تفسير سورة الكهف [39-45]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [الكهف:39-41].

ذكرنا في قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، أن الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام في ألا يتجاوز بنظره وعينيه وبمجالسته وعنايته ورعايته فقراء المسلمين وصعاليك المؤمنين، وأن يصبر معهم، وعلى فقرهم، وعلى بعض لأوائهم، وعلى بعض خشونتهم، فهم الذين يصبحون ويمسون ذاكرين ربهم جل جلاله، داعين له، ضارعين بين يديه، يسألونه الرحمة والمغفرة والتوبة.

وقوله: وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [الكهف:28]، هي مقولة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه هي تأديب وتعليم وتوجيه للمؤمنين، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الذنوب والآثام صغيرها وكبيرها وليس له رغبة في الدنيا وزينتها، وهذا كقوله تعالى لنبينا عليه الصلاة والسلام: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يشرك، وهو معصوم، وقد أتى لتعليم الناس توحيدهم ودينهم والرسالة التي أوحي له بها، ومن هنا نعلم باستمرار أن ما كان كذلك فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المبلغ عليه الصلاة والسلام عن ربه، والمؤدب والمعلم والموجه، فيكون المكلف المخاطب أولاً، وعليه البلاغ لغيره.

قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] أي: لئن أشركت أيها المؤمن! ليحبطن عملك، ولست بمعصوم ولا محفوظ من الذنوب والآثام، فلا تتخذ من الدنيا زينة، ولا تتكبر وتتعاظم على عباد الله.

وهكذا في الآية التي مضت في سورة الإسراء في أنه لو تقوّل أو تزيّد لعاقبه الله، كما قال الله: إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ [الإسراء:75]، فهذا خطاب له، وهو أمر للمسلمين ألا يفعلوا ذلك حتى لا يصيبهم ذلك وأمثاله.

قال صاحبنا المسلم لصاحبه الكافر الذي كفر بربه عندما دخل جنته: مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:35-36] إلى أن قال ما قال.

فأجابه صاحبه المسلم كما قال الله: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:37-38].

فهذا الصاحب المؤمن جادل صاحبه الكافر المشرك المنكر للبعث والمنكر أن تبيد جنته ودنياه أو أن تكون هناك حياة ثانية دائمة وهو متعاظم على صاحبه المسلم بماله وبأولاده وبما عنده فصبر عنه صاحبه الصالح المؤمن إلى أن انتهى من قوله الكفري الشركي ومن جنونه وهرائه، ثم كرر عليه وهو يحاوره ويحادثه ويبادله القول والحديث، فقال له: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37]، لقد كنت كافراً بقولك: إنه لا بعث ولا فناء ولا حشر ولا عرض، فكفرت بربك الذي خلقك من تراب، إذ كلنا من آدم، وآدم من تراب، ثم أنت من نطفة، أي: من ماء مهين، ومن أب وأم، وصلب ورحم، ومع ذلك تشرك بربك، وتتعالى عليه، وتنكر الرسالات، والبعث! أيليق هذا بإنسان خلق من تراب ثم من نطفة من ماء مهين؟!

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:38] أي: لكن أنا، فحذفت الهمزة وأدمجت النون السابقة باللاحقة، فصارت الكتابة والنطق: لكنا، وتفسير القول: لكن هو الله ربي أنا، أما أنا فلا أشرك بالله، فهو خالقي من تراب، ومن نطفة، وهو سيعيدني مرة ثانية، ويبعثني كما يبعث كل الخلق، فأنا أومن بهذا وأعترف وأقر به، وأفرد ربي بالوحدانية وبالعبادة وبالدعاء، وأستعيذ بربي أن أصنع صنيعك.

وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ [الكهف:39] أي: هلا، فهو يعظه ويرشده ويعلمه الإيمان ويوجهه إليه، شأن المؤمن بربه الداعية إلى الله، وهكذا وظيفة المسلم حيث كان في بقاع الأرض، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110].

وهكذا هذا الصاحب المؤمن عندما رأى هذا الكافر القذر الوسخ، الذي ما كاد يملك شبراً من أرض وقطرة من ماء حتى تعاظم على الفقراء والمساكين والمؤمنين، وكفر وأشرك بربه، وأنكر البعث.

وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39]، أي: هلا قلت إذ رأيت جنتك وأعجبت بها وبأشجارها وبخضرتها وبمياهها الدافقة، وإذ رأيت أولادك وأعجبت بهم وبكثرتهم وبمن يحيط بك من أولاد وخدم وحشم؛ هلا قلت عند ذلك: مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39]، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [الإنسان:30]. فلم تكن جنتك بقدرتك ولا بإرادتك، ولكنها كانت بمشيئة الله وقدرته، فأنت لا تملك مع ربك قليلاً ولا كثيراً، بل أنت خلق من خلقه كجنتك وولدك ومالك وما أعجبت به، فهلا عندما أعجبت بما أعجبت به قلت: ما شاء الله أي: الأمر والشأن قد شاءه الله وأراده، لا قوة إلا بالله أي: لا قوة لي ولا لأحد من الخلق إلا بالله، فبقوة الله زرعت بستاني وفجرت مياهه، وبقوة الله رزقني ما أتزوج به، وهو الذي أتى بالذرية والأولاد والخدم والحشم، فكل ما أنا فيه بمشيئته وبقدرته وبإرادته.

وكان الواجب عليك إذ كان الأمر كذلك أن تشكر ربك وتثني عليه وتنزهه وتعظمه وتجله، لا أن تتكبر على ربك، وعلى نبيك، وتنكر البعث والتوحيد والمشيئة والقدرة، فهلا خفت يا هذا المخلوق! وقد نظرت إلي نظرة التحقير والإزدراء، وأخذت تتعالى علي وتقول: أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، فإن رأيتني كذلك أقل منك مالاً وولداً.

و(أنا) ضمير فصل هنا لا يعمل فيها الإعراب، ولا تعمل فيها الحركة، و(أقل) هي مفعول منصوب بالفعل، (ترني)، و(أنا) إنما جاءت فاصلة لتأتي بالقول وبالكلام، وليست هي من الضمائر المرفوعة ولا الرافعة لغيرها، ويكون المعنى: إن أنت رأيتني أقل منك مالاً، وأقل منك نفراً، ومالك أكثر من مالي، وأولادك أكثر من أولادي، ونفرك المحيطون بك من الخدم ومن الحشم ومن الجنود الذين تعتز بهم، إن كنت كذلك إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ [الكهف:39-40] أي: لعل الله أني يكرمني ويعطيني ويتفضل علي بجنة خير من جنتك، أوسع منها أرضاً، وأكثر منها أنهاراً، وأعلى منها أشجاراً، وأكثر منها ثمراً وفاكهة وكل ما يعود علي بالمال والغنى والثروة.

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ ويرسل على جنتك حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [الكهف:40] أي: صاعقة وناراً من السماء؛ إذ أعطاك وأكرمك ورزقك، فلم تشكر النعمة، ولم توحد الرزاق، ولم تحمده وتشكر له ما أعطاك وأنعم به عليك.

فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ [الكهف:40]، ناراً محرقة تأتي على الأخضر منها واليابس، فتغير مياهها، وتجفف أشجارها، وتضيع ثمارها، فإن من يكفر النعمة جدير بأن يسلبها وبأن تزال عنه.

والحسبان الصاعقة والنار والأحجار التي تأتي عليها وكأنها لم تكن.

فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [الكهف:40] أي: فتتبدل من الجنة ذات الأشجار الباسقات والأزهار المنيرات والمياه المتدفقة إلى أرض ملساء لا تنبت، وليس عليها شجرة ولا ورقة خضراء ولا قطرة ماء، كما قال تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا [الكهف:40]، أي: أرضاً ملساء لا تنبت، قاحلة لا شجر فيها ولا خضرة ولا ما يعجب البتة.

زلقاً: أي: رمالاً، إذا أنت وقفت عليها تزلق رجلك؛ لأنها أصبحت سبخة صاعدة بارزة، وكأنها الصحاري والأرض ذات الرمال التي لا تكاد تحمل رجل الرجل حتى يزلق ويقع، وقد تدخل رجله في الأرض فلا يستطيع المضي ولا الذهاب ولا الإياب.

قال تعالى: أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا [الكهف:41]. (غور) مصدر بمعنى فاعل، أي: أو يصبح ماؤها غائراً، أي: ضائعاً قد غار في الأرض بعيداً عن سطحها وعن فورانها وعن أن ينفع جنتك وأشجارها وزراعتها وثمارها.

فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا [الكهف:41] فيصبح غائراً ضائعاً في أعماق الأرض، فلن تستطيع له طلباً مرة أخرى، لا بحفر ولا بسعي ولا ببذل، فإذا كفرت بربك ولم تشكر نعمته أخذ نعمته عليك وسلبك إياها.

وقال سلفنا الصالح في قول هذا الصاحب المسلم: وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ [الكهف:39]: ينبغي للمسلم إذا رأى ما يعجبه من أهله أو أولاده أو ماله أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. فهو حري أن تدوم تلك النعمة وألا تصيبها آفة إلى الموت.

وقد ورد هذا نصاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد روي عن أبي هريرة في مسند أحمد ، وعن أبي سعيد الخدري في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من إنسان يرى ما يعجبه إذا قال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، حري بأن تدوم عليه النعم)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

وقال لـأبي هريرة : (يا أبا هريرة ! أأدلك على كنز الجنة؟ قال: نعم، بأبي أنت يا رسول الله وأمي! فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة).

وكان الإمام مالك رحمه الله إذا دخل بيته لا يدخل حتى يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ويقول: تلك جنتي وذاك ما قال ربي.

قال تعالى: َلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ [الكهف:39]، أي: جنة الدنيا، وجنة الدنيا متبوؤك ومكان راحتك وهو دارك الذي يؤيك ويؤي أهلك وأولادك ومن تطمئن إليهم.

وكان وهب بن منبه : يكتب على باب داره: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ليتذكر قولها عند كل دخلة يريد الدخول إليها.

وهذه العادة منتشرة في ديار الشام، فلا تكاد تدخل داراً من دورها إلا وجدت عليها لا فتات في غرفها ومداخلها مكتوب عليها: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، ويكون معنى ذلك: شكر الله تعالى أن أكرمك بمنزل ومأوى، ومن يحل هذا المنزل من زوجة وولد وخادم، فأنت عندما تشكر النعمة حري أن تدوم عليك هذه النعمة، وقد قال ربنا جل جلاله: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، فبالشكر تدوم النعم، وبكفرها يسلبها الإنسان، فمن شكر النعمة زادها الله عليه ونماها، ومن كفرها سلبها بنص كتاب الله.

قال تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42].

صدق ما قاله المسلم لصاحبه الكافر عندما تعالى بماله، وظن أن ذلك قد أوتيه بحظ عنده، وبمقدرة انفرد بها، فوبخه وأنذره بأنه يوشك أن تزول عنه هذه النعمة، وترى البلاد والأرض والجمال والبستان وكأنه لم يكن يوماً من الأيام؛ بما يصيبه من قوارع وصواعق من السماء تحرقه، وبما يضيع من مائه فيغور في الأرض فلن تستطيع له طلباً.

وما كاد يقول له ذلك، وينام بعد ذلك ليلة أو ليلتين إلا وأصبح يجد بستانه على ما توقعه له صاحبه المسلم،فأصبح في البلاء وسلب هذه النعمة.

قال تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف:42] أحيط: من الإحاطة، أي ذهب بستانه وجنته وما فيها من ثمار، فقد ذهبت جميعها وكأنها لم تكن يوماً، وأصبحت صعيداً زلقاً بلقعاً لا تنبت ولا تؤتي ثمرة ولا زهرة ولا خضرة ولا قطرة ماء، وكان ذلك بسبب كفره وشركه وعدم اعترافه لله بنعمته، فسلب هذه النعمة، قال تعالى: (وأحيط بثمره) أي: ذهب جميع ثمار أرضه وعمله وجميع أتعابه، فأصبح خاوي الوفاض، ساقط العروش والسقف والمنازل.

فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [الكهف:42].

قوله: (أصبح)، يدل على أن هذا حصل له بالليل، فما كاد يصبح ويأتي بستانه ليتعهده ويتنعم فيه على عادته حتى وجد هذا المنظر، فكاد يغمى عليه ويجن، وشك هل هذه هي أرضه وبستانه أو لا؟

وعندما رأى الحدود والجيرة والمكان الذي فيه بستانه تأكد أن هذا الذي حدث فيه هذا البلاء والصواعق المحرقة والمياه الغائرة هو بستانه وجنته وما فيها من ثمر، فأصبح يضرب على كفيه ندماً وأسفاً، وهكذا شأن من بلي ببلاء، فأخذ يندم ويتأسف ويتوجع، وقد مضى الوقت والزمن، وهيهات فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.

فندم على ما كان منه من كفر ومن شرك ومن إنكار للبعث، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وما بذلت كفاه من مصروف ومن أموال، فقد بلغت من الكثرة أن استغرق جميع ماله في هذا البستان.

وحال كونه يتندم ويتأسف ويتوجع كان هذا البستان خاوياً على عروشه، فارغاً خالياً ساقطاً عاليه على سافله؛ من الصواعق التي نزلت وهدت ما فيه من بناء، وأصبح السقف أرضاً وصعيداً زلقاً، وأصبحت المياه غائرة لا يقدر منها على شربة، فذهب كل عمله، وأصبح نادماً آسفاً على كفره وشركه وما مضى منه، ولكن هيهات، فقد سبق السيف العذل!

قال تعالى: وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42]، فقال هذا بعد فوات الأوان، وبعد أن جرى عليه ما جرى وأحيط بثمرة، فعندما ندم وتوجع وقلب يديه بعضها على بعض أصبح يتندم ويقول: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42]، يندم في نفسه بتقليب يديه، ويندم بلسانه ويتمنى بأنه لم يشرك بربه أحداً.

وهل آمن بعد ذلك وهو في الحياة، لم يذكر لنا الله هل آمن أو لم يؤمن، ولكنه ندم على كونه أشرك وكفر لما كانت هذه النتيجة، فقد ذهبت جناته وما فيهما من ثمار وأشجار وأنهر دافقة، فيمكن أن يكون قد آمن وندم على شركه، ولكن القرآن لم يبين ذلك، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام لم يبين ذلك؛ لأن العبرة في ضرب مثل بما جرى وبمن كان موحداً أيام بني إسرائيل، فضرب ذلك مثلاً في أغنياء الكفار وفقراء المؤمنين، وأن هؤلاء الأغنياء لا يتعاظمون على فقراء المؤمنين والمسلمين، بما لديهم من أولاد وأموال، فقد سبق أن كان مثل هذا لـقارون، وإذا بالأرض تخسف به وهو في زينته وفي أمواله. وكذلك ما ذكره الله تعالى عن هذين الرجلين الصاحبين أو الأخوين عندما تعالى أحدهما على الآخر.

والله يضرب هذه الأمثال ويقول للفقير المسلم: يا أيها الفقير! لا تتألم ولا تتوجع لحالك، وإياك أن تغتر بمال ذلك الغني الكافر العاصي، فأنت إن بقيت على الإيمان والطاعة أشرف من ذاك، والدار الآخرة الدائمة خير لك، وخير لولدك ولحشمك، وخير لك مآلاً وعاقبة وآملاً، وذاك الذي أنت تعتبره شيئاً كبيراً يوشك أن يأتي الله على ماله وعلى ولده في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله أنكى وأشد.

وقد ذكرنا أن سبب نزول سورة الكهف هو أن عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ذهبا سفيرين من كفار مكة إلى يهود المدينة يسألانهم عن صفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان ما قلناه قبل، وكانت النتيجة هذا المثال بالكافر المنكر للبعث عقبة والنضر وأمثالهما، وهكذا كان فقد مات عقبة والنضر على أشد أنواع الكفر، وكانا من أشد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وممن لقي منهم رسول الله في مكة المكرمة عنتاً في الأيام الأولى عند اضطهاد الإسلام والمسلمين، كما لقى المسلمون، وكانت النتيجة أن نصر الله نبيه وعبده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر، واختار هذين بالذات دون بقية الأسرى من كفار قريش فأمر بقتلهما وقطع رقابهما صبراً دون قتال، فأخذ يصيح عقبة ويقول: مالي أنفرد بهذا دون إخواني من الأسرى، فسكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذ يقول: (يا محمد! من للصبية؟ فقال: النار).

قال تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا [الكهف:43].

هذا الذي تعالى يوماً وهو في عز جاهه وقوته وتيهه وما له من الخدم والحشم، بينما هو يتيه على هذا الصاحب المسلم ويقول له: (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) ذهب هذا النفر كله من ولد وزوجة وخدم وحشم، فقال الله عنه بعد أن ذهبت جنتاه بما فيهما: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الكهف:43].

فهذه الفئة والجماعة والطائفه من العيال والأولاد والخدم التي اعتز بها لم ينصروه من دون الله، ولم يكن لهم من الحول والطول ما يكونون به حزباً وأعواناً وفئة مناصرة وكيلة نائبة له، وهيهات، ومن يتوكل لأحد على الله، ويقف في وجه الله جل جلاله القادر على كل شيء؟ فهو الواحد الأحد، والكل له عبد ذليل يرجو رحمته ويخاف عذابه.

قال تعالى: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِرًا [الكهف:43]، فلم ينتصر لا بمال ولا بأولاد ولا بشباب ولا وبقوة ولا بجنتيه اللتين افتخر بهما على المؤمنين من الفقراء والمساكين، فقد ذهبت جنتاه وفئته وخدمه وحشمه وأولاده في الحياة الدنيا، وإن مات على الشرك فلعذاب الله أنكى وأشد.

قال تعالى: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44].

هنالك أي: يوم القيامة الوَلاية، فإن قلنا: الولاية فهى الحكم والسلطان والأمر والنهي، وإن قلنا: الوِلاية فهى: النصرة والتعزيز والمؤازرة، وكل ذلك انفرد به الله جل جلاله، إذ يقول إذ ذاك: أنا الملك أين الملوك؟ فيقولها ويكررها جل جلاله، ولا جواب، فالكل ذل وخنع وأصبح يقول: نفسي نفسي، بما فيهم الأنبياء إلا نبينا محمداً صلى الله عيه وسلم، وعند ذاك يجيب نفسه بنفسه: أنا الملك أين الملوك؟ أنا ملك الملوك.

قال تعالى: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف:44]. وهناك الحكم الحق والمناصرة والتأييد والقوة لله وحده، وليس لأحد موالاة ولا نصرة ولا سلطان يعتز به ولا حاكم يعود إليه، فالحاكم الله، له الأمر والنهي، وبيده العز والذل، يعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير جل جلاله وعلا مقامه. وهذا هو المغزى والنتيجة من ضرب المثل.

ولقد قال السلف الصالح: إذا سمعت ربك يقول: ياأيها الناس! يا أيها الذين آمنوا! فأعرها أذنك فهو خطاب لك، وامتثل ما قيل لك أمراً واترك ما قيل لك نهياً، وإلا حل بك ما حل بالكفار والمشركين من اللعنة في الدنيا والآخرة.

وقوله تعالى: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ [الكهف:44]، قرئ: (لله الحقِ) على أنه نعت لاسم الجلالة الله، والله هو الحق، وهو الواحد الأحد، الرازق الصمد، الذي بيده كل شيء.

وقرئ: (هنالك الولاية لله الحقُ)، على أن الحق نعت للولاية، أي: هنالك الولاية الحق، وهنالك الملك والسلطان لله وحده، وهنالك المناصرة والتعزيز والتأييد، فالحق لله وليس لأحد سواه، والكل تؤكده الآية وتدل عليه، وكلتاهما قراءتان سبعيتان متواترتان.

قال تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44].

فالله جل جلاله خير ثواباً ممن ترجو ثوابه من المشركين ومن الكافرين، فثواب الله خير، وهو خير في الواقع وفي الزمن القائم في الدنيا.

وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44]، أي: خير عاقبة في الآخرة.

وقرئت: (عقْبى) و(عقُبى)، فثواب الله خير في الدنيا وخير عاقبة يوم القيامة.

وقوله: (خير) أي: حسب توهم المشرك؛ لأن خير فعل تفضيل، وهي تقتضي المشاركة والزيادة، وإلا فلا أحد يشارك الله فضلاً عن أن يزيد عليه، ولكن ذلك حسب توهم هؤلاء المشركين من أن أربابهم المزيفة وأوثانهم الباطلة تثيبهم وتأجرهم وتعطيهم الخير، فقيل لهم: هذا الذي تنتظرونه من هذه الأوثان ثواب الله وإفضاله وخيره وإكرامه خير لكم في الآجل والعاجل، وفي الحال والاستقبال، ولولا أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من لم يشكر الناس لا يشكر الله)، لما شكرنا أحداً على كل جزئية أو كلية إلا الله؛ لأنه ما من إحسان بلسان أو قلم أو يد إلا والله هو الذي حرك القلب والفؤاد والنفس لأن تعمل هذا الخير، فأنا أشكر الله الذي حرك ودفع لذلك، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام علمنا أن نشكر الواسطة، فمن لم يشكر الناس لم يشكر الله وهكذا. ومع ذلك تأتي حالة لبعض الناس لا يشاهدون إلا الله في كل إحسان.

وعائشة أم المؤمنين رضوان الله عليها عندما بهتت بما بهتت به، وقذفت بما قذفت به من المنافقين ومن ضعفة من المؤمنين، ثم نزلت براءتها من فوق سبع سماوات، وكانت في بيت أبيها، فجاء النبي عليه الصلاة والسلام يبلغها ذلك ويبشرها، وهى حزينة متألمة باكية، وكان أبوها أبو بكر رضوان الله عليه حاضراً، فعندما جاء يقول ذلك عليه الصلاة والسلام سكتت، فقال أبو بكر لابنته: اشكري رسول الله يا عائشة ! قالت: والله لا أشكره، ولا أشكر إلا الله الذي برأني. وهذه حالة تأخذ المؤمن. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: عرفت الحق لأهله.

وكان هذا من إدلالها على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت غضبى على رسول الله صلى الله عليه وسلم لماذا يتشكك فيها؟ ولماذا يسأل الصغار والكبار ما تعرفون عن عائشة ؟ فهذا الذي آلمها وأحزنها وأبكاها، فعندما جاءت البراءة من الله أبت أن تشكر إلا الله جل جلاله، وهذه حالة تأخذ الإنسان، فـعائشة أم المؤمنين جديرة بأن تكون في هذا أسوة.

قال تعالى: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا [الكهف:44]، أي: هو خير عاقبة وخير ثواباً حاضراً ومآلاً، آجلاً وعاجلاً.

قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً [الكهف:45].

وهذا مثال آخر لهذه الدنيا الفانية الغرارة، وهو للأغنياء؛ حتى لا يغتروا بمالهم وبسلطانهم، وللفقراء حتى لا يملئوا قلوبهم بما عند الأغنياء.

والمخففون قد استراحوا من التبعة ومن الحساب، وكما قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا وهكذا)، وقد هلك الأغيناء وذوو الكثرة من المال؛ لأن الأغلب فيهم أنهم لا يقومون بحقوق الله في مالهم، ولا يؤدون زكاته كاملة، ولا النفقة الواجبة عليهم، ولا يعطوا من مالهم حق للفقير والمسكين، وقد يتيه أحدهم بماله ويعجب بدنياه، وهذا شأن الأكثر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام، (هلك المكثرون، إلا من قال هكذا وهكذا).

والمخففون هم الذين لا يملكون شيئاً، فلا يحاسبون يوم القيامة على دنيا إذا كانوا صالحين، وقد يذنبون بالقليل القليل من المال، فتجدهم فقراء في الدنيا والآخرة. نسأل الله اللطف والسلامة.