Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

تفسير سورة الأنبياء [30-35]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30].

هذه الآية من المعجزات التي لم يظهر إعجازها، ولم تظهر دلالتها على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم إلا في عصرنا هذا، وكثيراً ما قلت وأقول: في مجالس العلم في الحرمين الشريفين، وفي مقاعد الجامعات، وللطلاب والمريدين: إن للقرآن والسنة معجزات أدركها الصحابة رضوان الله عليهم وآمنوا بها شهوداً، ومعجزات ذكرت أنها ستكون بعدهم فآمنوا بها تصديقاً.

ونحن نزعم ذلك أيضاً لأنفسنا، وقد جئنا بعد النبي صلى الله عليه وسلم بأربعة عشر قرناً، وإنما شاهدنا في حياتنا وفي أيامنا مما جاء به القرآن والسنة معجزات شاهدناها وعاصرناها فوجدناها كما قالها القرآن الكريم، وكما نطق بها النبي المفسر لما أنزل عليه صلوات الله وسلامه عليه، فهذه منها، ومن تمام الإعجاز أن الخطاب كان للكافرين.

قوله: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:30] استفهام تقريري، أي: أولم ينظروا ويطلعوا أن السماوات والأرض كانتا رتقاً، أي: كانتا قطعة واحدة، وطبقة واحدة.

(ففتقناهما): ففصلناهما، وفرقنا السماوات عن الأرض، وجعلنا السماوات سبعاً متفرقة، والأرضين كذلك، وما بين كل أرض وأرض وسماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولا ندري هذه الخمسمائة عام يكون أيامها يوم القيامة الذي هو كألف سنة مما تعدون، أو من نوع الخمسين ألف سنة الذي يعرج فيه إلى الله؟! كل ذلك ممكن ولا نعلم حقيقته، وقد يكون من أيام الدنيا.

وقد تبارى الكفار في عصرنا من كل ملة ليصلوا إلى القمر، وزعموا أنهم يريدون أن يعلموا ما هي طبيعة القمر؟ وما تكوينه؟ وكيف حجارته؟ وكيف ترابه؟ وهل هو من نوع الأرض أو من طينة أخرى أو من عنصر آخر؟ بذلوا الملايين مما لو وزع على الخلق لما بقي جائع في الأرض.

وكان بعضهم قد وصلوا إليه وأنزلوا منه حجارة وتراباً، وحللوه، وإذا به كما أخبر تعالى، وجدوا أن التراب نفس التراب، والحجر نفس الحجر، الكل من طينة واحدة، ومن عنصر واحد، وكما أخبر تعالى أن الأرض والسماء كانتا قطعة واحدة، ومن عنصر واحد، وحجر واحد، ورمل واحد، وتراب واحد، وبعد هذا جاروا وداروا، وغيروا وبدلوا، وتلاعبوا وأسرفوا، وأتوا إلى ما قاله لنا جل جلاله منذُ ألف وأربعمائة سنة.

أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا [الأنبياء:30] كانتا ملتصقتين، متصلتين لا يفرق بينهما شيء.

(ففتقناهما): ففصل الله السماء عن الأرض، والأرض عن السماء، وجعل السماء سبعاً، والأرض سبعاً، وفتق كل جزء عن جزئه، وكان الكل من طينة واحدة وعنصر واحد.

قوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30] لا تكون حياة لما في الوجود من إنسان أو جن أو حيوان أو طائر أو حشرات أو نبات إلا بالماء، ينزل الماء جل جلاله فتحيا هذه الخلائق.

وقد يكون المعنى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30] أي: ماء المني، فمنه يتكون الإنسان، ومنه تكون الجن، ومنه تكون الطير، ولكن المعنى الأول أشمل، فيدخل معه النبات، ويدخل معه أنواع الشجر ولا مني وإن كان هناك ذكورة وأنوثة، والله قد قال لنا: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [الحجر:22] تلقحت وتزواجت واتصلت، وكثير من الأشجار إن لم تلقح بنوعها من الذكور لا تثمر كما في النخيل، وهذا يعلمه كل من رآه ومارسه وأشرف عليه أو اطلع عليه.

وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ [الأنبياء:30] أي: هؤلاء الكفار الذين رءوا هذا رؤيا العين، وسماع الأذن، وإحساس البشرة، وأشرفوا عليه واطلعوا عليه، وعلموا بيقين: أفلا يؤمنون؟ ألا يكفيهم ذلك دلالة؟ ألا يكفيهم ذلك قدرة؟ ألا يكفيهم ذلك معجزة فيؤمنوا بأن خالق هذا هو الله، وأن الله خلق ذلك وحده بلا شريك من ولد، أو صاحبة أو معين، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً؟!

قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:31].

يريد الله لنا أن نتدبر ونتذكر خلق السماء والأرض، فقال لنا: وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء:31] أي: كي لا تضطرب ولا تميل، ولا تزعج من عليها.

وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ [الأنبياء:31] أي: جبالاً ثوابت، ترسي الأرض لكي لا تميل، وهي محمولة على الماء، ثلاثة أرباع الأرض هو ماء، والربع الرابع هو الأرض؛ ولذلك أينما حفرنا لا نجد ماءً وقد نحفر ألف متر ولا نجد الماء.

وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ [الأنبياء:31] أي: ثوابت راسخات: وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ [الأنبياء:31] كي لا تميل وتضطرب، أي: كي لا تميل الأرض وتضطرب بمن عليها، فلو لم يكن فيها هذه الجبال الرواسي المثبتة لمالت، كما لو وضعنا سفينة على الماء، ولم نجعل لها رواسي من جوانبها لمالت وانقلبت بركابها، وغرقوا وهلكوا، فكذلك الأرض.

وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:31] أي: خرقنا فيها فجاجاً، وهو جمع فج، وهو الطريق بين الجبلين سبلاً: سابلاً، سالكاً، يوصل الإنسان في الأرض بما يريد من أقاليم وأقطار، ومن جهات في مشرق أو مغرب أو جنوب أو شمال، لم يفعل هذه الرواسي حاجزاً عن أن يسير الإنسان في هذا الكون، وفي هذه الأرض كما يشاء لطلب مصالحه من تجارة أو طلب للعلم، أو تدبير للأمر، أو حكم للرعايا، أو ما إلى ذلك مما يحتاج إليه الإنسان الحي على وجه الأرض.

يلفت الله نظرنا لنفكر مع أنفسنا ساعة: من الذي خلق الأرض؟ من الذي خلق السماء؟ من الذي فتقهما وفصلهما عن بعضهما؟ من الذي خلق الجبال وما حكمة خلقها؟ من الذي شق فيها هذه الطرق الواسعة، والفجاج العميقة؟ من الذي جعلها سابلة وسالكة من المشارق والمغارب ومن الشمال ومن الجنوب؟ لو فكرنا قليلاً فسنجد أنفسنا نقول: الله الخالق، الله المدبر، الله الرازق، الله القائم بكل هذا والخالق له، والمدبر له.

وَجَعَلْنَا فِيهَا أي: في الأرض فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:31]، أي: يهتدون إلى الطرق.. إلى الفجاج.. إلى السير.. إلى الرحلة.. إلى المصالح.. إلى ما يريدون، عندما يضربون في الأرض طلباً للعلم أو سياحة أو أي شيء يريدون.

قال تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32].

جعل السماء بالنسبة للأرض كالسقف للبيت والغرفة، وحفظه عن أن يسقط، ولو سقط على من في الأرض لدمرهم، ولأهلكهم وسحقهم؛ ولذلك لفت نظرنا إلى السماء كيف رفعها بغير عمد نراها بأعيننا، ومن لم يكن يبصر فسيراها ببصيرته، فإنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32] أي: محفوظاً عن السقوط إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. إلى أن تقوم الساعة.. إلى أن يزول كل ذلك.. إلى إن يدمر، ولا يبقى في الكون أحد إلا الله، كان ولا شيء معه، وسيبقى ولا شيء معه كما كان، ويصبح الكل كالعهن المنفوش، وكالقطن المتطاير.

قوله: وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [الأنبياء:32] أي: وهؤلاء الكفار، بل أكثر الخلق عن آيات الله وقدرته في سمائه وأرضه، وفي خلقه وتدبيره معرضون، لا يعون ولا يفكرون فيه، ولا يتخذونه برهاناً على وحدانية الله وقدرته وانفراده بالخلق، والوحدانية، والتدبير والرزق، وهو الحي القيوم، القائم على كل شيء، والذي تحت قهره كل شيء جل جلاله وعز مقامه.

قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33].

الله الذي خلق الليل وجعله سكناً وراحة للإنسان، وخلق النهار وجعله معاشاً وعملاً وسعياً للإنسان على نفسه، وعلى من يهمه أمره.

ولولا الليل لما استراح إنسان في نهار أبدي سرمدي، ولولا النهار لمل الإنسان ولتقطعت أعضاؤه من كثرة النوم والجلوس؛ ولو كانت الأرض بلا شمس لأصابها الزمهرير، ولما نبت فيها نبات، ولما كبر فيها جسم.

ولو لم يكن القمر بالليل لما كان مد وجزر من البحر، ولما كان .. ولما كان، والله قد خلق كل ذلك لحكمة، وخلق منه ما يريح الإنسان في ليله ونهاره، في معاشه وراحته، وفي حياته كلها، لو ذهب الله بليله فمن سيأتينا بليل غيره؟! لو ذهب الله بنهاره فمن سواه يأتينا بما نحن في حاجة إليه.

قال تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33] الأفلاك العلوية والسلفية كلها تدور وتسبح، كما يسبح الإنسان.

والفلك لغة: هو الشيء المستدير، وقد مثل ذلك سعيد بن جبير بالمغزل عندما يكون له محور وهو يغزل مستديراً، ومثله عبد الله بن عباس بالرحى لها محور، والأفلاك تدور حولها.

وهكذا الآن عندما نرى خرائط الأفلاك العلوية والسفلية نجدها مستديرة، ولها محور في الوسط، والكل يسبح، ولذلك عندما يخرج الإنسان عن غلاف الأرض، حيث تخف الأجسام والأوزان إلى حدٍ بعيد فسيجد نفسه سابحاً في الفضاء.

وهذا معناه: أن الأرض كروية، والسماء كروية، والأفلاك كروية، وهذا ما أجمع عليه المسلمون قبل أن يفكر في هذا الكفار والمشركون.

وقد قال تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ [الزمر:5] والتكوير: دائرة، وقال النبي عليه الصلاة والسلام عن عرش الرحمن: (هو على الكون هكذا، وأشار كالقبة) أي: كل مستدير، ونص السلف على أن الأرض كروية بيضاوية على شكل البيضة، ونص عليه ابن تيمية ، ونص عليه قبله ابن حزم ، والغزالي , وغيرهم من علماء القرآن والسنة.

وهذه الآية هي من الأدلة التي استدلوا بها أيضاً على كروية الأرض والأفلاك علواً وسفلاً، سماءً وأرضاً: كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33]، والفلك: الدائرة، ويصبح الأمر أن كلاً يدور حوله كمن يسبح في النهر، أو يسبح في البحر.

كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء:33] تسبح الشمس، ويسبح القمر؛ ولهذا يرى في أحيان ولا يرى في أحيان، تغرب الشمس تارة وتشرق تارة، وهي في دورانها، والقمر وما معه من أفلاك في دورانه.

قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].

قوم من الكفار تربصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يموت، وتربصوا به المنون، قالوا: سيموت، فقال الله يخاطب النبي عليه الصلاة والسلام وهو خطاب لنا مع هذا: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].

أي: يا محمد! قل لأولئك الذين يتربصون وينتظرون موتك: نحن لم نجعل لبشر من قبلك الخلد، أي: البقاء دواماً واستمراراً.

وأراد البعض أن يستدل بهذه الآية على أن الخضر قد مات، ولا دليل من هذه الآية، فلم يقل أحد من الناس مسلماً ولا كافراً أن الخضر سيخلد خلوداً أبدياً، كل من قال ببقائه قال: إنه سيعيش أزماناً طوالاً كما عاش نوح أكثر من ألف عام، ولبث في قومه يدعوهم إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً، كما ذكر القرآن الكريم.

قوله: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ [الأنبياء:34] استفهام تقريري: فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34] أي: لو مت يا محمد أفيخلدون هم؟

هم يتربصون بك المنون، وهم ينتظرون موتك ليستريحوا منك وهيهات! فسيجدون العذاب دونك إن بقوا على شركهم، وسيجدون ما أنذرتهم به من عذاب أليم في الدنيا والآخرة، وسيلحقهم إلى قبورهم، وسيخلد معهم خلوداً سرمدياً أبداً في جنهم، بل حياتك خير لهم، يسمعون منك العبرة والموعظة، ويسمعون منك الحرص على هدايتهم، هذا لو كانوا يعقلون، فكيف بمن له أعين لا يبصر بها، وآذان لا يسمع بها، وقلوب لا يفقه بها؟! هم كالأنعام، بل هم أضل من الأنعام، وأضل من الدواب، الدواب نستفيد مما في بطونها، ومن أوبارها، ومن ظهورها.

فالكافر والمنافق لا يستفاد منه في شيء، بل وجوده على الأرض دمار وخراب، فوجوده في باطنها خير من وجوده على ظهرها: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].

قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35].

أي: أخبر هؤلاء الذين تربصوا بك الموت، وانتظروا غيابك، أنه ليس الموت واجب عليك فقط، بل الموت حق على كل نفس، كل من له نفس يصعد ويهبط إلا ونهايته الموت.

قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، وقال تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30] فلن يعيش أحد دواماً، ولن يخلد أحد دواماً، ولكن الحي الدائم هو الله جل جلاله، الواجب الوجود، والحي الذي لا يموت، وما سواه من ملك أو جني، أو إنسي يموت.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] أخبر تعالى أن الموت حق لا بد منه على كل حي، إلا الله الحي الدائم، ثم قال: (ونبلوكم) أي: نختبركم ونفتنكم ونمتحنكم (بالشر والخير فتنة)، يبتلي خلقه ويفتنهم تارة بالشر وتارة بالخير، يبتلينا بالفقر، وهو فتنة وبلاء واختبار، ويبتلينا بالغنى، وهو فتنة وبلاء، ويبتلينا بالقوة والصحة كما يبتلينا بالمرض، ويبتلينا بالشبيبة والقوة كما يبتلينا بالشيخوخة، ويبتلينا بالعز والسلطان وبالحكم وبالأمر والنهي، ويبتلينا بالذل والهوان، والاستعمار، ولكل ذلك سبب, ولكل ذلك حكمة، وهو على كل اعتبار إن كان خيراً فهو ابتلاء وفتنة، وإن كان شراً فهو ابتلاء وفتنة، والكل من الله.

ولذلك: لا خير يدوم، ولا شر يدوم، ولكن الله يبتلي بالخير من شاء ليرى: هل سيشكر على ذلك الخير أم يكفر؟! ويبتلي بالشر، ليرى عبده: هل سيصبر على ذلك الشر أو يكفر ويزداد عناداً ويتخذ من ذلك كفراً؟!

ولذلك: فلا ييئس الفقير من رحمة الله ومن غناه، ولا ييئس المريض من عفو الله وعافيته وصحته، ولا الغني ولا القوي يجوز له أن يطغى ويتكبر، فمن أتاه بالمال قادر على أن يذهبه ويدمره، ويسلبه منه، ومن أتاه بصحة وبقوة قادر على أن يسلبه كل ذلك، ولكن الضابط في كل هذا: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7].

الشكر يديم النعم، فمن أغناه الله وأصحه وأعزه، فالشكر باللسان واجب، ولكن أوجب منه الشكر بالعمل، بأن يعطي من ماله، ويعطي من صحته، ويعطي من قوته، وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ [القصص:77] أحسن بالعطاء وبالهبة، وبالنفقة وبالزكاة، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا)، أي: هلك الأغنياء ذوو الكثرة، إلا من أتى إلى هذه الكثرة فوزعها بين نفقة على الأولاد، وصدقة على الفقراء، وزكاة لماله فيما أوجب الله عليه.

(وللسائل حق ولو جاء على فرس)، فإن جاءك سائل فأعطه مما أعطاك الله ولو جاءك راكباً على فرس، والله قد وصف المؤمنين بأنهم: وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:24-25].

أي: حق للسائل إذا سأل، وحق للمحروم من العطاء ومن الصحة ومن العز؛ ولذلك الشكر في كل حال على حسيه، شكر باللسان: (ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله)، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام.

والشكر بالعمل، فيما كان من الله عطاء ورزقاً وشيئاً ملموساً مرئياً محسوساً، أما أن تجمع الأموال وتقول: أشكر الله، أما تتمكن من القوة والنفوذ والسلطان وتقول: أشكر الله، وأنت لا تعطي فقيراً ولا تساعد ضعيفاً، ولا تسعى في عز ذليل، ولا تكون في عون محتاج أو فقير، فليس ذلك الشكر، وليس ذلك الحمد، ويوشك من لا يحمد الله على نعمه وآلائه أن يسلبها، قال تعالى: وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7] أي لئن جحدتم النعمة ولم تشكروها إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، أي: يسلبها وتزول عنه؟ ونعوذ بالله من السلب بعد العطاء.

قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، أي: وبعد كل ذلك فـ(إلينا ترجعون)، فتعرضون على الله يوم القيامة، الشاكر والصابر، والكافر والمؤمن، والفقير والغني، والذليل والعزيز، والمبتلى بالشر والمبتلى بالخير؛ ليؤدي الحساب عن ماله فيم صرفه؟ وعن شبيبته فيم استعملها؟ وعن ماله فيم أنفق؟ وعن عزه من أعز به من الذليل والمقهور والمغلوب عن أمره؟!

وقوله: وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35] هو وعيد وتهديد لهؤلاء الجاحدين الكافرين، الذين ابتلوا بالخير فلم يحمدوا الله، وابتلوا بالشر فلم يصبروا على بلاء، وإن هي إلا أيام وتنقضي، إن كانت خيراً فلا يدوم، وإن كانت شراً فلا تدوم، ولا يدوم إلا الله الواحد جل جلاله وعلا مقامه.

وهذه السورة الكريمة تسمى بالأنبياء ويعرض الله علينا فيها حال أنبيائه ورسله، وأنه ما أرسلهم إلا بالتوحيد، وما أرسلهم إلا بالعبادة، وما أوحى لهم إلا ذلك.

وما حدث من تغيير وتبديل من أصحاب الأديان السابقة ممن زعموا أنفسهم يهوداً أو نصارى أو مجوساً، كل ما زعموا، أنه من الله، وعن أنبياء الله، وأنه جاء في كتب الله، كل ذلك الذي زعموه من جحود وكفر ومعصية كل ذلك افتراء على الله، وكذب على أنبياء الله، ما أنزل الله به من سلطان.

وكون النبي عليه الصلاة والسلام أكرم الله به الخلق، وختم به الأنبياء؛ ليصحح ما صح في الكتب السابقة، وليزيف ما افتروه وكذبوه، وحرفوا فيه، وتزيدوا فيه من شرك وكفر، وقذف للأنبياء، وكذب على الله، كل ذلك ما جاء الله بخاتم أنبيائه رسولاً للناس كلهم إلا ليعود البشر إلى الطريق السوي.. إلى المحجة البيضاء التي لا يزيغ عنها إلا هالك. فالقرآن لم يغير، ولم يبدل، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أبداً حق وصدق، وهو أبداً يأمر بالخير، وينهى عن الشر، يحلل ما ينفعنا، ويحرم ما يضرنا، ويعلمنا الحقائق والعقائد، وذكر الله وتمجيد الله، وتسبيح الله، وتنزيه الله عما زعمه الأفاكون، وافترى به المشركون، وكذب به الكاذبون، وليعود الناس إلى الصدق والوفاء بالعهد، وإلى الرحمة بين الكبير والصغير، وبين القوي والضعيف، وبين العزيز والذليل، ليعود الناس إلى أصل خلقتهم، قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

يعبدون الله آناء الليل وأطراف النهار، بالصلوات الخمس التي أمرنا الله بها عند مطلع الفجر، وقبل شروق الشمس، وفي أطراف النهار عند الزوال، وقبل مغرب الشمس عندما يصير ظل كل شيء مثليه، وعند العصر، وفي أول الليل المغرب، وبعد ذلك بساعة ونصف إلى غياب الشفق، ثم التهجد في الثلث الأخير من الليل، فتلك ساعة كريمة وعظيمة لمن قام والناس نيام، في تلك الساعة ينزل ربنا إلى السماء فيقول: هل من داع فأستجيب له؟! هل من مريض فأشفيه؟! هل من عار فأكسوه؟! هل من جائع فأشبعه؟!.

ينزل جل جلاله في تلك الساعة وقد نام الكسالى والضائعون، ونام المسرفون على أنفسهم، يقوم من فراشه ومن عند زوجته ليقف بين يدي ربه خانعاً، مستسلماً داعياً ضارعاً، وهو في كل ذلك يتبع سنن المرسلين السابقين التي جاءت هذه السورة لبيان سننهم وأخلاقهم وسلوكهم، يعيدها الله على نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولنسمعها نحن، ونتخذ أنبياء الله في الأسوة وخاتمهم صلوات الله عليه وعليهم، هو الأسوة والقدوة الأعظم: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].

وهكذا عندما ندرس ونتدارس سورة الأنبياء أي: سلوكهم وعبادتهم وأخلاقهم ودعوتهم، وما لقوا من الناس من جحود وكفران، وما تحملوه من هؤلاء الجاحدين وهم يدعونهم إلى الله، ويرشدونهم إليه، وينفرونهم من المعصية والظلم والطغيان، ومن الكفر والجحود، ويكونون في أنفسهم أئمة يقتدى بهم سلوكاً، ونطقاً وعملاً.

وهكذا كانت تسمية السورة بالأنبياء لفتة لنظر من يتلو هذه السورة، ولمن يدرسها ويتتبع تفسيرها؛ ليعلم كيف كان عليه عباد الله المكرمون من الملائكة، والنبيين لكي يصلح الإنسان العادي غير المعصوم نفسه، وليتخذهم أسوة وقدوة وأئمة.

والله بفضله وبكرمه أرسل لنا رسلاً مبشرين ومنذرين، ليعلمونا ويرشدونا ويعظونا، ويهدونا، ويبينوا لنا الحق لنتبعه، والباطل لنجتنبه، ومن هنا كانت الحياة فرصة للإيمان بالله، والعودة إلى الله، ولتبقى الحجة البالغة لله.

إذاً: فهذه هي الدنيا التي ليست إلا كثوان، وعن قريب ستنقضي، فعلى الإنسان بقبول الرسالة وتصديق الأنبياء، واتباع خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، وانتهاج نهجه، واتباع طريقته، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: ومن هي هذه الواحدة يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي).

فكل ما تسمعون من مذاهب وطرائق لقادة اليهود أو النصارى أو المنافقين أو الملحدين، أو المعطلين، تلك هي الفرق التي نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، ونبهنا من خطرها، لنكفر بها، ونبتعد عنها، ونزيفها، والطريق الحق يجب أن نبحث عنه في السيرة النبوية، وسيرة الأصحاب رضوان الله عليهم.