أحد وحمراء الأسد [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, عدد خلقه ورضا نفسه, وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار, وعدد ما اختلف الليل والنهار, وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فقد كان خالد بن الوليد بطلاً مجرباً رأى أن الجبل الذي كان يحمي ظهور المسلمين قد صار خالياً, فكر ومعه مجموعة من فرسان المشركين؛ فأعملوا سيوفهم فيمن تبقى من المسلمين فقتلوا عبد الله بن جبير ومن معه, ثم نزلوا وباغتوا المسلمين وبدءوا يضربونهم, فتحولت الصبا دبوراً, والنصر هزيمة, واختل نظام الجيش, ودب الخوف في صفوف المسلمين, حتى انكشفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبعضهم ولى، قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

وقال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[آل عمران:156].

أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه شجت جبهته, وتهشمت البيضة على رأسه من كثرة الضربات, ودخلت حديدتان في وجنتيه صلى الله عليه وسلم, وجحشت ركبتاه, وكان المشركون حريصين على قتله, لكن التف حوله مجموعة من الصحابة منهم أمة الله الصالحة نسيبة بنت كعب المازنية , ترست على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابها في ذلك اليوم بضع عشرة ضربة, وكانت إحدى هذه الضربات على عاتقها.

يقول أحد الصحابة الصغار: كنت أدخل كفي في ذلك الجرح فيغيب, يعني: كان يدخل كفه فيغيب في ذلك الجرح من عمقه ولكونه غائراً.

وكذلك طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ترس على رسول الله صلى الله عليه وسلم وما زالت تصيبه الضربات حتى شلت يمينه رضي الله عنه, وأخذ يخلع تلك الحديدة التي كانت في وجنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسنانه, ثم جذبها فندرت ثنيته, ثم أراد الصحابة أن يخرجوا الأخرى فاستحلفهم بالله وأخذ يخلع الأخرى وجذبها فندرت ثنيته الأخرى, فكان من أحسن الناس هتماً، والأهتم هو: من تكسرت أسنانه.

ثم بعد ذلك انحاز النبي صلى الله عليه وسلم لناحية الجبل، وفاء إليه بعض المسلمين, وصعدوا جبلاً عالياً -وهو إلى الآن موجود- وجلس النبي صلى الله عليه وسلم في مكان يقال له: الشق, وأراد بعض المشركين أن يصعدوا الجبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يعلوننا ), أي: لا يكونوا فوقنا, فذهب إليهم عمر ومعه جماعة, ففرقوا جموعهم, وانجلى غبار المعركة عن مقتل سبعين من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لما قتل إخوانكم يوم أحد, جعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة، فقالوا: من يبلغ عنا إخواننا؛ لئلا يزهدوا في الجهاد؟ قال الله: أنا أبلغهم، فأنزل: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ[آل عمران:169] ).

لا بد من وقفة مع الدروس التي نستفيدها من هذه الغزوة:

تسبب المعصية واختلاف الكلمة في الهزيمة

ابتلاء الله لعباده المؤمنين بالنصر والهزيمة

ثالثاً: ابتلاء الله عز وجل للمؤمنين, فهزيمة وانتصار, وكر وفر, ومد وجزر, وتقدم وتقهقر, قال الله عز وجل: وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4], وبين جل جلاله أن هذه سنته في النبيين، قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146].

ومن الأحداث التي حصلت في يوم أحد أن رجلاً خبيثاً اسمه أبي بن خلف وهو ذلك الذي قال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما صارت رميماً؟ فـأبي بن خلف جاء فارساً مقنعاً في الحديد لا يرى منه إلا حدقتا عينيه, والباقي كله حديد في حديد من رأسه إلى أخمص القدمين, ينادي: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا, فتعرض له بعض المسلمين, فجندلهم وقتلهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعوه وانتفض صلى الله عليه وسلم انتفاضة يقول الصحابة: تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير ), يعني: إذا كان البعير عليه حشرات, فإذا نط فإن الحشرات كلها تفر: ( ثم أخذ صلى الله عليه وسلم حربته, وأبصر فرجة من بين الحديد, فرماه صلى الله عليه وسلم في ترقوته, فتدهده عدو الله عن فرسه يخور كما يخور الثور, فحمله المشركون وقالوا له: والله لقد طار فؤادك إنما هو جرح يسير, فقال عدو الله: والله لو بصق علي محمد لقتلني ).

وهلك من أثر تلك الضربة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله في سبيل الله ), وكان هذا هو الشخص الوحيد الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده عليه الصلاة والسلام.

تعلق النصر بالتضحية

رابعاً: أن الإسلام لا ينتصر إلا بتضحية وبذل, فهؤلاء الأخيار ومنهم: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فقد قطعت أنفه, وبقرت بطنه, واستخرجت كبده, وكانت أحشاؤه منثورة, وفُعل ذلك بغيره من المسلمين, حتى إن بعض نساء المشركين صنعن أقرطاً وما يعلقنه في جيدهن من هذه الأعضاء, مبالغة في النكاية بالمسلمين.

وممن فعل به ذلك عبد الله بن جحش رضي الله عنه فإنه في ذلك اليوم كما يقول سعد بن أبي وقاص : دعوت أنا وهو, أي أن الأول يدعو والثاني يقول: آمين، فقال سعد : اللهم إني أسألك أن تلقيني غداً عدواً شديداً بأسه, عظيماً حرده يقاتلني فأقتله وأسلبه. فقال عبد الله بن جحش : آمين.

ودعا عبد الله بن جحش فقال: اللهم إني أسألك أن تلقيني غداً عدواً شديداً بأسه, عظيماً حرده, يقاتلني فيقتلني, ويجدع أنفي, ويقطع أذني, ويبقر بطني, فألقاك يا رب فتقول لي: لم فعل فيك ذلك؟ فأقول: من أجلك يا رب, وفعلاً فعل به ذلك كما دعا.

يقول سعد: والله لقد كان أعقل مني؛ لأنه دعا بالشهادة فنالها رضي الله عنه وأرضاه. فلابد من تضحية في سبيل هذا الدين.

إثبات بشرية الأنبياء

خامساً: وهذه فائدة عقدية مهمة وهي: أن الأنبياء بشر يعتريهم ما يعتري البشر؛ فالنبي ينسى كما ينسى البشر، والدليل؟ حديث ذي اليدين في الصلاة: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالناس إحدى صلاتي العشي ركعتين, ثم قام صلى الله عليه وسلم واتكأ على المنبر وشبك بين أصابعه كالمغضب, فخرج السرعان من المسجد) السرعان هم التجار الذين يصلون بجانب الأبواب ( ويقولون قصرت الصلاة قصرت الصلاة, فهاب الصحابة أن يكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام إليه رجل يقال له: ذو اليدين )؛ إما لأن يديه قصيرتان أو طويلتان ( فقال له: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما قصرت ولا نسيت، قال له: بل نسيت, صليت ركعتين، فقال: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم, فاستقبل القبلة وصلى ركعتين ثم سجد للسهو ), فهذا نسيان منه صلى الله عليه وسلم.

والدليل أيضاً من القرآن على أن الأنبياء ينسون قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا[طه:115].

والنبي يمرض كما يمرض البشر، والدليل: قول الله عز وجل على لسان إبراهيم: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[الشعراء:80].

وأيضاً من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ), فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصيبه الصداع, وتصيبه الحمى وغير ذلك.

وأيضاً: فإن النبي يغضب, والنبي يبكي, والنبي يموت، قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ[الأنبياء:34], ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد شجت جبهته, شجه ابن القمئة عليه لعنة الله، فرجع وهو يقول: إني قد قتلت محمداً, فقال المنافقون مباشرة: لو كان نبياً ما قتل, فأنزل الله عز وجل قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144], وهذا المعنى فهمه سعد بن الربيع رضي الله عنه ( لما وجد جماعة جالسين والمعركة تدور رحاها قال: ما يجلسكم؟ قالوا له: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما خير العيش بعده, قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودخل رضي الله عنه وبدأ يضرب ويضرب ), وبعد المعركة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ينظر ما فعل سعد بن الربيع؟ فذهبوا يبحثون عنه فوجدوه وبه رمق, فقال له أحد الناس: يا سعد! كيف تجدك؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام! قال له: أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام, وقل له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته, ورسولاً عن قومه، وقل له: يا رسول الله! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد, وقل لقومي: لا خير فيكم إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف).

فهذا الصحابي كان فهمه سليماً بأن الدعوة لا تتوقف على وجود الداعي الأول عليه الصلاة والسلام, فإنه قد بلغ وأدى ما عليه, ويجب أن يقوم الناس بالأمر من بعده.

الأمور بالخواتيم

سادساً: أن الأمور بخواتيمها, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل لشهداء أحد منزلة عظيمة, فكان يحرص على أن يصلي عليهم صلى الله عليه وسلم، حتى إنه قبل وفاته بتسع ليال خرج إلى شهداء أحد وسلم عليهم كالمودع لهم, ثم جاء وصعد على المنبر.

وكان يقول لأصحابه: ( إنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ), يعني كأنه يقول لهم: أنا قد دنا أجلي.

سابعاً: الأخذ بأسباب النصر, ولذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لبس الدرع ولبس البيضة على رأسه, صلوات ربي وسلامه عليه.

ثالثاً: ابتلاء الله عز وجل للمؤمنين, فهزيمة وانتصار, وكر وفر, ومد وجزر, وتقدم وتقهقر, قال الله عز وجل: وَلَوْ يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ[محمد:4], وبين جل جلاله أن هذه سنته في النبيين، قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ[آل عمران:146].

ومن الأحداث التي حصلت في يوم أحد أن رجلاً خبيثاً اسمه أبي بن خلف وهو ذلك الذي قال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيي هذه بعدما صارت رميماً؟ فـأبي بن خلف جاء فارساً مقنعاً في الحديد لا يرى منه إلا حدقتا عينيه, والباقي كله حديد في حديد من رأسه إلى أخمص القدمين, ينادي: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا, فتعرض له بعض المسلمين, فجندلهم وقتلهم, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( دعوه وانتفض صلى الله عليه وسلم انتفاضة يقول الصحابة: تطايرنا عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير ), يعني: إذا كان البعير عليه حشرات, فإذا نط فإن الحشرات كلها تفر: ( ثم أخذ صلى الله عليه وسلم حربته, وأبصر فرجة من بين الحديد, فرماه صلى الله عليه وسلم في ترقوته, فتدهده عدو الله عن فرسه يخور كما يخور الثور, فحمله المشركون وقالوا له: والله لقد طار فؤادك إنما هو جرح يسير, فقال عدو الله: والله لو بصق علي محمد لقتلني ).

وهلك من أثر تلك الضربة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اشتد غضب الله على رجل قتله رسول الله في سبيل الله ), وكان هذا هو الشخص الوحيد الذي قتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده عليه الصلاة والسلام.

رابعاً: أن الإسلام لا ينتصر إلا بتضحية وبذل, فهؤلاء الأخيار ومنهم: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، فقد قطعت أنفه, وبقرت بطنه, واستخرجت كبده, وكانت أحشاؤه منثورة, وفُعل ذلك بغيره من المسلمين, حتى إن بعض نساء المشركين صنعن أقرطاً وما يعلقنه في جيدهن من هذه الأعضاء, مبالغة في النكاية بالمسلمين.

وممن فعل به ذلك عبد الله بن جحش رضي الله عنه فإنه في ذلك اليوم كما يقول سعد بن أبي وقاص : دعوت أنا وهو, أي أن الأول يدعو والثاني يقول: آمين، فقال سعد : اللهم إني أسألك أن تلقيني غداً عدواً شديداً بأسه, عظيماً حرده يقاتلني فأقتله وأسلبه. فقال عبد الله بن جحش : آمين.

ودعا عبد الله بن جحش فقال: اللهم إني أسألك أن تلقيني غداً عدواً شديداً بأسه, عظيماً حرده, يقاتلني فيقتلني, ويجدع أنفي, ويقطع أذني, ويبقر بطني, فألقاك يا رب فتقول لي: لم فعل فيك ذلك؟ فأقول: من أجلك يا رب, وفعلاً فعل به ذلك كما دعا.

يقول سعد: والله لقد كان أعقل مني؛ لأنه دعا بالشهادة فنالها رضي الله عنه وأرضاه. فلابد من تضحية في سبيل هذا الدين.

خامساً: وهذه فائدة عقدية مهمة وهي: أن الأنبياء بشر يعتريهم ما يعتري البشر؛ فالنبي ينسى كما ينسى البشر، والدليل؟ حديث ذي اليدين في الصلاة: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالناس إحدى صلاتي العشي ركعتين, ثم قام صلى الله عليه وسلم واتكأ على المنبر وشبك بين أصابعه كالمغضب, فخرج السرعان من المسجد) السرعان هم التجار الذين يصلون بجانب الأبواب ( ويقولون قصرت الصلاة قصرت الصلاة, فهاب الصحابة أن يكلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقام إليه رجل يقال له: ذو اليدين )؛ إما لأن يديه قصيرتان أو طويلتان ( فقال له: يا رسول الله! أقصرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما قصرت ولا نسيت، قال له: بل نسيت, صليت ركعتين، فقال: أحقاً ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم, فاستقبل القبلة وصلى ركعتين ثم سجد للسهو ), فهذا نسيان منه صلى الله عليه وسلم.

والدليل أيضاً من القرآن على أن الأنبياء ينسون قوله تعالى: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا[طه:115].

والنبي يمرض كما يمرض البشر، والدليل: قول الله عز وجل على لسان إبراهيم: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ[الشعراء:80].

وأيضاً من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم ), فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يصيبه الصداع, وتصيبه الحمى وغير ذلك.

وأيضاً: فإن النبي يغضب, والنبي يبكي, والنبي يموت، قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ[الأنبياء:34], ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد شجت جبهته, شجه ابن القمئة عليه لعنة الله، فرجع وهو يقول: إني قد قتلت محمداً, فقال المنافقون مباشرة: لو كان نبياً ما قتل, فأنزل الله عز وجل قوله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ[آل عمران:144], وهذا المعنى فهمه سعد بن الربيع رضي الله عنه ( لما وجد جماعة جالسين والمعركة تدور رحاها قال: ما يجلسكم؟ قالوا له: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما خير العيش بعده, قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم, ودخل رضي الله عنه وبدأ يضرب ويضرب ), وبعد المعركة قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ينظر ما فعل سعد بن الربيع؟ فذهبوا يبحثون عنه فوجدوه وبه رمق, فقال له أحد الناس: يا سعد! كيف تجدك؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئك السلام! قال له: أقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام, وقل له: جزاك الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته, ورسولاً عن قومه، وقل له: يا رسول الله! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد, وقل لقومي: لا خير فيكم إن خلص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف).

فهذا الصحابي كان فهمه سليماً بأن الدعوة لا تتوقف على وجود الداعي الأول عليه الصلاة والسلام, فإنه قد بلغ وأدى ما عليه, ويجب أن يقوم الناس بالأمر من بعده.