بلوغ المرام - كتاب الطهارة [9]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد, وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, اللهم انفعنا بما علمتنا, وعلمنا ما ينفعنا, وزدنا علماً وعملاً يا كريم.

وبعد:

فنسأله سبحانه وتعالى أن يمن علينا بهداية وتوفيق وتسديد ورشاد من عنده سبحانه, وأن يوفقنا للاستمرار على العلم وتعليمه وتعلمه؛ فإن نعمة تعلم العلم وتعليمه من أعظم النعم, كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث المتفق عليه, من حديث معاوية بن أبي سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من يرد الله به خيراً يفقه في الدين ), فنسأله سبحانه وتعالى التوفيق والتسديد.

وقد كنا قد وصلنا إلى الحديث الثامن عشر من أحاديث باب الآنية, من أحاديث أمالي بلوغ المرام, ونقرأ هذه الأحاديث.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في كتابه بلوغ المرام كتاب الطهارة: باب الآنية: [ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ) أخرجه مسلم.

وعند الأربعة: ( أيما إهاب دبغ ).

وعن سلمة بن المحبق رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( دباغ جلود الميتة طهورها ), صححه ابن حبان .

وعن ميمونة رضي الله تعالى عنها قالت: ( مر النبي صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها، فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: يطهرها الماء والقرظ ), أخرجه أبو داود و النسائي ]. ‏

تخريج حديث: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر) ودرجته

الحديث الأول: حديث ابن عباس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), وقد قال المؤلف: (أخرجه مسلم ), هذا الحديث مداره على زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي عن ابن عباس , وقد اختلف في هذا الحديث, فرواه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي عن ابن عباس , بلفظ: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), وهذا هو لفظ مسلم في صحيحه, وكذلك رواه أبو داود , لكن لم يروه أبو داود من حديث سليمان بن بلال , وإنما رواه من طريق عبد العزيز الدراوردي كما سوف يأتي.

الطريق الثاني: يرويه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس بلفظ: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), وهذا الحديث رواه الشافعي و ابن أبي شيبة و أحمد و ابن ماجه و النسائي في الكبرى, بلفظ: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), وقد وهم بعض أهل الحديث, حينما نسب لفظة: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), بأن مسلماً قد رواه, كما ذكر ذلك الإمام الزيلعي رحمه الله, أن بعض أهل الحديث قديماً وحديثاً نسبوا هذا الحديث إلى مسلم , وهذا وهم من عندهم, وذكر من أمثلة ذلك الإمام البيهقي , فإن الإمام البيهقي رحمه الله حينما ذكر هذا الحديث في السنن الكبرى قال: أخرجه مسلم , وقد اعتذر الإمام ابن دقيق العيد عن سبب وهم الحافظ البيهقي بذلك, أنه إنما أراد أصل الحديث لا لفظه, ثم عقب ذلك بأنه ينبغي للفقيه أن يهتم بالألفاظ؛ لأن اهتمام الفقيه بالمتون أكثر من اهتمام أهل الحديث بذلك؛ ذلك أن أهل الحديث إنما يعتنون بالأسانيد, وأما اهتمامهم بالمتون فهي من حيث مخالفتها للأحاديث الأخرى.

وقد وهم أيضاً في بعض نسخ مجموع الفتاوى لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله, فإنما هو نسب هذا الحديث: ( أيما إهاب ), إلى مسلم في صحيحه, والواقع أن مسلماً لم يروه بهذا اللفظ, وإنما رواه بلفظ: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ).

الطريق الثالث: هو طريق مالك بن أنس وطريق سفيان الثوري وطريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي , كل هؤلاء الثلاثة رووه عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي عن ابن عباس باللفظين كلاهما, يعني: أن مالك بن أنس رواه بلفظ: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), ورواه بلفظ: ( أيما إهاب ), وكذلك الثوري وكذلك عبد العزيز بن محمد الدراوردي , وقد ذكر الحافظ ابن حجر قال: [ وعند الأربعة: ( أيما إهاب دبغ ), ], ومن المعلوم أن أبا داود إنما رواه في سننه من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن ابن وعلة عن ابن عباس بلفظ: ( إذا دبغ الإهاب ), فيكون قول الحافظ ابن حجر: (وعند الأربعة) فيه وهم؛ ذلك أنه لم يروه أبو داود , وإنما رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجه , وهذا يدلك على أن العالم مهما بلغ من العلم, ومهما بلغ من الحفظ فإنه يهم, والله أعلم.

ولعل الحافظ ابن حجر ذكر مثل هذه الأحاديث إنما هي من حفظه؛ لأنه سوف يأتي أمثلة لذلك مرت, وأمثلة في هذا اليوم, وأمثلة لاحقة في شرحنا إن شاء الله للبلوغ, ومن الأوهام التي حصلت للحافظ في مثل هذا الدرس: هو أنه نسب حديث: ( أيما إهاب ), للأربعة, والواقع أن أبا داود لم يروه, وإنما رواه الثلاثة غير أبي داود وهم: ابن ماجه و النسائي و الترمذي رحمة الله تعالى على الجميع.

والحديث مع ذلك مداره على ابن وعلة السبئي وهو عبد الرحمن بن وعلة السبئي , وقد رواه مسلم بلفظ آخر من طريق أبي الخير قال: رأيت على ابن وعلة السبئي فرواً فمسسته, فقال لي: ما لك تمسه؟ إني سألت ابن عباس فقلت: إنا نكون مع البربر نؤتى بالكبش قد ذبحوه, ونحن لا نأكل ذبائحهم, ونؤتى بالفرو فقال ابن عباس : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ( دباغها طهورها ), وفي رواية قال: فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ( لا بأس به ), وهذا يدل على أن مدار الحديث على ابن وعلة السبئي , وقد اختلف العلماء في عبد الرحمن هذا, فضعفه الإمام أحمد كما نقل ذلك الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله والحافظ ابن حجر , فإن الإمام أحمد قال: حديث عبد الرحمن بن وعلة حديث في الدباغ حديث ضعيف, وقد وثق ابن وعلة بعض أهل الحديث كـيحيى بن معين و النسائي, بل قال ابن دقيق العيد: وليس يعلم في ابن وعلة مطعن.

والذي يظهر والله أعلم: أن حديث ابن وعلة قد وهم, إما أن يكون ذكر هو لفظ الحديث من عند نفسه؛ لأن مسلماً في الحديث الآخر قال: (لا بأس بذلك), وإما أن يكون لا بد فيه من ترجيح بعض الألفاظ على بعض, فمن المعلوم أن قولك: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر), يختلف في ما لو قلت: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), هذا زائد وإن كان بعضهم يقول: الإهاب يفيد العموم, ولكن قولك: أيما إهاب, هذا يدل على العمومية بطريق الأولوية, وعلى هذا فالحديث إما أن يقال: ضعيف, وإما أن يقال: إن الصحيح هو رواية مسلم , وهي: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), وهذا يقويه أن رواية: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), رواها عن زيد بن أسلم أربعة: سليمان بن بلال و مالك بن أنس و سفيان الثوري و عبد العزيز بن محمد الدراوردي , ورواية: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), رواها أربعة: سفيان بن عيينة و مالك بن أنس و سفيان الثوري و عبد العزيز بن محمد الدراوردي , فدل ذلك على أن ابن وعلة وهم, والله تبارك وتعالى أعلم.

وإذا كان ذلك فإن لفظ: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), أقرب من حيث الروايات الأخرى والشواهد الحديثية الأخرى والله أعلم.

معنى الدباغ

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دبغ ), الدبغ: هو معالجة الجلد وإزالة النتن والرطوبة من الجلد بمواد تمنع ورود الفساد عليه, والإهاب: هو الجلد مطلقاً دبغ أم لم يدبغ, هذا قول بعض أهل اللغة, وقال بعضهم: إن الإهاب هو اسم للجلد قبل الدبغ, كما قال أبو داود حينما ذكر هذا الحديث قال: والإهاب: هو اسم للجلد قبل أن يدبغ, كما هو قول النضر بن شميل , وهو من أئمة اللغة, وجزم بذلك الإمام الجوهري أن الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ.

قال: وأما إذا دبغ صار شناً أو قربة أو غير ذلك, وقد اختار هذا القول غير علماء اللغة بعض أهل العلم, كـأبي عمر بن عبد البر والإمام البيهقي و أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.

معارضة حديث (إذا دبغ الإهاب فقد طهر..) لغيره ووجه التوفيق

وقد أشار ابن تيمية رحمه الله أن من أهل الحديث من ضعف هذا الحديث, وأشار منهم إلى الإمام أحمد رحمه الله, وعلى هذا فلا يمكن أن ترد الأحاديث الصحيحة بهذا الحديث, فإما أن يقال: إن هذا الحديث ضعيف, وإما أن يجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة بما لا يبطل الأحاديث الصحيحة, وأقول ذلك؛ لأجل أننا سوف نذكر خلاف أهل العلم في جلد الميتة إذا دبغ, وقد أوصلها الإمام النووي في المجموع إلى سبعة أقوال.

الحديث الأول: حديث ابن عباس , قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), وقد قال المؤلف: (أخرجه مسلم ), هذا الحديث مداره على زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي عن ابن عباس , وقد اختلف في هذا الحديث, فرواه سليمان بن بلال عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي عن ابن عباس , بلفظ: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), وهذا هو لفظ مسلم في صحيحه, وكذلك رواه أبو داود , لكن لم يروه أبو داود من حديث سليمان بن بلال , وإنما رواه من طريق عبد العزيز الدراوردي كما سوف يأتي.

الطريق الثاني: يرويه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس بلفظ: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), وهذا الحديث رواه الشافعي و ابن أبي شيبة و أحمد و ابن ماجه و النسائي في الكبرى, بلفظ: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), وقد وهم بعض أهل الحديث, حينما نسب لفظة: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), بأن مسلماً قد رواه, كما ذكر ذلك الإمام الزيلعي رحمه الله, أن بعض أهل الحديث قديماً وحديثاً نسبوا هذا الحديث إلى مسلم , وهذا وهم من عندهم, وذكر من أمثلة ذلك الإمام البيهقي , فإن الإمام البيهقي رحمه الله حينما ذكر هذا الحديث في السنن الكبرى قال: أخرجه مسلم , وقد اعتذر الإمام ابن دقيق العيد عن سبب وهم الحافظ البيهقي بذلك, أنه إنما أراد أصل الحديث لا لفظه, ثم عقب ذلك بأنه ينبغي للفقيه أن يهتم بالألفاظ؛ لأن اهتمام الفقيه بالمتون أكثر من اهتمام أهل الحديث بذلك؛ ذلك أن أهل الحديث إنما يعتنون بالأسانيد, وأما اهتمامهم بالمتون فهي من حيث مخالفتها للأحاديث الأخرى.

وقد وهم أيضاً في بعض نسخ مجموع الفتاوى لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله, فإنما هو نسب هذا الحديث: ( أيما إهاب ), إلى مسلم في صحيحه, والواقع أن مسلماً لم يروه بهذا اللفظ, وإنما رواه بلفظ: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ).

الطريق الثالث: هو طريق مالك بن أنس وطريق سفيان الثوري وطريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي , كل هؤلاء الثلاثة رووه عن زيد بن أسلم عن عبد الرحمن بن وعلة السبئي عن ابن عباس باللفظين كلاهما, يعني: أن مالك بن أنس رواه بلفظ: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), ورواه بلفظ: ( أيما إهاب ), وكذلك الثوري وكذلك عبد العزيز بن محمد الدراوردي , وقد ذكر الحافظ ابن حجر قال: [ وعند الأربعة: ( أيما إهاب دبغ ), ], ومن المعلوم أن أبا داود إنما رواه في سننه من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن زيد بن أسلم عن ابن وعلة عن ابن عباس بلفظ: ( إذا دبغ الإهاب ), فيكون قول الحافظ ابن حجر: (وعند الأربعة) فيه وهم؛ ذلك أنه لم يروه أبو داود , وإنما رواه الترمذي و النسائي و ابن ماجه , وهذا يدلك على أن العالم مهما بلغ من العلم, ومهما بلغ من الحفظ فإنه يهم, والله أعلم.

ولعل الحافظ ابن حجر ذكر مثل هذه الأحاديث إنما هي من حفظه؛ لأنه سوف يأتي أمثلة لذلك مرت, وأمثلة في هذا اليوم, وأمثلة لاحقة في شرحنا إن شاء الله للبلوغ, ومن الأوهام التي حصلت للحافظ في مثل هذا الدرس: هو أنه نسب حديث: ( أيما إهاب ), للأربعة, والواقع أن أبا داود لم يروه, وإنما رواه الثلاثة غير أبي داود وهم: ابن ماجه و النسائي و الترمذي رحمة الله تعالى على الجميع.

والحديث مع ذلك مداره على ابن وعلة السبئي وهو عبد الرحمن بن وعلة السبئي , وقد رواه مسلم بلفظ آخر من طريق أبي الخير قال: رأيت على ابن وعلة السبئي فرواً فمسسته, فقال لي: ما لك تمسه؟ إني سألت ابن عباس فقلت: إنا نكون مع البربر نؤتى بالكبش قد ذبحوه, ونحن لا نأكل ذبائحهم, ونؤتى بالفرو فقال ابن عباس : سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ( دباغها طهورها ), وفي رواية قال: فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ( لا بأس به ), وهذا يدل على أن مدار الحديث على ابن وعلة السبئي , وقد اختلف العلماء في عبد الرحمن هذا, فضعفه الإمام أحمد كما نقل ذلك الإمام أبو العباس بن تيمية رحمه الله والحافظ ابن حجر , فإن الإمام أحمد قال: حديث عبد الرحمن بن وعلة حديث في الدباغ حديث ضعيف, وقد وثق ابن وعلة بعض أهل الحديث كـيحيى بن معين و النسائي, بل قال ابن دقيق العيد: وليس يعلم في ابن وعلة مطعن.

والذي يظهر والله أعلم: أن حديث ابن وعلة قد وهم, إما أن يكون ذكر هو لفظ الحديث من عند نفسه؛ لأن مسلماً في الحديث الآخر قال: (لا بأس بذلك), وإما أن يكون لا بد فيه من ترجيح بعض الألفاظ على بعض, فمن المعلوم أن قولك: (إذا دبغ الإهاب فقد طهر), يختلف في ما لو قلت: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), هذا زائد وإن كان بعضهم يقول: الإهاب يفيد العموم, ولكن قولك: أيما إهاب, هذا يدل على العمومية بطريق الأولوية, وعلى هذا فالحديث إما أن يقال: ضعيف, وإما أن يقال: إن الصحيح هو رواية مسلم , وهي: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), وهذا يقويه أن رواية: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), رواها عن زيد بن أسلم أربعة: سليمان بن بلال و مالك بن أنس و سفيان الثوري و عبد العزيز بن محمد الدراوردي , ورواية: ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ), رواها أربعة: سفيان بن عيينة و مالك بن أنس و سفيان الثوري و عبد العزيز بن محمد الدراوردي , فدل ذلك على أن ابن وعلة وهم, والله تبارك وتعالى أعلم.

وإذا كان ذلك فإن لفظ: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر ), أقرب من حيث الروايات الأخرى والشواهد الحديثية الأخرى والله أعلم.

وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا دبغ ), الدبغ: هو معالجة الجلد وإزالة النتن والرطوبة من الجلد بمواد تمنع ورود الفساد عليه, والإهاب: هو الجلد مطلقاً دبغ أم لم يدبغ, هذا قول بعض أهل اللغة, وقال بعضهم: إن الإهاب هو اسم للجلد قبل الدبغ, كما قال أبو داود حينما ذكر هذا الحديث قال: والإهاب: هو اسم للجلد قبل أن يدبغ, كما هو قول النضر بن شميل , وهو من أئمة اللغة, وجزم بذلك الإمام الجوهري أن الإهاب اسم للجلد قبل الدبغ.

قال: وأما إذا دبغ صار شناً أو قربة أو غير ذلك, وقد اختار هذا القول غير علماء اللغة بعض أهل العلم, كـأبي عمر بن عبد البر والإمام البيهقي و أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع.

وقد أشار ابن تيمية رحمه الله أن من أهل الحديث من ضعف هذا الحديث, وأشار منهم إلى الإمام أحمد رحمه الله, وعلى هذا فلا يمكن أن ترد الأحاديث الصحيحة بهذا الحديث, فإما أن يقال: إن هذا الحديث ضعيف, وإما أن يجمع بينها وبين الأحاديث الصحيحة بما لا يبطل الأحاديث الصحيحة, وأقول ذلك؛ لأجل أننا سوف نذكر خلاف أهل العلم في جلد الميتة إذا دبغ, وقد أوصلها الإمام النووي في المجموع إلى سبعة أقوال.

الحديث الآخر: هو حديث سلمة بن المحبق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( دباغ جلود الميتة طهورها ), قال الحافظ : (صححه ابن حبان).

الحديث أخرجه أبو داود الطيالسي و ابن أبي شيبة و أحمد بن حنبل و أبو داود و النسائي و الطحاوي في شرح معاني الآثار, و ابن حبان كلهم من طريق قتادة عن الحسن البصري عن جون بن قتادة عن سلمة بن المحبق , والحديث في إسناده جون بن قتادة , و جون هذا قال فيه الإمام أحمد : لا أعرفه, وقال ابن المديني : لم يروه عنه إلا الحسن , وهو معروف, وقال الترمذي : لا نعرف لـجون حديثاً إلا هذا الحديث, ولا ندري من هو, فهذا يدل على أن هذا مجهول, وقاعدتنا في المجاهيل أنه إذا روى عن كبار الصحابة وروى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر, فإنه يقبل, فهل هذا توفرت فيه الشروط أم في المرتبة الثانية؟ الذي يظهر والله أعلم: أنه لم يروِ عنه إلا الحسن , وأتى بلفظ فيه إشكال كبير, كما سوف يأتي بيانه.

واعلم أن الحافظ ابن حجر ذكر أن لفظ سلمة بن المحبق هو: ( دباغ جلود الميتة طهورها ), والذي يظهر والله أعلم: أن هذا لفظ حديث عائشة , وإلا فإن ابن حبان ذكر هذا الحديث بهذا الإسناد بلفظ: ( ذكاة الأديم دباغه ).

إذاً لفظ: ( دباغ جلود الميتة طهورها ), لفظ عائشة , فهذا من الأوهام الثانية من الحافظ ابن حجر رحمه الله, ولا يضره وهمه بعد أن جمع لنا وحفظ أحاديث عظيمة, حتى قال السخاوي : قد رزقه الله حافظة أشد من حافظة الذهبي , و الذهبي يصفه أحد أقرانه في سعة حفظه في الرجال قال: لو أن الله أوقف الإمام الذهبي على الصراط لعلم كل من يمر أنه فلان بن فلان, ضعيف وفلان وفلان ثقة, من شدة حفظ الحافظ الذهبي رحمه الله.

على كل حال؛ حديث: ( دباغ جلود الميتة طهورها ), لفظ حديث عائشة , وإلا فإن حديث سلمة لفظه: ( ذكاة الأديم دباغه ), وأخرجه الإمام أحمد و النسائي بلفظ: ( دباغها طهورها ), أو: ( دباغها ذكاتها ), هذا اللفظ الآخر, يعني: كم لفظة الآن من حديث سلمة ؟ لفظان: ( ذكاة الأديم دباغه ), واللفظ الآخر: ( دباغها طهورها ), أو: ( ذكاتها ), وقد أخرج النسائي و الطحاوي وغيرهما من طريق إسرائيل عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها, قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذكاة الميتة دباغها ), وقد أخرجه ابن حبان -يعني: حديث عائشة - وغيره من طريق شريك بن عبد الله القاضي وهو ضعيف, عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن الأسود بن يزيد عن عائشة مرفوعاً, باللفظ الذي ذكره الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام وهو: ( دباغ جلود الميتة طهورها ), وقد روى الدارقطني في العلل من طريق الثوري عن إبراهيم عن عائشة من قولها؛ ولأجل هذا اختلف أهل العلم, هل الصحيح في هذا الحديث الرفع, أم الصحيح الوقف؟ فذهب الإمام البخاري رحمه إلى أن الصحيح في هذا الحديث هو الوقف, كما ذكر ذلك الترمذي في العلل الكبير, واختار الإمام الدارقطني رحمه الله أن الصحيح في هذا الحديث هو الرفع؛ لأن إسرائيل يرويه عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة , ولا شك أن هذا الحديث مشكل, وله شواهد, كلها لا تخلو من وهم وضعف, مثل حديث المغيرة بن شعبة , وحديث ابن مسعود وحديث أبي أمامة وحديث ابن عمر وحديث زيد بن ثابت وحديث هزيل بن شرحبيل وحديث أنس وحديث جابر وكلها ضعيفة, وأحسنها حديث سلمة وحديث عائشة .

وقد اختلف العلماء في معنى حديث: ( ذكاة جلود الميتة دباغها ), فذهب بعض أهل العلم إلى أن معنى هذا الحديث أن جلود الميتة ممن يؤكل لحمه إذا دبغ كان ذلك بمثابة تذكيته, فإذا ذكي مأكول اللحم حل الجلد, فكذلك الدباغ يقوم مقام الذكاة, وهذا المعنى وجيه, وهو اختيار ابن تيمية و ابن المبارك و الأوزاعي و إسحاق , والمعنى الآخر لهذا الحديث -وهذا غريب- أنه كما أن جلد الميتة يطهر بالدباغ فكذلك الحيوان غير مأكول اللحم إذا ذكي فإنه يطهر, وهذا قولاً عند المالكية, والراجح أن هذا ليس بصحيح، وأن الأقرب والله أعلم أن معنى الحديث أن دباغ جلود الميتة ينفعها ويطهرها, كما تطهر الذكاة, والذكاة لا تنفع إلا في مأكول اللحم, والله تبارك وتعالى أعلم.

الحديث الآخر: حديث ميمونة , وهو أنها قالت: ( مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها, فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة, قال: يطهرها الماء والقرظ ), قال الحافظ : (أخرجه أبو داود و النسائي).

تخريج حديث: (مر رسول الله بشاة يجرونها ...) ودرجته

الحديث أخرجه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي و ابن حبان و الدارقطني و الطحاوي و البيهقي , كلهم من طريق كثير بن فرقد , عن عبد الله بن مالك بن حذافة عن أمه العالية بنت سبيع , ( مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة يجرونها, فقال: لو أخذتم إهابها؟ فقالوا: إنها ميتة, قال: يطهرها الماء والقرظ ), وهذا الحديث في سنده عبد الله بن مالك بن حذافة , لم يروِ عنه سوى كثير بن فرقد وهو مجهول, وقد ذكر الإمام البخاري في التاريخ الكبير, وكذا الإمام أبو حاتم في الجرح والتعديل عبد الله بن مالك بن حذافة ذكراه في كتاب كل واحد منهما من غير جرح ولا تعديل, و العالية بنت سبيع لا تعرف بقدح ولا ذم, وعلى هذا فالحديث في سنده مجاهيل, وقلنا في قاعدة المجاهيل: إذا كان من كبار الصحابة وقد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر, وهل هذا منكر؟ نقول: نعم, منكر؛ ذلك أن البخاري و مسلماً رويا هذا الحديث عن عائشة بلفظ: ( إنما حرم أكلها ), وأما لفظ: ( يطهرها الماء والقرظ ), فهو لفظ لم يروه البخاري و مسلم , وهو مخالف لرواية البخاري و مسلم , وعلى هذا فليس الحديث بصحيح, ومما يدل على ذلك أن الحافظ الذهبي رحمه أشار إلى أن هذا الحديث فيه جهالة.

معنى القرظ وأنواع الدباغ

وأما ألفاظ الحديث فإنه قال: (القرظ), والقرظ: هو ورق شجر السلام, أو هو حب يخرج في غلف كالعدس من شجر العضاة, والمقصود من ذلك أنه يوضع في الجلد ويعالج كي يلين ويزول ما به من رطوبة ونتن.

ومن المعلوم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا صح الحديث: ( يطهره الماء والقرظ ), فإنما خرج ذلك مخرج الغالب, وكذلك قشور الرمان, أو غيرها من الوسائل الكيميائية الحديثة, كل ذلك جائز إن شاء الله, وإنما خرج ذلك مخرج الغالب, والله تبارك وتعالى أعلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [21] 2516 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [8] 2427 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [24] 2329 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [14] 2131 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [22] 2117 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [15] 2100 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [4] 2094 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [26] 2037 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [23] 2023 استماع
بلوغ المرام - كتاب الطهارة [16] 1825 استماع