تفسير سورة المزمل [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، بيده الخير، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

وأشهد أن نبينا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين.

ثم أما بعد:

فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! لقاؤنا اليوم بحول الله وفضله وتوفيقه ينقسم إلى قسمين: في اللقاء الأول نعيش مع مطلع سورة المزمل، وفي اللقاء الثاني نلقي النظر على قضية تعقد لها المؤتمرات، وترصد لها ملايين الدولارات، وتعد فيها الأبحاث من أهل العلم ومن سواهم، وتكثر فيها الآراء إلا وهي: قضية ختان الإناث، وربما يسأل سائل وله أن يسأل: لم لم تطرح قضية ختان الذكور على طاولة البحث والمفاوضات؟ والجواب: أن هذا لسبب واحد رئيسي وهو أن الختان للذكور مشروع عند اليهود، فاليهود تختن ذكورها، فلا يجوز لأحد أن يناقش قضية يفعلها اليهود؛ لأنهم هم الذين يحركون لنا القضايا، من آخر الأمر أبحاث علمية سأذكرها لكم فضلاً عن مؤتمر عقد بسويسرا يحمل هذا العنوان: تشويه المرأة جنسياً، يسمون عمليه الختان: تشويهاً، واصطحبت معي كتاباً صغيراً لشيخ الأزهر السابق فضيلة الشيخ: جاد الحق سأقرأ منه نصوصاً؛ حتى ألقم المخالف حجراً في جوفه، وهذه النصوص من مذهب الشافعية، والمالكية، والأحناف، والحنابلة، والظاهرية، ورأي أئمة العلم، وفقهاء الأمة، وماذا قالوا، هل هو مشروع أم ليس له أصل في الشرع؟

والحقيقة أن الأمر في هذه القضية واضح بين، ولكن لها أيد تحركها لمصالح وحسابات، سأذكر طرفاً منها.

أيها الإخوة! وحتى لا نقطع الحديث مع كتاب الله سبحانه وتعالى نعود إلى سورة المزمل، ونبدأ مع آياتها الأولى بحول الله وفضله وتوفيقه، يقول ربنا سبحانه: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا * إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا * يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا * إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا * فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا [المزمل:1-18].

نكتفي بهذا القدر من هذه السورة المباركة سورة المزمل، وهي سورة مكية، باتفاق أهل العلم، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في أول البعثة مع سورة المدثر، فما معنى المزمل؟ هل هو اسم من أسماء النبي عليه الصلاة والسلام؟ نقول أيها الإخوة الكرام: توسع قوم في أسماء نبينا عليه الصلاة والسلام، وأسماؤه توقيفية، تتوقف على النص والدليل، وهو القائل: (اسمي محمد وأحمد، والماحي الذي محي به الكفر، والعاقب الذي لا نبي بعده، والحاشر الذي يحشر الناس على قدمه يوم القيامة)، أما المزمل: فهو اسم مشتق من الحال الذي كان فيه، ومحادثة المرء باسمه أو باسم مشتق من الحال الذي هو فيه؛ للملاطفة، وترك العتاب، كما يقول العلماء.

ورد في البخاري في كتاب الصلاة، باب نوم الرجل في المسجد، البخاري والبخاري فقيه في تراجمه وفي تبويبه، جاء البخاري بهذا الباب ثم جاء بحديث فيه: (أن علياً رضي الله عنه خرج من بيته غضبان، فذهب إلى بيت الله عز وجل فنام، فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أرسل في طلبه فوجده نائماً في بيت الله فقال له: قم يا أبا تراب)، وهذه المخاطبة باسم مشتق للحال الذي هو فيه، كما قال لـحذيفة : (قم يا نومان)، والخطاب بالاسم المشتق فيه طرح العتاب، (قم يا أبا تراب)، فهو يتلطف معه، فالمزمل كما قال العلماء: الملتحف بدثاره، وهي صفة لنبينا عليه الصلاة والسلام، إذ إنه لما نزل عليه الوحي ذهب إلى بيته وقال: (زملوني زملوني)، فهدا ليس اسماً، وإنما هو اسم مشتق للحال الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ [المزمل:1-2]، طريقنا إلى تحرير الأقصى قيام الليل، طريقنا إلى إعادة شرع الله قيام الليل؛ لأننا إن لم نستطع أن نجاهد الشهوات والنفوس، فلن نستطيع أن ننتصر على عدونا، أول أمر كان للنبي عليه الصلاة والسلام قُمِ اللَّيْلَ [المزمل:2] مجاهدة، ومثابرة، وطاعة، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم الليل هو ومن معه من الصحابة كان الأمر بعد ذلك بالأمور والتكاليف الشرعية، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل:2]، ولذلك وضع البخاري في كتابه الصحيح كتاباً بعنوان: كتاب التهجد. وهو أول كتاب في المجلد الثالث، لماذا كتاب التهجد؟ لأن قيام الليل شعار الصالحين، ودأب المتقين، ومن ثم كان النبي عليه الصلاة والسلام يثب من على فراشه وثباً ويوقظ أهله، بل ذهب إلى بيت فاطمة ليوقظها بالليل هي وعلياً زوجها قال: (يا علي يا فاطمة لا تزالان نائمان، قوما للصلاة، فقال علي : يا رسول الله إن نفوسنا بيد الله، أخذ بنفسنا الذي يأخذ بنفوس الخلائق، لو شاء الله بعثنا من نومنا، فانطلق النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يرد عليه وهو يضرب فخذه ويقول: وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا [الكهف:54]).

(واستيقظ صلى الله عليه وسلم يوماً وهو يقول: لا إله إلا الله، رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، من يوقظ صويحبات الحجر)، يعني: زوجات النبي عليه الصلاة والسلام.

وقال: (ويل للعرب من شر قد اقترب، لقد فتح من ردم يأجوج ومأجوج هكذا، وحلق بأصبعه السبابة والإبهام، فقالت زينب بنت جحش : يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث).

فأصحاب المعاصي سيتسببون في إغراق السفينة، ولن نتركهم سنأخذ على أيديهم، إذا كثر الخبث وعمت الفاحشة فسينهار المجتمع.

وكان النبي عليه الصلاة والسلام: (يقوم من الليل حتى تفطرت قدماه) أي: تشققت.

وفي البخاري عن حذيفة قال: (صليت بجوار النبي عليه الصلاة والسلام بالليل -دون ترتيب ولا دعوة، وإنما عرضاً- فقرأ البقرة كاملة، فقلت: لعله يركع، فقرأ النساء كاملة، فقلت: لعله يركع، فقرأ آل عمران كاملة، فقلت: لعله يركع، وكان ركوعه نحواً من قيامه، وما مر بآية فيها ثناء إلا وأثنى على الله، ولا بآية فيها ذكر الجنة إلا سأل من فضله، ولا بآية فيها ذكر النار إلا استعاذ بالله من النار) صلى الله عليه وسلم.

وتقول أمنا عائشة: (تفقدت الفراش يوماً فلم أجد النبي صلى الله عليه وسلم بجواري -قام من فراشه دون أن تشعر به الزوجة، هذا دأب الصالحين- فتحسسته بالحجرة فوجدته ساجداً بين يدي ربه وقد ابتلت الأرض من دموعه صلى الله عليه وسلم وهو يناجي ربه قائلاً: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)، وعند البخاري عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه، وينام سدسه).

انظروا إلى واقعنا أيها الإخوة الكرام في صلاة الفجر فقط، ونريد بعد ذلك أن نحرر أرض الإسلام، وأن نجاهد، وأن نقاتل، هذا كذب في الدعوى، فنحن لم نتحرر من شهوات أنفسنا، ولذلك إخوتي الكرام انظروا إلى حال الصحابة لما نزلت هذه الآية، قاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم سنة كاملة، وما نزل النسخ إلا بعد سنة، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20] أي: طلباً للرزق، وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20]، هنا نسخ قيام الليل من الوجوب إلى الاستحباب، كما يقول البخاري في صحيحه، وكما هو الرأي الراجح عند العلماء.

أيها الإخوة الكرام! الأحاديث في قيام الليل كثيرة، قال عبد الله بن عمر كان الصحابة بعد الفجر يقصون على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياهم فيفسرها ويؤولها لهم، يقول ابن عمر: (وددت لو أني أرى رؤيا حتى أنال ذلك الشرف، فبينما أنا نائم جاءني ملكان فأخذاني وانطلقت معهما، حتى وصلت إلى حافة جهنم، فنظرت إليها فأخذني الفزع والخوف، فقالا: لا تخف أنت لست من أهلها، وإذا بها أناس أعرفهم، فقمت من نومي فقصصتها على حفصة لتقصها على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم الرجل عبد الله بن عمر لو كان يصلي بالليل -أي أنه كان يصلي ثم ترك- يقول ابن عمر : فما تركت صلاة الليل بعدها).

أيها الإخوة الكرام الأحاديث في فضل قيام الليل كثيرة ومتعددة نكتفي بهذا القدر.

قال الله تعالى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4] أي: اقرأ القرآن مرتلاً مترسلاً، على مهل، وتدبر ما تقرأ، فالتعجل بقراءته ليس من السنة، كان النبي عليه الصلاة والسلام يقيم الحروف، ويمدها، ولا يكن همك آخر السورة بقدر ما يكون همك هو التدبر والتأمل.

قال عز وجل: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، قال العلماء: والترتيل هو إعطاء كل حرف حقه ومستحقه. أي: أنك تخرج الحرف من مخرجه، وتقرأ بترتيل وبتدبر، قال ابن الجزري :

والأخذ بالتجويد حتم لازم من لم يجود القرآن آثم

ثم يقول تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5] (قولاً ثقيلاً) هناك أربعة آراء للعلماء منها:

الأول: أن الوحي حينما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم كان يتفصد جبينه عرقاً في اليوم الشديد البرودة من ثقل الوحي عليه، يقول زيد بن ثابت : (كنت أجلس بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، وقدمه تعلوا قدمي فأنزل الله عليه من سورة النساء: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:95]، فقال ابن أم مكتوم -وكان رجلاً أعمى-: يا رسول الله إني أحب أن أجاهد ولا يمنعني من الجهاد إلا أنني أعمى، فكيف لا أستوي مع المجاهد، فأنزل الله: غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95]يقول زيد : فكادت قدمي تتحطم من ثقل رسول الله)، هذا من ثقل الوحي الذي ينزل على النبي عليه الصلاة والسلام.

قال تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5].

وقال تعالى: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، فما بالنا نسمع القرآن والقلوب لا تتحرك، أصبحت قلوبنا أقسى من الجبال في صلابتها، قلوبنا تجمدت وتحجرت، ماذا حدث للقلوب أيها الإخوة الأحباب؟ لقد قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سورة مريم، فوصل إلى قول الله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58]، فنزل وسجد وسجد الناس معه، فصعد بعد ذلك، فنظر إلى الوجوه فلم يجد أحداً يبكي، فقال: أيها الناس هذا السجود فأين البكاء؟!

الله سبحانه يقول: (خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا) أنتم سجدتم لكن أين البكاء؟ صفتكم ليست هي الصفة المطلوبة، من جمود العين وقسوة القلب، اسمع لـعبد الله بن الشخير يقول: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، فسمعت لصدره أزيزاً كأزيز المرجل من البكاء من خشية الله)، أزيز المرجل: هو الماء الذي يغلي، هكذا كان يسمع لصدر النبي عليه الصلاة والسلام من البكاء من خشية الله، لم يبك بصوت مرتفع، إنما كانت الدموع تنحدر على خده عند قراءة القرآن، وهذا شعار المتقين ودأب الصالحين، قال النبي صلى الله عليه وسلم لـابن مسعود : (اقرأ علي القرآن، قلت: يا رسول الله أقرؤه عليك وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمع القرآن من غيري، فقرأ ابن مسعود من سورة النساء، حتى وصل إلى قول الله تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42] فقال النبي لـابن مسعود : حسبك، قال: فنظرت إلى وجهه فإذا عيناه تذرفان الدموع)، والشاهد من النص أن ابن مسعود لم يدر ببكاء النبي صلى الله عليه وسلم إلا لما نظر إليها، فلم يسمع صوت بكاءه، إنما نظر إلى وجهه فوجد دموع النبي صلى الله عليه وسلم على خده.

القول الثاني للعلماء: أنه ثقيل في أحكامه، في أوامره في نواهيه، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، أي: أن أوامر القرآن كبيرة، لكن على العصاة، أما الذين خففها الله عليهم يستقبلون الأوامر في سعة ورحابة صدر وخفة.

القول الثالث للعلماء: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5] أن قيمته ليس ككل الأقوال، وإنما له قيمة عظيمة.

يقول الله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا [المزمل:6] أي: قيام الليل أشد موافقة لنفسك وللسانك ولقلبك، فعبادة الليل أفضل من عبادة النهار، فإن الليل تسكن فيه العيون، وتهدأ فيه الأصوات، ويقوم العبد في هدوء الليل وسكونه بين يدي ربه، يقوم طويلاً يناجي ربه ويسبحه، ويسجد ويركع بين يدي ربه عز وجل، وهذه نعمة كما قال عنها بعض السلف: نحن في نعمة لو يعلمها الملوك وأبناء الملوك لقاتلونا عليها بالسيوف. إنها نعمة الطاعة، ولذة المناجاة، ولذة السجود والركوع والتسبيح والدعاء.

قال الله في حق عباده المتقين: كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18].

وقال الله في وصفهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16] خوفاً من ناره، وطمعاً في جنته.

وقوله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6] أي: أشد إخلاصاً في العبادة، إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:7] (سبحاً) أي: وقت النهار طويل تستطيع فيه أن تنهي الأعمال، وأن تنام لتتزود لقيام الليل، ولذلك يقول ربنا: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ [الشرح:7]، والمعنى: إن فرغت من أعمالك ومن شئونك الدنيوية فانصب إلى عبادة ربك.

فقول الله عز وجل: إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا [المزمل:7] في النهار عمل وراحة، فإذا جاء الليل فقل مرحباً بحبيبي الذي أناجي فيه ربي، وأخلو فيه مع نفسي، كان البخاري رحمه الله يقسم الليل إلى ثلاثة أقسام: قسم ينام فيه، وقسم يصلي فيه، وقسم يكتب فيه الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وجاء في ترجمته: أنه انطفأ السراج يوماً وهو يكتب الحديث في آخر الليل فجلس حزيناً على ضياع الوقت، فأضاء الله له أصابعه نوراً، فكتب عليها حديث رسول الله. وأنا أعلم أن معترضاً سيقول: كيف ذلك؟ فأقول: كرامات الأولياء ثابتة، فـعباد بن بشر وأسيد بن حضير كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخرجا في ظلمة الليل بعد العشاء منطلقين إلى بيتيهما، وكان مع كل واحد عصا فلما خرجا في الظلام أضاء الله عصا أحدهما فأضاءت لهما الطريق، فلما أرادا الانفصال أضاءت العصا الأخرى.

فهذا ليل الصالحين، فكيف ليلنا الآن؟ أين تقضى ساعات هذا الليل؟ تقضى في سهرة حمراء إلى طلوع الفجر، نسأل الله العافية، هذا حال الأمة، حتى إنهم حينما يعرضون المسرحية يقولون: إن بها ألف ضحكة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كثرة الضحك تميت القلب)، فهم يدعون إلى موت القلوب، ويتنافسون في إماتة القلوب، إنها حرب بين أهل الحق وأهل الباطل، إنها حرب بين المتقين والمفسدين: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:11-12].

يقول الله عز وجل: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل:8] (تبتل) يعني: انقطع، ولعل معترضاً يقول: النبي صلى الله عليه وسلم نهى عثمان بن مظعون عن التبتل، فكيف يأمره الله بالتبتل؟ والجواب : أن التبتل هنا بخلاف التبتل في الحديث، فالجهة منفكة؛ تبتل ابن مظعون عن الزواج، وعن شئون الدنيا المباحة، أما التبتل في الآية: فهو الانقطاع عن عبادة الأوثان والأصنام إلى عبادة الواحد الديان.

فقوله: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا [المزمل:8] أي: اخلص له العبادة وحده لا شريك له؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا هو الخالق الرازق، الذي يملك جلب النفع، ودفع الضر، فلا تصرف العبادة إلا له، اجعل العبادات كلها له سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا [المزمل:8-9] أي: توكل عليه وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فيا أيها الإخوة الكرام! إن الإسلام يعاني من فريقين:

الفريق الأول: ينتسبون إليه وهم من جلدتنا، ويتحدثون بألسنتنا، ولكنهم يطعنون في البنيان من الداخل.

الفريق الثاني: هم أعداؤنا، وعداوتهم ظاهرة واضحة: وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20].

إن قضية الختان قضية يسيره، بسطها كل الفقهاء في كتبهم، لكننا أحياناً نغض الطرف عما قالوا، وأذكر لكم معنى الختان أولاً، ثم رأي الأئمة الأربعة فيه، ثم أقوال أهل العلم قاطبة، ثم الأدلة على مشروعية الختان في حق الذكور والإناث.

الختان: من ختن، وهو قطع القلفة من الذكر، والخفض عند الأنثى، وهو القطع من الجزء الذي يعلو مجرى البول بقدار عرف الديك، بشرط أن يكون القطع للأنثى يسيراً مهذباً، حتى لا يعرضها لبرود جنسي، لذلك الخفض للمرأة، والقطع للذكر كما قال الفقهاء، هذا هو تعريف الختان.

أما عن أقوال الفقهاء فاسمعوا ماذا قال أئمة الإسلام:

قال الشافعي : الختان واجب للذكور والإناث.

وقال أحمد بن حنبل : هو واجب للذكور، ومكرمة في حق الإناث، ورواية أخرى عنه: الوجوب.

وقال مالك وأبو حنيفة : هو سنة للرجال، مكرمة للنساء.

إذاً: نستطيع أن نقول: إن أئمة الإسلام ذهبوا إلى مشروعيته، إنما الخلاف في الحكم، هل هو واجب أم مستحب؟ ولم يقل أحد: إنه غير مشروع أو أنه ليس من الدين. اسمع إلى هذا الحديث المتفق عليه: (من سنن الفطرة عشر)، والفطرة هنا بمعنى الطريقة أو السنة، ليس بمعناها عند الأصوليين وإنما هي بمعنى الطريقة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن سنتي فليس مني) .

قال صلى الله عليه وسلم: (من سنن الفطرة: الختان، والاستحداد، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وحف الشارب، وإعفاء اللحية)، هذه من سنن الفطرة، فالختان من سنن الفطرة، أي: الطريقة التي هي شعيرة من شعائر هذا الدين.

لذلك اسمع إلى ما قال الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر، ومن هنا اتفقت كلمة الفقهاء على أن الختان للرجال والنساء، وأنه من فطر الإسلام وشعائره وأنه أمر محمود، ولم ينقل عن أحد من فقهاء المسلمين -فيما طالعنا من كتبهم- قول بمنع الختان للرجال والنساء، وشيخ الأزهر يقول: لم ينقل عن أحد من فقهاء المسلمين أنهم قالوا بمنع الختان. واسمع إلى ما نقل من كتاب (الاختيار شرح المختار) في فقه الأحناف: وأشير هنا إلى ما قاله الإمام أبو حنيفة: إنه لو اجتمع أهل مصر -يعني: أهل بلد- على ترك الختان قاتلهم الإمام؛ لأنه من شعائر الإسلام وخصائصه، هذا كلام أحد الأئمة الأربعة، وبعد ذلك تعقد المؤتمرات من السافرات، والعلمانيات والمبنطلات يتحدثن في مشروعيته، ما لكم أنتم، وما لدين الله، دين الله له العلماء والأئمة الأعلام، إن كنتم شافعية عودوا إلى فقه الشافعي إن كنتم مالكية ها هو فقه الإمام مالك ، ولكنكم رفضتكم موائد الفقه، أكلتم من موائد إخوان القردة والخنازير.

هناك ضوابط شرعية في ختان الإناث: وهي أنه يجب على ولي الأمر أن يعرض ابنته على طبيبة مسلمة، فإن قررت أن الختان في حقها مكرمة أجرت لها، وإن قررت أنه لا ختان لها، فهذا هو الأولى؛ لأن هناك حالات يشرع لها الختان، وحالات لا يشرع لها الختان، فحينما يزيد البظر عن طول معين فلابد من تهذيبه، لأنه أحضى للزوج، وأنضر للوجه، وتهذيب للشهوة، أما أن تترك البنت هكذا حتى لو كان بظرها طويلاً دون ختان، قال الأطباء المسلمون: إن المرأة غير المختونة عصبية المزاج، حادة الثورة، تثار بأقل فعل للاحتكاك، لذلك قال العلامة ابن تيمية في فتاويه: وكان الرجل يعير قديماً إن لم تكن أمه مختونة، فيقال له: يا بن القلفاء. يعني: أن أمك تتطلع إلى الرجال أكثر، فإن قال قائل: أحاديث الختان ضعيفة، فأقول: بوب البخاري في كتاب الغسل: باب التقاء الختانين. أي: ختان الرجل وختان المرأة، (إذا مس الختان الختان وجب الغسل) قد يقول قائل: هو يقول هذا من باب التغليب والتأدب، فأقول: الحديث واضح سنن الفطرة عشر وذكر منها: (الختان)، والله سبحانه يقول: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].

وللعلامة ابن القيم كلام نفيس في كتاب (تحفة المودود بأحكام المولود) نقله عن علمائنا، فأريد أن تعودوا إليه.

والعلماء يبحثون القضية، هل الأمر مشروع أو غير مشروع، والكلام لشيخ الأزهر الأسبق، وقد أصدر كتاباً قدم له الدكتور علي الخطيب بكلمة قال فيها: وكم للقتال من أساليب، ومن أحد أساليب القتال هو إنكار شعيرة من شعائر الدين، ألا وهي الختان وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ [البروج:20] وجاء الشيخ بأقوال أئمة المذاهب الأربعة وذهب إلى مشروعيته.

إن قال قائل: هو غير مشروع، فأقول له: اخسأ هل أنت أفقه من الشافعي ؟ هل أنت أفقه من مالك ؟! هل أنت أفقه من ابن حنبل ؟! نحن نفهم القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، أم أن فقهاء المذاهب الأربعة لم يفهموا النصوص وفهمتها أنت يا رويبضة، يا لكع، وتريد أن تستنبط من النصوص ما عجز أئمة المذاهب عن استنباطه، والشافعي قال بوجوبه، وأحمد قال باستحبابه أو وجوبه، ومالك وأبو حنيفة قالا باستحبابه، أم أن علماء الأمة كانوا لا يفهمون وأنت الذي تفهم، نسأل الله العافية.

أيها الإخوة الكرام الأحباب الأمر واضح بين، فالذين ينادون بمنع الختان مطلقاً يريدون غير ما نريد، يريدون للفاحشة أن تسود في الأمة.

أسأل الله أن يعيننا على أن ندحض آراء المستشرقين والعلمانيين.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان.

اللهم اجعلنا من الراشدين.

اللهم استر عوراتنا، واحفظ فروجنا، وحجب نساءنا، وعليك يا رب بأعدائنا.

اللهم وارزقنا قبل الموت توبة، وعند الموت شهادة، وبعد الموت جنة ونعيماً.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.

اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا.

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، إنك على كل شيء قدير، وأنت حسبنا ونعم الوكيل.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.