مقدمة في السيرة النبوية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى, وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه, عدد خلقه ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار, وعدد ما اختلف الليل والنهار, وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً, وارزقنا عملاً صالحاً, ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى. أما بعد:

فأحمد الله الذي هيأ لنا هذه الدروس والتي هي بعنوان: تيسير الوصول إلى غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم.

ويحسن قبل الدخول في تفاصيل هذا الموضوع أن أقدم بمقدمة أقول فيها:

في علم السيرة علم الدنيا والآخرة. وهذه الكلمة ليست من عندي, وإنما هي كلمة الإمام أبي مسلم محمد بن شهاب الزهري رحمه الله, فقد قال: في علم السيرة علم الدنيا والآخرة.

ومعنى كلامه رحمه الله: أن سيرة الرسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم الإنسان كيف يطيب عيشه في دنياه, وكيف يطيب عيشه في آخرته؟!

فلو أنك نظرت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدت أنه كان في الدنيا أطيب الناس عيشاً, وكان عليه الصلاة والسلام في دنياه أكثر الناس طمأنينة, وقد رزقه الله عز وجل النساء والأولاد والأصحاب، فكان في حياته الاجتماعية عليه الصلاة والسلام خير الناس زوجاً وأباً وابناً.

وكذلك في حياته الاقتصادية عليه الصلاة والسلام، فقد كان يعمل برعي الغنم, ويعمل بالتجارة يبيع ويشتري, ويمشي في الأسواق, ويبادل الناس معاملاتهم, كما قال حكيم بن حزام رضي الله عنه: (شاركت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية، فكان نعم الشريك لا يداري ولا يماري).

وكذلك لو نظرت في حياته صلى الله عليه وسلم كداعية إلى الله عز وجل؛ تجد أنه ما كان يغضب ولا كان يغلظ, ولا كان يضيق صدره.

ولو نظرت في حياته صلوات ربي وسلامه عليه من الناحية الأخلاقية؛ تجد أنه كان أكمل الناس خلقاً, جمع الله فيه من المحاسن ما تفرق في غيره من الناس.

وقل مثل ذلك في الجوانب الأخرى من حياته.. فلو نظرت إليه من حيث كونه إنساناً, أو من حيث كونه عابداً, أو من حيث كونه زاهداً, أو من حيث كونه أباً أو زوجاً, أو من حيث كونه إماماً يصلي بالناس, أو مفتياً يعلم الناس, أو قاضياً يقضي بين الناس, أو من حيث كونه قائداً للجيش, وسياسياً ونحو ذلك من فروع الحياة فإنك تجد في سيرته ما تطيب به دنياك.

أما في أمور الآخرة فلو نظرت في استعماله للدنيا كمطية للآخرة تجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة هو أرفع الناس مكانة، وأعظمهم عند الله جاهاً, وأجلهم قدراً, وتجد بأنه عليه الصلاة والسلام في الجنة بالمكان الأرفع والمنزلة السامية, وأن الله عز وجل قد خصه بجملة من المزايا والعطايا التي لا يشاركه فيها ملك مقرب, ولا نبي مرسل, فأعطاه الله الشفاعة, وأعطاه المقام المحمود, وأعطاه الكوثر, وهو أول من تنشق عنه الأرض, وأول من يفيق بعد نفخة الصعقة، وهو أول شافع وأول مشفع, وغير ذلك من المزايا الكثيرة.

يجب ألا نستغرب من كلمة الإمام المبارك الزهري حين يقول: في علم السيرة: علم الدنيا والآخرة.

فإننا نجد أن الأئمة الكبار قد اهتموا بالسيرة وتفاصيلها من زمن مبكر, كالإمام عروة بن الزبير بن العوام , والإمام محمد بن شهاب الزهري , وكذلك الإمام محمد بن إسحاق بن يسار , ثم جاء من بعده تلميذه عبد الملك بن هشام , وكذلك محمد بن عمر الواقدي وغير هؤلاء, وما زال المسلمون إلى الآن يتتبعون سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيان والكشف والتحليل والتعليل, حتى إنه ما عهد في أمة من الأمم أنها اهتمت بسيرة نبيها مثلما اهتم المسلمون بسيرة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

ولذلك تجد أن المسلمين قد بلغت عنايتهم بالسيرة إلى حد أنهم ذكروا ملابس رسول الله صلى الله عليه وسلم, وذكروا أزواجه, وأولاده وأحفاده وخدمه ومواليه, وإماءه وعبيده, بل ذكروا حتى دوابه التي كان يركبها صلى الله عليه وسلم, فإننا نقرأ في السيرة بأنه كانت له ناقة تسمى القصواء, وكانت له بغلة تسمى دلدل, أهداها له المقوقس حاكم مصر, وأنه صلى الله عليه وسلم كان عنده حمار يقال له: يعفور, وأنه صلى الله عليه وسلم كان له ملابس يلبسها منها: الإزار أو الرداء, ولبس قباطي مصر, ولبس الحلة اليمانية, وأنه صلى الله عليه وسلم انتعل واحتفى, حتى في كفنه صلى الله عليه وسلم نجد أنهم اهتموا بأن يصفوا بأنه صلى الله عليه وسلم كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيهن قميص ولا عمامة.

وكذلك اهتموا بخلقته عليه الصلاة والسلام, ووصفوها وصفاً دقيقاً, بأنه (ما كان بالطويل البائن, ولا القصير المتردد, ولا الأبيض الأمهق, ولا الآدم, ولا الجعد القطط ولا السبط, كان ربعة بين الرجال, أبيض مشرباً بحمرة, شثن الكفين مسيح القدمين, سواء الصدر والبطن, أدعج أزج الحواجب في غير قرن, بينهما عرق يدره الغضب, دقيق المسربة, كأن عنقه جيد دمية في صفاء الفضة, يتلألأ وجهه تلألؤ القمر ليلة البدر, يقول ناعته: لم أر قبله ولا بعده مثله صلى الله عليه وسلم).

ألين الناس كفاً, وأحسنهم عشرة, وأجودهم يداً, من رآه بداهة هابه, ومن خالطه معرفة أحبه.

وتقول أم معبد: (رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة, أبلج الوجه, حسن الخلق, لم تعبه ثجلة, ولم تزر به صعلة, وسيم قسيم أحور أكحل أزج أقرن, أجمل الناس وأحلاه من بعيد, وأحسنه وأبهاه من قريب, إذا تكلم علاه البهاء, وإذا صمت علاه الوقار, كأن منطقه خرزات نظم يتحدرن, غصن بين غصنين فهو أنظر الثلاثة منظراً, وأحسنهم قدراً, له أصحاب يحفون به، إذا تكلم استمعوا لقوله, وإذا أمر ابتدروا أمره, محفود محشود غير عابس ولا مفند).

أقول: إن سبب هذا الاهتمام بشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا نعتقد أن حياته هي الترجمان الحقيقي للقرآن, فحين تنظر في حياته صلوات ربي وسلامه عليه تجد أنها هي التفسير الحقيقي للقرآن؛ ولذلك لما سئلت أمنا عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ( كان خلقه القرآن ), عليه الصلاة والسلام, يرضى لرضاه ويغضب لغضبه.

قبيح بطالب العلم أن يهتم بالمسائل سواء كانت في أصول الدين أو في فروعه، لكنه يعرض عن السيرة وتكون بضاعته فيها قليلة, بل الواجب علينا أن نهتم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم منذ أن ولد إلى أن شب وترعرع, ونهتم بأن نعرف من مرضعاته, ومن حاضناته, وأن نعرف كذلك كيف نشأ صلوات ربي وسلامه عليه في بادية بني سعد بن بكر, ثم بعد ذلك لما رجع إلى مكة حين اشتغل برعي الأغنام على قراريط لأهل مكة, إلى أن بلغ مبلغ الرجال وخرج مع عمه أبي طالب في رحلة إلى الشام, ثم رجوعه من تلك الرحلة, وما كان فيها من إرهاصات النبوة, وعمله في التجارة لـخديجة ثم زواجه منها, ثم بعد ذلك لما ابتلاه الله عز وجل بالنبوة والوحي كيف دعا إلى الله؟ كيف بشر بهذا الدين؟ كيف تحمل البلاء العظيم والبلاء المبين في سبيل دعوته؟

ثم بعد ذلك كيف كان يعامل أصحابه؟ وكيف كان يواجه خصومه؟ وكيف كان في حال فرحه وحزنه, ورضاه وسخطه؟ صلوات ربي وسلامه عليه.

ثم لما هاجر إلى المدينة كيف أنشأ الدولة؟ وكيف ساس الناس؟ وكيف استطاع أن يوفق بين تلك المتناقضات التي كانت في مجتمع المدينة ما بين المؤمنين الخلص, والكافرين الخلص، والمنافقين الذين هم بين بين, لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؟ وكيف تعامل مع اليهود صلوات ربي وسلامه عليه؟

وكيف كانت عبقريته السياسية والعسكرية في ذلك كله؟

تستطيع أن تخرج من هذه الدراسة بنتيجة أن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يمكن إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومعنى هذا الكلام أن الإنسان يثنى عليه لو برع في ناحية من نواحي الحياة, فمثلاً نقول: بأن خالد بن الوليد كان عسكرياً بارعاً, أو نقول: بأن أبا بكر الصديق كان خطيباً مصقعاً, أو نقول مثلاً: بأن عبد الله بن عباس كان عالماً قد بقر العلم فعلمه واسع, حتى قال بعضهم: لقد سمعت عبد الله بن عباس يفسر سورة البقرة بمنى تفسيراً لو سمعته الروم والفرس والديلم لأسلموا.

ونستطيع أن نقول بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان سياسياً فذاً. وأن تقول بأن فلاناً شجاع, وأن فلاناً كريم, وأن فلاناً متواضع, وأن فلاناً زاهد, ونحو ذلك من أوصاف الكمال، لكن لو نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنك تجد أن كل خصلة طيبة, وكل خلة كريمة قد اجتمعت فيه صلوات ربي وسلامه عليه.

بعض المعاصرين الآن كأخينا الشيخ الدكتور عبد المحسن المطيري , وهو من علماء الكويت كتب كتاباً عظيماً جداً, وأنصحكم بقراءته اسمه: الأدلة المرضية على صدق خير البرية صلى الله عليه وسلم.

أورد من الشواهد والبراهين ما يثبت به أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن بين الشواهد التي ذكرها: النبوءات التي تكلم بها النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أمثلتها قوله صلى الله عليه وسلم: ( والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه ), أو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( لتفتحن روما, ولتفتحن القسطنطينية. قالوا: يا رسول الله! أي المدينتين تفتح أولاً؟ قال: مدينة هرقل ), والحديث صحيح من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.

ومثل قوله صلى الله عليه وسلم عن زمزم أنه: ( طعام طعم، وشفاء سقم ). وانظر زمزم اليوم كم يشرب منه من ألوف مؤلفة.

وما سمعنا يوماً من الأيام أن زمزم قد نضب ماؤها أو قل عطاؤها, أو أن هذه الخاصية التي تكلم بها النبي صلى الله عليه وسلم ما يصدقها الواقع.

وقل مثل ذلك فيما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم من أدوية لبعض الأدواء ونحو ذلك, وبهذا نخلص إلى أن نبينا عليه الصلاة والسلام كان رسول الله حقاً.

إن كلامنا في هذه الدروس عن السيرة ليس استيعاباً لها؛ وإنما هي قاصرة على المغازي.

وهنا وقفة لابد من تأملها وهي قول: إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم: كان أبي يعلمنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: يا بني! هي شرفكم وشرف آبائكم فلا تضيعوها.

بمعنى أن الإنسان العاقل يفتخر بأمجاد آبائه وشرف أجداده, فشرفنا نحن المسلمين إنما هو في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نفاخر بها الدنيا, ونستطيع أن نعلن للملأ بأن سيرة نبينا عليه الصلاة والسلام كتاب مفتوح, حتى حياته الخاصة عليه الصلاة والسلام ليس فيها أسرار, فحياته صلى الله عليه وسلم الخاصة مع أزواجه في بيوته صلى الله عليه وسلم معروضة للناس مبذولة, ليس فيها شيء نستحي منه ونخفيه.

وكذلك جهاده صلوات ربي وسلامه عليه ومغازيه شرفنا وشرف آبائنا, وقبيح بنا أن نضيعها.

فأقول: الكلام عن المغازي أخص من الكلام عن السيرة؛ لأن السيرة هي مجموع أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحواله. يعني: أن حياته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأسرية والعسكرية والعبادية كلها سيرة, لكن كلامنا هنا على المغازي فقط.

نقف عند هذا الحد، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تعريف الجهاد وأقسامه [1] 2436 استماع
بني قريظة وبني لحيان ومريسيع 2389 استماع
الحديبية وذي قرد وخيبر 2301 استماع
تعريف الجهاد وأقسامه [2] 2270 استماع
بني سليم وبني قينقاع 2140 استماع
أحد وحمراء الأسد [1] 2119 استماع
بدر الكبرى [2] 2025 استماع
الأبواء وبواط والعشيرة 1985 استماع
بدر الكبرى [1] 1890 استماع
السويق وذي أمر وبحران 1738 استماع