ديوان الإفتاء [390]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه, أما بعد:

فمرحباً بكم في حلقة جديدة من ديوان الإفتاء, التي أرجو أن تكون نافعة مفيدة إن شاء الله.

أيها الإخوة! تقدم معنا الكلام في حلقة سابقة عن أحكام المياه، وفي هذه الحلقة إن شاء الله نتناول أحكام الأعيان النجسة؛ لأن كثيراً من الناس قد أصابته وسوسة، فيحسب ما ليس بنجس نجساً.

أيها الإخوة! الأعيان النجسة التي حكم الشرع بنجاستها أعيان محدودة، وليست كثيرة، والأصل في الأشياء كلها الطهارة.

تعريف النجاسة

وقبل الحديث عن الأعيان النجسة نقول: النجاسة في اللغة هي الرجس، وهي ضد الطهارة.

وفي الشرع: كل عينٍ يحرم تناولها لا لضررها ولا لحرمتها ولا لاستقذارها.

فقولنا: (كل عين يحرم تناولها لا لاستقذارها) يخرج بذلك المخاط والبصاق وما أشبه ذلك، فإنها مستقذرة، لكنها طاهرة، وليست بنجسة، وقولنا: (ولا لضررها)، يخرج بذلك أنواع السموم، فإنها محرمة لضررها لا لنجاستها، وقولنا: (ولا لحرمتها) يخرج بذلك ما كان مغصوباً أو مسروقاً، فإنه حرام، لكنه ليس بنجس، فلو أن إنساناً سرق لحم بقر أو لحم غنم، فهذا اللحم حرام عليه أكله، لا لكونه نجساً؛ بل لكونه مسروقاً مغصوباً محرماً.

ومن هنا: استنبط علماؤنا قاعدة: كل نجس حرام، وليس كل حرام نجساً.

إذاً: العين النجسة: هي كل عين يحرم تناولها لا لضررها، ولا لاستقذارها، ولا لحرمتها.

أما بالنسبة لهذه الأعيان فهي كالتالي:

نجاسة الميتة وما يلحق بها

من الأعيان النجسة: الميتة، فقد حكمت الشريعة الإسلامية بأن الميتة نجسة، قال الله عز وجل: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ[الأنعام:145]، فبين ربنا جل جلاله أن الميتة رجس.

ويلحق بالميتة أيضاً: كل حيوان محرم لا تعمل فيه الذكاة، فلو أن إنساناً ذبح حماراً أهلياً، أو ذبح كلباً مثلاً، فليس بحلال؛ لأن أكله في الأصل محرم؛ فالذكاة لا تعمل فيه.

ومثل الميتة أيضاً: ما ذبحه المجوسي لناره، وما ذبحه الوثني لصنمه، وما ذبحه النصراني لصليبه، وما ذبحه المسلم وتعمد ألا يذكر اسم الله عليه، فهذه كلها في حكم الميتة، ولا يجوز تناولها.

نجاسة الأجزاء المنفصلة من الحيوان الحي

ومن الأعيان النجسة: ما انفصل من أجزاء الحيوان الحي.

فمثلاً: بعض الناس قد يَعمد إلى جزء من الحيوان فيقطعه وهو حي، والنبي صلى الله عليه وسلم بين بأن هذا الجزء المقطوع حكمه حكم الميتة، كما في حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال: ( قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يجبون أسنمة الإبل وإليات الغنم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما أبين من حي فهو كميتته )، فلو أن إنساناً قطع إلية الشاة، أو جب سنام الجمل، فهذا المجبوب ما حلت فيه الذكاة، ولذلك حكمه حكم الميتة، اللهم إلا الأشياء التي لا تحل فيها الحياة، ولا يتألم الحيوان بقطعها، كالشعر والصوف، فمثل هذا لو أنه جُز منه وهو حي، فيجوز الانتفاع به؛ لعموم قول الله عز وجل: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ[النحل:80]، ولم يفرق بين ميتة ومذكاة، كما قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله.

نجاسة المسكرات المائعة

ومن الأعيان النجسة: المسكرات المائعات، يعني: المواد التي تسكر وهي سائلة مائعة، كالخمر مثلًا على مختلف أنواعه، فهذا عند جماهير العلماء -ومنهم الأئمة الأربعة- نجس نجاسة حسيةً؛ لقول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة:90]، فوصفه ربنا جل جلاله بأنه رجس، والرجس: هو النجس.

نجاسة بول الآدمي ورجيعه

ومن الأعيان النجسة: بول الآدمي ورجيعه، يعني: هذا الذي ينفصل من الآدمي متحللاً عن الغذاء، فإنه نجس، ويدل على ذلك حديث الأعرابي الذي جاء فبال في طائفة من المسجد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يريقوا عليه ذنوباً من ماء، من أجل تطهير الأرض التي حصل فيها ذلك البول، وقال له صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذه القاذورات؛ إنما هي لذكر الله وتلاوة القرآن ).

والرجيع -رجيع الآدمي- بإجماع أهل العلم نجس.

وبول الصبي الصغير الذي هو دون السنتين ولم يطعم سوى اللبن، هو كغيره عند المالكية، لكن جمهور العلماء قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين بول الغلام وبول الجارية، فقال: ( ينضح من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية )، فلو أن غلاماً بال، فإن المكان الذي بال فيه نكتفي بنضحه -أي: برشه بالماء- أما الجارية إذا بالت فإنه لا بد أن يُغسل. وهذا الغلام الذي ينضح بوله له شروط: أن يكون في الحولين فما دون، وأن يكون لم يطعم سوى اللبن.

وأيضاً في معنى البول: الودي؛ وهو ماء خاثر يخرج عقيب البول أو معه أو قبله، وربما أحياناً يخرج لو أن الإنسان رفع شيئاً ثقيلاً، فهذا حكمه حكم البول وهو نجس، ويجب أن يغسل ما أصاب من البدن أو الثياب.

نجاسة بول ورجيع ما لا يؤكل لحمه

ومن الأعيان النجسة: بول ورجيع ما لا يؤكل لحمه، فالحيوانات والطيور التي لا يؤكل لحمها كالكلاب، والحمير، والسباع المختلفة، ومثلها أيضاً ذوات المخلب من الطير، كالصقر، والباز، والعقاب وما أشبه ذلك، هذا كله بوله ورجيعه نجس، وينبغي أن يغسل المكان الذي أصابه.

نجاسة لبن وبيض ما لا يؤكل لحمه

وأيضاً من الأعيان النجسة: لبن ما لا يؤكل لحمه وبيضه، فإن اللبن تابع للحم، وكذلك البيض فهو من محرم الأكل محرم، ومن مكروه الأكل مكروه، ومن مباحه مباح؛ ولذلك الإبل والبقر والغنم ننتفع بألبانها؛ لأنها مباحة الأكل، أما الأتان -وهي أنثى الحمار، وتجمع على أُتن- فهذه لا يشرب لبنها، ولا يحل التداوي به كذلك؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها ).

أيضاً من الأعيان النجسة: ما انفصل من الميتة من لبن أو بيض؛ لأن حكمه حكم الميتة، والميتة نجسة, وما كان بداخلها من لبن أو بيض، فإنه يأخذ حكمها فيكون نجساً مثلها.

نجاسة الدم المسفوح

وأيضاً من الأعيان النجسة: الدم المسفوح، بدلالة الآية التي مضى ذكرها: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ[الأنعام:145]، وهنا نقيد الدم بأنه مسفوح، والدم المسفوح هو الذي يجري عند موجب جريانه، يعني: بحيث لو أمررنا عليه سكيناً فإنه يجري، أما الذي يكون في بقية العروق والذي يكون في اللحم فلا حرج في أن يؤكل، وقد قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما زلنا نأكل اللحم والدم يطفو على سطح القدر ). يعني: كانوا إذا طبخوه، فإن الدم يطفو على سطح القدر، وهذا الدم لا حرج في تناوله؛ لأنه ليس مسفوحاً.

وفي معنى ذلك: القيح والصديد، فإنهما نجسان؛ لأنهما متولدان عن الدم، فيأخذان حكمه.

نجاسة الدماء الخارجة من فرج المرأة

ومن الأعيان النجسة كذلك: دم الحيض, ودم النفاس، ودم الاستحاضة.

فهذه الدماء كلها نجسة؛ ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم المرأة الحائض إذا أصاب ثوبها دم أن تحته أو تقرصه بمعنى: أنها تجتهد في إزالة عينه وإذهاب أثره.

نجاسة المذي

ومن الأعيان النجسة كذلك: المذي، وهو الماء الأبيض الخاثر، الذي يخرج عند الملاعبة أو التفكير في الجماع، ودليل ذلك حديث علي رضي الله عنه أنه قال: (كنت رجلاً مذاءً, فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فأمرت رجلاً فسأله، فقال له: اغسل مذاكيرك وتوضأ ).

حكم المني من جهة الطهارة والنجاسة

وأيضاً عند المالكية يلحقون المني بالمذي، فيقولون: المني حكمه حكم المذي، وحكمه حكم البول؛ لأن المخرج واحد؛ ولأن هذه الإفرازات كلها متولدة عن الغذاء، ويستدلون بحديث أمنا عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تغسل المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيخرج إلى الصلاة وأثر بقع الماء في ثوبه.

واستدلوا أيضاً بما رواه مالك في الموطأ: أن عمر بن الخطاب صلى بالناس صلاة الصبح، ثم نظر في ثيابه فوجد أثر مني، فقال: لقد ابتليت بالاحتلام منذ وليت أمر الناس، ثم قام رضي الله عنه فاغتسل وغسل ما أصاب ثوبه من ذلك المني، ثم صلى الصبح بعدما ارتفع النهار.

قالوا: فلو لم يكن المني نجساً لما اشتغل عمر رضي الله عنه بغسل أثره من ثوبه مع ضيق الوقت. لكن ثبت عن رسولنا صلى الله عليه وسلم -كما يقول العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان- أنه قال عن المني: (إنما هو بمنزلة البصاق والمخاط، وإنما يكفيك أن تحكه).

فالنبي عليه الصلاة والسلام ألحق المني بالبصاق والمخاط، فدل ذلك على أن المني طاهر وإن كان مستقذراً، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن فيه أن يحك من الثوب، ولو كان نجساً كالمذي لألزمنا صلوات الله وسلامه عليه بأن نغسله؛ لأن الأعيان النجسة قد أمر نبينا عليه الصلاة والسلام بغسلها.

نجاسة البيض المتعفن

ومثله أيضاً من النجاسات: المذر؛ وهو البيض المتعفن، فالبيض الذي فسد وتعفن ألحقوه بالميتة، قالوا: لا يجوز تناوله.

إذا تبين أن هذه هي الأعيان النجسة، فكل ما عداها طاهر، وهذه المسألة تحتاج إلى تفصيل أكثر.

وإن شاء الله في الحلقة القادمة، نتكلم عن أعيان يحسبها الناس نجسة، وهي في واقع الأمر طاهرة.

مثال ذلك: هذه الحشرات التي يقول علماؤنا عنها: ما لا نفس لها سائلة، أي: ليس فيها دم، كالنمل والذباب والجراد وما أشبه ذلك، هذه يحسبها الناس نجسة وما هي بنجسة؛ ولذلك أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا وقع الذباب في إناء أحدكم، فليغمسه ثم ليطرحه، أو ثم لينزعه، فإن في أحد جناحيه شفاء وفي الآخر داء ).

ولو كانت نجسة لأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم بأن نريق ذلك الشراب أو ذلك الماء، خاصة وأنه في الغالب يكون قليلاً، فهو يتأثر بالنجاسة لو كانت يسيرة, لكن لما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نغمسها تبين لنا طهارتها، والغالب أن الحشرة إذا غُمست في شراب ساخن أو بارد أنها تموت، ومع ذلك أباح لنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ننتفع بهذا الشراب أو بهذا الماء من غير تحرج ولا تأثم؛ فلذلك سننبه إن شاء الله على هذه الأعيان الطاهرة التي يظنها الناس نجسة، ونبين إن شاء الله كيفية العلاج من الوسواس.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم.

وقبل الحديث عن الأعيان النجسة نقول: النجاسة في اللغة هي الرجس، وهي ضد الطهارة.

وفي الشرع: كل عينٍ يحرم تناولها لا لضررها ولا لحرمتها ولا لاستقذارها.

فقولنا: (كل عين يحرم تناولها لا لاستقذارها) يخرج بذلك المخاط والبصاق وما أشبه ذلك، فإنها مستقذرة، لكنها طاهرة، وليست بنجسة، وقولنا: (ولا لضررها)، يخرج بذلك أنواع السموم، فإنها محرمة لضررها لا لنجاستها، وقولنا: (ولا لحرمتها) يخرج بذلك ما كان مغصوباً أو مسروقاً، فإنه حرام، لكنه ليس بنجس، فلو أن إنساناً سرق لحم بقر أو لحم غنم، فهذا اللحم حرام عليه أكله، لا لكونه نجساً؛ بل لكونه مسروقاً مغصوباً محرماً.

ومن هنا: استنبط علماؤنا قاعدة: كل نجس حرام، وليس كل حرام نجساً.

إذاً: العين النجسة: هي كل عين يحرم تناولها لا لضررها، ولا لاستقذارها، ولا لحرمتها.

أما بالنسبة لهذه الأعيان فهي كالتالي:


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2824 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2650 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2535 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2534 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2508 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2477 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2466 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2444 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2407 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2407 استماع