خطب ومحاضرات
تفسير سورة الأنبياء [89-97]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ [الأنبياء:89].
ذكر لنا بعد إسماعيل وإدريس وذي الكفل وذي النون زكريا، فقال تعالى: وَزَكَرِيَّا [الأنبياء:89] وفي قراءة سبعية وَزَكَرِيَّاءَ [الأنبياء:89].
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89].
وقد مضت قصة زكريا في سورة مريم قريباً، حيث خاف الموالي من بعده أن يضيعوا رسالته ودعوته، وكان قد كبر سنه ورق عظمه، واشتعل الرأس منه شيباً، وكانت زوجته عقيمة منذ شبابها، ولكنه ارتأى بعد أن بلغ هذه السن أن يطلب الله وهو أعلم، وأن الله قادر على كل شيء.
قوله: وَزَكَرِيَّا [الأنبياء:89].
أي: اذكر زكريا من بعد الأنبياء الذين كانوا من أهل الطاعة والبر والتزام الدعوة، ومن الخضوع لله والخشوع له، وممن دعوا ربهم فاستجاب لهم في شيء جرت العادة أنه قل أن يكون.
قال تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89].
زكريا عندما كبر سنه، ووجد أنه سيموت بلا أولاد، وهو يريد من يخلفه في النبوة والدعوة، ويخلفه في العبودية من سلالته ومن ذريته نادى ربه وضرع إليه: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا [الأنبياء:89] أي: لا تذرني مفرداً أبتر لا ولد لي ولا سلالة ولا ذرية؛ وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89].
ويضرع إليه بما شاء فليس بينه وبين ربه مانع، خاصة إذا كان في ظلمات الليل والناس نيام، وفي الثلث الأخير من الليل حين ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من داع فأستجيب له؟ هل من جائع فأشبعه؟ هل من عار فأكسوه؟ هل من مظلوم فأنصره؟ فليدع ربه تلك الساعة بما شاء فإنه ضامن أن يستجاب له.
قال تعالى: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ [الأنبياء:90].
استجاب لزكريا وأجاب دعاءه وضراعته.
وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى [الأنبياء:90].
وهب له وليداً حقق رغبته، وكان ذكراً، وجعله صالحاً ونبياً وسيداً وحصوراً، وأوقف نسله في ولده، ولو طلب زكريا الذرية إلى الأبد لكانت، لكنه طلب ولداً فرزقه يحيى وجعله سيداً وحصوراً لا يأتي النساء، وهو بالتالي لن ينجب ولا يكون له أولاد، وهكذا كان.
قوله: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90].
كانت عقيماً فأصبحت ولوداً، وكانت عجوزاً لا يلد مثلها فأعطاها من الشباب والاستعداد ما يكون للشباب والصغيرات، فولدت، وقيل: وكانت شرسة اللسان، بذيئة القول، فأصلحها الله له؛ لأن الشرسة تنفسر النفس منها عادة، وإن كانت بينهما صلة فتكون بنفور وقل ما يعلق الولد، بخلاف ما إذا كانت رضية خلوقة فإن ذلك يكون أدعى للتعلق وأدعى للولادة، فأصلحها الله لساناً وخلقاً ورحماً، وأزال عقمها وعجزها فأصبحت لينة هينة ذات أخلاق عالية، وأصلح شبابها فأصبحت تلد.
ثم أخذ الله جل جلاله يثني على جميع الأنبياء الذين مضوا فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90].
أي: من عند آدم إلى نوح إلى موسى إلى هارون إلى زكريا إلى إسماعيل إلى إدريس إلى ذي الكفل إلى ذي النون ومن سيذكر بعد إلى مريم أشاد الله بالكل، وأثنى على الكل، ووصفهم فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90].
كان هؤلاء الأنبياء والرسل مدة أعمارهم وخلال رسالاتهم ونبواتهم يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ [الأنبياء:90] ويتسابقون كالمباراة والمسابقة التي تكون للهو واللعب، وكانت مسارعتهم إلى عبادة الله وفعل الخيرات بشتى أنواع العبادات، قائمين ومصلين، وطائفين ومتصدقين، ومتهجدين ومجاهدين، وعاملين بجميع الخيرات التي كانوا متصفين بها ويسارعون للوصول إليها.
إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] كانوا يتسابقون للخير وفعله وللدعوة إليه، وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا [الأنبياء:90].
رغباً: طمعاً بما عندنا من جنة ونعيم مقيم.
ورهبة: مما عندنا من عذاب ونقمة وجحيم.
كانوا يتقربون إلى ربهم بين الخوف والرجاء، وبين الطمع والخوف، وهكذا العبادة أن نعبد الله تارة طامعين برحمته، وتارة خائفين من عذابه: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99] .
وقد قال علماؤنا: ينبغي للصحيح ما دام صحيحاً وللصغير ما دام صغيراً أن يغلِّب الخوف على الرجاء؛ ليزداد عبادة وطاعة، ويزداد حرصاً على فعل الخيرات، حتى إذا مرض أو شاخ فليغلب الرجاء على الخوف؛ لأن الله يقول كما في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء) ولا نظن بربنا إلا خيراً جل جلاله وعلا مقامه.
وقد قال قوم (يعبدونني خوفاً وطمعاً) معناه: أنهم يدعونني عندما يريدون الخير بباطن أكفهم وعندما يريدون الشر بأعدائهم بظاهر أيديهم، ومن هنا شرع أن تكون الأيدي مفتوحة مبسوطة لرحمة الله ولعطاء الله ولفضل الله؛ وعندما يكون الدعاء بالنقمة على الأعداء والمنافقين والظالمين يكون الدعاء بظاهر الأكف ليدفع ذلك عن الداعي.
قال تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:91].
والفرج: لغة الشق، ويطلق على كل شق في البدن والثياب والأرض، ولكن هذه الكلمة التي كانت في الأصل كناية ومجازاً لكثرة الاستعمال كادت تطلق على مكان العفة بالذات، وليست هكذا لغة وَالَّتِيأَحْصَنَتْ فَرْجَهَا [الأنبياء:91] وهي مريم الصدّيقة عليها سلام الله أم عيسى نبي الله وعبده عليه وعلى نبيا الصلاة والسلام.
والمعنى: واذكر يا محمد المرأة التي أحصنت فرجها، وعفّت عن الفاحشة والسوء، وعاشت عفيفة حياتها إلى أن أكرمناها بالآيات؛ فرزقناها ولداً بلا فحل، وقصتها مضت في غير ما سورة من السور الماضية.
قوله تعالى: فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا [الأنبياء:91].
الروح: جبريل عليه السلام، نفخ فيها جبريل، ونسبت الروح إلى الله تشريفاً، فجبريل لله، والملائكة كلهم لله، وكلنا عبد خاضع مطيع لله، ولكن هذه النسبة والإضافة للذات العلية بهدف تشريف مريم وعيسى.
وهكذا كان الولد نتيجة النفخ بالأمر الإلهي لجبريل كبير الملائكة، وإذا بها تحمل، فحملت حملاً عادياً تسعة أشهر بالوحم وبالكبر في البطن.. إلى أن ولدته وأتت به تحمله، فقام قومها وأخذوا يقولون: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ [مريم:28-29] وإذا به أخذ يتكلم -معجزة- بعد ولادته بيومين أو ثلاثة، وهي الأيام الثلاثة الرمزية التي صامت فيها، ثم تكلم قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [مريم:30].
تكلم بالعبودية وبالطاعة، وأن الله جعله نبياً، وأنه باركه وقت الولادة والوفاة ويوم يبعث حياً.
وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:91].
جعلها الله آية وعلامة على قدرته وأنه القادر على كل شيء كما يشاء جل جلاله، فهما آيتان: جعلناها آية، وجعلنا ابنها آية، وحُذفت إحدى الآيتين للعلم بها، ولفهمها من السياق، وكانت ولادتها آية كونها حملت بلا فحل.
قال تعالى بعد أن سرد أسماء هؤلاء جميعاً في نسق واحد: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] .
أي: إن الدين واحد والشريعة واحدة، والدعوة واحدة أتى بها الرسل والأنبياء عن الله منذ آدم.. إلى إدريس.. إلى نوح.. إلى إبراهيم.. إلى سلالته.. إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، كانت الدعوة واحدة: أن اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وأن قولوا جميعاً: لا إله إلا الله، ومن هنا كان يقول لنا نبينا صلوات الله وسلامه عليه: (أفضل ما قلته أنا والنبيون قبلي: لا إله إلا الله).
وكان يقول عليه الصلاة والسلام: (نحن معاشر الأنبياء أبناء لعلات، أمهاتنا شتى، وأبونا واحد) أي: شرائعنا مختلفة، قال تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48].
أما الدعوة فكلهم أرسلهم الله للدعوة إلى عبادته، وتوحيده، وعدم الشرك به، ولم يخرج عن ذلك أحد؛ فإن وجدنا في التوراة والزبور والإنجيل غير ذلك فذلك مما حرفه الأفّاكون والكذّابون والمفترون على الله، فقد افتروا على ربهم، ونسبوا له الشريك، تارة بشراً، وتارة جناً، وتارة ملكاً، وتارة جماداً، وكل ذلك ليس عليه من الله سلطان ولا دليل من عقل.
قوله: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92] قيل: النصب على قطع الكلام. والمعنى: إن الأمة والديانة والشريعة والدعوة واحدة منذ أول الأنبياء إلى آخرهم عليهم جميعاً سلام الله وصلاته، لم تتغير ولم تتبدل من قبل الله جل جلاله.
قوله: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] أولئك الرسل أرسلهم الله جل جلاله بعبادته وحده، وبعدم الشرك به، فكان الكل ديناً واحداً، ورسالة واحدة، ودعوة واحدة.
قوله: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92] الله أمرنا بعبادته وتوحيده، وأمرنا بمحض العبادة له، ولا نشرك به شيئاً.
ثم قال تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:93].
كان الناس أمة واحدة، ولكنهم بعد ذلك تقطّعوا أمرهم بينهم، أي: قطّع بعضهم بعضاً، وجعلوا أنفسهم مللاً ونحلاً وأحزاباً وشيعاً، كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [المؤمنون:53].
النصارى عبدوا مع الله اثنين وأصبحوا يعبدون ثلاثة، واليهود أصبحوا يعبدون مع الله العجل وعزيراً، وكلهم يقول: نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة:18] فكذبوا وأفكوا، وافتروا على الله، وقد عبد غيرهم أنواع العبادات، وكل ذلك لم يكن عليه سلطان من الله ولا من العقل.
قوله: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:93] هذا وعيد من الله وتهديد، فهؤلاء الذين قطّعوا أديانهم مزّقوا الملل، وجعلوها أحزاباً وشيعاً كلهم إلينا راجعون، فسنحاسب كلاً حسب عمله، وحسب طاعته أو معصيته، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] كل حسب عمله، إن عمل ما يدعو إلى الجنة دخلها، وإن عمل ما يستحق به النار دخلها.
قوله: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:93] أي: مبعوثون ليعرضوا على الله فيحاسبهم.
ثم قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الأنبياء:94].
بعد أن أخبر بأن الدين واحد، وأن المعبود واحد، وأن الرسالة التي أرسل بها الرسل واحدة في الدعوة إلى توحيد الله، وإلى عبادته وحده؛ وأنذر وتوعد من قطّع الدين وجعله أحزاباً وشيعاً بأنه سيرجع إلى ربه ويحاسب بذنبه.. عاد فبشر المؤمنين في هذه الآية فقال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94].
ولم يطلب الله الصالحات كلها؛ لأن البشر يعجز عن أن يأتي بذلك كله؛ وهذا ما فسّره نبينا عليه الصلاة والسلام وقال: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم) لم نكلف إلا بما نستطيع ونقدر عليه، ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج.
قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ [الأنبياء:94] أي: بعضها، فـ(من) للتبعيض.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الأنبياء:94] أي: حالة كونه مؤمناً، وإلا فعمل غير المؤمن يكون هباءً منثوراً؛ لأنه يعمله للشركاء، فهي زيادة في الكفر والمعصية والتمرد والتحدي، ولا عبادة إلا بالنية، ولا نية إلا مع الإخلاص، وهذا لا يعبد الله الواحد، وبالتالي لا إخلاص له؛ لأنه يعبد أرباباً متفرقين.
قوله: فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء:94] أي: لا جحود ولا إهمال لسعيه وعمله، والجحود من الله لعباده معناه العقاب والمكافأة، والجزاء بما صنعوا من سوء، واعتراف الله للعبد وقبوله لطاعته يكون ذلك بالرضا عنه وبقبولها.
قوله: فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء:94] أي: لا يجحد الله سعيه، ولا عمله، بل يجازيه عليه ويحسن إليه من أجله، لا يجحده إياه وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49] يا عبادي.. إني حرمت الظلم على نفسي فلا تظالموا.
قوله: وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94] أي: إنا لسعيه وطاعته وعبادته حافظون وكاتبون، نكتب ذلك له، ونأمر الملائكة المصاحبين للإنسان من عن اليمين أن يكتبوا حسناته وسعيه الصالح، ونحن نحفظ له ذلك ونجمعه له، إلى أن يجازى عليه بدخول الجنان والرحمة والرضا من الله.
ثم قال تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95].
حرام: أي واجب.
عَلَى قَرْيَةٍ [الأنبياء:95] أي: على أهل قرية.
فالمعنى: واجب على أهل القرية التي نهلكها وندمرها نتيجة كفرها ونتيجة عصيانها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] أي: لا يرجعون إلى الدنيا ثانياً بعد أن يروا الحق حقاً، ويكون الوقت قد فات، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
فهؤلاء المجرمون المذنبون عندما يهلكهم الله نتيجة كفرهم وشركهم فإنه أوجب على نفسه -ولا يجب عليه شيء جل جلاله- أنهم لا يرجعون للدنيا بعد الموت.. إن هو إلا العودة يوم العرض على الله إما إلى الجنة وإما إلى النار؛ أما أن يطمعوا في العودة للحياة فلن يكون ذلك، ولو قدموا الدنيا وما فيها فداء لعقوبتهم هيهات هيهات! ضاع الزمن ولم ينتهزوا الشباب قبل الشيخوخة، والفراغ قبل الشغل، والصحة قبل المرض، فيعبدون ويطيعون، ويستجيبون لدعوة رسلهم، أما وقد بقوا هكذا إلى أن ماتوا ورأوا ما كان يجب أن يكون إيماناً بالغيب أصبح مشهوداً ومرئياً، وأصبح محسوساً، هيهات هيهات أن يعودوا للدنيا مرة ثانية بعد أن ماتوا.
قوله: لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95] أي: لا يعودون للدنيا للتوبة ولا للعمل، ولو قُدّر أن يعودوا لا يفعلون إلا كما فعلوا أول مرة عند حياتهم الأولى.
قال تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96].
يقول جل جلاله: هؤلاء المخالفون العصاة المذنبون سيبقون في الأرض وفي الدنيا حتى خروج يأجوج ومأجوج، سيبقون مصرين على إجرامهم وذنوبهم، وقلة قليلة قال عنها النبي عليه الصلاة والسلام بياناً للقرآن الكريم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم وهم على ذلك إلى يوم القيامة) الكل سيبقى إلى أن يرى يأجوج ومأجوج من السلالة والذرية.
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96].
أي: فتح السد الذي بناه ذو القرنين ، هذا السد الذي حُبس فيه قوم يأجوج ومأجوج وهم جنس من البشر من أبناء آدم من ولد يافث بن نوح ، هم مجرمون بفطرتهم، يفسدون ولا يصلحون، وصفهم رسول الله عليه الصلاة والسلام بأنهم صغار الأعين، غلاظ الوجوه، صهب الشعر، شقر، كأنهم المجان المطرقة، وكأنهم الترس المطرق بالجلد من أمام وخلف، هذا الذي يُتقى به ضرب السيوف أي: وجوههم غليظة غلظ المجان المطرقة بالجلود.
ويأجوج ومأجوج هم من علامات الساعة الكبرى، وقد تواترت بهم الأحاديث، والأصل ذكر القرآن لهم، وقد فسّر ذلك عليه الصلاة والسلام، وذكر ترتيبهم في الخروج والبروز، وأنهم كل يوم يأتون إلى السد فيحاولون أن ينقبوه، فيحفرونه اليوم كله فيقولون: إلى الغد، فيعودون فيجدونه رجع كما كان، وهكذا يبقون على هذه الحال حتى يأذن الله تعالى بخروجهم لخراب بقية الدنيا، فيلهمون فيقولون: غداً نعود إليه إن شاء الله، فيأتون إليه ويجدونه كما حفروه، وأخذوا يسمعون الأصوات خلفه، وإذا بهم يكبرون النقب فيخرجون كالسيل المنتشر من كل حدب ينسلون، كما قال ربنا.
ويأجوج ومأجوج يأتون بعد عيسى عليه السلام ولا يتركون نهراً إلا شربوه، ولا بئراً إلا طمروه، ولا شجرة إلا قلعوها، ولا إنساناً إلا أزهقوا حياته، ولا دابة إلا قتلوها.. وقد ظن بعض شيوخنا من علماء عصرنا أن هذه الصفة في التتار الذين فعلوا مثل هذا عندما جاءوا من أقاصي آسيا البعيدة، فخربوا العراق، وخربوا الشام وما بينها، وكل ما أتوا عليه من أقصى آسيا ما تركوا بحراً ولا شجراً ولا إنساناً، ولكن ذلك وقف وانتهى وعيسى لم يأت بعد، والمهدي لم يأت بعد، والدجال لم يأت بعد، والعلامات الكبرى للساعة لم تأت بعد، فيكفي هذا دليلاً على أن التتار لم يكونوا يأجوج ومأجوج.
يأجوج ومأجوج بشر صغار الأجسام، تزدريهم العين في النظر إلى وجوههم، فيها جهامة وقتر أشبه ما يكونون بوجوه أهل النار: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:40-41] هؤلاء عندما يفعلون ذلك سيخربون ويدمرون، وإذا بالله الكريم يأذن بهلاكهم، لأن المؤمنين يدعون الله بأن يكشف عنهم غمتهم، وإذا به يسلّط عليهم النغف تأخذهم في أعناقهم، فتكون سبب هلاكهم وتدميرهم، فيتراكمون ويتكتلون، فينتشر الوباء والروائح الكريهة والجثث والأمراض على أشكالها، فيدعو من يدعو الله تعالى، وإذا به يصب عليهم مطراً، ثم يسلّط عليهم طيوراً تأخذهم، فهذا المطر ينظف الأرض، والطيور ترفع الجثث وترميها إلى قعر البحار، فتنظف الأرض من أوساخهم وجيفهم، ومن روائحهم الكريهة، ولكن بعد ذلك كما ورد في الحديث الصحيح تصبح الساعة كالحامل المتم لا يدري أهلها متى تصبحهم أو تمسيهم.. يقولون: صباحاً ستلد! مساءً ستلد! تصبح الساعة أقرب ما تكون، فينتظر الناس يقولون: صباحاً! ويقولون: مساءً! ولكنها لا تأتيهم إلا بغتة على توقعهم لها.
فقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96] فتحت عنهم أي: أزيل النقب وخرجوا وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ [الأنبياء:96] الحدب: التل من الأرض.
والعلو من الأرض و(ينسلون): يجرون ويسرعون، فهم يأتون من كل تلة، ومن كل جبل، ومن كل ناحية، ومن كل جهة يتسارعون ويجرون للفساد، ولسفك الدماء، وإهلاك الحرث والنسل، لا يعلمون سوى ذلك، وهم يتسابقون في الشوارع كالبهائم، لا يدينون بدين، ولا يتخلقون بخلق ولا يكادون يفقهون من الكلام قولاً.
قال تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء:97].
أي: عندما يأتي يأجوج ومأجوج يكون الوعد بالبعث، والوعد بالقيامة قد اقترب، كما فسّر نبينا عليه الصلاة والسلام، تكون الساعة والوعد الحق كالحامل المتم، لا يدري أهلها متى تفاجئهم بالولادة: فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا[الأنبياء:97].
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الأنبياء [76-79] | 2137 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [57-64] | 2050 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [48-56] | 1992 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [81-85] | 1684 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [30-35] | 1612 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [70-75] | 1607 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [5-9] | 1588 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [96-104] | 1557 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [78-80] | 1546 استماع |
تفسير سورة الأنبياء [42-48] | 1494 استماع |