سورة التوبة - الآية [38]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

ومع النداء الثالث والخمسين في الآية الثامنة والثلاثين، قول ربنا تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38].

سبب نزول الآية

يقول الإمام القرطبي رحمه الله في هذه الآية المباركة: لا خلاف أن هذه الآية نزلت عتاباً على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة، بعد الفتح بعام.

أيها الإخوة الكرام! الذين تخلفوا عن غزوة تبوك على أربعة أصناف:

الصنف الأول: الذين تخلفوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي استخلفه النبي عليه الصلاة والسلام على المدينة.

الصنف الثاني: الذين تخلفوا عجزاً عن الخروج، ويدخل في ذلك: من كان مريضاً، ومن كان أعمى، ومن كان أعرج، ومن كان ضعيفاً، ومن كان فقيراً لا يجد ما يركبه، كما قال الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:91-92].

الصنف الثالث: مؤمنون تخلفوا من غير عذر، كـكعب بن مالك و هلال بن أمية و مرارة بن الربيع .

ثم الصنف الرابع وهم الأكثر: منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهؤلاء بعضهم قال: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49]، وهو ما حكاه القرآن عن بعضهم حين قال: ( يا رسول الله! إني لو رأيت نساء بني الأصفر فإني لا أصبر عنهن فائذن لي ولا تفتني )، وبعضهم قال: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13]، وبعضهم قال: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] .. إلى غير ذلك مما قالوه.

وكان من أبشع وأشنع ما قيل هو ما قاله زعيمهم: أيحسب محمد جلاد بني الأصفر اللعب، والله! لكأني به وبأصحابه مقرنين في الأصفاد. وهذا هو عبد الله ابن سلول عليه لعنة الله، تفاءل بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سيؤسرون ويربطون ويؤخذون أرقاء.

فالله عز وجل أنزل هذه الآية عتاباً للمؤمنين الطيبين من أمثال كعب و هلال و مرارة رضوان الله عليهم.

معاني مفردات الآية

قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ [التوبة:38]، (ما لكم) استفهام مراد به التوبيخ والتقريع.

وقوله: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا [التوبة:38]، النفر أصله الانتقال من مكان إلى مكان، ومنه يقال: نفر الحجيج من عرفة إلى مزدلفة. أي: انتقلوا من عرفة إلى مزدلفة. ويقال أيضاً: نفرت الدابة؛ إذا أبت أن تسلس قيادها وأن تستقر في مكان واحد. والنفير يطلق على الخروج للجهاد.

فقوله: مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:38]، أي: ما لكم إذا قيل لكم: اخرجوا للجهاد في سبيل الله.

وقوله: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38]، أصلها: (تثاقلتم) بمعنى: تباطأتم وتكاسلتم، وهذه الكلمة حتى في مخارجها ثقيلة كقول الله عز وجل: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النساء:72]، يعني: الكلمة نفسها بطيئة، وهذا من الإعجاز اللغوي في القرآن.

قول الله عز وجل: إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38]، في غاية البراعة والبلاغة.

يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله: هذا كلام موجه بديع؛ لأن تباطؤهم عن الغزو وتطلبهم العذر كان أعظم بواعثه رغبتهم البقاء في حوائطهم وثمارهم.

فقوله: اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ [التوبة:38] أي: إلى الدنيا وشهواتها.

وغزوة تبوك كانت في وقت حر وقيض حين طابت الثمار (الرطب) في المدينة وهذا وقت الجني والحصاد، والصحابة رضوان الله عليهم بالدافع البشري والرغبة الإنسانية يحبون البقاء في المدينة في تلك الأوقات، فالله عز وجل يوجه إليهم الخطاب فيقول لهم: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ [التوبة:38]؟ وهذا استفهام ثان في الآية.

فقوله: (أرضيتم) استفهام استنكاري، بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ [التوبة:38]، (من) بمعنى: بدل، كما في قول الله عز وجل: وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ [الزخرف:60]، (لجعلنا منكم) أي: بدلاً عنكم، أو بدلكم ملائكة في الأرض يخلفون.

أرضيتم بالدنيا بدل الآخرة؟ والدنيا هذه إلى زوال، وإلى انقضاء، وإلى دبار، والآخرة هي النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.

قال الله عز وجل: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38]، (المتاع)، اللذة والنعيم، أي: ما نعيم الدنيا، وما متاعها بالنسبة إلى نعيم الآخرة إلا قليل، إلا حقير تافه!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يؤتى بأنعم أهل الدنيا وهو من أهل النار فيغمس في النار غمسة ثم يقال له: هل رأيت من نعيم قط؟ يقول: لا، وعزتك ما رأيت نعيماً قط، ويؤتى بأبأس أهل الدنيا وهو من أهل الجنة فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت من شقاء قط؟ يقول: لا، وعزتك ما رأيت شقاءً قط ).

المعنى الإجمالي للآية

المعنى الإجمالي لهذه الآية المباركة: يوجه الله الخطاب للمؤمنين: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله! ما لكم إذا قيل لكم: اخرجوا غزاة في سبيل الله لجهاد أعدائه تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ورغبتم في مساكنكم؟ أرضيتم بحظ الدنيا عوضاً من نعيم الآخرة وما أعد الله للمتقين في جنانه؟ فما الذي يستمتع به المستمتعون في الدنيا في عيشها ولذاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدها الله لأوليائه وأهل طاعته إلا يسير حقير تافه، فاطلبوا -أيها المؤمنون- نعيم الآخرة وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه بطاعته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه في اليم، فلينظر بم يرجع )، يعني: الآن الواحد منا لو ذهب إلى البحر فغمس أصبعه ثم أخرجها، ما هي النسبة التي أخذها من ماء البحر؟ كذلك الدنيا بالنسبة للآخرة: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل [التوبة:38].

وهاهنا بشارة نسأل الله أن يجعلنا من أهلها، روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع قائلاً يقول: (إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة) يعني: مليون حسنة. فقال أبو هريرة : بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة، ثم تلا هذه الآية: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ [التوبة:38] ).

إن هذه الآية يدركها المرء حق الإدراك، ويفهمها تمام الفهم إذا نزل به الموت، وعاين ما أعد الله عز وجل لأهل طاعته وما أعد الله لأهل معصيته، فالإنسان إذا كان في السكرات يفتح له باب إلى الجنة وباب إلى النار، فإذا كان من المؤمنين الطيبين -جعلنا الله منهم- يقال له: يا عبد الله! هذا مقعدك في النار، قد أبدلك الله به مقعداً في الجنة، وإذا كان من الصنف الآخر عياذاً بالله! يقال له: يا عبد الله! هذا مقعدك في الجنة قد أبدلك الله به مقعداً في النار.

ويحكى أن عبد العزيز بن مروان بن الحكم الأموي وهو والد الرجل الفاضل والإمام العادل عمر بن عبد العزيز ، هذا الرجل الذي كان والياً على مصر، لما نزل به الموت دعا بكفنه، قال: ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه، فلما وضع الكفن بين يديه نظر إليه فقال: أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟! يعني: هذا الذي تركته كله من الدور والقصور والحرير والنعيم والذهب والفضة ما أخرج إلا بهذا؟ ثم ولى ظهره فبكى وهو يقول: أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل، وإن كان قليلك لقصير، وإن كنا منك لفي غرور.

وبعض هؤلاء الخلفاء لما كان في آخر أمره أمر بأن يُركبوه، وطاف فوجد غسالاً يعصر الملابس ويضربها من أجل أن تجف، فجعل يقول: ليتني كنت غسالاً، يعني: وجد هذه الدنيا لا تساوي شيئاً، ولا تنفع.

يقول الإمام القرطبي رحمه الله في هذه الآية المباركة: لا خلاف أن هذه الآية نزلت عتاباً على تخلف من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وكانت سنة تسع من الهجرة، بعد الفتح بعام.

أيها الإخوة الكرام! الذين تخلفوا عن غزوة تبوك على أربعة أصناف:

الصنف الأول: الذين تخلفوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي استخلفه النبي عليه الصلاة والسلام على المدينة.

الصنف الثاني: الذين تخلفوا عجزاً عن الخروج، ويدخل في ذلك: من كان مريضاً، ومن كان أعمى، ومن كان أعرج، ومن كان ضعيفاً، ومن كان فقيراً لا يجد ما يركبه، كما قال الله عز وجل: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة:91-92].

الصنف الثالث: مؤمنون تخلفوا من غير عذر، كـكعب بن مالك و هلال بن أمية و مرارة بن الربيع .

ثم الصنف الرابع وهم الأكثر: منافقون يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر، وهؤلاء بعضهم قال: ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [التوبة:49]، وهو ما حكاه القرآن عن بعضهم حين قال: ( يا رسول الله! إني لو رأيت نساء بني الأصفر فإني لا أصبر عنهن فائذن لي ولا تفتني )، وبعضهم قال: إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13]، وبعضهم قال: لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:81] .. إلى غير ذلك مما قالوه.

وكان من أبشع وأشنع ما قيل هو ما قاله زعيمهم: أيحسب محمد جلاد بني الأصفر اللعب، والله! لكأني به وبأصحابه مقرنين في الأصفاد. وهذا هو عبد الله ابن سلول عليه لعنة الله، تفاءل بأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سيؤسرون ويربطون ويؤخذون أرقاء.

فالله عز وجل أنزل هذه الآية عتاباً للمؤمنين الطيبين من أمثال كعب و هلال و مرارة رضوان الله عليهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2639 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2578 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2538 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2524 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2348 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2313 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2306 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2296 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2231 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2191 استماع