أرشيف المقالات

إني أعظك أن تكون من الجاهلين

مدة قراءة المادة : 6 دقائق .
إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
 
الجهل بئس الرفيق، والجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه، فهو "كَسَاعٍ إلى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاحِ"، وإن لم يكن في الجهل إلا أنه يشوش الفكر ويعتم البصيرة، لكفى به ذمًّا، فكيف وهو مصيبة وداء عُضال، يسلب المرء وجهته الصحيحة في الدنيا والآخرة، وهو محل للشهوات والشبهات والخرافات؟
 
الجهل رأس كل خطيئة، ومنشأ كل ضلال، قال قتادة رحمه الله: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما عُصي الله به فهو جهالة، عمدًا كان أو غيره".
 
ولهذا جاء وصفهم في القرآن أنهم ﴿ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ﴾ [النساء: 17]؛ أي: جهل بمقام الله وقدره، أو جهل بنظر الله ومراقبته، أو جهل بعاقبة المعاصي وإيجابها لسخط الله، فهو جهل يقود إلى العصيان.
 
ومن أمثلة ذلك ما قالته بنو إسرائيل لنبيهم موسى عليه السلام، حين أمرهم بأمر الله في ذبح البقرة، فقالوا: ﴿ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ﴾ [البقرة: 67]، فكان رد موسى عليهم أن قال لهم: ﴿ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [البقرة: 67]، ولم يقل: أعوذ بالله أن أكون من المستهزئين أو الساخرين.
 
كذلك الفواحش والمعاصي جميعها هي ضروب وأنواع من الجهل، فهذا نبي الله يوسف عليه السلام حين دعته امرأة العزيز ومن معها من النسوة إلى الفاحشة، فرد عليهن داعيًا ربه قائلًا: ﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33].
 
والجهل محقِّر العظماء، ومضيِّع السفهاء، يطمس الهمة ويذيب الهُوِيَّة:






ومنزلةُ الفقيه من السفيهِ
كمنزلةِ السفيهِ من الفقيهِ


فهذا زاهدٌ في قربِ هذا
وهذا فيه أزهد منه فيهِ






 
وإذا خيَّم الجهل في بلاد اتَّشحت مدنُها بالظلام، وأصبحت أمة مقيدة اليدين، ومعصوبة العينين، لا تعرف إلى أيِّ هاوية تُساق.
 
وما حل الجهل بمتسع إلا ضاق؛ قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد: 41]؛ عن عطاء بن أبي رباح: "ذهاب فقهائها وخيار أهلها"، وعن مجاهد: "موت الفقهاء والعلماء...
وذلك لأن بالعلم وأهله تنتظم حياة الناس ويسع بعضهم بعضًا، والجهل سبب الهَرْج والمَرَج ونشوء الفتن؛ فتضِج الأرض بأهلها".
 
والجهل يلحق الهزيمة بأصحابه في معركة الوعي، وقالوا: "ليس الخطر أن يقوم الصراع بين الحق والباطل، ولكن الخطر أن يفقد الناس الإحساس بالفرق بين الحق والباطل"، وانظر ما فعل الجهل بالأمم في غياب الوعي المعرفي واضطراب البوصلة المجتمعية، يقول شوقي:






الجهلُ لا يلدُ الحياةَ مواته
إلا كما تلدُ الرِّمامُ الدُّودَا


لم يخُل من صورِ الحياة وإنما
أخطاهُ عُنْصرُها فمات وليدَا






 
فالجهل - كما يقول الشاعر - داء يُهلك مثل الموت، والموت لا يعطي حياة، كذلك الجاهل يبدو في صورة الأحياء، لكن حياته لا خير فيها، كالدود يتوالد من الرِّمَّة ولا قيمة له.
 
نقل السمعاني عن أهل العلم قولهم: "لا داء أعظم من الجهل، ولا دواء أعز من دواء الجهل، ولا طبيب أقل من طبيب الجهل، ولا شفاء أبعد من شفاء الجهل".
 
الجهل طريق مظلم لا فِكاك منه إلا بنور المعرفة، ومفازة وعرة لا نجاة منها إلا بمركب العلم؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ﴾[التوبة: 46]، قال الإمام الشافعي:
كم يرفع العلم أشخاصًا إلى رتبٍ *** ويخفض الجهل أشرافًا بلا أدبِ
 
وقال ابن القيم: "ومن كان بالله أعرف، كان منه أخوف"، فكل من كان بالله أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشيةُ الله الانكفافَ عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم؛ فإنه داعٍ إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته؛ كما قال تعالى: ﴿ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ﴾ [البينة: 8].
 
ولما سأل نوح عليه السلام ربه أن ينجي ابنه الكافر من الغرق في الطوفان، عاتبه الله ووعظه، وحذَّره أن يكون من الجاهلين، فقال جل وعلا: ﴿ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [هود: 46].
 
والعلم للأمم كنزها الإستراتيجي في عصرٍ الكل يتسابق إلى المعلومة، ولذلك قالوا: "العلم في الغربة وطن".
 
والعلم لا يُدرك براحة الجسد، وشرط التوفيق فيه الإخلاص، والسر في ذلك والله أعلم أن هداية السبيل ولزوم المحجة أمرٌ عزيز لا يمنحه الله عز وجل إلا من يحب، وظهرت منه الدلائل على صدق المحبة؛ يقول الشيخ أبو الفداء بن مسعود: "العذر بالجهل لا يعني تسويغ الجهل، وأنَّ الاضطرار إلى التقليد لا يعني الرِّضا به والإقرار عليه؛ هذه خصال ذميمة يعرف مذمَّتَها مَن له أدنى اطلاع على نصوص شريعة رب العالمين...
فإن ما لا يقوم الواجب إلا بتعلُّمه، فتعلُّمه واجب، وما أُتي الناس في زماننا إلا من قِبَل جهلهم بمراتب العلوم الواجبة عليهم: الشرعي منها والدنيوي".

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢