تفسير سورة الكهف [32-38]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32].

أي: اضرب يا محمد مثلاً رجلين أحدهما صالح والآخر طالح، فضرب المثل برجلين صديقين، وقيل: أخوين من بني إسرائيل، وقد ورثا عن أبيهما ثمانية آلاف دينار ذهبية، فأخذ كل واحد منهما نصفها أربعة آلاف، فاشترى الأول بالألف دينار بستاناً، ففصله وجعله بستانين، كما وصفه الله بقوله: وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ [الكهف:32]، فالجنتان اللتان جعلهما الله لهذا الرجل زرع فيهما نخيلاً في جميع جوانبهما، (وحففناهما) يكون في الجوانب، وكان ذلك بنخل، فزرعهما كروماً وأعناباً، وحفهما بالنخيل من جميع أطرافهما وجوانبهما، وجعل بين الجنتين زرعاً من قمح أو شعير أو ما إلى ذلك من أنواع الزروع، وشق فيها نهراً فزاد البستان والجنة جمالاً وبهاء وكمالاً.

وهاتان الجنتان (آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً)، أي: آتت أرزاقها بالكامل، وثمراتها وزرعها، وما فيها من زرع وأعناب ونخيل، (ولم تظلم منه شيئاً) أي: لم تنقص منه شيئاً.

وأخذ الرجل الثاني ألفاً، وقال: اللهم إني أشتري منك داراً في الجنة بهذه الألف، وتصدق بها على المحتاجين والأقارب والمساكين، وإذا بالأول يصرف على البستان ألف دينار أخرى، فيأتي الثاني يقول يا رب: هذه الألف الثانية أثث بها هذه الدار عندك في الجنة من أنواع الآرائك والبسط.

وتزوج الأول بالألف الثالثة، فجاء أخوه الآخر وقال: يا رب! هذه الألف الثالثة زوجني بها إحدى نساء الجنة، وذهب بالألف الثالثة يتصدق بها.

وأخذ الأول الألف الرابعة والباقية معه فاشترى لزوجته حلياً وفرشاً وأثاثاً ومراكب وخدماً وحشماً وما إلى ذلك، فقال الآخر: اللهم وهذه الألف الرابعة: أثث لي بها زوجتي في الجنة، وصرف الأربعة الآلاف ولم يبق له شيء، فمضى زمن وأترف الأول، فقد أخذ بستانه يزداد ثمرات وخيرات وزروعاً وتمراً وعنباً، والمياه تتدفق في جميع جوانبه، وإذا بالآخر يضطر يوماً إلى أن يحتاج لأخيه، فذهب إليه، فقال: ما بالك؟ قال: يا أخي أنا أحتاج بعض مالك، قال: وأين مالك الذي ورثته من أبيك، قال: تصدقت به لله رجاء ثواب الله في الآخرة، فقال: أأنت تؤمن بالآخرة؟ قال: نعم. قال: والله! لا أعطيك شيئاً وأنت تؤمن بهذا الهراء الذي لم يأت به أحد ولم يقله أحد.

فذكر الله محاورة هذين الأخوين بعد أن استغنى الأول وبعد أن ازداد إيمان الثاني، فرعاه وحماه ربه، وما أعد له في الآخرة أعظم وأعلى شأناً.

فقال تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ [الكهف:32]، لسان الذي أعطي زرعاً وجنتين لسان الفاجر الذي تمتع في الدنيا في أول أيامه، ثم أبى إلا الشرك والكفور، أبى إلا الإعجاب بنفسه، وأنه ما أغناه الله إلا لمزيد مكانته ومقامه عند ربه، وهو لم يشكر الله على ذلك، بل إنه لم يزدد به إلا شركاً وكفراً وعناداً، وأما الآخر حتى لو لم يغنه الله فهو مؤمن ومتمسك بربه، ولن يعبد غيره.

وهذا المترف الغني في الدنيا والذي لم يؤمن بالله، ولم يعمل بما يعمل به المؤمنون مثله كمثل صاحب الجنتين، ملك دهراً ثم أزال الله كل ما عنده، ومثل المؤمن الصابر في الدنيا الذي افتقر إلى الله وآثر ما عند الله في الآخرة على ما أعطاه في الدنيا رجاء رحمته ورضاه، ورجاء الجنة وهو لم يكن فقيراً في الدنيا، ولكن رغبته وخوفه، واعتماده على الله يوم القيامة جعله يعرض عن دنياه ونعيمها إلى الآخرة ونعيمها.

قال تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا) أي: مثالاً لهم بين الكافر والمؤمن.

وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف:32] قالوا: أخوان أو قالوا: صاحبان، والآية ليس فيها تصريح بأنهما أخوان؛ لأن كل واحد منهما يقول للآخر صاحبي، ولم يرد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتأكيد، لكنها روايات وردت عن الصحابة والتابعين، وقد تكون صحيحة وقد تكون عن إسرائيليين، والحكمة ليس في كونهما أخوين، ولكن في كون أحدهما آثر الدنيا والآخر آثر الآخرة.

جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ [الكهف:32] هاتان الجنتان زرعهما بالأعناب، والأعناب جمع عنب، أي: أنها جمع الجمع، والمفرد: عنبة.

وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ [الكهف:32]، وحف الجنتين من جميع جوانبها، فالحفاف هو: الجانب، حفها بالنخيل، فزين بها الجنتين، واستفاد واستثمر أيضاً من التمر الناتج عن النخيل.

وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا [الكهف:32]، أي: جعل بين النخيل، وبين الجنتين وما فيهما زرع من القمح أو الشعير أو غيرهما.

قال تعالى: كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ [الكهف:33]، أي: هاتان الجنتان آتت أكلها أي: أثمرت وأينعت وأخصبت فقد عني بها سقياً وزرعاً، تنقية لفضول الخضرة والحشيش فـآتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف:33] أي: لم تنقص من هذه الثمرات شيئاً، فأعطت ذلك بالكامل، أي: أغنت صاحبها، وجعلته مترفاً معجباً.

وفجرنا خِلالَهُمَا نَهَرًا [الكهف:33]، وقرئت: َفَجَّرْنَا [الكهف:33] أي: شققنا في الأرض نهراً، وفجره من الأرض، فقد حفر على آباره، وعلى عيونه وكانت المياه قريبة من السطح، فأصبح جارياً يسقي به الجنتين.

قال تعالى: وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ [الكهف:34] وقرئ: (ثُمر).

أي: كان لهذا البستان باعتباره جميعه، أو صاحب البستان كان له ثمر.

وثمر: جمع ثمرة، أي: هذه الجنتان أعطت من ثمارها خيراتها، وقد قال تعالى: وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا [الكهف:33] أي: لم تنقص، فقد أعطت ذلك بالكامل وقرئ (ثُمر) والثُمر معناه: الأموال بأشكالها، أي: وكان له أموال غير هذا البستان من الخيل والحمير والجمال وأنواع المواشي، والدواب، وأنواع التجارة، وكان له أموال ينميها فهو غني بالبستان وغني بأشياء أخرى، والمؤدى في الكل: أنه كان غنياً، نمى أمواله وساعده الحظ، فلو شكر الله على ذلك لأنعم عليه وزاده، ولكن العبرة بالخواتم فقد كانت خاتمته سيئة، فجاءه أخوه أو صاحبه يطلب رفده وحاجته، فقال له: أين ذهبت بالآلاف التي ورثتها؟! وإذا بهذا الرجل الصالح يعطيه درساً في الكفر والشرك، في الكبرياء والجبروت والتعالي على الله وعلى أخيه ورحمه، أو على صاحبه المؤمن.

فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:34]، فلم يقل الله: قال لأخيه، وإن كان لا يلزم قيل أخوه وقيل: مجرد صاحب، والأغلب أنه مجرد صاحب.

فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، أخذ يتيه عليه بماله بعد أن جاء يطلب رفده فقال: أنا أكثر منك مالاً، عندي من المواشي، ومن الزراعة، ومن الذهب، ومن الفضة، ومن ومن..

(وأعن نفراً)، أي: أكثر زوجات وأولاداً، وأكثر خدماً وحشماً، فالعادة في المترفين والأغنياء أنه كلما ازداد المال زادت الزوجات، وكلما ازدادت الزوجات زاد الأولاد، وكلما ازداد الأولاد زاد الخدم والحشم والمراكب وما يتبع ذلك، فأخذ يتيه عليه مدلاً بماله وعزته بين قومه، يقول له: لست فريداً وأبتر، ولست غريباً.

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ [الكهف:35]، أي: أخذه معه فدخل جنته وأدخل صاحبه، ليدل عليه بهذه الجنة التي وصفها الله أنها آتت أكلها ولم تنقص منه شيئاً، وكان من جمالها أن مياه الأنهار تتدفق وتجري خلالها، وكان من جمالها أنها حفت بالنخيل، فهي في منتهى ما يكون من الجمال.

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ [الكهف:35] لكونه مشركاً ظلم نفسه بالشرك، وسيصرح بالشرك لصاحبه، قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:35-36]، فإذا بهذا المشرك الظالم لنفسه، أخذه من التيه والعجب ومن النكران لما أغناه الله به، وأكرمه به، فعوضاً عن أن يشكر ربه ونعمته أخذ يتكبر على صاحبه ويدل عليه بجنته، ثم يقول له: ما أظن أن تبيد هذه أبداً، أي أنها لن تفنى، ولن تنتهي فقد جملتها وزرعتها وحرثتها وشققت أرضها أنهاراً ومياهاً.

وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً [الكهف:36]، أي: ولا أظن الساعة ستأتي، ولذلك لا مسئولية عما صنعت، إن أعطيت فمن كرمي، وإن منعت فمن حقي، ولذلك أنا محظوظ في دنياي، وليس هناك بعث ولا نشور ولا آخرة كما يقول: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي [الكهف:36]، وهذا يدل على أنه جرى بينهما حديث في التوحيد، وأن الآخر عندما طلبه أن يتصدق عليه أو يحسن إليه أو يسلفه، قال: أين مالك الذي ورثته معي؟ قال: جعلته لله لأجده عنده يوم القيامة.

والآخر يعتقد أنه لا قيامة ولا بعث، وأعلن الشرك بالله، وأعلن التيه بما يملك، ثم زاد فقال له: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي [الكهف:36]، أي: لئن كان هناك آخرة، ولئن كان بعث ونشور كما تزعم، لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، فهو يزعم غروراً وجنوناً وكفراً وإصراراً وبلاءً من الله له أنه لا آخرة ولا بعث، ويقول لصاحبه مجادلاً: وعلى فرض أن هناك بعثاً فأنا محظوظ عند ربي في الدنيا، فكما أعطاني في الدنيا فإنه سيعطيني يوم القيامة أحسن منها.

وإذا بالآخر يجيب: قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ [الكهف:37] والمحاورة هي: المحادثة والمذاكرة وتبادل القول والكلام، أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37] يا هذا! ما الذي دهاك وما الذي أصابك؟! أبعد أن أكرمك الله بالعافية وبهاتين الجنتين تكفر به وتقول: لا بعث ولا نشور، وتزداد تألهاً على الله وافتراءً عليه، كيف هذا، أكفرت بالله وهو الذي خلقك في الأصل من تراب؟!

فقد خلق أباك الأول وجذرك الأول من تراب، ومنه خلق أبونا الأول آدم عليه السلام، ثم بعد ذلك سلسلك من نطفة من ماء مهين، أتتعاظم بهذا الماء المهين؟! أتتكبر على ربك وعلى خلقه وعلى عباده؟! أتشرك بالله وتكفر به؟!

قال له صاحبه وهو يحاوره: أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ [الكهف:37] وهو الله جل جلاله، مِنْ تُرَابٍ [الكهف:37] أصل آدم فهو مخلوق من تراب ثم من نطفة، ثم بعد التراب توالدنا أباً وأماً من نطفة من الأصلاب إلى الأرحام.

ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37] أي: جعل لك جوارح: النظر، والكلام، والسمع، والبصر، وجعلك سوياً ولم يشوهك، ولم يعم منك البصر، ولم يصم منك الأذن، ولم يجعلك تمشي زحفاً، ولم يقعد حواسك، ولم يمرضك، أهذا جزاء النعمة؟! أهذا جزاء الله منك؟! لقد خلقك وأكرمك وسواك بشراً سوياً، وجعلك جميل التقاطيع والخلقة، ورزقك من خيراته، ومن أمواله، ومع ذلك تأبى إلا الشرك والكفر، وأنه لا بعث ولا نشور!

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:38]، (لكنا) بمعنى: لكن أنا، ودمجت في كلمة لالتقاء الساكنين فأصبح يُنطق بها كما رسمت في المصحف، وتأويل الكلام: لكن أنا الله هو ربي، فإن كان ربك الشيطان فأنا ربي الله، وإن كنت تنكر البعث فأنا أومن بالبعث وبما قاله الله وأتى به الأنبياء، هكذا تقدير الكلام.

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي [الكهف:38] أي: أعترف بأنه خلقني من تراب، ثم من نطفة، ثم سواني رجلاً، ثم سيبعثني يوم القيامة ويجازيني على يقيني وعلى إيماني بما يجازي به المؤمنين.

لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:38] أي: معاذ الله أن أفعل فعلك، أو أصنع صنيعك، أو أن أشرك بربي أحداً من الخلق، فالله الخالق، والله الرازق، والله الباعث، وكل ما تقوله إفك وضلال، وهذا هو كلام الظالمين لأنفسهم، والمشركين بربهم.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة الكهف [62-70] 2026 استماع
تفسير سورة الكهف [89-98] 1963 استماع
تفسير سورة الكهف [20-22] 1927 استماع
تفسير سورة الكهف [1-8] 1891 استماع
تفسير سورة الكهف [98-102] 1890 استماع
تفسير سورة الكهف [60-62] 1824 استماع
تفسير سورة الكهف [28-31] 1763 استماع
تفسير سورة الكهف [56-59] 1701 استماع
تفسير سورة الكهف [39-45] 1654 استماع
تفسير سورة الكهف [23-28] 1628 استماع