ديوان الإفتاء [300]


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعا، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

أما بعد:

إخوتي وأخواتي! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

وأفتتح هذه الحلقة المباركة إن شاء الله بالحديث عن خصال الفطرة، والحديث عن خصال الفطرة باب من أبواب الطهارة، وحين نقول: الفطرة فإننا نقصد بها الخلقة والجبلة.

الحكمة من تشريع خصال الفطرة

وخصال الفطرة شرعها الله عز وجل تطييباً لعباده، وتحسيناً لمنظرهم، وتجميلاً لهيئتهم، شرع لهم أن يتحلوا بجمال الظاهر بعدما تحلوا بجمال الباطن، وهذه الخصال ليست قاصرة على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي من سنن النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الذين أمرنا أن نقتدي بهم، وأن نتأسى بهديهم، قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وثبت في سنن البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر قول الله عز وجل: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، قال: هي خصال الفطرة، فلما أتمهن، قال الله عز وجل: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124].

عدد خصال الفطرة

وهي عشر: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، والسواك، وقص الشارب، وفرق الرأس، وأما التي في الجسد: فحلق العانة، ونتف الإبط، والختان، والاستنجاء، وقلم الأظفار.

وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أحاديث في الكلام عن خصال الفطرة، وهذه الأحاديث التي عددت تلك الخصال، ليس مقصوداً منها الحصر والاستقصاء، وأغلبها بدأت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: من الفطرة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خمس من الفطرة )، فذكر صلوات ربي وسلامه عليه: ( الختان، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق العانة، وقلم الأظفار ).

وثبت في صحيح مسلم من حديث أمنا عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( عشر من الفطرة )، فزاد: ( إعفاء اللحية، وانتقاص الماء، والمضمضة، والاستنشاق )، وكرر بعض تلك الخصال الواردة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

والمطلوب من المسلم أن يأخذ بهذه الخصال، وأن يعمل بهن كلهن، ولو أريد التفصيل أو بعض التفصيل في الكلام عن هذه الخصال، فإنني أعيد ما ذكرته سابقاً:

عناية الإسلام بطهارة الظاهر والباطن

إن شريعة الإسلام معنية بطهارتنا ظاهراً وباطناً، وأن يكون المسلم جميل المظهر والجوهر، أن يكون المسلم جميلاً ظاهراً وباطناً، ( فإن الله تعالى جميل يحب الجمال )، ( طيب يحب الطيب، نظيف يجب النظافة )، كما أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام، ولا تغني الطهارة الباطنة عن الظاهرة، ولا الظاهرة عن الباطنة، بل لا بد من العناية بهما جميعاً.

قص الشارب وإعفاء اللحية

فمن خصال الفطرة: قص الشارب، ومعناه: أن هذا الشعر الذي ينبت على الشفة العليا، مطلوب من المسلم أن يتعاهده حيناً بعد حين، فيقصه حتى يبدو طرف الشفة، وليس المقصود حلقه واستئصاله وجزه؛ لأن رواية الحف تفسرها رواية القص؛ ولذلك ورد عن عمر رضي الله عنه بأنه كان له سبالان، والسبالان هما طرفا الشارب، فكان إذا أكربه أمر نفخ وفتل، أي: كان إذا بدأ يفكر في أمر مهم يفتل هذين السبالين.

ولذلك الإمام مالك رحمه الله شدد في حلق الشارب واستئصاله، قال: وأراه مثلة، وأرى أن يؤدب فاعله، يعني: لا ينبغي للإنسان أن يجز شاربه بالكلية، بل المراد قصه؛ لأن الفم هو مدخل الطعام والشراب، فلو أن الإنسان ترك شاربه يتدلى على شفته، فلربما يعلق به الطعام ويصير منظره مؤذياً، وكذلك لو أنه شرب من إناء فإنه يقذره على من بعده، ولذلك أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نقص شواربنا.

أيضاً من خصال الفطرة: إعفاء اللحية، بمعنى: تركها وإرسالها، كما كانت صفة نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن الصحابة رضي الله عنهم لما ذكروا صفته، قالوا: ( ما كان بالطويل البائن، ولا القصير المتردد، ولا الأبيض الأمهق، ولا الآدم، ولا الجعد القطط، ولا السبطـ، وكان ربعة بين الرجال أبيض مشرباً بحمرة، أزج الحواجب في غير قرن، بينهما عرق يدره الغضب، شثن الكفين، مسيح القدمين، كث اللحية، تملأ لحيته صدره، كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة، يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر، يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله )، صلى الله عليه وسلم.

(كان كث اللحية، تملأ لحيته صدره)، وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحى وتوفيرها، وإكرامها وإرسالها، وأمرنا كذلك صلوات ربي وسلامه عليه بأن نعنى بها، وأن نرجلها ونسرحها، ( ولما دخل عليه صلى الله عليه وسلم رجل ثائر الشعر، أشعث اللحية، أشار إليه أن اخرج فذهب الرجل وأصلح من شأنه ورجع، فقال عليه الصلاة والسلام: أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان )، فعلى الإنسان أن يعتني بهذه اللحية.

وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا أراد نسكاً قبض على لحيته من آخر ذقنه، فما زاد على القبضة أخذه، ولذلك إمامنا مالك رحمه الله نص في كتاب الجامع في السنن والآداب: على أنه لا بأس أن يأخذ الرجل من طولها وعرضها مما تطاير منها، وهذا الذي قاله الحسن البصري و عطاء بن أبي رباح رحمة الله عليهما، كما نقل ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح.

والأصل أن تترك هذه اللحية، اللهم إلا إذا فحشت، فإنه لا بأس أن يأخذ الإنسان من طولها أو عرضها، لكن لا ينبغي أن يبالغ في حفها واستئصالها، فإن هذه صفة مكروهة، كما نص على ذلك الإمام النووي رحمه الله تعالى.

أيضاً لا بأس بأن تصبغ هذه اللحية إذا ابيضت، فلو أن الإنسان كثر شيبه في لحيته، فلا ينبغي له نتفه، فإن هذه من الخصال المكروهة، لكن لا حرج عليه أن يصبغها بغير سواد، أما الصبغ بالسواد فهو مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن أبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنهما لما جيء به، وكأن رأسه ولحيته ثغامة أي: سحابة بيضاء أو قطن أبيض أو زهر أبيض، قال عليه الصلاة والسلام: ( غيروا هذا وجنبوه السواد ).

السواك

أيضاً من خصال الفطرة: السواك، ففي الحديث: ( السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب )، وهو مستحب في كل وقت، ويتأكد في خمسة أوقات: عند الوضوء، وعند الصلاة، وعند قراءة القرآن، وعند الإفاقة من النوم، وعند تغير رائحة الفم بطول كلام أو سكوت.

والمقصود بالسواك: إذهاب الصفرة التي تعلو الأسنان، ويكون هذا السواك بعود رطب، أو بفرشاة ومعجون، أو بغير ذلك، فإذا لم يجد الإنسان شيئاً يزيل به أثر الصفرة، فإنه يستاك بإصبعه، وهذه من النظافة التي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث عليها.

وثبت عنه أنه قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، ( ولما كان صلوات ربي وسلامه عليه في آخر لحظاته في هذه الدنيا دخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، وفي يده سواك يستن به، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلمت عائشة أنه يحبه فقالت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، تقول عائشة : فأخذته وطيبته أي: لينته، ودفعته إليه، قالت: فاستن به صلى الله عليه وسلم، فما رأيته استن استناناً أحسن من يومه ذاك، ثم رأيته يشير بأصبعه إلى السماء، ويقول: في الرفيق الأعلى، ثم وقعت يده، فعلمت أنه قد خير فاختار )، صلوات ربي وسلامه عليه.

فالسواك مطلوب بالليل والنهار، وعلى سائر الأحوال، ولكن يتأكد استحبابه في تلك الأوقات الخمسة التي ذكرتها.

تقليم الأظفار

أيضاً من خصال الفطرة: تقليم الأظفار، والمقصود أخذ القلامة التي تكون بارزة عن اللحم؛ لأن هذه مظنة لاجتماع الأوساخ، ولربما تجتمع فيها النجاسة من أثر الاستنجاء؛ ولذلك نحن مأمورون بأخذها، قال أنس رضي الله عنه: ( وقت لنا أن لا ندع ذلك أكثر من أربعين يوماً )، يعني: على الأقل مرة كل أربعين يوماً، يتعاهد الإنسان هذه الخصال ويأتي بها، وقد استحب كثير من أهل العلم أن يكون ذلك في كل جمعة، يعني: تبعاً للطهارة التي تكون في يوم الجمعة، والتي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: ( من تطهر يوم الجمعة بأحسن ما يجد من طهر، ثم لبس من أحسن ثيابه، ثم مس من طيبه أو طيب بيته، ثم خرج إلى المسجد فلم يفرق بين اثنين، وصلى ما كتب الله له أن يصلي، ثم إذا صعد الإمام المنبر جلس واستمع له وأنصت، غفر له ما بين الجمعة والجمعة، وزيادة ثلاثة أيام )، فطهر الجمعة يكون بالاغتسال، ويكون كذلك بخصال الفطرة هذه التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

البدء باليمين في خصال الفطرة

والمستحب في هذه الخصال التي ذكرتها أن يبدأ الإنسان بيمينه دائماً، فإذا أراد أن يقص شاربه بدأ بيمينه، وإذا أراد أن يقلم أظفاره بدأ باليمين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( كان يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله )، صلوات ربي وسلامه عليه.

نتف الإبط

ومن خصال الفطرة كذلك: نتف الإبط، أي: الشعر الذي يكون على الإبط، والذي يسبب رائحة كريهة منفرة، فينبغي للمسلم ذكراً كان أو أنثى أن يتعاهده حيناً بعد حين فينتفه؛ لأن النتف أبلغ في استئصاله، فإذا كان النتف يشق عليه فلا بأس من أن يحلقه؛ ليكون ذلك أبعد عن الرائحة الكريهة.

ومن خصال الفطرة الكلام عن الختان، والكلام عن حلق العانة، والكلام عن غسل البراجم، والكلام عن انتقاص الماء، والكلام عن المضمضة والاستنشاق، وغير ذلك مما يأتي تباعاً في هذه الحلقات إن شاء الله.

أسأل الله عز وجل أن يجعلنا من التوابين، وأن يجعلنا من المتطهرين.

وخصال الفطرة شرعها الله عز وجل تطييباً لعباده، وتحسيناً لمنظرهم، وتجميلاً لهيئتهم، شرع لهم أن يتحلوا بجمال الظاهر بعدما تحلوا بجمال الباطن، وهذه الخصال ليست قاصرة على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي من سنن النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الذين أمرنا أن نقتدي بهم، وأن نتأسى بهديهم، قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، وثبت في سنن البيهقي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أنه فسر قول الله عز وجل: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ [البقرة:124]، قال: هي خصال الفطرة، فلما أتمهن، قال الله عز وجل: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
ديوان الإفتاء [485] 2824 استماع
ديوان الإفتاء [377] 2652 استماع
ديوان الإفتاء [277] 2536 استماع
ديوان الإفتاء [263] 2535 استماع
ديوان الإفتاء [767] 2507 استماع
ديوان الإفتاء [242] 2477 استماع
ديوان الإفتاء [519] 2467 استماع
ديوان الإفتاء [332] 2446 استماع
ديوان الإفتاء [550] 2407 استماع
ديوان الإفتاء [303] 2406 استماع