آزر والد إبراهيم عليه السلام


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

حديثنا سيكون عن شخصية كافرة، ما عرفت حق ربها، ولا استعملت الحواس فيما يحبه الله ويرضاه، كما قال سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ [الأعراف:179]، وكما قال سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنفال:55]، إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:22-23].

وهذه الشخصية رأت الحق واضحاً، ولمست دلائله بينة؛ لكن الكبر والعياذ بالله! حملها على الكفر بالله عز وجل، والإصرار على ما هي فيه من الباطل، يقول الله عز وجل: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام:74]، نص القرآن على أن والد إبراهيم كان اسمه: آزر ، وأكثر العلماء بالتاريخ والنسب يقولون كان اسمه: تارح ، والإمام أبو جعفر بن جرير الطبري رحمه الله قال: ولعله كان له اسمان، أو كان أحدهما اسماً له والآخر لقباً، يعني: ربما يكون اسمه تارح ولقبه آزر ، أو يكون اسمه آزر ولقبه تارح ، لكن حسب ظاهر القرآن فـآزر هو اسم لأبي إبراهيم، ويؤيد ذلك الحديث الثابت في صحيح البخاري : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة )، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم آزر .

وأياً ما كان اسمه فهذا الرجل ولده إبراهيم عليه السلام كان معه براً، وكان به حفياً، وكان ينتقي ألفاظه وعباراته ويكلمه بالكلام الهين، اللين، ويقول له القول الطيب؛ من أجل أن يأخذ بناصيته إلى الهدى؛ ولذلك ناداه بوصف الأبوة أربع مرات، فقال: يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً [مريم:43-45]، يناديه بوصف الأبوة؛ من أجل أن يتحبب إليه، لكن حمله الكبر على أن يقول لولده: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ[مريم:46]، أي: لئن لم تنته عن الدعوة إلى وحدانية الله وعبادته وحده لا شريك له لأرجمنك.

(لأرجمنك)، قيل المعنى: لأطردنك، وقيل: وهو الظاهر أنه الرجم بالحجارة، وقيل: هو القتل.

وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً[مريم:46]، (ملياً) أي هجراً طويلاً، ورغم هذا الكلام الشديد والوعيد الذي صدر من آزر ، إلا أن إبراهيم عليه السلام ما زاد على أن قال له: سَلامٌ عَلَيْكَ[مريم:47]، أي: متاركة وموادعة، سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً [مريم:47-48].

وقد بين ربنا جل جلاله بأن إبراهيم عليه السلام ما ترك وسيلة يقنع بها أباه إلا وسلكها، ففي سورة الأنبياء قال: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنبياء:52-54]، يصمهم بالضلال؛ من أجل أن يستفز عقولهم لتتأمل الحق الذي جاء به صلوات ربي وسلامه عليه.

وفي سورة الشعراء قال سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ * قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:69-71]، فبدأ يطرح عليهم أسئلة: قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ [الشعراء:72-73]، فكان جوابهم: قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ * قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء:74-82].

يحدثهم إبراهيم عن صفات الإله القوي، القادر، العظيم، الجليل، سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يطعم ويسقي، وهو الذي ينفع ويضر، وهو الذي يخفض ويرفع، وهو الذي يعطي ويمنع، وهو الذي بيده الدنيا والآخرة، وله الحكم في الأولى والآخرة، يحدثهم عن هذا كله، لكن القوم ما كانت لهم عقول يفكرون بها.

فلما لم ينفع معهم الكلام، لجأ عليه السلام إلى تغيير المنكر باليد، بعد القسم على ذلك: وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ [الأنبياء:57]، قال الله عز وجل: فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً[الأنبياء:58]، أي قطعاً صغيرة، إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ[الأنبياء:58]، ترك الصنم الكبير، لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ [الأنبياء:58]، فلما جاء القوم من عيدهم ورأوا ما حل بآلهتهم: مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ [الأنبياء:59]، ثم تكلموا على عادة المتكبرين، فقالوا: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]، كأنه نكرة، يقال له: إبراهيم، ولجأوا إلى منطق القوة ومنطق القهر، قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ [الأنبياء:68]، فألقوا إبراهيم عليه السلام في النار، ربط في المنجنيق، وقذف في تلك النار التي سعروها أياماً طويلة، فأنبت الله له في تلك النار روضة خضراء، جاءه جبريل عليه السلام فقال: يا إبراهيم ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فحسبي الله ونعم الوكيل.

وهذه الكلمة قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

فأنبت الله له في تلك النار روضة خضراء، فما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه، أي: الحبل والقيد الذي ربط به.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: ما انتفع أهل الأرض بنار في تلك الأيام؛ لأن الله قال: يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً[الأنبياء:69].

وكان آزر يرى هذا المنظر بعينيه، يرى ولده الذي كادوا له ومكروا به وأرادوا إهلاكه وألقوه في نار تلظى، يرى ذلك الولد البار في تلك الروضة الخضراء قائماً يصلي لربه، وهو في خير حال، فقال ذلك الأحمق: يا إبراهيم! نعم الرب ربك! يقول هذا الكلام وهو مصر على الكفر والعياذ بالله!

يقول إبراهيم عليه السلام: والله ما من أيام في الدنيا عشتها أطيب من تلك الأيام التي عشتها في النار؛ لأن الله عز وجل كان معه، يثبته ويؤيده.

ثم بعد ذلك قال: إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [العنكبوت:26]، خرج من تلك الأرض التي أبى أهلها إلا الكفر والعقوق.

فكانت العاقبة أن مات أبوه على الكفر، مات وهو كافر بالله عز وجل، وسيندم يوم القيامة حيث لا ينفع الندم.

روى الإمام البخاري : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يلقى إبراهيم أباه آزر وعلى وجهه القترة والغبرة )، (القترة) ما يغشى الوجه من الظلمة، (والغبرة): ما يعلو الوجه من الغبار، فأحدهما حسي والآخر معنوي، ( فيقول له إبراهيم: أي ابن كنت لك؟ فيقول: نعم الابن كنت! فيقول له إبراهيم: ألم أقل لك: لا تعصني؟! فيقول له أبوه: فإنني اليوم لا أعصيك! )، لكن لا فائدة؛ لأن النار قد سعرت، والجنة قد أزلفت، والدواوين قد نشرت، والموازين قد نصبت، فلن يغني عنك شيئاً في ذلك اليوم أن تطيع أو تعصي، ( يقول لـإبراهيم : فإنني اليوم لا أعصيك! فيقول له إبراهيم عليه السلام: فخذ بإزرتي )، أي: بثوبي، وإبراهيم عليه السلام، كما أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول من يكسى يوم القيامة، الناس يخرجون من قبورهم حفاة، عراة، فيكون أول من يكسى إبراهيم عليه السلام؛ لأنه كان أول من تعرى في سبيل الله، قال عليه الصلاة والسلام: ( ثم أكسى حلة لا يقوم لها الخلائق )، (فيمسك بثوب ولده، فيجثو إبراهيم عليه السلام بين يدي ربه، فيقول الله له: عبدي! اذهب فادخل الجنة )، هذا الكلام لإبراهيم، ( فيقول له إبراهيم: يا رب! ألم تعدني ألا تخزني يوم يبعثون، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟! )، إما الأبعد يصف بها نفسه عليه السلام، وإما أنه يريد بذلك أباه، يعني أعظم الخزي: أن يلقى والدي في النار، ( فيقول الله عز وجل له: إني حرمت الجنة على الكافرين )، أي: فلا يمكن لكافر يدخل الجنة في ذلك اليوم، ( ثم يقال له: انظر تحت قدميك! فإذا هو بذيخ )، الذيخ هو الضبع، ( متلطخ في بوله ودمه ورجيعه، فتأخذ زبانية النار بيديه ورجليه، ثم يطرح في النار والعياذ بالله ).

قالوا: مسخ والد إبراهيم ضبعاً؛ لأن الضبع هو أحمق الحيوانات، وقد كان آزر أحمق الناس؛ كأنه رأى تلك الآيات تترى، وتلطف معه ولده، وبذل له الأدلة واحداً تلو الآخر، وأراه ضعف تلك الأصنام، وأنها لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ومع ذلك أصر على الضلال فكان مصيره إلى النار عياذاً بالله!

وكان إبراهيم عليه السلام قد وعد أباه بأن يستغفر له فقال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً [مريم:47]، قال الله عز وجل: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114]؛ ولذلك نهانا ربنا جل جلاله معشر المؤمنين عن الاستغفار لمن مات على الشرك: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113].

أسأل الله أن يتوفانا على الإيمان.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.