تفسير سورة الكهف [60-62]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60].

ندخل الآن في القصة الثالثة من سورة الكهف، وهي قصة الخضر وموسى عليهما السلام، فالله جل جلاله يقص علينا هذه القصص -قصص الأنبياء والصالحين والكافرين والمجرمين- لنتخذ منها العبرة، ولنتخذها درساً في حياتنا ومآلنا، وإعداداً لآخرتنا، لا لنتفكه، ولا لمجرد الحكاية والقصة؛ ولذلك فإن الله جل جلاله لا يتبع التفاصيل كما يفعل أصحاب القصص، ما اسم زيد؟ ما اسم عمرو؟ في أي سنة كان؟ ما اسم كلبهم؟ ما اسم أمه وأبيه؟ هذا خارج عن العبرة والعظة؛ ولذلك لا يلتفت القرآن له ولا يهتم به، وإنما يذكر العظة والعبرة لنتخذها دروساً كما مضى في النصف الأول من كتاب الله في جميع قصصه.

واذكر يا محمد (إذ قال موسى لفتاه) أي: موسى بن عمران، من أولي العزم من الرسل، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم جميعاً الصلاة والسلام، وكان موسى من أكابر الأنبياء، فهو كليم الله جل جلاله، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام كلمه الله في ليلة الإسراء عندما أمره بالصلاة، وكان ذلك بلا واسطة من جبريل؛ ولذلك ما من منقبة ذكرت في نبي من الأنبياء إلا وكان مثلها وأعظم لنبينا عليه الصلاة والسلام.

قوله: (إذ قال موسى لفتاه)، وفتاه نبي من الأنبياء، هو يوشع بن نون ، كان خادماً له، وهذا شأن الكبار من العارفين بالله أنبياءً ورسلاً وعلماء، فلقد كان مع رسول الله عليه الصلاة والسلام جمع من الصحابة ذوي المقامات العلية كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد وسعيد واذكر لهم هؤلاء الأخيار الأكابر، وهؤلاء السادات الأعاظم، وهؤلاء الذين هم أفضل الخلق بعد الأنبياء على الإطلاق.

وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني) أي: خير قرون الأرض على الإطلاق القرن النبوي الذي بزغ فيه هذا العربي الهاشمي صلوات الله وسلامه عليه في هذه البقاع المقدسة، وقال: يا أيها الناس! إني رسول الله إليكم جميعاً، فكان أصحابه لشرفه شرفاء وعظماء، فكانوا أعظم الناس بعد الأنبياء على الإطلاق.

وقد أقسم الله بعصره كما في أحد التفاسير: وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:1-2] أقسم بعصر محمد عليه الصلاة والسلام، وقيل: أقسم بوقت صلاة العصر؛ لأنها هي الصلاة الوسطى، كما ثبت ذلك نصاً في صحيح مسلم .

قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60] أنزل الله جل جلاله أنزل ما من هذه القصة، وهي قصة موسى والخضر ، فموسى سماه باسمه ولم يقل: ابن فلان، والخضر لم يسمه، فلم يكن فيه نزاع أنه الخضر ، وأما موسى فقد قال قلة إنه ليس موسى بني إسرائيل، ولكنه موسى بن موسى، هذا قول قاله أحد من أسلم وكان يهودياً، وهو نوف البكالي ربيب كعب الأحبار ، ولكن عندما بلغ ذلك ابن عباس قال: كذب عدو الله! فكذبه ووصفه بعداوة الله، وكأن في نفس ابن عباس من كعب أشياء، كما كان ذلك عند العباس عم النبي عليه الصلاة والسلام كان عند عائشة أم المؤمنين وكما كان عند عمر أمير المؤمنين، وكما كان عند معاوية ملك الشام ومؤسس الأمويين.

فقال ابن عباس : كذب عدو الله، وقال له ذلك سعيد بن جبير ؛ فقال ابن عباس : حدثني أبي بن كعب (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ سورة الكهف أنه موسى بن عمران) وأما أنه موسى بن موسى فهذه من الإسرائيليات، ولا دليل عليها، وهي كذب وهراء، وقد كذبها حبر القرآن ابن عباس .

لقد كان موسى يخطب يوماً في قوم حتى خشعت قلوبهم تأثراً بالموعظة الحسنة، وبعد أن انتهى من الخطبة تبعه أحد المعجبين بكلامه وعلمه ومعرفته، فقال له: يا رسول الله! هل تعلم أحداً أعلم منك؟ قال: لا أحد.

وإذا بالله الكريم بعد ذلك يعاتبه ويقول له: بلى عبدنا الخضر ، والرواية في مسند أحمد ، وفي صحيح البخاري ومسلم رواها أبي وغيره من الصحابة الكبار والصغار رضي الله عنهم جميعاً، والقصة مغزاها الأول واضح، والآن نأتي إلى المغازي جميعاً بعد نهايتها، فمنها: أنه إذا كان الله جل جلاله لم يقبل من موسى -وهو أحد أولي العزم من الرسل- أن يقول: لا أحد أعلم مني في الأرض، فكيف بغيره. وإذا بموسى يبتدئ طلب العلم وكأنه تلميذ جديد دخل المدرسة الابتدائية، وكان ذلك إيثاراً من الله بأن يذهب موسى ويتعرف على الخضر ويتعلم من علومه ومعارفه، فسأل ربه وقال: يا رب! اجمعني بهذا، فقال: خذ حوتاً زاداً للطريق، واجعله في مكتل، وفي مجمع البحرين عند صخرة هناك سوف تفقد الحوت، فتلك علامة كانت لموسى في وجود الخضر.

والخضر عبد من عبيد الله، وهو يتنقل في هذه الأرض من قبل موسى لا مكان له ولا منزل، وهو في مختلف البقاع شرقيها وغربيها، يعبد الله ساجداً قائماً راكعاً موحداً مقدساً، وقالوا عنه: يعيش بشربة ماء من زمزم مرة في العام.

وقد عرفنا موسى وقصصه في كتاب الله، أما الخضر فلم يذكر مرة أخرى، ولولا أن النبي صح عنه أن هذا العبد الذي أخبر الله موسى عنه لقلنا هو عبد من عبيد الله الله أعلم من هو، وما اسمه، وهل لا يزال موجوداً.

وقد قال قوم: إن الخضر ابن آدم مباشرة، وقيل: ابن نوح، وقيل: من بني إسرائيل، أي جاء بعد إبراهيم من سلالة إسحاق، وقيل: هو أمير ابن ملك، وقيل: ليس اسمه الخضر وإنما هي صفة، فقد كان يتعبد الله في قطعة من الأرض لا نبات فيها ولا خضرة، فيبقى يدعو الله وهو يبكي بدموعه حتى تسقى الأرض بدموعه فتنبت، فيصبح وكأنه على فروة خضراء من النبات، وكأنه على جلد أخضر، فسمي الخضر من أجل ذلك.

هل لا يزال حياً؟ أما أصحاب الآداب والرقائق فيكادون يجمعون على أنه لا يزال حياً، ويحكون عجائب وغرائب في ذلك، وأما أهل الدليل والبرهان والمحدثون، فقد خصه برسالة الإمام الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني إمام المحدثين، الذي لم يأت بعده مثله، وقد كان في القرن التاسع، وقليل نظراؤه فيمن تقدموه، فقد ترجم له في كتابه الإصابة في تراجم الصحابة، بناءً على قول من قال: إنه بقي إلى العصر النبوي، وأنه جاء إلى رسول الله مؤمناً به عليه الصلاة والسلام، وكانت رسالته مستقلة، وأظنها قد طبعت، وتجاوزت مائة ورقة، وقد طبعت ضمن كتاب فتاوى السيوطي فيما يسمى الحاوي في الفتاوي.

ثم هل كان عالماً عارفاً بالله وولياً فقط أو كان نبياً؟

الكثيرون يقولون: إنه كان نبياً، وكثرة أيضاً قالوا: إنه كان ولياً، ولكن ظاهر القرآن وسياقه يدل بما يشبه اليقين أنه كان نبياً.

ولنعلم أن فئة الرسل والأنبياء أشرف الخلق، أما الأولياء فهم طبقة ثانية بعد الصحابة، فالصحبة مقامها عزيز جليل.

فهل الخضر لا يزال حياً؟ وأتى بعضهم بأحاديث كثيرة لم يسلم سند حديث منها من مقال تدل على أنه جاء إلى رسول الله وآمن به، يقول ابن حجر : لو كان الخضر حياً لكان لابد من أن يأتي إلى رسول الله فيؤمن به؛ لأن الرسول نبي إلى جميع الخلق ممن أدرك حياتهم، فلا يسع الخضر إذا ظهر رسول الله وخاتم الأنبياء إلا أن يأتي مسلماً مستسلماً.

ولقد قال عن موسى وهو من أولي العزم: (والله لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي) وعيسى سينزل في آخر الزمان كما جاء في القرآن والسنة فيكون على دين محمد، فيحج حجنا، ويستقبل قبلتنا، ويقتدي بأئمة المسلمين، فكيف يكون الخضر حياً ولا يأتي إلى رسول الله مسلماً ومؤمناً؟!

ومن هنا مال الحافظ إلى قول من أتى بأنباء وأخبار أخرى عمن ذكر عن نفسه -وهم مشهورون بالصلاح والصدق- أنهم اجتمعوا بـالخضر فحدثهم وحدثوه، لكن لابد أولاً من معرفة هل كان حياً أيام رسول الله؟ فإذا لم يكن حياً فكل ما يذكر من بعد يجب أن نقابله بالشك والارتياب، وإن كان حياً فلا يسعه بحال من الأحوال إلا أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.

وعلى هذا الأساس بحث العلماء والمحدثون، وأصحاب الأدلة والبراهين، فهو عند المحدثين لم يكن حياً أيام رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومع ذكر الكثير ممن ينتسب للعلم والإمامة في العلم عن شيوخهم وعن علماء عارفين أنهم رأوه، وتحدث إليهم وتحدثوا إليه.

ولكن لابد أن يصاحب الدليل، وأن يعنى بالسنة، ومن لا يقبل الكلام هكذا على عواهنه فعليه أن يبحث المقدمة الأولى: هل أدرك الحياة النبوية؟ فإن كان الخضر قد أدرك الحياة النبوية فهو لا شك بعدها، وإذا لم يكن كذلك فمعناه أنه لم يكن في الحياة النبوية؛ لأنه لو أدركها لآمن به.

المقدمة الثانية: من المعروف الصحيح المتواتر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يبقى على وجه الأرض أحد ممن هو عليها الآن)، وقد قال هذا قبل موته بسنة أو سنتين؛ ولذلك حسبوا وتتبعوا فقالوا: من كان في هذا الوقت ممن رآه رسول الله أو رأى رسول الله فقد توفي، وهذا أبو الطفيل عامر بن واثلة من صغار الصحابة قالوا عنه: إنه كان آخر الصحابة موتاً، حيث مات على رأس القرن الأول من الهجرة، وعندما قال هذا الحديث عليه الصلاة والسلام قالوا: كان عمر الطفيل سنتين أو ثلاثاً، وعاش بعد تمام القرن بسنتين أو ثلاث ليتم القرن.

قالوا: فلو كان الخضر موجوداً لجاء مبايعاً مسلماً مستسلماً لرسول الله مؤمناً بأنه رسول الله إليه قبل أن يكون لغيره.

ثانياً: لو فرضنا أنه قد مات؛ لأن المائة سنة التي حددها رسول الله ببقاء من هو على وجه الأرض ممن عاصره قد انتهت وانتهوا، فكيف يقول هذا ويبقى الخضر؟! أجابوا عن هذا بأجوبة لا حاجة إليها.

والخضر معروف، وكلامه في القرآن والسنة وفي كتب العلم بكل أشكالها وألوانها.

والخضر هو إنسي على أي حال ابن رجل وامرأة، وسبب الحياة أنه شرب من ماء الحياة قالوا: كان مع إسكندر المقدوني وكان مع ذي القرنين الذي سيذكر أيضاً في سورة الكهف، وذهب ذو القرنين ليبحث عن ماء الحياة، وماء الحياة هو الندى، قالوا عن مائها: من شربه خلد، بمعنى: عاش دهراً طويلاً قبل أن يموت، وإلا فالخلود المطلق ليس لأحد إلا لله، فهو الأول بلا بداية، والآخر بلا نهاية، جل جلاله، وعز مقامه.

قالوا: فذهب من جنده وإذا به يقع على العين صدفة هو وإلياس الذي يقولون عنه ما يقولونه عن الخضر، فانتبها للعين، فشربا منها واغتسلا؛ فخلدا، وضاعت على ذي القرنين فلم يجدها، وبحث وسأل، وأكثر الفحص والبحث، وكانت النتيجة أنه لم يجدها، وعلى أي اعتبار فـالخضر هو نبي كما أعتقد، وكما سيأتي في الآية؛ فإنه صنع هذه الصنائع الكثيرة التي لو فعلها ولي لما قبلت منه؛ لأن الولي ليس مؤيداً بالوحي.

فلو جاءنا في عصرنا -والأولياء موجودون في كل عصر، وهم مع العلماء حجج الله على الأرض- ولي وقال: ألهمت بأن هذا الولد سيكون كافراً، فقتله، ماذا سنصنع به؟ سنقتله لا شك ولا ريب، ولو جاء إلى سفينة في البحر فخرقها، ما نصنع به؟ نؤدبه ونعزره، على أن موسى لم يوبخ الخضر، وإنما استغرب فعله، ثم تراجع ولم يقل له: ما هذا البلاء؟ ومع ذلك قال له الخضر في أول القصة وقد وقف الطير من نوع الخطاف وأخذ قطرة من الماء، فقال الخضر: يا موسى! أرأيت إلى هذا الطائر كيف أخذ القطرة من هذا البحر! قال: ما أقل ما أخذ! قال: يا موسى! ما علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله إلا كهذه القطرة التي أخذها هذا الطائر من البحر.

وهذا من التأديب الإلهي جاء على يد الخضر ومعناه: أنت الذي قلت عن نفسك لا أحد أعلم منك، أين أنت وأين أنا من علم الله؟ والله يعطي من شاء ما شاء، وهأنذا عندي من العلوم ما لا تعلم ولا تعرف، وجئت تطلب العلم، ومع ذلك أنت على علم علمكه الله لا أعرفه أنا، وأنا على علم علمني الله لا تعرفه أنت.

ثم بعد أن صنع ما صنع، قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] إذاً هو عن أمر الله، ولا يكون عن أمر الله إلا إذا كان وحياً، وهذا هو الذي يبرر له قتله الصبي، وخرقه للسفينة، وأنه فعل هذا مع رسول من أولي العزم الكبار، وما وسع الرسول بعد أن حاول أن ينتقد إلا أن يتراجع ويعتذر له لمجرد ملاحظة، أما أن يضلله أو يكذبه فهيهات! النبي لا يكذب النبي، ولا يضلله، فإن كان موسى نبياً ورسولاً، فالخضر نبي.

فهو قد أوحى الله إليه بأن يصنع ما صنع، وما دل الله موسى عليه إلا ليؤدبه، وبالتالي لتكون عظةً لنا، وأن الرجل منا مهما علا في العلم والمعرفة ففوق كل ذي علم عليم، فعندما يريد أن يطغى ويتباهى بعلمه، ويتوهم أنه لا أحد أعلم منه، يكون في تلك الساعة لا أحد أجهل منه.

فالله لم يقبل هذا من النبي الرسول الذي علمه، ولذلك قال له: بلى عبدنا الخضر، قال: يا رب! اجمعني به، فتعب موسى تعباً شديداً أعظم مما يتعبه طلاب هذا العصر في تنقلهم من قطر إلى قطر، ومن عاصمة إلى عاصمة، وإذا بموسى قد قال الله له: ستراه في صخرة عند مجمع البحرين، والعلامة بيني وبينك مكتل يكون فيه حوت مطبوخ مشوي مملح، وإذا بهذا الحوت يقفز ويعود للبحر.

فعندما يحدث لك هذا ففي المكان الذي يحدث ستجد عبدنا، فاشتاق موسى فكان يسأل أين مجمع البحرين؟

موسى كان تائهاً في صحاري سيناء مع قومه لمدة أربعين سنة، لأنهم عذبوا فبقي معهم، ولم يقدر له أن يدخل القدس، فدخل يوشع وموسى قد مات ودفن في أريحا.

وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في ليلة الإسراء إلى القدس: (رأيته على كثيب أحمر يصلي في قبره في أريحا، ولو كنت هناك لأريتكم مكانه)، والكثيب قد ذهبت به الريح ولم يبق.

ولذلك لا يعرف قبر نبي على التعيين في المقام إلا قبر نبينا عليه الصلاة والسلام.

أين مجمع البحرين؟ قال قتادة وجماعة معه: مجمع البحرين بحر الروم وبحر الفرس، وبحر الروم فلسطين، لكن أين بحر فارس وأين فارس؟

ولكن قال محمد بن كعب القرظي : مجمع البحرين طنجة، في أرض المغرب الأقصى، وهو مجمع بحرين حقيقة، مجمع البحر الأبيض المتوسط، ومجمع البحر المحيط.

وقال أبي بن كعب من الصحابة: كان ذلك في إفريقيا، فهذا القسم عند المجمع هو من أرض أفريقيا، فهو في شمال أفريقيا، وتسمى اليوم عند الأجانب: أفريقيا الشمالية، وهي ملتقى بلاد إفريقيا وأوروبا، وقد كان في الزمان الغابر في أفريقيا وأوروبا اتصال خلال شيء حدث، فتطايرت قطع من الأرض فأصبح بين أوروبا وبين أفريقيا ما يعد نحو سبعة أميال فقط، بحيث من في الضفة الأوروبية يرى بالعين الباصرة من في الضفة المغربية والعكس.

ففي الليل ترى الأضواء هنا والأضواء هناك، فهو مجمع البحرين تحديداً، وتصور أن موسى خرج من صحاري سيناء ومعه غلامه إلى طنجة، ليجتمعا بهذا العبد الصالح العارف بالله.

قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ [الكهف:60].

معناه: إذ قال نبي الله موسى بن عمران لا كما زعم البكالي ، فهو موسى بني إسرائيل وأحد الخمسة من أولي العزم، وفتاه كان نبياً أيضاً وهو يوشع بن نون خادمه، أخذه رفيقاً، وكان ملازماً له.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ [الكهف:60] أي: لا أبرح الأرض، لا أقوم من مكاني مالم أذهب وأنت معي إلى أن أبلغ مجمع البحرين.

أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60] أي: أو أظل تائهاً أحقاباً، والأحقاب: جمع حقبة، والحقب جمع الأحقاب، أي: فهي جمع الجمع، لابد أن أصل إلى مجمع البحرين كما أمرني ربي، ولابد أن أعثر على هذا العبد الذي عنده من العلم ما ليس عندي، ذاك أمر الله لابد منه، فقال لفتاه يوشع : (لا أبرح) لا أبتعد عن الأرض، ولا أنقطع عنها، لا أعمل عملاً مطلقاً ما لم أذهب إلى مجمع البحرين.

قوله تعالى: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ [الكهف:60] (حتى) للغاية، أي: حتى أكون قد وصلت إلى مجمع البحرين أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60] فإذا لم أصل إليه سأبقى مسافراً منقطعاً إلى أن أموت أو أجد هذا العبد.

قوله تعالى: حَتَّى أَبْلُغَ [الكهف:60] أي: حتى أصل، من البلاغ، والبلوغ: الوصول.

(مجمع البحرين) أي: طنجة أفريقيا، وهي الحد الفاصل بين قارة أوروبا وقارة أفريقيا، وعندما يقول أبي بن كعب ذلك فناهيك به، وهو أيضاً علم من أعلام القرآن، وعنه روى ابن عباس ، القرآن مع أنه حبر القرآن كذلك.

قوله: (أو أمضي حقباً) أي: أو أظل ماشياً أحقاباً وأزماناً، وقيل: الحقبة ثمانون عاماً.

قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا [الكهف:61] أي: بلغا مجمع البحرين نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61] الناسي في الحقيقة هو يوشع ، وهو الذي بيده مكتل الطعام والزاد، وعندما يقال: أخذوا الزاد، لا يكون الزاد إلا في يد واحد، ولكن ينسب إلى الكل حمل الزاد، فينسب العمل إلى الجماعة أو الرفقة.

كذلك نسبة النسيان ستمسهما، بل ستضر موسى الذي هو صاحب القصة والشأن.

(فاتخذ سبيله) أي: الحوت خرج من المكتل واتخذ طريقه (في البحر سرباً)، السرب: الكوة والطاق، كما نقول الآن: النفق.

فقد وصل إلى مكان فيه عين الحياة، ولعل الماء فوار، فمس الحوت من هذا الماء الفوار قطرات فإذا به يعيش ويحيا، قالوا: ومن الغريب أن موسى قد أكل منه، وليس هذا في الآية، ولابد أن يكون الشأن كذلك، لأنه لم ينقطع عن الأكل من سيناء إلى أن بلغ مجمع البحرين، ومشيه إما على دابة أو على رجليه، وذلك سيحتاج إلى فترة طويلة.

قوله تعالى: نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61] أي: قفز الحوت بعد أن رش بماء الحياة بالصدفة فاتخذ سبيله في البحر سرباً، وصار هناك نفق في الماء الذي مسه واتصل به فأصبح مجوفاً بحيث أخذ يجر وينسحب وينزلق، والماء مع ذلك مفترق، فيصبح فيه كأنه الصخرة داخل الماء.

فبقي الحوت محصوراً إلى أن يعود موسى، فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا [الكهف:61] اتخذ طريقاً ونفقاً ونافذةً في داخل الماء.

قال تعالى: فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]. فلما جاوزا: أي: تجاوزا المكان الذي نسيا فيه الحوت.

قوله تعالى: قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62] غضب موسى فهو من فطرته وطبعه غضوب، حيث تحاج مع آدم ودار بينهما كلام، وكان بينه وبين قومه وهارون كلام، وأخذ بلحيته يجره إليه، ورمى الألواح التي أتى بها عن موعد ربه بعد أربعين يوماً فكسرها، ولطم ملك الموت ففقأ عينه، وانتصر لإسرائيلي على خصمه في مصر فضرب قبطياً فقتله، قال تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15] بضربة واحدة بيده، فكان قوياً، ولا تنسوا قصته مع بنتي شعيب عندما جاء إلى البئر ورفع بمفرده صخرة يعجز عنها عشرون رجلاً؛ ولذلك قالت أحداهما لأبيها: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26].