سورة النساء - الآية [43]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

النداء الحادي والعشرون في الآية الثالثة والأربعين من سورة النساء: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا[النساء:43].

مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الله تعالى ذكر في الآيات التي سبقتها قيام العبد بين يديه يوم القيامة فقال: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا[النساء:41-42]، وفي هذه الآية ذكر الله عز وجل قيام العبد في الصلاة، وقيام العبد في الصلاة بين يدي الله سبحانه وتعالى يذكره بقيامه بين يديه يوم القيامة؛ لذلك لا بد أن يكون حاضر القلب، خاشع الجوارح، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ[المؤمنون:1-2].

سبب نزول هذه الآية

أما سبب نزول هذه الآية فقد روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعانا فسقانا خمراً، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1] أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )).

قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح.

معاني مفردات هذه الآية

ينادينا ربنا جل جلاله -معشر المؤمنين- ويقول لنا: (( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ )) أي: حال كونكم مسلوبي العقول بفعل السكر، وقول الله عز وجل: (( لا تَقْرَبُوا )) مبالغة في النهي، ونجد دائماً أن الله جل جلاله إذا نهى عن كبيرة من الكبائر فإنه لا ينهى عن فعلها فقط، وإنما ينهى عن قربانها، يقول الله عز وجل: وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ[الأنعام:151]، وقال: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ[الأنعام:152]، وقال وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا[الإسراء:32]، وقال هنا أيضاً لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ )) أي: حال كونكم سكارى.

قوله عز وجل: وَأَنْتُمْ سُكَارَى )) السكارى: جمع سكران، وهو مشتق من السكر، وهو السد، يقال: هذا باب مسكر إذا كان مغلقاً مشدوداً، وكأن السكران قد سُدَّت منافذ عقله فلا يعي شيئاً، والسكران هو الذي تناول شيئاً بفعل نفسه فأذهب معه عقله مع نشوة وطرب.

قوله: حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )) أي: حتى تعود إليكم عقولكم التي تميزون بها أقوالكم وأفعالكم، ويظهر من هذه الآية أن السكران لا يعلم ما يقول.

يقول ابن جزي المالكي رحمه الله: ومن هذه الآية انتزع بعض العلماء: أن طلاق السكران لا يقع؛ لأنه لا يعلم ما يقول، وأيضاً قال بعض أهل العلم: ردة السكران لا تقع. أي: لو أن السكران حال ذهاب عقله تلفظ بكلمات فيها ردة فإنه لا يحكم عليه بأنه مرتد؛ لأنه لا يعي ما يقول.

يقول الإمام النسفي رحمه الله تعالى: قراءة سورة الكافرون بطرح اللامات كفر. يعني: لو أن رجلاً قرأ سورة الكافرون وطرح اللامات، أي: أنه بدلاً من أن يقول: لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ[الكافرون:2] قال: أعبد ما تعبدون، وأنتم عابدون ما أعبد، وأنا عابد ما عبدتم، وأنتم عابدون ما أعبد، فطرح اللامات عمداً فإنه يكفر.

قال: ومع ذلك لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بكفر الصحابي الذي قرأ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1] أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، ولا حكم بالتفريق بينه وبين امرأته، ولا بتجديد الإيمان.

وكما نهانا ربنا عن الصلاة حال السكر فقد نهانا أيضاً عن الصلاة في حال الجنابة، فقال: وَلا جُنُبًا )) والجنابة إما أن تكون بجماع أو بإنزال، يقال: رجل جنب، وامرأة جنب، ورجلان جنب، وامرأتان جنب، ورجال جنب، ونساء جنب، فهذه الكلمة لا تثنى ولا تؤنث، وَلا جُنُبًا )) أي: ولا تقربوا الصلاة وأنتم على جنابة.

وقال بعض أهل التفسير: بل المقصود مواضع الصلاة وهي المساجد، أي: لا تقربوا المساجد وأنتم جنب.

قوله: وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ )) العبور هو الجواز والمرور، وإذا لم يكن ثمة طريق إلا من المسجد فللجنب أن يمر فيه.

قوله: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ )) أي: يا أيها الناس! من كان منكم مريضاً، والمرض: هو خروج الجسم عن حال الاعتدال والصحة إلى حال الاعتلال والعلة، والسفر: هو الخروج من الدار أو من محلة القوم إلى مكان تقصده، أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ )) الغائط: هو المنخفض من الأرض، وكل مكان منخفض تسميه العرب غائطاً، وهو كناية عن الحدث الخارج من السبيلين، فالعرب كانت تأنف أن تتخذ الكُنُف في بيوتها، فإذا أراد أحدهم أن يحدث فإنه يرتاد مكاناً منخفضاً من أجل أن يستتر عن أعين الناس، والغائط حقيقة عرفية مستعملة في الحدث.

قوله: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ )) الملامسة هنا هي الجماع، وقال بعضهم: بل المراد الجماع وما دونه من التقبيل ونحوه، وقال بعضهم: بل المراد مطلق اللمس، أي: مباشرة الجسم بالجسم، وفي هذه الأحوال كلها: لو كنتم جنباً، أو كنتم مرضى، أو كنتم على سفر، أو حصل منكم جماع للنساء فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ))، والتيمم: هو القصد، والصعيد: هو ما ظهر على وجه الأرض من جنسها، والطيب: هو الطاهر، فَتَيَمَّمُوا )) أي: اقصدوا إلى ما ظهر على سطح الأرض من تراب، أو رمل، أو حصباء، أو غير ذلك، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ )).

ونلاحظ في الوضوء أن الإنسان يغسل وجهه ويديه، ويمسح رأسه، ويغسل رجليه فرضاً، وفي الغسل فإنه يعمم بدنه بالماء، وأما بالنسبة للتيمم فقد اقتصر على مسح الوجه واليدين، والمراد باليدين: الكفان، والعلة في ذلك كما يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمة الله عليه: أن التيمم لا يقصد به التطهير الحسي، ولا يقصد به تجديد النشاط، ولكنه مجرد استكمال الحالة للصلاة، قال الله عز وجل: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا )) أي: بالترخيص والتيسير، غَفُورًا )) أي: عن الخطأ والتقصير.

أدب القرآن في استخدام الألفاظ

يقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله في (الظلال): ولا بد أن نقف أمام بعض التعبيرات الرائقة في هذه الآية المباركة التي تدل على أدب القرآن، يقول الله عز وجل: (( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ))، ولم يقل سبحانه: أو ذهبتم فعملتم كذا وكذا، أي: بلتم وتغوطتم وخرجت منكم الفضلة والأذى، ولا قال سبحانه: أو جئتم من الغائط، وإنما قال: (( أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ ))، وهذا يدل على أدب الخطاب، واستعمل الكناية هنا ليكون هذا الأدب نموذجاً للبشر حين يتخاطبون.

وكذلك حين يعبر الله عما يكون بين الرجل والمرأة فإنه لا يعبر بتعبيرات مكشوفة أو ألفاظ فاضحة، وإنما يقول: (( أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ ))، ويقول في آية أخرى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ[النساء:21]، وفي آية ثالثة يقول: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ[البقرة:187]، ويقول في آية رابعة: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ[آل عمران:47]، هذا هو تعبير القرآن في الحديث عن مثل هذه الشئون.

من فوائد الآية

هذه الآية المباركة يستفاد منها عدة فوائد:

الفائدة الأولى: اشتداد تحريم الخمر عند قرب وقت الصلاة، وهي حرام بالليل والنهار، وسواء قرب وقت الصلاة أو بَعُد، لكن ذلك التحريم يشتد إذا قرب وقت الصلاة؛ لأن فيه ذهاب الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها ومقصودها.

الفائدة الثانية: إذا كان الله تعالى قد نهانا عن الصلاة في حال السكر فإنه يقاس على السكر ما كان مثله مما يذهب بالخشوع كالنعاس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا نعس أحدكم فليرقد؛ فلعله يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه)، فالنعسان بمنزلة السكران لا يدري ما يقول.

الفائدة الثالثة: أن الآية فيها إشارة إلى أنه ينبغي لمن أراد الصلاة أن يقطع عنه كل شاغل، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان) أي: إذا كان هناك طعام وأنت تشتهيه فكل ثم صل، وإذا كان الإنسان حاقناً يحتاج للتبول، أو حاقباً يحتاج للتغوط فإنه يذهب يقضي حاجته ثم يأتي إلى الصلاة، ولا يصلي وهو مشغول بطعام أو شراب أو غير ذلك.

ومن فوائدها الحث على حضور القلب في الصلاة، وتحريم دخول المسجد على الجنب إلا مروراً.

وفي الآية أيضاً دليل على أن التيمم لا يرفع الحدث؛ لأن الله سمى المتيمم جنباً.

وكذلك في الآية إشارة إلى القاعدة المتفق عليها وهي: أن المشقة تجلب التيسير، وأنه يجب طلب الماء قبل شروعه في التيمم، ويشترط لجواز التيمم عدم الماء أو التضرر باستعماله.

أسأل الله أن ينفعني وإياكم.

أما سبب نزول هذه الآية فقد روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعانا فسقانا خمراً، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ[الكافرون:1] أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ )).

قال أبو عيسى الترمذي رحمه الله: هذا حديث حسن صحيح.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
سورة التحريم - الآية [8] 2641 استماع
سورة المجادلة - الآية [11] 2580 استماع
سورة آل عمران - الآية [102] 2540 استماع
سورة المائدة - الآية [105] 2525 استماع
سورة النساء - الآية [19] 2351 استماع
سورة البقرة - الآية [104] 2315 استماع
سورة الأحزاب - الآيات [70-71] 2308 استماع
سورة التوبة - الآية [119] 2298 استماع
سورة البقرة - الآية [182] 2233 استماع
سورة التغابن - الآية [14] 2193 استماع