لقاء الباب المفتوح [34]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الأخير في شهر صفر عام (1414هـ) في يوم الخميس، وبه نختتم ما بقي من سورة الانشقاق.

تفسير قوله تعالى: (فلا أقسم بالشفق)

انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:16-19] هذه الجملة مكونة من قسم ومقسم به ومقسم عليه ومُقسِم.

فالقسم في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الانشقاق:16] قد يظن الظان أن معنى (لا أقسم) نفي، وليس كذلك؛ بل هو إثبات و(لا) هنا جيء بها للتنبيه ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام، ولها نظائر مثل قوله: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1].. لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1].. فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ [المعارج:40].. فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ [الحاقة:38] وكلها يقول العلماء: إن (لا) فيها للتنبيه، وأن القسم مثبت.

أما المُقسِم فهو الله عز وجل، وأما المُقسَم به في الآية فهو الشفق وما عُطف عليه، فإن قال قائل: لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم؟ قلنا: إن القسم يؤكد الكلام، والقرآن نزل باللسان العربي.

وإذا كان من عادة العرب أنهم يؤكدون الكلام بالقسم، صار هذا الأسلوب جارياً على لسانهم.

وقوله: (بالشفق) الشفق هو: الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء، وبعضهم قال: إذا غاب البياض -وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة- لكن الذي عليه الجمهور ويقال: إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه هو أن الشفق هو الحمرة، وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب.

تفسير قوله تعالى: (والليل وما وسق)

قال تعالى: وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ [الانشقاق:17] هذا أيضاً مقسم به معطوف على الشفق، أي: وأقسم بالليل وما وسق، وهذان قسمان: الأول بالليل والثاني بما وسق.

الليل معروف، فما معنى (ما وسق)؟ أي: ما جمع؛ لأن الليل يجمع الوحوش، والهوام، وما أشبه ذلك، فتجتمع وتخرج، تبرز من جحورها وبيوتها، وكذلك ربما يشير إلى اجتماع الناس بعضهم إلى بعض وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ [الانشقاق:18] القمر معروف، ومعنى إذا اتسق، أي: إذا اجتمع نوره وتم وكمل، وذلك في ليالي الإبدار، فأقسم الله عز وجل بالليل وما وسق، أي: ما جمع، وبالقمر؛ لأنه آية الليل.

تفسير قوله تعالى: (لتركبن طبقاً عن طبق)

ثم قال بعد ذلك: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:19] والخطاب هنا لجميع الناس أي: لتركبن حالاً عن حال، يشير إلى أن الأحوال تتغير، فيشمل أحوال الزمان، وأحوال المكان، وأحوال الأبدان، وأحوال القلوب، انتبه! يتضمن أربعة أشياء.

أحوال الزمان نعرف أنها تتنقل وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140] فيوم يكون فيه السرور والانشراح وانبساط النفس، ويوم آخر يكون بالعكس حتى إن الإنسان ليشعر بهذا من غير أن يكون هناك سبب معلوم وفي هذا يقول الشاعر:

فيوم لنا ويوم علينا     ويوم نُساءُ ويوم نُسرَّ

وهذا شيء يعرفه كل شخص منا بنفسه، تصبح اليوم مستأنساً فرحاً مسروراً، وفي اليوم الثاني تكون بعكس ذلك بدون سبب، لكن هكذا لابد أن الإنسان يركب طبقاً.

كذلك في أحوال الأمكنة: ينزل الإنسان هذا اليوم منزلاً، وفي اليوم الثاني منزلاً آخر، وثالثاً ورابعاً إلى أن تنتهي به المنازل في الآخرة، ومن قبل الآخرة في القبور، وهي منازل مؤقتة، القبور ليست هي آخر المنازل؛ بل هي مرحلة.

وسمع أعرابي رجلاً يقرأ قول الله تعالى: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ [التكاثر:1-2] فقال الأعرابي: والله ما الزائر بمقيم، إن الأعرابي بفطرته عرف أن وراء هذه القبور شيئاً يكون المصير إليه؛ لأننا نعرف أن الزائر يزور ثم يرتحل.

وبهذا نعرف ما نقرأه في الجرائد: (فلان توفي ثم نقلوه إلى مثواه الأخير) أن هذه الكلمة خطأ كبير، ومدلولها كفر بالله عز وجل وكفر باليوم الآخر؛ لأنك إذا جعلت القبر هو المثوى الأخير؛ فهذا يعني أنه ليس بعده شيء، وهذا كفر بالبعث.

الذي يرى أن القبر هو المثوى الأخير وليس بعده مثوى؛ فهو كافر، والمثوى الأخير إما جنة وإما نار.

أحوال الأبدان: الأبدان يركب الإنسان فيها طبقاً عن طبق، واستمع إلى قول الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54].

أول ما يخلق الإنسان يكون طفلاً صغيراً، يمكن أن تجمع يديه أو رجليه بيد واحدة منك وتحمله بهذه اليد، يكون كائناً ضعيفاً، ثم لا يزال يقوى رويداً رويداً حتى يكون شاباً جلداً قوياً، ثم إذا استكمل القوة عاد فرجع إلى الضعف مرة ثانية، وقد شبه بعض العلماء حال البدن بحال القمر، يبدو هلالاً ضعيفاً، ثم يكبر شيئاً فشيئاً حتى يمتلئ نوراً، ثم يعود ينقص شيئاً فشيئاً حتى يضمحل، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة، نعم هذه حال الأبدان.

أما أحوال القلوب وما أدراك ما أحوال القلوب! أحوال القلوب هي البلية.. هي المصيبة.. هي النعمة.. هي النقمة، كل قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فإن شاء أزاغها، وإن شاء هداها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث قال: (اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك).

القلوب لها أحوال عجيبة، تارة يتعلق القلب بالدنيا، وتارة يتعلق بشيء من الدنيا كالمال، فيكون المال أكبر همه، وتارة يتعلق بالنساء، وتكون النساء أكبر همه، وتارة بالقصور والمنازل، ويكون ذلك أكبر همه، وتارة يتعلق بالمركوبات والسيارات، ويكون ذلك أكبر همه، وتارة يكون مع الله عز وجل، دائماً يتعلق بالله سبحانه وتعالى، ويرى أن الدنيا كلها وسيلة إلى عبادة الله، وإلى طاعة الله؛ فيستخدم الدنيا؛ لأنها خُلقت له، ولا يجعل الدنيا تستخدمه، فانظروا -يا إخواني- أصحاب الدنيا هل تظنون أن الدنيا تخدمهم أم يخدمونها؟

هم الذين يخدمونها، هم الذين أتعبوا أنفسهم في تحصيلها، لكن أصحاب الآخرة هم الذين استخدموا الدنيا وخدمتهم الدنيا، ولذلك لا يأخذونها إلا عن طريق رضى الله، ولا ينفقونها إلا في رضى الله عز وجل، فاستخدموها أخذاً وصرفاً، لكن أصحاب الدنيا الذين تعبوا بها سهروا الليالي يراجعون الدفاتر، ويراجعون الشيكات، ويراجعون المصروفات، ويراجعون المدفوعات، ويراجعون ما أخذوا وما صرفوا.. هؤلاء في الحقيقة استخدمتهم الدنيا ولم يستخدموها، لكن الرجل المطمئن الذي جعل الله رزقه كفافاً يستغني به عن الناس، ولا يشقى به عن طاعة الله، هذا هو الذي خدمته الدنيا.

أحوال القلوب هي أعظم الحالات الأربع، ولهذا يجب علينا جميعاً -وأقول ذلك لنفسي قبلكم- أن نراجع قلوبنا كل ساعة وكل لحظة، أين يعيش القلب؟ بماذا ينشغل؟ لماذا ينصرف عن الله؟ لماذا يلتفت يميناً وشمالاً؟ ولكن نعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وغلب على كثير من الناس حتى إنه ليصرف الإنسان عن صلاته، التي هي رأس ماله بعد الشهادتين، فتجده إذا دخل في صلاته ذهب قلبه يميناً وشمالاً، حتى يخرج من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، والناس يصيحون يقولون: صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، أين وعد الله؟ حينها يقال: يا أخي! هل صلاتك صلاة؟ إذا كنت من حين تكبر تفتح لك أبواب هواجس لا نهاية لها، فهل أنت مصلٍّ؟ صليت بجسدك لكن لم تصل بقلبك، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل لينصرف من صلاته وما كتب له إلا عُشر صلاته، تسعها، ثمنها، سبعها، سدسها، خمسها، ربعها، ثلثها، نصفها) حسب ما يعقل منها، إذن فالقلوب تركب طبقاً عن طبق.

تفسير قوله تعالى: (فما لهم لا يؤمنون)

تفسير قوله تعالى: (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون)

قال تعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ [الانشقاق:21] أي: لا يخضعون لله عز وجل، فالسجود هنا بمعنى الخضوع لله، وإن لم تسجد على الأرض؛ لكن يسجد قلبك لله ذلاً وخضوعاً إذا سمعت آياته، وجرب نفسك -يا أخي- إذا تُلي عليك القرآن هل قلبك يسجد ويلين ويذل؟ إن كان الأمر كذلك فأنت من المؤمنين الذين إذا تليت عليهم آيات ربهم زادتهم إيماناً، وإن لم يكن قلبك كذلك ففيك شبه من المشركين الذين إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون.

ومن علامات الخضوع لله عز وجل عند قراءة القرآن: أن الإنسان إذا قرأ آية فيها سجدة سجد لله ذلاً وخضوعاً، وقد استدل بعض العلماء بهذه الآية على وجوب السجود -أي: سجود التلاوة- وقالوا: إن الإنسان إذا مر بآية سجدة ولم يسجد كان آثماً، والصحيح أنها ليست بواجبة وإن كان هذا القول -أعني: القول بالوجوب- هو مذهب أبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لكن هذا قول مرجوح.

وذلك أنه ثبت في الصحيح أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يوماً فقرأ سورة النحل فلما وصل إلى آية السجدة نزل من المنبر فسجد ثم قرأها من الجمعة الثانية فمر بها ولم يسجد، فقال رضي الله عنه: [إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء] وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد، وسنته رضي الله عنه من السنن التي أُمرنا باتباعها، وعلى هذا فالقول الراجح أن سجود التلاوة ليس بواجب لكنه سنة مؤكدة.

فإذا مررت بآية فاسجد في أي وقت كنت، في الصباح، أو في المساء، أو في الليل، أو في النهار، تكبر عند السجود وإذا رفعت فلا تكبر ولا تسلم، هذا إذا سجدت خارج الصلاة، أما إذا سجدت في الصلاة فلا بد أن تكبر إذا سجدت، وأن تكبر إذا نهضت؛ لأنها لما كانت في الصلاة كان لها حكم سجود الصلاة.

قال الله تعالى: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ * وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ [الانشقاق:22-23] ونقتصر على هذا؛ لأن الوقت الباقي نجعله للأسئلة وبقية السورة فإننا نتركها للجلسة القادمة، إن شاء الله.

انتهينا في اللقاء السابق إلى قول الله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ [الانشقاق:16-19] هذه الجملة مكونة من قسم ومقسم به ومقسم عليه ومُقسِم.

فالقسم في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الانشقاق:16] قد يظن الظان أن معنى (لا أقسم) نفي، وليس كذلك؛ بل هو إثبات و(لا) هنا جيء بها للتنبيه ولو حذفت في غير القرآن لاستقام الكلام، ولها نظائر مثل قوله: لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1].. لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1].. فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ [المعارج:40].. فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ [الحاقة:38] وكلها يقول العلماء: إن (لا) فيها للتنبيه، وأن القسم مثبت.

أما المُقسِم فهو الله عز وجل، وأما المُقسَم به في الآية فهو الشفق وما عُطف عليه، فإن قال قائل: لماذا يقسم الله على خبره وهو سبحانه الصادق بلا قسم؟ وكذلك يقسم النبي صلى الله عليه وسلم على خبره وهو صادق بلا قسم؟ قلنا: إن القسم يؤكد الكلام، والقرآن نزل باللسان العربي.

وإذا كان من عادة العرب أنهم يؤكدون الكلام بالقسم، صار هذا الأسلوب جارياً على لسانهم.

وقوله: (بالشفق) الشفق هو: الحمرة التي تكون بعد غروب الشمس وإذا غابت هذه الحمرة خرج وقت المغرب ودخل وقت العشاء، هذا قول أكثر العلماء، وبعضهم قال: إذا غاب البياض -وهو يغيب بعد الحمرة بنحو نصف ساعة- لكن الذي عليه الجمهور ويقال: إن أبا حنيفة رحمه الله رجع إليه هو أن الشفق هو الحمرة، وإذا غاب هذا الشفق فإنه يدخل وقت العشاء ويخرج وقت المغرب.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3400 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3358 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3321 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3300 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3283 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3262 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3121 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3096 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3044 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3039 استماع