خطب ومحاضرات
ديوان الإفتاء [331]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، حمداً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد, الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.
أما بعد:
إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، والحمد لله الذي جمعنا على البر والتقوى، وأسأل الله أن يوفقنا لما يحب ويرضى.
ومرحباً بكم في هذه الليلة المباركة ليلة الجمعة.
ومن السنن الراتبة في هذا اليوم المبارك في هذه الليلة المباركة قراءة سورة الكهف. فيوم الجمعة وليلة الجمعة مظنة لقراءة هذه السورة التي ورد فيها الحديث وإسناده حسن، قال صلى الله عليه وسلم: ( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له نور إلى الجمعة التي تليها ).
وثبت في صحيح مسلم قول نبينا صلى الله عليه وسلم: ( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف وقاه الله فتنة الدجال ).
قال علماؤنا رحمهم الله: فتنة الدجال أكبر فتنة ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة؛ كما بين نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا الدجال يأتي بأمور خارقة للعادة, يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويـأمر الأرض أن تنبت فتنبت، ويمر على الخرائب، فيقول لها: أخرجي كنوزك! فتخرج تتبعه كأنها يعاسيب النحل.
لو أن الإنسان قرأ سورة الكهف وداوم على قراءتها وتدبر ما فيها من القصص العجيبة والأخبار الغريبة فإنه لا يستكثر ما يأتي به الدجال .
هذه السورة المباركة كثر فيها إيراد القصص, فذكر فيها ربنا جل جلاله قصة أصحاب الكهف الفتية الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى، وذكر قصة صاحب الجنتين الذي أغراه ماله حتى طغى وتجبر؛ وقال: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36] وذكر قصة آدم مع إبليس، وأيضاً قصة موسى مع العبد الصالح، وما فيها من الآداب والأحكام والحكم، ثم أخيراً قصة الحاكم الصالح والإمام العادل والعبد المؤمن ذي القرنين عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
والإنسان يقرأ هذه الأخبار الغريبة، ولذلك لا يستغرب ما يكون على يدي المسيح الدجال، الذي لا يدع بلداً إلا وطئها إلا مكة والمدينة, لا يأتي نقباً من أنقابهما إلا وجد الملائكة قائمة مصلتة سيوفها.
قصة أصحاب الكهف
إخوتي وأخواتي! سورة الكهف من قرأها عصم من الدجال ؛ لأنه يقرأ في سورة الكهف، كيف أن أولئك الفتية الذين فروا من وجه الطاغية الظالم والجبار العنيد الذي كان يعبد آلهة من دون الله، أوى أولئك الفتية إلى الكهف، ورجوا من ربهم جل جلاله أن يؤتيهم من لدنه رحمة، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً.
كذلك المؤمن الذي يقرأ هذه السورة يرجو في مواجهة فتنة الدجال أن يهب الله له من لدنه رحمة، وأن يهيئ له من أمره رشداً.
وكذلك يتفاءل بأن الله عز وجل الذي نجى أولئك الفتية، الذين كانوا قلة مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، فكذلك ينجيه الله سبحانه وتعالى بقدرته قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
قصة صاحب الجنتين
كذلك المؤمن حين يقرأ هذه السورة المباركة، ويقرأ فيها خبر صاحب الجنتين الذي أسبغ الله عليه نعمه، وأفاض عليه من آلائه، ثم واجه هذا كله بالجحود، والكفر، والتنكر، والتكبر على عباد الله, حتى قال لصاحبه وهو يحاوره: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34].
المؤمن حين يقرأ هذه القصة إلى أن يبلغ نهايتها حين أصبح ذلك الكافر ينظر إلى جنته وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42]، وحين صار يقلب كفيه على ما أنفق فيها، وما عاد يملك من ذلك شيئاً.
والمؤمن يعلق أمله بالله ولي المؤمنين قال تعالى: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44]، فمهما أوتي من مال، ومهما أوتي من جاه، ومهما أوتي من متاع الحياة الدنيا، فالمؤمن قلبه معلق بالله، يعلم أن هذا كله عرض الحياة الدنيا سرعان ما يزول, وأن الدنيا لا دوام لها، ولذلك الله عز وجل يشبهها بالماء، قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا [الكهف:45].
ثم حين يقرأ قصة آدم مع إبليس يدرك بأن الشيطان عدوه، وأن الواجب عليه أن يتخذه عدواً، قال الله تعالى: إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ [فاطر:6].
قصة موسى مع الخضر عليهما السلام
وإذا قرأ المؤمن قصة موسى مع العبد الصالح الخضر عليه السلام فإنه يتعلم التواضع وخفض الجناح والدأب في طلب العلم، والصبر على شدة المعلم، وبعد ذلك يتعلم أن فوق كل ذي علم عليم، وأن الإنسان يعلق الأمر بمشيئة الله عز وجل، ويصبر على التلقي ومشقته، إلى غير ذلك من الآداب العظيمة.
قال أهل التفسير: موسى عليه السلام علمنا أدب الطلب حين استأذن من الخضر هل أتبعك؟ وجعل من نفسه تابعاً، وجعل من الخضر معلماً، وأثبت له الرشاد، وطلب منه أن يعلمه بعض ما عنده لا كله، قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف:66]، فما قال: ما علمت، وإنما: مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف:66]، ثم بعد ذلك علق الأمر بمشيئة الله حين قال له الخضر : لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:67]، قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69].
قصة ذي القرنين نموذج للحاكم المسلم
وأخيراً ذكر الله في هذه السورة العظيمة سورة الكهف؛ قصة ذي القرنين عليه السلام، وهي نموذج للحاكم المسلم التقي الورع الذي يتعفف عما في أيدي الناس، حين قالوا له: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) أي: مالاً, عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94]، فما طمع عليه السلام ولا تعلقت نفسه بما في أيدي الناس، وإنما قال: مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95]، أي: الذي آتاني الله عز وجل خير مما آتاكم.
فـذو القرنين عليه السلام يشعر بأنه غني قوي بالله فقال: مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ [الكهف:95]، وهاهنا تفعيل لطاقات المجتمع، ما قال لهم: اطمئنوا والدولة ستقوم بالأمر نيابة عنكم، بل طلب منهم أن يشاركوا في إقامة هذا السد, فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ )) أي: أريد منكم قوة عاملة من رجال صلاب أشداء، أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف:95-96]، والزبر: جمع زبرة وهي القطعة, حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الكهف:96]، أي: بين قمتي الجبل, قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا [الكهف:96]، أي: النحاس المذاب أو الرصاص المذاب, قال الله عز وجل: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف:97]، أي: يأجوج ومأجوج القبيلتان المفسدتان اللتان أظهرتا الفساد في الأرض، ما اسطاعوا أن يصعدوا على ظهر هذا السور، وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97]، أي: ما استطاعوا أن يحدثوا فيه ثقباً أو مخرجاً ينفذون منه إلى ما كانوا يخلصون إليه من قبل.
وهاهنا نلاحظ بأن الله عز وجل قال: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97]، قال علماؤنا: زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، فهنا لما كان الصعود أسهل من إحداث النقب قال الله عز وجل: (فما اسطاعوا)، ولما كان إحداث النقب صعباً قال: (وما استطاعوا له نقباً).
وأيضاً قصة موسى مع العبد الصالح، قال له: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، فقوله: (تستطع) لما كان موسى متشوفاً لمعرفة أسرار هذه الأحداث الثلاثة في خرق السفينة وقتل الغلام وبناء الجدار، قال له: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:78]، ثم لما بين له الأمر وأنه سهل ميسور يدرك بشيء من التفطن والتبصر، قال له: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:82].
إخوتي وأخواتي! هذه السورة الكريمة فيها أسرار كثيرة، وينبغي لكل عاقل أن يتأمل خاتمتها، حين قال ربنا جل جلاله: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103-104]. فهذه الآية كل منا يتوقف أمامها، ويحذر تمام الحذر أن يكون من أهلها، ولنجتهد على أن نلقى ربنا على سنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
أسأل الله عز وجل أن يحيينا على سنته, وأن يتوفانا على ملته, وأن يحشرنا تحت لوائه، وأن يوردنا حوضه, وأن يسقينا بيده الشريفة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، والحمد لله في البدء والختام.
إخوتي وأخواتي! سورة الكهف من قرأها عصم من الدجال ؛ لأنه يقرأ في سورة الكهف، كيف أن أولئك الفتية الذين فروا من وجه الطاغية الظالم والجبار العنيد الذي كان يعبد آلهة من دون الله، أوى أولئك الفتية إلى الكهف، ورجوا من ربهم جل جلاله أن يؤتيهم من لدنه رحمة، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً.
كذلك المؤمن الذي يقرأ هذه السورة يرجو في مواجهة فتنة الدجال أن يهب الله له من لدنه رحمة، وأن يهيئ له من أمره رشداً.
وكذلك يتفاءل بأن الله عز وجل الذي نجى أولئك الفتية، الذين كانوا قلة مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، فكذلك ينجيه الله سبحانه وتعالى بقدرته قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27].
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
ديوان الإفتاء [485] | 2824 استماع |
ديوان الإفتاء [377] | 2651 استماع |
ديوان الإفتاء [277] | 2536 استماع |
ديوان الإفتاء [263] | 2535 استماع |
ديوان الإفتاء [767] | 2508 استماع |
ديوان الإفتاء [242] | 2477 استماع |
ديوان الإفتاء [519] | 2466 استماع |
ديوان الإفتاء [332] | 2444 استماع |
ديوان الإفتاء [550] | 2408 استماع |
ديوان الإفتاء [303] | 2407 استماع |