تفسير سورة الكهف [89-98]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:89].

لا نزال مع ذي القرنين ، إذ قطع مكانه الذي كان فيه إلى مغرب الشمس، وأعاد للدين قواعد، ولا شك أنه ترك حكاماً ومعلمين يعلمون الناس التوحيد، وينشرون الإسلام كما نشره، ووضع بينهم من يعدل بينهم، ويفصل خصوماتهم، ويحول دون ظلم البعض للبعض، ثم ترك المغرب وهو الآن في طريقه إلى المشرق، فقال تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا أي: ثم أخذ طريقه مرة أخرى واتخذ الأسباب للسفر والتنقل في الأرض والضرب في أرجائها، وهكذا اتخذ الآلة والمراكب البرية والبحرية، وربما الجوية كما حكى علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة والتابعين: أنه سخر له السحاب؛ فقد سئل عنه علي فقال: ذاك عبد صالح ناصح لربه، فنصحه ربه وأكرمه، فسخر له السحاب وأعطى له الأسباب، ومكنه من كل ما يحتاجه حاكم على الأرض.

قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [الكهف:90] أي: أقصى بلاد الصين حيث لا يعرف بعدها عمار ولا سكنى ولا شعوب من البشر، وصل هناك فوجد عند مطلع الشمس قوماً لم يجعل لهم ربهم من دون الشمس ستراً، فأرضهم لا تقبل بناء وليس فيها شجر ولا نبات، إذ تطلع الشمس في الساعة التي تطلع فهم معرضون لها ولحرها وبلائها، لا كهوف، ولا مغارات، ولا شجر، ولا أرض تقبل البناء، إذ الأرض تهتز وتتنقل فما بنوه يسقط، والشجر لا ينبت، وإنما يعيشون على ما يصطادونه من حيوان البحر وغيره.

فقوله تعالى: لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا [الكهف:90] أي: لا ستر لهم دون الشمس، وهم معرضون لها عراة لا لباس يسترهم إذ لا غنم ولا صوف ولا وبر ولا زرع يأخذون منه قطناً، وإنما يعيشون على الماء وسمك البحر، فهؤلاء عندما يبدأ حر الشمس يدخلون المياه ويبقون فيها إلى أن تميل الشمس إلى الغروب، فيخرجون من الماء.

وقد قال البعض: إنهم يحفرون أخاديد فيجلسون فيها، ولكنها أيضاً لا تمسك قد تنهار عليهم يميناً وشمالاً، فيجدون أنفسهم قد حفروا لها مقابر، ولذلك أصح ما قالوه: أنهم يتبردون من حرها ومن سمومها بالماء.

قال تعالى: كَذَلِكَ أي: مثلما في قوله تعالى: قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا [الكهف:86] فكان نفس الجواب: قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:87-88] فقوله: كَذَلِكَ [الكهف:91] أي: مثلما حدث مع قوم مغرب الشمس دعاهم إلى الله، وأحسن إلى المحسن، وأساء إلى المسيء، فقتل الكافر المعاند الظالم، وعذب المعارض، وأما من قبل الإيمان والتوحيد فإنه أحسن إليه ووجد منه كلمة طيبة وليناً ولطفاً وإحساناً، وهذا معنى قوله تعالى: (كذلك).

أي: كما صنعنا معه عندما وصل إلى مغرب الشمس كذلك، وصل إلى مطلع الشمس وخيرناه بأن يصنع معهم ما شاء إما أن يعذب وإما أن يتخذ فيهم حسناً، فكان جوابه: أن يحسن إلى المحسن ويعذب العاصي والمسيء.

قال تعالى: وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا [الكهف:91] أي: نحن محيطون بعمله وبقوله فما من شاذة ولا فاذة إلا والله يعلمها، ولا يخفى عليه خافية جل جلاله، فكان بعين الله عمله وبعين الله تعذيبه للظالمين الكافرين، وبعين الله إحسانه إلى المحسنين المؤمنين المصلحين، والله قد أحاط به علماً وأحاط به خبراً جل جلاله، وهو المحيط بـذي القرنين وبغير ذي القرنين .

وسبب تسميته بـذي القرنين أنه كان له قرنان أو ما يشبه القرنين وهذا قول.

وقيل: لأنه بلغ قرن الشمس طلوعاً وبلغ قرن الشمس غروباً وهذا الأقرب.

وقال البعض: لأنه حكم فارس والروم ومعلوم أن فارس والروم لا تتعدى ولايتين من ولايات دولته وحكومته، فقد كان الإسلام قروناً وفارس والروم ولايتان من ولاياته، أما ذو القرنين فحكم العالم كله بما فيها أمريكا.

قال تعالى: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا [الكهف:89].

أي: ثم أخذ طريقاً، فهو لا يزال يقطع الأرض والبحار والجبال والفيافي وأعطاه الله الأسباب من الجند والمال والقوة السيادة والعز ليستطيع التصرف في ذلك تمكيناً له في الأرض مشرقاً ومغرباً وما بينهما، فهو يتنقل بأسبابها علماً بالطرق والمنازل والحكم، وإرشاداً لهذا وعقوبة لهذا والإحسان إلى المحسن والإساءة إلى المسيء.

قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا [الكهف:93] أي: وصل بين إقليم وإقليم وبينهما ممر سحيق قد يكون ودياناً وقد يكون كهوفاً وقد يكون بحاراً، وعلى كل كان هذا بناحية وهذا بناحية.

قال: وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا أي: من دون هذا الإقليم ومن دون هذا الإقليم، وجد قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا أي: فيهم صفات الحيوانية من الجهل وعدم العلم والمعرفة فلا يكادون يفقهون قولاً من أحد، ومن قال: إنهم لا يفهمون اللغة فهذا ليس بصحيح، فإن الأمم التي تنقل فيها ذو القرنين كان لكل منهم لغته ونظامه لا تشبه هذه هذه إلا قلة قليلة لا تكاد تتجاوز الأصابع ممن تكلفت ذلك وتعلمته، ولا يقال: إن تلك اللغة انتشرت بين جميع شعوب الأرض، وقد قيل: إن ذا القرنين مما أعطي له من الأسباب أنه كان يتقن مخاطبة كل أمة بلغتها، فقد كان ذلك من الأسباب التي أكرمه الله بها، ومن الوسائل التي مكنه الله منها في الأرض.

قوله: (لا يكادون) يكاد: من أفعال المقاربة، أي: أنهم يفهمون قليلاً ويدركون قليلاً، ومن الإدراك الذي أدركوه أن هذا الذي وصل بلدهم بجيوشه وسلطانه وقوته قد أعطاه الله الأسباب على ذلك، وإذا بهم ينتهزون فرصة وجود ذي القرنين ويأتونه قائلين: يا ذا القرنين !

قال تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يأجوج وَمأجوج مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94].

وقرئ: (سُداً)، جاءوا إلى ذي القرنين وقالوا: يا ذا القرنين وأخذوا يرجونه ويتأدبون معه أدب الرعية للرؤساء والملوك والقادة، فقالوا: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) أي: عطاء وأجرةً ومالاً (عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) أي: أن تجعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج فاصلاً وحاجزاً؛ لأن يأجوج ومأجوج شعب مفسد في الأرض، فقد كانوا من الظلم والجور يأكلون الإنسان، ويأكلون كل ما وصل إلى أيديهم من أنواع الحيوانات والمواشي والدواب، وكانوا عراة يتسافدون في الشوارع تسافد الكلاب والحيوانات، إذ كانوا لا يعيشون على نظام ولا خلق ولا دين، وكانوا يأتون المياه فيغورونها ويميتون أهلها عطشاً، وإذا وجدوا أرضاً مزروعة أفسدوها وقتلوا الماشية ولم يتركوا لهم شيئاً، فقد كانوا أشبه بالتتار الذين أفسدوا يوماً في بلاد العرب والمسلمين إلى أن وصلوا حدود مصر ثم دمرهم الله وقضى عليهم.

ويأجوج ومأجوج ورد ذكرهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم قوم مفسدون في الأرض، وقد جعل عليهم سداً وحال بينهم وبين الانتشار في الأرض ذو القرنين ، استجابةً لهؤلاء القوم الذين لا يكادون يفقهون حديثاً، ولكنهم سيخرجون إلى الدنيا عند زوال هذا السد، فيخرجون إلى الأرض وينتشرون، وخروجهم من العلامات الكبرى التي ستأتي بعد المهدي ، فـالمهدي أولاً، ثم الدجال ثانياً، ثم عيسى ابن مريم عليه السلام ثالثاً، ثم يأجوج ومأجوج رابعاً، فيخرج يأجوج ومأجوج وعيسى في الأرض قد نزل من السماء ودان بدين الإسلام، وحج بحج المسلمين، وكسر الصليب، وقتل الخنزير، وهدم الكنائس، وألغى الجزية ولم يعد يقبل من أحد إلا الإسلام أو السيف، ودين عيسى إذ ذاك دين نبينا عليه الصلاة والسلام، فهي أوامر لعيسى من النبي عليه الصلاة والسلام، فعندما ينزل إلى الأرض يطلع عليها ويبلغها ويقوم بتنفيذها تنفيذاً لأمر نبيه محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو آخر الأنبياء ولا نبي بعده أبداً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي).

وأخبرنا عليه الصلاة والسلام: (أن عيسى سينزل في آخر الزمان فيحج على غير القلص) والقلص جمع قلوص، والقلوص: الراحلة، أي: الجمل أو الناقة، وفي قوله: إنه سيحج على غير القلص إشارة للطائرات، فسيحج في الطائرات كما نحج نحن عليها اليوم، وقد تكون طائرات من نوع جديد، فنحن نرى كل يوم اختراعاً جديداً وشكلاً جديداً بحيث ما مضى عليه عشر سنوات أصبح كالدواب والمواشي بالنسبة لطائرات هذه الأيام، ويعد أيضاً من أنواع الطائرات الآن ما لا يكاد أن يتصورها أحد، وقد سبقت الإشارة لهذا في القرآن الكريم في قوله تعالى: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8].

قال حبر القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن معنى قوله: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] ظهور أنواع المراكب في الأرض حتى كان ذلك من جنسها، قال هذا ابن عباس منذ ألف وأربعمائة عام، وفي هذا النصف من القرن العشرين أصبحنا نستطيع أن نقول كما قال ابن عباس : والخيل والبغال والحمير والسيارة والقطار والباخرة والصاروخ، وأيضاً لا نزال نقرأ قوله تعالى: وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ [النحل:8] وهذا من معجزات القرآن الدالة على تصديق نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

ومن هنا كان القرآن المعجزة الخالدة الدائمة المستمرة، فقد آمنا بالمعجزات التي ظهرت لنبينا حال حياته عليه الصلاة والسلام إيمان تصديق، ونحن نؤمن اليوم بالقرآن ومعجزته معنىً ولفظاً، ونؤمن إيمان شهود وإيمان حضور وكل يوم نعيش في معجزة، فالصحابة الذين آمنوا بالمعجزات التي شاهدوها آمنوا بما سيأتي إيمان تصديق، كما آمنا نحن بالمعجزات التي كانت في عصرهم إيمان تصديق، ثم نؤمن بالقرآن الكريم إيمان شهود وحضور.

قال تعالى: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يأجوج وَمأجوج [الكهف:94] وقرئ: (ياجوج وماجوج) مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا [الكهف:94] أي: هل نؤجرك ونكافئك؟ ونعطيك مالاً، على أن تفعل بيننا وبين يأجوج ومأجوج سوراً، فلا يدخلون أرضنا ولا ندخل أرضهم عسى أن نستريح من إفسادهم وقتلهم وسفكهم الدم الحرام وأكلهم لحوم البشر.

ولم يمكن الله ذا القرنين في الأرض إلا للإصلاح ونشر الدين والعدل وعقاب الظالم ورفع الظلم عن المظلوم، فأجابهم ذو القرنين : قَالَ مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف:95] أي: ذلك الذي مكنني، قرئ: (مكنني ومكني).

فقوله: (مَا مَكَّنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) بمعنى: ما أنا فيه من التمكين في الأرض ومن الأسباب التي أكرمني الله بها، وما ملكني الله من الحكم بين البشر وخضوع الملوك والأمراء والحكام وجميع شعوب الأرض لحكمي، هو خير من خرجكم ومن مالكم وأجرتكم، فدعوا الخرج عندكم تفرحون به أنتم لا أنا، كما قال سليمان عندما أرسلت له ملكة سبأ الهدية لتنظر رده فكان الجواب: بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ [النمل:36]، أي: أنتم الذين تفرحون بهذا المال، أما أنا فأملك من السلطان والجاه والمال ما ليس عند أحد في الأرض.

قوله: (خير) أي: أخير من أفعل، أي: أكمل وأحسن تمكيناً وقدرة.

ثم قال: فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا [الكهف:95] أي: لا تعطوني مالاً ولكن أعطوني قوة منكم، تعاونوا معي بأجسامكم وبالأدوات التي أطلبها من حديد ونحاس وأخشاب وأحجار وبنائين، قوله: (بقوة) أي: فليكن هذا منكم بعزم وصلابة وإرادة وبكل ما أطلبه منكم ولا حاجة للخرج.

ثم قال ذو القرنين : آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ [الكهف:96]، والزبر: جمع زبرة، أي: آتوني بقطع الحديد، وقيل: كانت القطعة وزنها قنطاراً اتخذها كما يتخذ الآجر والحجارة في البناء، فجاءوه بما طلب من قطع الحديد، بمعنى: صبت وقطعت، وهذا يدل على أنه كان عند ذي القرنين من المصنع والآلات ما أذاب به الحديد وقطعه قطعاً متوازية متوازنة على وزن واحد ومقاس واحد، وبعد أن جمعوا الحديد -إما أخرجه من الأرض أو أخرج ما كان موجوداً- أذابه وصنعه وجعله قطعاً.

قال تعالى: حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا [الكهف:96]، فالسدان في الوادي بين جبل يسار وجبل يمين، وذو القرنين ومن معه في الوسط، وفي جانبه يأجوج ومأجوج، وفي الجانب الآخر هؤلاء الذين لا يكادون يفقهون قولاً، فقال لهم: اربطوا هذا الجبل بهذا الجبل وأبعدوا هؤلاء عنكم واجعلوا بينكم وبينهم ردماً، فردم هذه الفئة وبنى فيها سوراً بعلو هذه الجبال، فجاءوا بالحديد وبنوا الأساس، فكانوا يجعلون الحديد ثم فوقه الخشب، ثم فوقه الحديد ثم فوقه الخشب، ثم فوقه الفحم ثم فوقه الحديد، وهكذا طبقة من حديد وطبقة من خشب وطبقة من فحم إلى أن أصعده وواصل بين هذه الفئة من الجبل وهذه الفئة من الجبل حتى ساوى بين الجبلين واستوى هذا السد الذي أعلاه حتى أصبح في مستوى الجهتين، ثم قال: انفُخُوا [الكهف:96] أي: أشعل النار، فاشتعلت النار في الفحم واشتعل الخشب فإذا بالزبر تشتعل، فصار هناك فراغ حين احترق الفحم والخشب واحتاج الأمر إلى شيء آخر يعود به ما احترق، فقوله: (حتى إذا جعله ناراً) أي: جعل السد كله قطعة نار مشتعلة فيه، (قال آتوني أفرغ عليه قطراً) والقطر: النحاس المذاب، فقد أعد النحاس وأذابه كما يذاب الثلج، ثم أخذ يقول لهم: أعينوني بقوتكم وأبدانكم، فأخذ يصب هذا النحاس المذاب على السد فامتلأ المكان الذي كان فيه الفحم والخشب بالنحاس، إذ كان من فوق ومن خلف إلى أن ملأه يميناً وشمالاً، وهكذا إلى أن أصبح السد قطعة واحدة من فولاذ اختلط بها النحاس وهذا لا يكاد يؤثر فيه إلا بإرادة الله.

قال تعالى بعد ذلك: فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا [الكهف:97].

أي: أصبح وقطعة واحدة ملساء كالبلور، فلم يستطيعوا أن يصعدوا على الحائط ويصلوا للعلو؛ لأن التراب أصبح أملس ولا يستطيع إنسان أن يمسه بيده فضلاً عن رجله، فقوله: (فما اسطاعوا أن يظهروه) أي: أن يصعدوا ظهره، ويتمسكوا بجوانبه.

قال تعالى: (وما استطاعوا له نقباً) أي: ما استطاعوا خرقه لا من تحت ولا من الوسط ولا من فوق، وهكذا فإن حضارة اليوم التي يدندنون حولها لم تصل إلى هذا قط، ولم نقرأ في تاريخنا الحاضر في الآثار سوى سد ذي القرنين ، فإن حصون بابل من أيام النمرود عاشت قروناً ولكنها أصبحت خراباً ولم يؤثر فيها الحديد، فأبقوا من هذه الحصون جزءاً كمتحف وأثر من آثار الأولين.

قال تعالى: قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي [الكهف:98].

يقول ذو القرنين وقد نفعهم بنشر الإسلام بينهم، وبزوال الظلم عنهم، ونفعهم بإبعاد هاتين الأمتين الظالمتين المفسدتين يأجوج ومأجوج، وحال بينهما وبين الوصول إلى هؤلاء وغيرهم من أهل الأرض، (قال هذا) أي: هذا الصنع الذي صنعه وبناه وكأنه قطعة من فولاذ مختلط بالنحاس المذاب (رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي: نعمة رحم بها المظلومين والعاجزين، ورحم بها المستضعفين، فهي رحمة لمن عاصر ذلك، ورحمة لمن يأتي بعدهم من سلالاتهم الذين طالما عذبوا الآباء والأجداد بظلم يأجوج ومأجوج، وسفك دمائهم، وأخذ أموالهم، وانتهاك أعراضهم، وأكل لحوم صبيانهم وشبابهم.

ويصح أن يكون هذا من قول الله ويصح أن يكون من قول ذي القرنين وإن كان السياق في كونه من كلام الله أبلغ؛ لأنه خبر عن المستقبل ولا يعلم المستقبل والغيب إلا الله.

قال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا[الكهف:98] هذا الآن على شدته وصلابته إذا جاء وعد ربي جعله دكاء، أي: أصبح مستوياً مع الأرض، أو أصبح هو والأرض في مستوىً واحد، ووعد ربي لا بد كائن، والمقصود بقوله: (وعد ربي) هو ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام: إن عيسى سينتصر على الدجال ويذوب الدجال كما يذوب الملح في الماء، ويتم الأمر لعيسى وتصبح الدنيا في أيامه آمنة، فيزول العداء بين البشر وبين الحيوان، بحيث يتآخى الذئب مع الشاة، والحية تتآخى مع الفئران، والوحوش الضارية تتآخى مع الوحوش غير الضارية، ويصبح الناس في مستوى واحد من الغنى.

هذا ما أخبر عنه رسول الله عليه الصلاة والسلام تفسيراً لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا[الفتح:28].

وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ[التوبة:33].

آية تكررت ثلاث مرات في سور: التوبة والفتح والصف، وقد فسرها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما روى ذلك أبو عبد الله الحاكم وأحمد في المسند وأصحاب السنن وغيرهم عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ النجم، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ الليل، والذي نفس محمد بيده لا تقوم الساعة حتى يبلغ هذا الدين مبلغ كل شجر وحجر ومدر).

وكان من عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال الكلمة أعادها ثلاثاً، وليست هذه ألفاظ الرواة ولكنها ألفاظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيقسم بالله الذي نفس محمد بيده ونفوس كل الخلق أن الدنيا لا تنتهي حتى يصبح كل ما يظهر فيه الليل أو يصعد فيه النجم مسلماً، والنجم يطلع على جميع الأرض في جميع الكرة الأرضية، والليل يكون في جميع الكرة الأرضية، وما من بيت إلا وهو حجر ومدر، هم سكان الأرض الحاضرة، وأصحاب القرى البدوية، والبدو الرحل، ومعناه: جميع سكان الأرض من ذوي الحضارة ومن البدو الرحل، يقول عليه الصلاة والسلام مبيناً: (بعز عزيز أو بذل ذليل) إما أن يعزهم فيصبحون من أهله -أي: من أهل الإسلام- كما قال تعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ[المنافقون:8] وإما أن يذلهم فيؤدوا الجزية له عن يد وهم صاغرون، وهذا يكون أيام المهدي ، ويتجدد أيام عيسى، وبعد عيسى ينزل يأجوج ومأجوج فيفسدون في الأرض، فيدعو عيسى ربه بأن يهلكهم، فيصيب كل رجل منهم نغف في ظهره أو في عنقه، فيهلكون جميعاً نتيجة دعوة عيسى ربه سبحانه، فتجيف الأرض وتنجس من جيفهم وأرواحهم، فيدعو الله ليريحهم من ذلك، فيرسل الله طيراً على شكل أعناق الإبل، فيأخذونهم ويطيرون بهم إلى حيث لا يرونهم، وتنزل أمطار تنظف الأرض وتغسلها وكأنهم لم يكونوا.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الكهف [62-70] 2025 استماع
تفسير سورة الكهف [20-22] 1925 استماع
تفسير سورة الكهف [1-8] 1890 استماع
تفسير سورة الكهف [98-102] 1888 استماع
تفسير سورة الكهف [60-62] 1822 استماع
تفسير سورة الكهف [28-31] 1761 استماع
تفسير سورة الكهف [56-59] 1699 استماع
تفسير سورة الكهف [39-45] 1652 استماع
تفسير سورة الكهف [32-38] 1651 استماع
تفسير سورة الكهف [23-28] 1626 استماع