تفسير سورة الأنبياء [48-56]


الحلقة مفرغة

قال الله جلت قدرته: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:48-49].

هذه سورة الأنبياء، وقد ذكر فيها ما يتعلق بنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام، وسيذكر الآن ما يتعلق بموسى وهارون وهما من أنبياء بني إسرائيل المبجلين المعظمين، وسيذكر بعد ذلك إبراهيم أبا الأنبياء، وإسحاق ويعقوب وهكذا بالتوالي، فيذكر في هذه السورة أئمة الخير والهدى والصلاح.

وكثيراً ما يقرن الله جل جلاله ذكر موسى بذكر نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لأن قوم موسى قد كانوا أيام أنبيائهم خير العالمين، ولكنهم كفروا بعد ذلك فبدلوا وغيروا، وأفسدوا وقتلوا الأنبياء، وسفكوا الدم الحرام، وأشاعوا الفاحشة، وإذا بهم يسلبون كل ذلك، وتسجل عليهم اللعنة والغضب إلى يوم القيامة، والله يذكر ذلك لنا ولنبينا ليعظنا ويعلمنا وينذرنا من ذلك، وأن الأمة المحمدية -ولو كانت خير للناس- إذا بدلت وغيرت، وصنعت صنع بني إسرائيل، ستكون عاقبتها عاقبة بني إسرائيل في اللعن والطرد من رحمة الله، وهذا من أسرار المقارنة في ذكر القولين والدينين، والنبيين عليهما الصلاة والسلام.

فقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [الأنبياء:48] أي: أنزل الله تعالى على نبيه موسى وأخيه هارون الفرقان، والفرقان هو: التوراة، عندما كانت كما أنزلها الله تدعو إلى الحق، وتفرق بين الحق والباطل، وتشيع النور بين الناس هدىً وصلاحاً.

قوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا [الأنبياء:48] أي: أنزلنا وأوحينا على موسى وهارون التوراة، أنزلها مفرقة بين الحق والباطل، وكل كتب السماء هي كذلك يؤتيها الله للأنبياء ليفرقوا بها بين الحق والباطل، وبين الظلمة والنور، وبين الهداية والضلال.

قوله: وَضِيَاءً [الأنبياء:48] كما هي التوراة، وكتب الله السماوية كلها أنزلت للتفريق بين الحق والباطل، فهي كذلك ضياء ونور تبدد ظلمات الشرك والفساد؛ ليعيش الناس في نور، وليعبدوا الله على نور، ولكي لا يعيشوا في ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج الرجل يده لم يكد يراها.

قوله: وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48] كما أن التوراة عندما أنزلت فأوتيها الأخوان الكريمان موسى وهارون كانت تفرق بين الحق والباطل، وكانت ضياءً ونوراً تبدد ظلمات الشرك، كذلك كانت ذكراً للمتقين وعظة، وعبرة، ودعوة إلى الله، دعوة من الله للمتقين الذين يصفهم الله بأنهم الذين يخشون ربهم بالغيب، هؤلاء هم المتقون الموحدون العابدون الذين جعلوا بينهم وبين الفواحش والسوء وقاية وحاجزاً من الطاعة والعبودية وامتثال أوامر الله وأوامر رسوله، هؤلاء المتقون من صفتهم أنهم يخافون عذابه ونقمته، ويخافون أن يطردهم من الجنة ومن الرحمة، ويخشونه بالغيب ولم يروه، ولكن أنبياءهم عرفوهم به جل جلاله، والعقل يدل عليه.

وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد

فأنا الإنسان كأمثالي، من خلقني ورزقني الروح والحياة، من خلق الشفتين؟ من خلق السمعين؟ من خلق اليدين والرجلين؟ من خلقني وأعطاني العافية وأغناني عن الناس، وعلمني من علمه، وهداني لدين نبيه؟ من الذي خلق السموات العلى والأرضين السفلى، وهذا النظام الدقيق في الأرض من صيف وشتاء، وخريف وربيع، وليل ونهار، وجبال ووهاد، وأنهار وبحار؟!

العقل هو الدليل عندما يفكر ويعي، ويقطع بأن هذا لم يكن بلا خالق، لم يكن بلا مدبر، لم يكن بلا موجد، وهكذا النفوس السليمة، والعقول المدركة تعبر عن الله بوعيها أنه الله الخالق الرازق، المحيي المميت، وجاء الأنبياء رسلاً من الله ليبشروا المؤمن المتقي بالرضا والجنة، ولينذروا الكافر العاصي بالنار واللعنة والغضب؛ لعل القوم يعون، لعل الناس يهتدون، وهكذا كانت التوراة وهي التي أنزلت على موسى وهارون، وكانت فرقاناً بين الحق والباطل، وكانت الضياء من الظلمات وكانت ذكراً وتذكيراً للمؤمنين المتقين، المطيعين الموحدين الذين يخافون ربهم بالغيب ويخشون عذابه إن هم عصوه، وخرجوا عن طاعته، وهم من الساعة مشفقون يؤمنون بيوم القيامة، وبالبعث والنشور، وبالحياة بعد الموت، وبالعرض على الله؛ ليجازى كل على عمله، المحسن بالجنة، والمسيء بالنار، هذا اليوم العظيم ينكره الكافرون والمتقون يؤمنون به، ويخشونه، يخشون ألا يرضى الله عنهم، يخشون أن يحاسبهم حساباً عسيراً، ويخافون ألا يدخلوا الجنة، فهم مشفقون وجلون خائفون من عذاب الله، وعدم رحمته.

وهكذا يذكر الله تعالى موسى وهارون في كثير من السور والآيات؛ ليكونا القدوة والأسوة للمؤمنين بهم في عصرهم، وللمؤمنين بعدهم إلى الأمة المحمدية وإلى يوم البعث والنشور، أن نؤمن بأنهم أنبياء ورسل.

أما الشريعة والديانة: فقد نسخت شريعتهما، ونسخ دينهما، وكانا نبيين لبني إسرائيل فقط، وأما الدين الذي ندين الله به، ونلتزم شرعته، ونتبعه فهو خاتم الأديان، وهو شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الإسلام الذي رضيه الله للناس بعد البعثة المحمدية قال تعالى: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [آل عمران:85]، وقال تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].

ثم ذكر الله خاتم الكتب الذي أرسل به خاتم الأنبياء والرسل، فقال تعالى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50].

تلك التوراة قد كانت، ثم بادت، وغيرت وبدلت، وحرفها بنو إسرائيل، وحولوها إلى كتب شرك ووثنية، فذكروا فيها أن عزيراً ابن الله، وعبدوا العجل وقذفوا الأنبياء المقدسين، وتهجموا على الله جل جلاله، وعلا مقامه، ولم نؤمن إلا أنه كان هناك كتاب هو التوراة أنزل على موسى.

وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ [الأنبياء:50] أي: القرآن الكريم الذي يقال له الذكر، ويقال له: الفرقان، هذا الكتاب الذي أرسله الله ذكراً للعالمين منذ البعثة المحمدية إلى الأبيض والأسود والأحمر.. إلى العربي والعجمي.. إلى المشارق والمغارب.. إلى يوم البعث والنشور، فلا نبي بعد محمد، ولا كتاب بعد القرآن، فصلوات الله على نبينا عليه الصلاة والسلام.

(وهذا) الإشارة للكتاب الذي أنزل، والكتاب الذي ينذر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس، والكتاب الذي نتشرف بأن نتدارسه تجاه الكعبة المشرفة، وفي بيت الله الحرام.

قوله: (وهذا ذكر مبارك أنزلناه) أي: ومبارك القصص والعقائد، ومبارك الشفاء، فيه شفاء، ولمتبعه الرحمة والرضا من الله، ومبارك للناس ينشر الهدى والعدل بينهم، ويبدد الظلمات، ويزيل الضلال، ويهدي إلى الحق والنور، ويزيل الشرك، ويمحق الأصنام، ويعرف الناس بالحق، ويبعدهم عن الباطل، تلك بركات القرآن، وبركات الذكر الحكيم، يذكر الله تعالى ذلك ويؤكده، ويدلنا عليه، ويرشدنا إليه.

قوله: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ [الأنبياء:50] أي: أنزله وحياً على نبينا، وأنزله كتاباً على خاتم الأنبياء، قال تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:193] أي: جبريل، على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم من الله جل جلاله: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42].

هذا الكتاب الذي جاء ناسخاً للكتب قبله، وجاء تطبيقاً للحق الذي فيها إن وجد، ومهيمناً عليها ومبدداً ما فيها من تحريف وتبديل.

قوله: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50] يا هؤلاء المنصتون من البشر قبل وبعد وإلى يوم القيامة منذ العرب عندما قام بينهم نبي الله صلوات الله عليه، وهو يقول: إني بشير ونذير.. إني رسول إلى الناس كافة، منذ ذلك وإلى الآن، وإلى ما بعد الآن، يقول الله لنا وقد وصف القرآن بخير الصفات من الدعوة إلى الله، والقبول من الأنبياء، والبعد عن الظلمات، والاهتداء بالطريق المستقيم: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50] استفهام تقريري بالنسبة لمن يؤمن، فهو قرار من الله لأن نؤمن به ونلتزم، ففيه صلاحنا في الدنيا والآخرة، وهو استفهام إنكاري توبيخي لمن جحده ولم يؤمن به.

أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:50] أي: أتنكرون أنه وحي؟ أتنكرون أنه ذكر حكيم؟ أتنكرون أنه مبارك؟ أتنكرون أنه الكتاب الذي لا كتاب بعده من السماء، وهو خيرها وأجلها وأعظمها؟

وسيذكر لنا الله في هذه السورة إبراهيم وقصته مع قومه ومع النمرود، وشجاعته في الدعوة إلى ربه، ومع تآمرهم على تحريقه، ومع نصر الله أولاً وأخيراً؛ ليكون المثل المضروب لكل مؤمن داعية إلى الله مهما لقي في سبيل الله، فالعاقبة للمتقين.

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51].

الله جل جلاله كما أرسل موسى وهارون، أرسل قبلهما إبراهيم أبا الأنبياء، والد النبيين الكريمين المعظمين المبجلين إسماعيل الأب الأعلى لنبينا عليه الصلاة والسلام وأبي العرب، وإسحاق أبي أنبياء بني إسرائيل وهو الولد الثاني لإبراهيم، فقد أكرمه الله بابنين، وأكرمه بالنبوة والحكم والكتاب، وجعل في ذريته النبوة ونزول الكتب كالتوراة والإنجيل والقرآن، وجعل الحكم في ذريته.

ونبينا عليه الصلاة والسلام على أنه النبي الرسول الخاتم كان الحاكم، وكان القائم بدولة الإسلام، والمؤسس والمنظم لها، وكان يقود الجيوش، ويوظف الأعوان، ويقضي في الخصومات، وكان يرسل قواداً للفتح ولهدايتهم، وهكذا قامت دولة الإسلام، وجاء من حكم بعده كـأبي بكر وعمر فمن بعدهما من الخلفاء الراشدين وغير الراشدين فسموا الخلفاء، أي: خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكمه، وفي تطبيق الشريعة والقيام عليها بالسيف والقلم، ولم يكتف بالقلم ولا بالعلم، ولم يكتف بالبيان، وإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال الخليفتان الراشدان: عمر وعثمان رضي الله عنهما.

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء:51] فسروا (قبل) أي: قبل البلوغ وتحمل الرسالة، وكما قال الله عن يحيى عليه السلام: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مريم:12] ففسروا هنا وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء:51] أي: من قبل الوحي والرسالة، ومن قبل الصحف المرسلة المنزل بها على الناس.

قوله: وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51] أي: عالمين أنه أهل للرسالة والإمامة، أهل لأن يدعو الناس إلى عبادة ربه، وإلى توحيده، وإلى نشر العدل، وهكذا كان، فإبراهيم عليه السلام دعا النمرود وقومه إلى عبادة الله، وامتهان الأصنام وكان سنه لا يزيد على ستة عشر عاماً، وتحمل وهو في هذه السن الصغيرة النمرود وعذابه، وتحريقه بالنار، ولكن الله نصره، ورد كيد النمرود على نفسه وقومه، فقال تعالى:

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء:51] إما من قبل موسى وهارون اللذين ذكرا قبله بآية، أو قبل أن يوحى إليه، وهو لا يزال في سن صغيرة، كما آتى الله يحيى الحكمة وهو بعد صغير، وكما آتى عيسى المعجزة والنطق، وهو لا يزال في المهد.

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ [الأنبياء:51] أي: عالمين أنه أهل للنبوة والرسالة وأهل لما أهلناه له من النبوة والرسالة والدعوة إلى الله، وإلى عبادة الله وتوحيده، وكيف كان ذلك وما تفسيره؟!

قال تعالى: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52].

كان رشده، كانت هدايته، كان عقله، كان فهمه، كان إدراكه، كان ما ألهمه من منطق سليم ودعوة إلى الله وهو لا يزال بعد صغيراً فدعا قومه إلى عبادة الله، واستنكر عبادتهم للأصنام: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52].

التماثيل: جمع تمثال، والصنم سمي تمثالاً؛ لأنه مثل به خلق من خلق الله، مثل إنسان أو جن أو ملك تخيلوه، أو حيوان رأوه فصنعوا على شاكلته شبيهاً له، وسمي مثالاً وتمثالاً، ويصنعونه من الذهب والفضة، والصفر، ومن الحديد والأخشاب والأحجار، وغيرها من الجمادات التي لا تعقل.

يا أبت! يا قوم! ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وأنتم مقيمون عليها الليل والنهار، قائمون على عبادتها، والركوع لها، والسجود إليها، وعبادتها من دون الله؟ أليست لكم عقول تفكر وتعقل؟ ألهذه التماثيل تصرفون العبادة؟ ألها فهم؟ أتنفع أم تضر نفسها فضلاً عن أن تنفعكم أو تضركم؟!

مر علي كرم الله وجهه على قوم يلعبون الشطرنج فقال لهم: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52] لأن يمس أحدكم جمرة حتى تحترق يده خير من اللعب بهذه التماثيل.

وكان علي كرم الله وجهه يحرم اللعب بالشطرنج، وهو رأي كثير من الأئمة المجتهدين والمتبوعين من الأربعة وغيرهم، وأجازه البعض إذا كان لا يشغل عن صلاة، ولا يدعو إلى نزاع؛ لما فيه من امتحان الفكر والوعي، ولا يكون ذلك إلا لقلة من الناس، ومن هنا روي عن الشافعي هذا.

وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الأنبياء:51-52].

الرشد الذي أتاه وظهر وبرز عندما قال لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ سألهم موبخاً ومقرعاً: ألكم عقول؟ كيف تعتكفون وتقيمون على هذه التماثيل ليلكم ونهاركم عابدين؟! وإذا بهم يجيبون قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:53].

فلم يجدوا دليلاً من عقل، ولا برهاناً من كتاب، وإنما التقليد الأعمى الذي لا يأتي إلا بشر، ولا يأتي إلا بفساد، فكان دليلهم أنهم وجدوا آباءهم قبلهم يعبدونها، ويعكفون عليها، ويتخذونها آلهة من دون الله: قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ [الأنبياء:53].

تلك حجتهم ولا حجة لهم غيرها، وقد دلت على سخافتهم، وفساد عقولهم! وأنهم في كفرهم مقلدون للآباء، يصنعون شيئاً لا يعونه ولا يعقلونه، وإنما رأوا الآباء على ضلالهم وشركهم، يشركونها بالله ويعبدونها من دون الله، فقلدوها عن عمى وضلال وفساد.

وإذا بإبراهيم يجيب: قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54] أي: قال إبراهيم: لقد كنتم يا هؤلاء الذين عاصرهم من قومه، ورآهم يعبدونها ويعكفون عليها، وعندما سألهم مقرعاً احتجوا بأنهم رأوا الآباء يعبدونها فقلدوهم، وإذا بإبراهيم يقول لهم: قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:54].

كنتم أنتم ولا تزالوا، وكان آباؤكم الذين قلدتموهم في ضياع، وظلمة، وضلال بين واضح، لا يكاد يثبت على قدميه عندما يناقش بالدليل والبرهان.

قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ [الأنبياء:55] أي: هذا الذي تقول أصحيح هو، وأن آلهتنا ليست بآلهة، وأن عبادتها ضلال، وأن الآباء الذين عبدوها كانوا ضلالاً، وهل أنت جاد فيما تقول أم أنت من اللاعبين الهازلين، تريد أن تمزح معنا وتقول هذا الكلام الكبير؟ هكذا قالت لهم عقولهم، وظنوا أن إبراهيم يمازحهم ويلاعبهم، وهو أعظم من ذلك مقاماً، وهو أعظم من ذلك دعوة إلى الله.

قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:56].

هنا بين لهم الحق، وأنه جاد كل الجد، وأنه لم يتكلم إلا بالحق، وأن آلهتهم التي يعبدون من أصنام وتماثيل ليست إلا آلهة مزيفة، وجمادات لا تنطق ولا تعي، ولا تنفع ولا تضر.

(بل) إضراب عن الكلام الماضي، كل ما عبدوه فهو باطل، وكل ما اعتفكوا عليه فهو باطل، وكل ما قاموا عليه هو باطل هم وآباؤهم.

قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء:56] ربكم الذي هو أجدر بالعبادة، وهو ذو الحق في ذلك، الخالق الرازق الذي ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه جل جلاله، وعلا مقامه.

(ربكم) صفته ونعته أنه خالق السموات التي ترونها بأعينكم، وهو خالق الأرض وما عليها، الذي فطرهن وخلقهن على غير مثال سابق، وأبدعهن إبداعاً، وأوجدها بعد أن لم تكن، ولم يكن لها نظير؛ إذ لا رب للكون إلا الله، وأنا على ذلكم من الشاهدين.

يقول إبراهيم: وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:56].

كلمة (ذلك) بالإشارة، عندما تضاف يبقى اسم الإشارة مفرداً، ولكن من يخاطب يضم إليه، فيكون اسم الإشارة مثنى إذا خاطبت اثنين، ويكون جمعاً إذا خاطبت جماعة، فتقول إذا خاطبت اثنين: ذلكما.

وهذه التماثيل ليست إلهاً لكم، إنما إلهكم من خلق هذه السماء، ورفعها بغير عمد وأنتم ترونها، من خلق الأرض وما عليها وأنتم ترونها، وهو الذي فطرها وأبدعها بلا مثال سابق.

وأنا شاهد على ذلك أي: أشهد نفسي وأشهد سمعي وأشهد الله عليه أنني أؤمن وأعتقد جناناً، وأنطق لساناً أن هذه السماوات العلى والأرضين السفلى هي خلق الله، والفطرة التي أبدعها، وأن الله وحده الجدير بالعبادة، وأن الله وحده الذي انفرد بالخلق والربوبية والألوهية، وكل ما عداه باطل، فذاك معنى لا إله إلا الله، أي: لا إله بحق، لا إله مما يدعي الناس من صنم ووثن وملك وجن وإنس وحيوان وجماد، ليس الإله الحق إلا الله ذو الجلال والإكرام.

وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [الأنبياء:56] أي: أشهد أن الله هو الخالق، وأشهد أن الله هو الإله، وأشهد أن الله هو الجدير بالعبادة وحده، وأن كل ما تصنعون لا ما صنعتموه أنتم ولا ما قلدتم به آباءكم من عبادة للتماثيل والأصنام الباطلة المزيفة، التي لا حقيقة لها في نفس الأمر، وإنما هي مخترعة ومبتكرة من عقول ضاعت وزيفت وغرقت في الضلال.