خطب ومحاضرات
تفسير سورة الزمر [53-59]
الحلقة مفرغة
قال الله جل جلاله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
هذه الآية الكريمة هي أرجى آية في كتاب الله، هي آية تدع الإنسان يرجو رحمة ربه ولا يقنط منها مهما صدر عنه من ذنب وجريمة.
فبعد أن قص الله علينا حال المؤمنين ثم حال الكافرين ذكر في هذه الآية الكريمة رحمته الشاملة، فذكر أنه يغفر الذنوب جميعاً ولو كانت ملء السموات والأرض لمن جاءه تائباً مستغفراً.
فقوله: قل ، أي: قل يا رسول الله! ونادِ عبادي، يا عباد الله! لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً.
والمعنى: يا محمد، ناد الخلق كلهم مؤمنهم وكافرهم، ناد الذين أسرفوا على أنفسهم وتجاوزوا الحد في الذنوب، وقتلوا النفس التي حرم الله، وكفروا بالله وجعلوا له شريكاً، وظلموا الناس، قل لهؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم: لا تقنطوا أي: لا تملوا ولا تيأسوا من رحمة الله ، ومن عفوه ومغفرته، إن الله يغفر الذنوب جميعاً ، سواء كانت من كافر أو كانت من مؤمن أو كانت من عاص، فجميع تلك الذنوب يغفرها الله؛ لأنه هو الغفور الرحيم.
والغفور: صيغة مبالغة، أي: كثير المغفرة والستر لذنوب عباده.
والرحيم: الذي يرحم عباده التائبين المستغفرين؛ ولذلك يقول بعد: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54] أي: توبوا إلى الله وارجعوا إليه تائبين مستغفرين نادمين على ما صدر منكم.
وهذه الآية قال عنها عبد الله بن مسعود : هي آية الفرج للناس كلهم كافرهم ومؤمنهم.
وقال علي كرم الله وجهه: هي أعظم آية وأرجى آية في كتاب الله أي: أكثر الآي رجاءً وطمعاً في رحمة الله للمذنبين العصاة المخالفين.
ذات مرة خطب عليه الصلاة والسلام على المنبر، وذكر هذه الآية حتى اهتز فرحاً وارتج المنبر، حتى قال ابن مسعود : لقد ظننت أن المنبر سيخر برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (ما أود أن لي الدنيا بحذافيرها وألا تكون نزلت هذه الآية علي).
جاء عن أنس بن مالك وعن أبي أيوب الأنصاري وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهم فيما رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لو أن أحدكم أتى بذنوب ومعاص ملء السماوات والأرض ثم تاب إلى الله وندم لغفر الله له).
ثم قال: (ولو لم تذنبوا ثم تتوبوا وتستغفروا لأتى الله بأقوام يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم، ثم تلا هذه الآية الكريمة: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ... [الزمر:53]) الآية.
فالله جل جلاله هو التواب الغفور الرحيم، أخبرنا بهذه الآية ونحن ما زلنا أحياء، فهو ينصحنا ويوجهنا ويدخلنا في رحمته، ويدلنا على الطريق التي نتبعها ليغفر لنا خطايانا.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (يا رسول الله! لقد غدرت غدرات، وفجرت فجرات في الجاهلية، فهل لي من مغفرة؟ قال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، وأشهد أنك رسول الله، قال: لقد غفر لك على ما كان منك) .
وجاء أقوام وذكروا لرسول الله أنهم زنوا وقتلوا وكفروا وأشركوا؛ هل لهم من مغفرة إذا تابوا، فأنزلت هذه الآية: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53].
والقنوط: اليأس، ولا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
وقف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على واعظ يعظ ويعلم، فوجده يتكلم عن النار وسلاسلها وعذابها وما فيها من مقت وغضب، فقال: يا مذكر! لا تقنط الناس من رحمة الله، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الإسلام يجب ما قبله) ، وقد وعد الله جل جلاله المستغفرين التائبين أن يغفر لهم وأن يتوب عليهم، وذلك معنى قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].
فالله لن يغفر الشرك إلا لمن كان حياً ثم تاب من شركه وأناب وعاد للإيمان والتوحيد، أما من مات على الشرك وعلى الكفر فلا مغفرة له البتة، ولو أتى بملء الأرض ذهباً وبمثله معه فداءً فلن يغفر الله له.
فقوله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] أي: يا أيها الذين أذنبوا وعصوا وأفرطوا في المعصية، يا من ارتكبت من الكبائر أكبرها وأفظعها وأعظمها، لا تقنطوا ولا تيأسوا من رحمة الله؛ إن الله يغفر الذنوب جميعاً كبائرها وصغائرها، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53] أي: يغفر الذنب ويرحم المذنب بالمغفرة.
قال تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54].
(أنيبوا) أي: ارجعوا فتوبوا واستغفروا ربكم.
والمعنى: يا أيها الذين أسرفوا على أنفسهم وارتكبوا من الكبائر أفظعها وأعظمها؛ إنكم إذا رجعتم إلى الله مستغفرين تائبين فالله يغفر الذنوب جميعاً، وإذا استسلمتم لله ولوجهه فأطعتم أوامره، واجتنبتم نواهيه، واتخذتم رسول الله موضع الأسوة، وائتمرتم بما أمركم به، واجتنبتم ما نهاكم عنه، يوشك أن يغفر الله لكم ذنوباً ماضية وحاضرة، ويتوب الله على من تاب.
قوله: (أنيبوا): من الإنابة، أي: ارجعوا إلى الله تائبين مستغفرين.
وقوله: (وأسلموا له) أي: استسلموا لقضائه ولرسله ولكتبه، وأسلموا وجوهكم لله مطيعين الأوامر، مجتنبين النواهي.
مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54]، من قبل أن تموتوا ومن قبل ألا تستغفروا فيفجأكم العذاب ولن ينصركم من عذاب الله أحد؛ لأنكم على الشرك وعلى الذنب.
ثبت في صحيحي البخاري ومسلم : أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعاً وتسعين نفساً ثم جاء إلى راهب وقال له: إني قتلت تسعاً وتسعين نفساً فهل لي من توبة؟ قال: لا، فقتله وأتم به المائة.
ثم ذهب فوجد آخر فقال له: هل لي من توبة؟ قال: ومن يحول بينك وبينها؟! إن الله يغفر لمن استغفر، ويتوب على من تاب، اذهب إلى قرية كذا ففيها قوم يعبدون الله ويستغفرونه، وكن معهم واستعن بأعمالهم وعبادتهم، فذهب وإذا به يموت في الطريق، فجاءته ملائكة العذاب وملائكة الرحمة يتنازعون فيه، تقول ملائكة العذاب: هذا قد فعل كذا وكذا من عظائم الأمور، وإزهاق الأرواح، نحن نتولاه ونحن الذين نقوم بعذابه.
فقالت ملائكة الرحمة: الرجل قد تاب وأناب وندم على ما كان منه وهو آت إلى القرية ليتعبد الله مع العابدين الصالحين، فظهر بينهم ملك في شكل رجل، فحكم بينهم فقال: انظروا إلى الطريق، فإن كانت أقرب لقرية العابدين فهو من أهل الصلاح والتقى، ولتأخذه ملائكة الرحمة، وإن كان لا يزال قريباً من القرية التي عصى الله فيها فهو من أهل العذاب، فقاسوا الطريق ووجدوه إلى قرية العابدين الصالحين أقرب، فأخذته ملائكة الرحمة وغفر الله له ذنوبه.
وكذلك أبواب الرحمة مفتوحة ولا يتركها إلا مخذول، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (المؤمن واهٍ راقع، وخيركم من مات على رقعه).
واهٍ: يوهي الثوب إلى أن يتمزق، ثم يعود فيرقعه ويلبسه وهو مرقع، وهكذا الذنب إذا أخذ دينه تمزق الدين، فإذا تاب وأناب أخذ يرقعه ويعيد لدينه سلامته، فيكون كالثوب الذي يهي ثم يصلحه ويرقعه، ومن مات على رقع ثوبه من الذنوب والآثام فهو المؤمن الصالح.
ومن الإنابة الاستسلام لأمر الله واجتناب نواهيه، قال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].
وقد فهم بعض الفقهاء من هذه الآية: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ [الزمر:54]، إعادة الصلوات الفوائت، فمن فاتته صلوات يرجع إليها ويعيدها ويستغفر الله على ما مضى من فعله وذنبه.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله! إن أبي يريد الحج وهو شيخ كبير فان، متى يركب الراحلة يقع ولا يستطيع التماسك عليها، أأحج عنه؟
وجاءه رجل فقال: يا رسول الله! إن أمي ماتت وعليها حج فلم تحج، أأحج عنها؟ ما كان الجواب لهما؟ (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم، قال: فأدوا الله، فدين الله أحق بالوفاء)، فجعل الله ذلك الركن من الإسلام ديناً على صاحبه إذا مات ولم يؤده، فلا بد أن يؤديه كما يؤدي المدين ما عليه من ديون.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (أدوا الله فدين الله أحق بالوفاء)، فيه أنه جعل ترك الفرائض كالصلاة والحج ديناً في ذمة من مات وقد ترك ذلك، أو مرض مرضاً عضالاً وعجز عن أداء ذلك، فالصلاة لا بد أن يؤديها على كل حال، فإن فاتته فليعوضها وليؤدها قضاءً، والحج إذا عجز عنه حج عنه غيره من ولد أو قريب أو تلميذ، وهو مفهوم قوله تعالى: وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ [الزمر:54].
فارجعوا إلى الله بالقيام بفرائضه واستغفاره من الذنوب وأسلموا وجوهكم له؛ ليغفر الله لكم ما مضى من ذنوبكم، فهؤلاء الذين أسرفوا على أنفسهم تعهد الله لهم بأن يغفر ذنوبهم جميعاً إن هم استغفروا وأنابوا وأسلموا وجوههم لله.
وأكد هذا نبينا عليه الصلاة والسلام حين قال: (أدوا الله فدين الله أحق بالوفاء)، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ديناً إلهياً، ولا بد من أداء الديون، فدين الله أحق بالوفاء، وأحق بالتقدمة، وهذا منها.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:54]، أي: فبادروا في الحياة قبل الممات، بادروا بالتوبة والاستغفار والندم على ما صنعتم من ذنوب وآثام من قبل أن يأتيكم العذاب، ومن قبل أن تموتوا وأنتم على الشرك والعصيان، ولن تجدوا ناصراً ولا مؤازراً، ولن تجدوا من يخرجكم من عذاب الله وعقابه.
ولذلك فإن الله ينبهنا ويوجهنا ونحن لا نزال أحياء إلى أن نبادر بالطاعات والاستغفار والتوبة من ذنوبنا الماضية، وأن نئوب إلى الله راجعين، من قبل أن يحدث الموت والعقاب ثم لا نجد نصيراً ولا مؤزراً ولا مدافعاً.
قال تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:55].
يقول ربنا جل جلاله: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر:55]، وأحسن ما أنزل إلينا كتاب الله القرآن الكريم، وقد نزلت كتب سابقة: نزل الزبور على داود، ونزلت التوراة على موسى، ونزل الإنجيل على عيسى، عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وأحسن تلك الكتب، وأكملها، وأجمعها وأنفعها لصلاح الناس كلهم في دنياهم وآخرتهم؛ كتاب الله الأخير القرآن المنزل على قلب نبينا عليه الصلاة والسلام.
فالقرآن أحسن ما أنزل إلينا من ربنا وأكمله وأجمعه وأجمله، وهو الذي ما تمسك به أحد إلا نصره الله، ولا تركه من ظالم إلا وقصمه الله، هو الذي فيه خبر من قبلكم، ونبأ من بعدكم، هو الفصل ليس بالهزل.
هو الكتاب الجامع لمنافع الناس ولمصالحهم في دنياهم وأخراهم، يعز الله من آمن به، ويذل من كفر به.
هو الذي من تمسك به هدي إلى صراط مستقيم، وهو الكتاب المعجز، وهو الكتاب الذي ضرب الله فيه أمثال كل شيء، هو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا الكتاب الذي فيه نبأ كل شيء، وهو أقدم كتب الله وأجمعها للحلال والحرام، وأصلحها للبشر كلهم منذ ظهور محمد صلى الله عليه وعلى آله في هذه البقاع المقدسة، فقال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فكتابه المنزل عليه كتاب هداية الناس جميعهم، في مشارق الأرض ومغاربها منذ عصره وإلى يوم النفخ في الصور.
فقوله: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً [الزمر:55] أي: فبادروا إلى العمل به وامتثال أمره والانتهاء عن نواهيه، وإلى الإيمان بحلاله وحرامه، من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة، وعذاب الله بعد الموت لمن مات ولم يستغفر ربه ولم يعد إليه، خاصة إذا مات مشركاً فلا أمل في رحمته، ولا أمل في أن يعفو الله عنه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48].
قال: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً [الزمر:55] أي: فجأة، فالموت آت لا محالة، فعجباً للإنسان الذي يعيش بالأماني والأحلام وينتظر ربه بعد ذلك، فيقال: لا يزال شاباً، ويقال: لا يزال صغيراً أمامه سنون وسنون، فنقول: وما أدراه أن أمامه سنين؟ هذا تأله على الله ورجم بالغيب، الموت أجل من آجال الله، يأتي الصغير والكبير، وقد يأتي الصحيح ويدع المريض سنوات.
قال تعالى: وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر:55] أي: لا تشعرون بتلك البغتة.
قال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:56-58].
بعد أن قال ربنا لنا: أنيبوا إلى الله وأسلموا له واستغفروه، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ [الزمر:55] أي: اتبعوا القرآن الكريم وأطيعوا أوامره، واجتنبوا نواهيه، وأطيعوا الرسول الذي أمركم الله بطاعته إذْ قال: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؛ قال لنا: بادروا بذلك مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:55-56].
فقوله: (أن تقول): أي: كي لا تقول، والمعنى: بادروا بالتوبة لكي لا تضطروا أن تقولوا يوم القيامة: (يا حسرتا) ولات حين مندم، ولات حين حسرة، ولات حين عودة.
قال تعالى: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56]، كي لا تقول نفس مذنبة مسيئة: يا حسرتا. والتحسر: الندم وشدة الحزن والآلام والتفجع يقال: يا أسفا، ويقال: يا أسفي، ويقال: يَا حَسْرَتَا، ويقال: يا حسرتي.
فقوله: (يا حسرتا) الألف للندبة والاستغاثة، فهو يندب نفسه ويندب حظه، ويستعين ولا معين؛ لأنه أشرك بالله والشرك لا يغفره الله.
قوله: عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56]، أي: على ما ظهر مني من تقصير وإخلال في جنب الله، وفي أوامر ربي ونواهيه، وهيهات هيهات ولات حين مندم.
قال تعالى: وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ [الزمر:56]، أي: ويقول: وكنت مع تفريطي في حق الله وفي جانب الله من الساخرين المستهزئين.
فلقد كان من الساخرين بالمؤمنين والعابدين المتقين، لم يكن فقط مقصراً، ولم يكن فقط مشركاً، ولم يكن فقط مغالطاً، بل كان يسخر ويهزأ بالمؤمنين الصالحين، ويسخر بالدعاة إلى الله؛ ويزداد بذلك حسرة وألماً وندماً، وهيهات هيهات أن تنفع الحسرات، فإنما الحسرة تزيده ألماً وفجيعة وندماً.
قال تعالى: أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]، فيا من لا يزال على الحرام، اغتنم حياتك قبل موتك، وأسرع إلى عبادة ربك، واستغفره من ذنوبك، وتب إليه مما ارتكبت من كبائر، دع الشرك وعد إلى الإيمان والتوحيد، وأنب إلى ربك وأسلم له وجهك قبل أن يأتيك العذاب، أو يأتيك الموت فتتحسر وتبكي وتندم، تارة تقول: يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ [الزمر:56]، وتارة تقول: لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [الزمر:57]، وتقول أخرى حين ترى العذاب: لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58]:
وكل ذلك يدل على الندم والحسرة والتوجع ولكن لن ينفع ذلك، فبعد الموت يعذب في النار، فقد أوعده الله به وأوعده أنبياؤه، حين أمروه فلم يأتمر، ونهوه فلم ينته، وهو فوق ذلك في حسرة وتندم، تارة يقول: يا حسرتا على ما صدر مني من تقصير، وأخرى يقول: لو أن الله هداني لكنت من المتقين، أي: لو أن الله هداه وعلمه وأرسل له رسلاً وأنزل له كتباً فيكون من المتقين، أو يقول حين يرى العذاب: لو أن لي كرة -أي: عودة إلى دار الدنيا- فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الزمر:58]، أي: لو أن الله يعيده للدنيا فيتوب ويكون من الموحدين المطيعين.
وهذه أمانٍ وتحسرات يقولها المشركون ولكن الله كذب كل هؤلاء فقال: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا [الزمر:59]، فقوله: بَلَى [الزمر:59]، يبين الله أن قولهم السابق كان كلاماً باطلاً، وليس بصحيح.
قال تعالى: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59].
يقول لهؤلاء الذين ماتوا على الكفر والشرك وهم في العذاب يتمنون لو أتاهم هادٍ أو كتاب هداية ليكونوا من المتقين، ويتمنون لو أنهم عادوا للدنيا وأحسنوا وأطاعوا وعبدوا، فقال الله لهم جميعاً: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي [الزمر:59]، أي: جاءتك علامات قدرتي، وأرسلت لكم رسلاً يبشرون وينذرون فعلموكم وأرشدوكم وهدوكم وأبيتم هدايتهم؛ وأخذتم تكذبونهم وتكفرون بهم، وأخذتم تهزئون بهم وبأتباعهم.
فقوله: بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي [الزمر:59]، أي: علامات ودلائل ومعجزات صدق الأنبياء.
قوله: فَكَذَّبْتَ بِهَا [الزمر:59] أي: لم تصدقها.
قوله: وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59]، كما قال تعالى: إنهم كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات:35] أي: استكبروا عن الإيمان والإسلام بكلامهم وبجهدهم الباطل، فتكبروا على رسل الله، وعلى ورثتهم من العلماء والدعاة والهادين إلى الله؛ قال تعالى: وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الزمر:59].
فيا أيها المتحذلق المتألي، هأنت تتمنى الهداية وقد جاءتك، تتمنى أن تعود للدنيا لتعمل وقد كنت فيها ولم تعمل، ولو عدت إلى الدنيا لرجعت إلى ما نهيت عنه، ولعدت للكبر، فالنفس الخبيثة تأبى إلا أن تفعل الشر، والنفس الكافرة تأبى إلا الدوام على الكفر.
فما دام الكافر لم يؤمن في دار الدنيا فهو في الآخرة لن ينفعه الإيمان، لأن نفسه لم تكسب في إيمانها خيراً، قد سبقه الزمن والوقت، والوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك.
فقوله: (وكنت من الكافرين)، أي: كنت من الكافرين بالرسل وبالكتب وبالأوامر والنواهي، وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي المتكبرون يوم القيامة كالذر في صور بني آدم يدوسهم الناس بأقدامهم) ، قد جمعوا كالذر الصغار، نتيجة تعاليهم على الحق وعلى أهله، فيكونون كالذر حقارةً وصغاراً.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة الزمر [60-67] | 1925 استماع |
تفسير سورة الزمر [1-5] | 1916 استماع |
تفسير سورة الزمر [42-46] | 1903 استماع |
تفسير سورة الزمر [20-22] | 1876 استماع |
تفسير سورة الزمر [36-42] | 1845 استماع |
تفسير سورة الزمر [47-52] | 1767 استماع |
تفسير سورة الزمر [9-12] | 1635 استماع |
تفسير سورة الزمر [71-75] | 1551 استماع |
تفسير سورة الزمر [13-20] | 1202 استماع |
تفسير سورة الزمر [30-35] | 1144 استماع |