجاسة ] هؤلاء قالوا: إن الميتة كلها نجسة سواءً كان لها دم سائل أو ليس لها دم سائل، [ واستثنوا من ذلك ميتة البحر ] فإنها طاهرة، [ وهو مذهب الإمام الشافعي ]، إلا أنه قال: يعفى عن ميتة ما لا دم له سائل، مالم يطرح أو يغير ما وقع فيه.

فإذا وقعت في الإناء بنفسها، كالذباب ومات، أو أي شيء لا دم له سائل وقع في الإناء بنفسه، فهل ينجس الماء؟

قال: لا ينجسه، إلا أن تأخذه ميتاً فتطرحه فإنه ينجس الماء، أو يكثر بحيث يغير الماء.

وعنده قد سبق أن الماء القليل إذا لاقته النجاسة فإنه ينجس. لكن لو سقط في الإناء بنفسه فمات فلا ينجس الماء، فيعفى عنه؛ للمشقة.

[ إلا ما وقع الاتفاق على أنه ليس بميتة ]، هناك أشياء لا دم لها سائل، وقع الاتفاق على أنها ليست بميتة، فهذا الشافعي يرى أنها طاهرة وهي: [ مثل دود الخل، وما يتولد في المطعومات ]، فمثلاً بعض المطعومات يتولد منها دود، ويموت فيها، فحكمه أنه طاهر بالاتفاق.

[ وسوى قوم بين ميتة البر والبحر، واستثنوا ميتة ما لا دم له وهو مذهب أبي حنيفة ]، إذاً مذهب أبي حنيفة يقول: إن ميتة البحر نجسة وميتة البر نجسة، إلا أنه يستثنى ما لا دم له سائل، فإنه طاهر.

سبب اختلاف العلماء في ميتة ما لا دم له وميتة البحر

قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ[المائدة:3] ]، لأن هذه الميتة عام.

[وذلك أنهم فيما أحسب.. ]، أي فيما يظن المؤلف أنه: [ اتفقوا أنه من باب العام أريد به الخاص ]، فمثلاً الشافعي قال: من باب العام أريد به الخاص فاستثنى منه ميتة البحر فقط.

و مالك و أحمد قالوا: من باب العام أريد به الخاص، فاستثنوا منه ميتة البحر وما لا دم له سائل، و أبو حنيفة قال: من باب العام أريد به الخاص فاستثنى منه ميتة ما لا دم له سائل.

فكلهم استثنوا، لكن كلاً استثنى على ما يرى، فمن حيث الجملة اتفقوا على أنه من باب العام أريد به الخاص، لكن اختلفوا في ما هو الذي استثني منه؟

فمالك و أحمد قالوا: يستثنى منه ميتة البحر فقط، وما لا دم له سائل. و الشافعي قال: يستثنى منه ميتة البحر، و أبو حنيفة قال: يستثنى منه ما لا دم له سائل.

[ واختلفوا أي خاص أريد به؟ فمنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر، وما لا دم له ]، وهؤلاء هم: مالك و أحمد . [ ومنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر فقط ]، وهذا مذهب الشافعي .

[ ومنهم من استثنى من ذلك ميتة ما لا دم له فقط ] وهو أبو حنيفة .

[ وسبب اختلافهم في هذه المستثنيات هو سبب اختلافهم في الدليل المخصوص ]، أي: الذي خصص هذه المستثنيات.

[ أما من استثنى من ذلك ما لا دم له، فحجته مفهوم الأثر الثابت عنه عليه الصلاة والسلام من أمره بمقل الذباب إذا وقع في الطعام ]، يعني غمس الذباب إذا وقع في الطعام، وهو حديث صحيح، فإنه أمر بغمسه وغمسه يؤدي إلى موته، فهذا يدل على أن ميتته طاهرة.

[ قالوا: فهذا يدل على طهارة الذباب، وليس لذلك علة إلا أنه غير ذي دم ]. قالوا: علته أنه غير ذي دم.

[ وأما الشافعي فعنده أن هذا خاص بالذباب ]، يقول: الذباب تغمسه للعلة الظاهرة، وهي: أن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر دواء، فأنت تغمسه ليزيل الداء بالدواء.

ثم إن الشافعي سيرد قولهم على أن ما لا دم له سائل أنه طاهر، فيقول: [ ووهن الشافعي هذا المفهوم من الحديث؛ بأن ظاهر الكتاب يقتضي أن الميتة والدم نوعان من أنواع المحرمات ]، فهم يقولون: سبب طهارة ما لا دم له سائل هو عدم وجود الدم؛ لأن الدم هو سبب النجاسة.

فقال الشافعي : هذا الكلام ضعيف، ليس الدم سبب النجاسة، إنما الميتة هي سبب للنجاسة، والدليل على أن الميتة هي سبب للنجاسة هو أن الذبح يطهر الحيوان ولا يطهر دمه.

فإذا كان الحيوان الذي ذبح، أليس يكون أولاً الدم باق فيه أو لا؟ ثم بعد ذلك يخرج، فيقول: هل يطهر الحيوان بنفس الذبح أو بعد خروج الدم؟

بالذبح، إذاً أنتم قلتم بطهارة الحيوان المذبوح مع بقاء الدم، وبأن الدم نجس لا تطهره الذكاة.

إذاً فهذه العلة هي احتقان الدم غير صحيحة هنا، ويدلل على ذلك بأن السبب الذي هو الدم موجود، والمسبب منتفي وهو طاهر، فهذا يدل على أن الدم ليس له تعلق بالنجاسة. ويمثل لذلك بالعصير، لما يكون مسكراً، هل يكون ممنوعاً تعاطيه؟ قد يكون نجساً عند بعض العلماء، فيقول: لا يزول عنه الحكم إلا بزوال العلة التي هي الإسكار، فكما يجب عليكم أن تقولوا: إن المذبوح لا تكون فيه الطهارة إلا إذا زال الدم، ولكنكم لا تقولون بذلك؛ فعلم أن الدم شيء مستقل وهو غير الميتة، فالميتة تطهر بالذبح، والدم لا يطهر بالذكاة. هذا معنى كلامه.

[ أحدهما تعمل فيه التذكية وهي الميتة، وذلك في الحيوان المباح الأكل بالاتفاق، والدم لا تعمل فيه التذكية فحكمهما مفترق ] الدم متى فيه التذكية؟! [ فكيف يجوز أن يجمع بينهما حتى يقال: إن الدم هو سبب تحريم الميتة؟! وهذا قوي كما ترى ] المؤلف يقوي هذا التعليل [ فإنه لو كان الدم هو السبب في تحريم الميتة لما كانت ترتفع الحرمية عن الحيوان بالذكاة، وتبقى حرمية الدم الذي لم ينفصل بعد عن المذكاة، وكانت الحلية إنما توجد بعد انفصال الدم عنه ] أي: عن الحيوان [ لأنه إذا ارتفع السبب ارتفع المسبب الذي يقتضيه ضرورة; لأنه إن وجد السبب والمسبب غير موجود فليس له هو سبباً، ومثال ذلك أنه إذا ارتفع التحريم عن عصير العنب وجب ضرورة أن يرتفع الإسكار إن كنا نعتقد أن الإسكار هو سبب التحريم ]، هذا تعليل الشافعي أنه لا يصح التعليل بأن سبب نجاسة الميتة هو احتقان الدم فيها، فالتي لا دم لها سائل فهي طاهرة.

دليل الشافعي في استثنائه من الميتات ميتة البحر

قال المصنف رحمه الله: [ وأما من استثنى من ذلك ميتة البحر ] وهو الشافعي ، [ فإنه ذهب إلى الأثر الثابت في ذلك من حديث جابر وفيه: (أنهم أكلوا من الحوت الذي رماه البحر أياماً وتزودوا منه، وأنهم أخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحسن فعلهم وسأل: هل بقي منه شيء؟) ]، وهذا الحديث رواه البخاري و مسلم ، وهو يدل على أن ميتة البحر طاهرة، وكذلك الحديث: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )، وهو حديث صحيح.

[ وأما أبو حنيفة ] الذي قال: إن ميتة البحر نجسة، [ فرجح عموم الآية على هذا الأثر، إما لأن الآية مقطوع بها ] يعني أنها واردة بالتواتر [ والأثر مظنون ]، أي: وارد بالآحاد؛ لأن الإمام أبا حنيفة يرى أنه إذا تعارض العام والخاص فعنده أن العام نص في العموم، وأن الخاص ينسخ من العام بقدره، ثم يقول: إن الآحاد لا ينسخ المتواتر، وأحاديث الباب آحاد والآية متواترة، على القاعدة الأصولية: بأنه لا ينسخ المتواتر بالآحاد. فالآية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ[المائدة:3]، عامة، أي ميتة، ميتة بر أو بحر.

يقول: إن العام نص في العموم وليس ظاهراً، فإذا جاء الخاص فإنه ينسخ من العام بقدره، ثم بعد ذلك يقول: ولا يكون النسخ إلا أن المتواتر ينسخ المتواتر والآحاد ينسخ الآحاد، أما الآحاد فلا ينسخ المتواتر، وهذا مذهب الجمهور، جمهور أهل الأصول يقولون: إن المتواتر لا ينسخ بالآحاد، وعليه أكثر أهل الأصول، وكتب الأصول كلها تقول هذا، وما خالف في هذه القاعدة إلا الشيخ الشنقيطي في كتابه المذكرة ويمكن في الأضواء، ودلل على ذلك بأنه وردت آيات في القرآن: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ[الأنعام:145]، هذه الآية نص على أن هذه الأربعة نص، وأنه لا يوجد غير هذه الأربعة نجس، أو محرم، ثم جاءت أحاديث تحريم الحمر الأهلية بالآحاد، يقول: نص وليس بتخصيص وأنه بالنفي والاستثناء؛ فدل على أن الآحاد ينسخ المتواتر.

فدلل بهذا وقال: إنه لا تعارض بين الآحاد والمتواتر إلا بشرط أن لا يكون متعارضة، ويكون بنص، قال: لا تعارض على جواز قبول الآحاد المعارض لقبول المتواتر إذا اختلف الزمن، فلو قال لك ألف شخص: إن زيداً يوم الجمعة كان في صنعاء، وجاء واحد وقال لك: يوم الأحد كان في الحديدة، فلا تعارض بين الخبرين.

[ وإما لأنه رأى أن ذلك رخصة لهم، أعني حديث جابر ]، يعني: أن حديث جابر هذا كان رخصة؛ لأنه كان لا يوجد لهم أكل، ففي الحديث على أنهم كانوا يأخذون من تمرة تمرة، ثم بعد ذلك التمرة يمصها اثنان أو ثلاثة، فكان هذا رخصة لاضطرارهم.

لكن قوله: (رخصة) ينقضه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فهل بقي منه شيء؟ ).

وأجاب عن الحديث: ( الحل ميتته )، أي: ميتته التي بسبب الاصطياد، أو بسبب حسر البحر عنها وكذلك أجاب هنا وقال: إن هذا الحيوان لم يمت في البحر بنفسه، ولكنه انحسر عنه البحر فمات، وهو يجيز مثل هذا، لكن الطافي الذي يموت بنفسه ويطفو على البحر فإنه لا يجيزه.

[ أو لأنه احتمل عنده أن يكون الحوت مات بسبب، وهو رمي البحر به إلى الساحل; لأن الميتة هو ما مات من تلقاء نفسه من غير سبب خارج. ولاختلافهم في هذا أيضاً سبب آخر، وهو: احتمال عودة الضمير في قوله تعالى: وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ[المائدة:96] ]، أي: هل هو طعام البحر أو الصيد؟ فإن كان طعامه الصيد فهو يدل على أن الطافي نجس، وإذا كان المقصود طعام البحر فيدل على أن الطافي من الميتة طاهر ويجوز أكله.

[ أعني: أن يعود على البحر أو على الصيد نفسه، فمن أعاده على البحر قال: طعامه هو الطافي ]، فيجوز أكله.

[ ومن أعاده على الصيد قال: هو الذي أحل فقط من صيد البحر. مع أن الكوفيين أيضاً تمسكوا في ذلك بأثر ورد فيه تحريم الطافي من السمك، وهو عندهم ضعيف ]، يعني حديث: ( ما ألقى البحر أو جزر فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه )، وهذا الحديث ضعيف.

الراجح في حكم ميتة البحر والجراد والآدمي

إذاً: الراجح طهارة ميتة البحر؛ لما هو مقرر في الأصول من جواز تخصيص الكتاب بالسنة عند الجمهور، وإن منعه الحنفية، فالأحاديث السابقة مخصصة لعموم الآية، وليست من باب النسخ كما يزعم أبو حنيفة .

وكذلك ميتة الجراد، حكمها أنها مستثناة من عموم الآية؛ لحديث ابن عمر : ( أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال )، وهو حديث صحيح، أخرجه ابن ماجه و الحاكم و البيهقي ، كما في صحيح الجامع.

وكذلك ميتة الآدمي طاهرة وليست نجسة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ( سبحان الله! إن المؤمن لا ينجس )، وفي البخاري من حديث ابن عباس تعليقاً: ( إن المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً ) وقد صححه شيخنا في مختصر البخاري ، وهو موقوف، وروي مرفوعاً وصححه الحاكم ، كما في المجموع (2/567).

إذاً المستثنيات من الميتة هي: ما لا دم له سائل، وميتة البحر، والجراد، والآدمي.

الراجح في حكم ميتة ما لا دم له

الراجح في ميتة ما لا دم له سائل أنها طاهرة؛ لما صح من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغمس الذباب، وغمسه يؤدي إلى موته.

الراجح في نوع نجاسة المشرك حياً وميتاً

إن حديث: (المؤمن لا ينجس) مفهوم المخالفة: أن الكافر نجس، ولكن مفهوم المخالفة هذا رده الأكل من طعامهم، والتزوج بالكتابية، فدل على أن نجاسته ليست حسية وإنما هي نجاسة معنوية، هذا في الحياة، يبقى في الموت، فإذا حكمنا بأن هذا المفهوم مردود في الحياة، فكذلك نقول: إنه غير مقبول في الحياة فكذلك غير مقبول في الموت، فالكافر موتته طاهرة، وهذا المفهوم لا يؤخذ به، ويدل عليه عموم قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ[الإسراء:70]، فبني آدم عام للكافر والمسلم، ومن كرامتهم عدم نجاسة ميتتهم، هكذا قال العلماء.

إذاً الذي رجحنا أن قوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ[التوبة:28]، أنه نجاسة اعتقاد لا نجاسة حسية.

إذاً تعارض مفهوم حديث ابن عباس الموقوف أو المرفوع مع عموم الآية: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ [الإسراء:70]، فإننا نأخذ بعموم منطوق الآية.

قال المصنف رحمه الله: [المسألة الأولى: اختلفوا في ميتة الحيوان الذي لا دم له]، يعني الحيوانات الصغار التي إذا أخذت عضو منها لا يسيل الدم..

[وفي ميتة الحيوان البحري] أي: الذي مات بنفسه في البحر، ليس بسبب عزل الماء ولا بسبب الاصطياد.

[ فذهب قوم إلى أن ميتة ما لا دم له ] يعني: يسيل [ طاهرة، وكذا ميتة البحر وهو مذهب مالك وأصحابه ]، وكذلك مذهب أحمد ، قالوا: إن هذه ميتتها طاهرة.

[ وذهب قوم إلى التسوية بين ميتة ذوات الدم والتي لا دم لها في النجاسة ] هؤلاء قالوا: إن الميتة كلها نجسة سواءً كان لها دم سائل أو ليس لها دم سائل، [ واستثنوا من ذلك ميتة البحر ] فإنها طاهرة، [ وهو مذهب الإمام الشافعي ]، إلا أنه قال: يعفى عن ميتة ما لا دم له سائل، مالم يطرح أو يغير ما وقع فيه.

فإذا وقعت في الإناء بنفسها، كالذباب ومات، أو أي شيء لا دم له سائل وقع في الإناء بنفسه، فهل ينجس الماء؟

قال: لا ينجسه، إلا أن تأخذه ميتاً فتطرحه فإنه ينجس الماء، أو يكثر بحيث يغير الماء.

وعنده قد سبق أن الماء القليل إذا لاقته النجاسة فإنه ينجس. لكن لو سقط في الإناء بنفسه فمات فلا ينجس الماء، فيعفى عنه؛ للمشقة.

[ إلا ما وقع الاتفاق على أنه ليس بميتة ]، هناك أشياء لا دم لها سائل، وقع الاتفاق على أنها ليست بميتة، فهذا الشافعي يرى أنها طاهرة وهي: [ مثل دود الخل، وما يتولد في المطعومات ]، فمثلاً بعض المطعومات يتولد منها دود، ويموت فيها، فحكمه أنه طاهر بالاتفاق.

[ وسوى قوم بين ميتة البر والبحر، واستثنوا ميتة ما لا دم له وهو مذهب أبي حنيفة ]، إذاً مذهب أبي حنيفة يقول: إن ميتة البحر نجسة وميتة البر نجسة، إلا أنه يستثنى ما لا دم له سائل، فإنه طاهر.

قال المصنف رحمه الله: [ وسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ[المائدة:3] ]، لأن هذه الميتة عام.

[وذلك أنهم فيما أحسب.. ]، أي فيما يظن المؤلف أنه: [ اتفقوا أنه من باب العام أريد به الخاص ]، فمثلاً الشافعي قال: من باب العام أريد به الخاص فاستثنى منه ميتة البحر فقط.

و مالك و أحمد قالوا: من باب العام أريد به الخاص، فاستثنوا منه ميتة البحر وما لا دم له سائل، و أبو حنيفة قال: من باب العام أريد به الخاص فاستثنى منه ميتة ما لا دم له سائل.

فكلهم استثنوا، لكن كلاً استثنى على ما يرى، فمن حيث الجملة اتفقوا على أنه من باب العام أريد به الخاص، لكن اختلفوا في ما هو الذي استثني منه؟

فمالك و أحمد قالوا: يستثنى منه ميتة البحر فقط، وما لا دم له سائل. و الشافعي قال: يستثنى منه ميتة البحر، و أبو حنيفة قال: يستثنى منه ما لا دم له سائل.

[ واختلفوا أي خاص أريد به؟ فمنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر، وما لا دم له ]، وهؤلاء هم: مالك و أحمد . [ ومنهم من استثنى من ذلك ميتة البحر فقط ]، وهذا مذهب الشافعي .

[ ومنهم من استثنى من ذلك ميتة ما لا دم له فقط ] وهو أبو حنيفة .

[ وسبب اختلافهم في هذه المستثنيات هو سبب اختلافهم في الدليل المخصوص ]، أي: الذي خصص هذه المستثنيات.

[ أما من استثنى من ذلك ما لا دم له، فحجته مفهوم الأثر الثابت عنه عليه الصلاة والسلام من أمره بمقل الذباب إذا وقع في الطعام ]، يعني غمس الذباب إذا وقع في الطعام، وهو حديث صحيح، فإنه أمر بغمسه وغمسه يؤدي إلى موته، فهذا يدل على أن ميتته طاهرة.

[ قالوا: فهذا يدل على طهارة الذباب، وليس لذلك علة إلا أنه غير ذي دم ]. قالوا: علته أنه غير ذي دم.

[ وأما الشافعي فعنده أن هذا خاص بالذباب ]، يقول: الذباب تغمسه للعلة الظاهرة، وهي: أن في إحدى جناحيه داء وفي الآخر دواء، فأنت تغمسه ليزيل الداء بالدواء.

ثم إن الشافعي سيرد قولهم على أن ما لا دم له سائل أنه طاهر، فيقول: [ ووهن الشافعي هذا المفهوم من الحديث؛ بأن ظاهر الكتاب يقتضي أن الميتة والدم نوعان من أنواع المحرمات ]، فهم يقولون: سبب طهارة ما لا دم له سائل هو عدم وجود الدم؛ لأن الدم هو سبب النجاسة.

فقال الشافعي : هذا الكلام ضعيف، ليس الدم سبب النجاسة، إنما الميتة هي سبب للنجاسة، والدليل على أن الميتة هي سبب للنجاسة هو أن الذبح يطهر الحيوان ولا يطهر دمه.

فإذا كان الحيوان الذي ذبح، أليس يكون أولاً الدم باق فيه أو لا؟ ثم بعد ذلك يخرج، فيقول: هل يطهر الحيوان بنفس الذبح أو بعد خروج الدم؟

بالذبح، إذاً أنتم قلتم بطهارة الحيوان المذبوح مع بقاء الدم، وبأن الدم نجس لا تطهره الذكاة.

إذاً فهذه العلة هي احتقان الدم غير صحيحة هنا، ويدلل على ذلك بأن السبب الذي هو الدم موجود، والمسبب منتفي وهو طاهر، فهذا يدل على أن الدم ليس له تعلق بالنجاسة. ويمثل لذلك بالعصير، لما يكون مسكراً، هل يكون ممنوعاً تعاطيه؟ قد يكون نجساً عند بعض العلماء، فيقول: لا يزول عنه الحكم إلا بزوال العلة التي هي الإسكار، فكما يجب عليكم أن تقولوا: إن المذبوح لا تكون فيه الطهارة إلا إذا زال الدم، ولكنكم لا تقولون بذلك؛ فعلم أن الدم شيء مستقل وهو غير الميتة، فالميتة تطهر بالذبح، والدم لا يطهر بالذكاة. هذا معنى كلامه.

[ أحدهما تعمل فيه التذكية وهي الميتة، وذلك في الحيوان المباح الأكل بالاتفاق، والدم لا تعمل فيه التذكية فحكمهما مفترق ] الدم متى فيه التذكية؟! [ فكيف يجوز أن يجمع بينهما حتى يقال: إن الدم هو سبب تحريم الميتة؟! وهذا قوي كما ترى ] المؤلف يقوي هذا التعليل [ فإنه لو كان الدم هو السبب في تحريم الميتة لما كانت ترتفع الحرمية عن الحيوان بالذكاة، وتبقى حرمية الدم الذي لم ينفصل بعد عن المذكاة، وكانت الحلية إنما توجد بعد انفصال الدم عنه ] أي: عن الحيوان [ لأنه إذا ارتفع السبب ارتفع المسبب الذي يقتضيه ضرورة; لأنه إن وجد السبب والمسبب غير موجود فليس له هو سبباً، ومثال ذلك أنه إذا ارتفع التحريم عن عصير العنب وجب ضرورة أن يرتفع الإسكار إن كنا نعتقد أن الإسكار هو سبب التحريم ]، هذا تعليل الشافعي أنه لا يصح التعليل بأن سبب نجاسة الميتة هو احتقان الدم فيها، فالتي لا دم لها سائل فهي طاهرة.

قال المصنف رحمه الله: [ وأما من استثنى من ذلك ميتة البحر ] وهو الشافعي ، [ فإنه ذهب إلى الأثر الثابت في ذلك من حديث جابر وفيه: (أنهم أكلوا من الحوت الذي رماه البحر أياماً وتزودوا منه، وأنهم أخبروا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحسن فعلهم وسأل: هل بقي منه شيء؟) ]، وهذا الحديث رواه البخاري و مسلم ، وهو يدل على أن ميتة البحر طاهرة، وكذلك الحديث: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )، وهو حديث صحيح.

[ وأما أبو حنيفة ] الذي قال: إن ميتة البحر نجسة، [ فرجح عموم الآية على هذا الأثر، إما لأن الآية مقطوع بها ] يعني أنها واردة بالتواتر [ والأثر مظنون ]، أي: وارد بالآحاد؛ لأن الإمام أبا حنيفة يرى أنه إذا تعارض العام والخاص فعنده أن العام نص في العموم، وأن الخاص ينسخ من العام بقدره، ثم يقول: إن الآحاد لا ينسخ المتواتر، وأحاديث الباب آحاد والآية متواترة، على القاعدة الأصولية: بأنه لا ينسخ المتواتر بالآحاد. فالآية: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ[المائدة:3]، عامة، أي ميتة، ميتة بر أو بحر.

يقول: إن العام نص في العموم وليس ظاهراً، فإذا جاء الخاص فإنه ينسخ من العام بقدره، ثم بعد ذلك يقول: ولا يكون النسخ إلا أن المتواتر ينسخ المتواتر والآحاد ينسخ الآحاد، أما الآحاد فلا ينسخ المتواتر، وهذا مذهب الجمهور، جمهور أهل الأصول يقولون: إن المتواتر لا ينسخ بالآحاد، وعليه أكثر أهل الأصول، وكتب الأصول كلها تقول هذا، وما خالف في هذه القاعدة إلا الشيخ الشنقيطي في كتابه المذكرة ويمكن في الأضواء، ودلل على ذلك بأنه وردت آيات في القرآن: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ[الأنعام:145]، هذه الآية نص على أن هذه الأربعة نص، وأنه لا يوجد غير هذه الأربعة نجس، أو محرم، ثم جاءت أحاديث تحريم الحمر الأهلية بالآحاد، يقول: نص وليس بتخصيص وأنه بالنفي والاستثناء؛ فدل على أن الآحاد ينسخ المتواتر.

فدلل بهذا وقال: إنه لا تعارض بين الآحاد والمتواتر إلا بشرط أن لا يكون متعارضة، ويكون بنص، قال: لا تعارض على جواز قبول الآحاد المعارض لقبول المتواتر إذا اختلف الزمن، فلو قال لك ألف شخص: إن زيداً يوم الجمعة كان في صنعاء، وجاء واحد وقال لك: يوم الأحد كان في الحديدة، فلا تعارض بين الخبرين.

[ وإما لأنه رأى أن ذلك رخصة لهم، أعني حديث جابر ]، يعني: أن حديث جابر هذا كان رخصة؛ لأنه كان لا يوجد لهم أكل، ففي الحديث على أنهم كانوا يأخذون من تمرة تمرة، ثم بعد ذلك التمرة يمصها اثنان أو ثلاثة، فكان هذا رخصة لاضطرارهم.

لكن قوله: (رخصة) ينقضه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( فهل بقي منه شيء؟ ).

وأجاب عن الحديث: ( الحل ميتته )، أي: ميتته التي بسبب الاصطياد، أو بسبب حسر البحر عنها وكذلك أجاب هنا وقال: إن هذا الحيوان لم يمت في البحر بنفسه، ولكنه انحسر عنه البحر فمات، وهو يجيز مثل هذا، لكن الطافي الذي يموت بنفسه ويطفو على البحر فإنه لا يجيزه.

[ أو لأنه احتمل عنده أن يكون الحوت مات بسبب، وهو رمي البحر به إلى الساحل; لأن الميتة هو ما مات من تلقاء نفسه من غير سبب خارج. ولاختلافهم في هذا أيضاً سبب آخر، وهو: احتمال عودة الضمير في قوله تعالى: وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ[المائدة:96] ]، أي: هل هو طعام البحر أو الصيد؟ فإن كان طعامه الصيد فهو يدل على أن الطافي نجس، وإذا كان المقصود طعام البحر فيدل على أن الطافي من الميتة طاهر ويجوز أكله.

[ أعني: أن يعود على البحر أو على الصيد نفسه، فمن أعاده على البحر قال: طعامه هو الطافي ]، فيجوز أكله.

[ ومن أعاده على الصيد قال: هو الذي أحل فقط من صيد البحر. مع أن الكوفيين أيضاً تمسكوا في ذلك بأثر ورد فيه تحريم الطافي من السمك، وهو عندهم ضعيف ]، يعني حديث: ( ما ألقى البحر أو جزر فكلوه، وما مات فيه وطفا فلا تأكلوه )، وهذا الحديث ضعيف.




استمع المزيد من الشيخ محمد يوسف حربة - عنوان الحلقة اسٌتمع
كتاب الزكاة [9] 2956 استماع
كتاب الزكاة [1] 2912 استماع
كتاب الطهارة [15] 2905 استماع
كتاب الطهارة [3] 2617 استماع
كتاب الصلاة [33] 2566 استماع
كتاب الصلاة [29] 2415 استماع
كتاب الطهارة [6] 2396 استماع
كتاب أحكام الميت [3] 2388 استماع
كتاب الطهارة [2] 2364 استماع
كتاب الصلاة [1] 2327 استماع