شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 9-ب


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

تخريج الحديث وكلام أهل العلم فيه

ننتقل إلى الحديث الذي بدأنا فيه أيضاً في الأسبوع الماضي، أخرجه أيضاً -مع من ذكرهم المصنف- الطحاوي في شرح معاني الآثار، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأخرجه الطيالسي في مسنده، وأخرجه البيهقي .

فيكون مجموع من ذكر في تخريج الحديث ستة أئمة: النسائي، وأبو داود، والإمام أحمد، والطيالسي، والبيهقي، والطحاوي.

وقال المصنف رحمه الله هاهنا: (وإسناده صحيح). وقال في فتح الباري أيضاً: رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية.

وقبل أن نمضي مع كلمة الإمام الحافظ ابن حجر هاهنا مسألة وهي: هل هناك فرق بين قول الإمام في حديث ما: رجاله ثقات، وبين قوله: إسناده صحيح؟

الأمر الأول: أنه يحتمل أن يكون الحديث شاذاً أو معللاً، ويحتمل أن يكون منقطعاً، يحتمل أن يكون الإسناد منقطعاً، رجاله ثقات لكن لم يرو بعضهم عن بعض؛ ولهذا فقوله هاهنا: إسناده صحيح أقوى من قوله هناك: رجاله ثقات؛ لأن الحكم بصحة الإسناد يعني ثقة الرجال ويعني ثانياً اتصال الإسناد وعدم انقطاعه، فهو يقول في الفتح : رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية.

والذين أعلوا الحديث وعناهم الحافظ بكلمته هذه هم رجلان: الأول البيهقي والثاني ابن حزم، فأما البيهقي فقد أعلَّ الحديث بأنه في معنى المرسل؛ وذلك لأنه عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذه الدعوى مردودة لسببين:

الأول: أن جهالة الصحابي لا تضر، فعلى فرض أنه في معنى المرسل فكأنه في معنى مرسل الصحابي، وقد سبق أن جماهير العلماء على قبول مرسل الصحابي، وإنما الذي حكم العلماء بضعفه هو مرسل التابعي، وسبق الفرق بين مرسل الصحابي ومرسل التابعي .

فقوله: ( عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم )، لا يضر أن لا يكون هذا الصحابي معلوماً بشخصه وعينه.

الوجه الثاني: أن راوي الحديث عن الصحابي وهو حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: ( عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة )، فعرفنا بذلك أن هذا الصحابي هو في منزلة أبي هريرة من حيث الصحبة للنبي، وبذلك فهو صحابي على جميع التعريفات للصحابي، فهو قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به وليس لقاءً عابراً بل لقاءً طويلاً استمر أربع سنين، وقد روى عنه أحاديث، فهو بمنزلة أبي هريرة في طول الصحبة؛ ولذلك فلا يضر ألا نعرف من هو هذا الرجل ما دام قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة ؛ وبذلك زالت دعوى البيهقي في تضعيف الحديث أو إعلاله بالإرسال.

أما ابن حزم رحمه الله فقد ضعف الحديث وقال: إن راوي الحديث عن حميد بن عبد الرحمن الحميري هو داود الأودي فقال ابن حزم : داود هذا هو داود بن يزيد الأودي وهو ضعيف. هكذا قال ابن حزم قال: إن داود هذا هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف.

ويرد عليه: بأن داود ليس ابن يزيد وإنما هو ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، داود بن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد صرح عدد من الأئمة باسمه في الإسناد، فصرح باسمه أبو داود في إسناده، والإمام أحمد والطحاوي، كلهم قالوا: عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل، فبذلك تبين أن داود ثقة وليس بضعيف كما زعم ابن حزم .

وهذا أيضاً يعطينا فائدة في موضوع تخريج الأحاديث: أحياناً الطالب وهو يبحث عن رجل في إسناد الحديث يلتبس عليه هذا الرجل من هو، هل هو فلان أو فلان، فيرجع مثلاً إلى كتاب تقريب التهذيب أو تهذيب التهذيب من كتب الرجال فيجد ربما عشرين أو أكثر من عشرين كلهم يشتركون في الاسم الأول وفي النسب، فيستشكل من هو الرجل الموجود في هذا الإسناد، فلمعرفة الرجل وتحديده طرق كثيرة ليس هذا موضوع ذكرها، ولكن منها:

جمع أسانيد الحديث، لأنك إذا جمعت أسانيد الحديث من جميع المصادر وجدت أن هذا الرجل الذي ذكر اسمه ونسبه ولم يذكر اسم أبيه مثلاً في إسناد الإمام أحمد ذكر اسمه واسم أبيه واسم جده، ونسبه في سند أبي داود فزال عنك الإشكال.

شواهد الحديث

هذا الحديث له شاهد، هذا الحديث كله له شاهد عن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، أو المرأة بفضل الرجل بل يشرعان جميعاً )، وهذا الشاهد يشهد لجميع فقرات الحديث، وقد رواه الدارقطني والطحاوي والبيهقي، وقال الإمام الدارقطني: وهذا موقوف صحيح، يقول: وهذا موقوف صحيح، ما هو الموقوف الصحيح؟ ماذا يعني؟ أي حديث الموقوف الصحيح؟

حديث عبد الله بن سرجس، يقول: موقوف صحيح؛ أي: أنه من قول الصحابي، فكأن الدارقطني رحمه الله يرجح الموقوف على المرفوع ويصحح الموقوف، وهو على كل حال شاهد للحديث الأول.

حكم اغتسال المرأة بفضل الرجل

والحديث فيه عدة فوائد أو أحكام:

الحكم الأول: منع اغتسال المرأة بفضل الرجل، من أين يؤخذ هذا الحكم من الحديث؟

من قوله: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل المرأة بفضل الرجل )، فهذا دليل على منع اغتسال المرأة بفضل الرجل، وانتبهوا للفرق بين المسألتين، الآن الكلام عن اغتسال المرأة بفضل الرجل، الحديث نهى عنه، وقد نقل الإمام النووي الإجماع على جواز اغتسال المرأة بفضل الرجل، يعني: الإجماع على عدم الأخذ بظاهر هذا الحديث، نقل الإجماع على جواز اغتسال المرأة بفضل الرجل.

ولكن هذا الإجماع الذي نقله الإمام النووي فيه نظر، فقد ذكر الإمام الطحاوي في كتابه شرح معاني الآثار عن قوم: أنهم كرهوا أن يغتسل الرجل بفضل المرأة، وأن تغتسل المرأة بفضل الرجل. إذاً فلا إجماع على الجواز المطلق.

وإنما ربما يسلَّم للنووي رحمه الله الإجماع على عدم التحريم؛ لأن الذي نقله الطحاوي هو القول بالكراهة، والله أعلم، فهذا هو الحكم الأول في الحديث، وهو ما يتعلق باغتسال المرأة بفضل الرجل، وسيأتي مزيد كلام عن هذا الحكم في الحكم الذي يليه.

وهو الحكم الثاني: وهو منع اغتسال الرجل بفضل المرأة، من أين نأخذ هذا الحكم: منع اغتسال الرجل بفضل المرأة؟

من قوله صلى الله عليه وسلم: ( وأن يغتسل الرجل بفضل المرأة )، فهذا دليل على منع اغتسال الرجل بفضل المرأة، وهذا الحكم فيه كلام لأهل العلم يحتاج إلى انتباه.

فالحكم الأول سبق أن الأمر فيه ظاهر، وأن النووي نقل الإجماع على الجواز، ويمكن أن يسلَّم نقل الإجماع على عدم التحريم، والله أعلم.

حكم اغتسال الرجل بفضل المرأة

أما الحكم الثاني وهو نقيض الحكم الأول وعكسه: اغتسال الرجل بفضل المرأة، ففيه للعلماء قولان:

الأول: القول بالتحريم، وهذا رأي عدد من الصحابة منهم: عبد الله بن سرجس راوي الحديث، ومنهم الحكم بن عمرو الغفاري، ومنهم جويرية أم المؤمنين، وأم سلمة أم المؤمنين، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه.

بل قال الإمام أحمد رحمه الله: صح عن جمع من الصحابة المنع فيما إذا خلت به، وفي رواية أبي طالب عن الإمام أحمد قال: أكثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، يعني: على ماذا؟ على المنع.

وهو أيضاً مذهب الإمام أحمد في رواية عنه، ومذهب إسحاق بن راهويه أحد فقهاء أهل الحديث، ومذهب الظاهرية.

واختاره من التابعين: الحسن البصري وسعيد بن المسيب.

هؤلاء يقولون بتحريم اغتسال أو وضوء الرجل بفضل المرأة، فما حجتهم في ذلك؟

ما حجتهم على المنع؟

أولاً: حجتهم هذا الحديث وهو حديث رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم.

الدليل الثاني: حديث عبد الله بن سرجس وقد سبق أيضاً.

الدليل الثالث: حديث الحكم بن عمرو الغفاري قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة )، وهذا الحديث رواه الخمسة، وحسنه الترمذي، وصححه ابن ماجه وابن حبان، وضعفه أيضاً عدد من علماء الحديث منهم الإمام البخاري والنووي، ألا وهو حديث الحكم بن عمرو الغفاري قال: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة ).

ما هو الفرق بين حديث الحكم بن عمرو، وبين حديث رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم، وبين حديث عبد الله بن سرجس؟

حديث الحكم لم يذكر إلا منع اغتسال الرجل بفضل المرأة ولم يذكر الأمر الثاني؛ ولذلك خفي هذا الحكم على ابن حزم رحمه الله، فبعد أن قال في المحلى : ويحرم أن يغتسل الرجل أو يتوضأ بفضل المرأة اعتماداً على حديث الحكم بن عمرو الغفاري وحديث عبد الله بن سرجس، دون أن يروي جزءه الثاني، قال: أما اغتسال المرأة بفضل الرجل فلم أقف فيه على حديث فهو جائز، ولو وقفت فيه على حديث يمنعه لقلت بتحريمه أو بمنعه.

فاستدل القائلون بالمنع بحديث: (رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم) وحديث عبد الله بن سرجس وحديث الحكم بن عمرو الغفاري على المنع، وهذا هو الرأي الأول.

أما الرأي الثاني وهو رأي أكثر أهل العلم، فهو رأي المالكية، والشافعية، والأحناف، ورواية في مذهب الإمام أحمد، ويمكن أن ننسبه إلى بعض الصحابة على طريقة بعض العلماء، بعض العلماء إذا روى الصحابي حديثاً يدل على حكم اعتبر أن الصحابي يقول بالحكم الذي تضمنه هذا الحديث، فمثلاً القول بجواز اغتسال الرجل بفضل المرأة -وهو مذهب الجمهور كما سبق- يمكن أن ننسبه إلى ابن عباس وإلى ميمونة رضي الله عنهما لما سيرد في الأحاديث عنهما في هذا الباب.

وأدلة القائلين بالجواز هي ما يلي:

أولاً: ما رواه مسلم وأحمد عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة ).

الدليل الثاني لهم: ما روته ميمونة نفسها رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل غسلها من الجنابة )، والحديث رواه أحمد وابن ماجه.

الدليل الثالث لهم: ما رواه ابن عباس أيضاً قال: ( اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في جفنة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليغتسل منها، فقالت: يا رسول الله! إني كنت جنباً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن الماء لا يجنب )، هذا الحديث مهم في هذا الموضوع، وقد رواه الخمسة والحاكم، وصححه الترمذي، وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يحفظ له علة.

فالحديث الثالث الآن هو حديث ابن عباس في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء لا يجنب )، وقد رواه الخمسة وصححه الترمذي والحاكم. هذه ثلاثة أدلة.

الدليل الرابع: هو ما ثبت من الأحاديث في جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد، وسوف تأتي هذه الأحاديث بعد قليل.

إذاً أمامنا الآن أربعة أدلة للجمهور القائلين بالجواز: حديث ابن عباس في مسلم، وحديث ميمونة في المسند وابن ماجه، وحديث ابن عباس الثاني وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء لا يجنب )، وقد رواه الخمسة، وصححه الترمذي والحاكم .

والدليل الرابع هو ما ثبت من الأحاديث في جواز اغتسال الرجل أو وضوء الرجل والمرأة من إناء واحد وستأتي هذه الأحاديث إن شاء الله بعد قليل، فهذه أربعة أدله للقائلين بالجواز.

كيف يجيب هؤلاء العلماء القائلون بالجواز على أدلة الفريق الأول؟ كيف يجيبون على: ( نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يغتسل الرجل بفضل المرأة )؟ هل يخالفون هذه الأحاديث؟ كلا، إنما يجيبون على هذه الأحاديث بأجوبة، منها الجوابان التاليان:

الجواب الأول: قالوا: إن النهي محمول على الماء المتساقط من أعضائها؛ وذلك لأنه مستعمل، فيقولون: نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال بفضلها، أي: بما تساقط من أعضائها أثناء الوضوء، وليس بالماء الباقي في الإناء بعد انتهاء وضوئها، وهذه طريقة الخطابي : حمل النهي على الماء المتساقط باعتباره مستعملاً.

الطريقة الثانية وهي أقوى من الطريقة الأولى قالوا: أن يحمل النهي على الكراهة، وتحمل الأحاديث الأخرى على بيان الجواز، وبذلك نكون عملنا بكلا النوعين من الأحاديث، فعملنا بأحاديث النهي حيث دلت على كراهة وضوء أو اغتسال الرجل بفضل المرأة، وعملنا أيضاً بأحاديث الجواز حيث دلت على ماذا؟ دلت على الجواز، أو نقول بطريقة ثانية: دلت على أن النهي في الأحاديث الأولى ليس للتحريم وإنما هو للكراهة، فيكون بهذا القول عمل بكلا النوعين من الأحاديث؛ ولذلك كان هذا القول قوياً، وكان هو رأي الجمهور.

حكم اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد يغترفان منه جميعاً

أما المسألة الثالثة في الحديث: فهي أن في الحديث دليلاً على جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد يغترفان منه جميعاً، من أين نأخذ هذا الحكم؟

من قوله: (وليغترفا جميعاً)، ومن قوله أيضاً في الحديث الثاني: (بل يشرعان جميعاً)، فهذا دليل على جواز اغتسال الرجل والمرأة من إناء واحد في آن واحد، وهذا المعنى الذي دل عليه حديث: (رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم)، ودل عليه حديث عبد الله بن سرجس، (بل يشرعان جميعاً) دلت عليه أحاديث أخرى كثيرة إليك بعضها:

فمنها: ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر قال: ( كان الرجال والنساء يتوضئون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعاً )، وهذا دليل قوله: (جميعاً)، الجميع ضد المفترق، هذا دليل على أن الرجال والنساء يتوضئون في آن واحد، في مكان واحد، ومن إناء واحد.

ولابد من وقفة سريعة عند هذا الحديث، فقد يستغل مثل هذا الحديث بعض الذين يريدون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا للدعوى إلى الاختلاط، والاحتجاج بأن هذا الأمر كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلذلك لابد من بيان المقصود في الحديث، فما هو مقصود ابن عمر رضي الله عنه بهذا الخبر؟

قال بعض العلماء: أن المقصود: أن الرجال كانوا يتمون وضوءهم ثم يذهبون ثم يأتي النساء بعدهم.

ولكن رُدَّ بأن قوله: (جميعاً) يدل على الاجتماع وهو ضد الافتراق، فظاهر الحديث أنهم في وقت واحد.

والجواب الثاني وهو قوي: أن يقال: إن المقصود: (الرجال والنساء) يعني: الأزواج مع أزواجهم، أو المحارم مع محارمهم، فهو مثل ما سيأتي من الأحاديث عن عائشة وأم سلمة، في اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه، فمقصود ابن عمر رضي الله عنه أن هذا الأمر عام في بيوتات المسلمين، فكل صحابي قد يتوضأ أو يغتسل مع زوجه من إناء واحد.

وقيل: إن هذا كان قبل أن ينزل الحجاب.

ولكن القول السابق في أن المقصود: المحارم الأزواج مع أزواجهم أقوى؛ لأننا لا نحتاج معه إلى إثبات أن هذا الأمر نسخ، وأنه كان قبل الحجاب، كما أن قوله: (في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم) يدل على استمرار ذلك، وابن عمر روى الحديث فيما يظهر بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الجواب عليه أن يقال: إن مقصود ابن عمر : أي الأزواج مع أزواجهم، وهذا ظاهر كما في الأحاديث الأخرى.

وإلا فمن المعلوم أن المرأة في مجتمع المسلمين في المدينة كانت منعزلة عن الرجال في كل شيء، وكلكم يعرف الحديث الذي رواه البخاري وغيره عن أبي سعيد : ( أن النساء قلن: يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً تحدثنا فيه، فواعدهن يوماً فجاء إليهن وذكرهن وقال: ما منكن من امرأة يموت لها ثلاثة من الولد فتحتسب إلا كانوا لها حجاباً من النار، قالت امرأة: واثنان يا رسول الله؟ قال: واثنان )، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.

ومن الواضح جداً أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخاطب الرجال غالباً، ولا تجتمع النساء إلا في المناسبات كأيام العيد، ويجلسن منعزلات عن الرجال كما يجلسن منعزلات أيضاً في وقت الصلاة؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها )، ولماذا كان شرها أولها؟

لأنه أقرب إلى الرجال، وكان خيرها آخرها؛ لأنه أبعد عن الرجال وأستر.

فإذا كانت هذه القيود والتحفظات والضوابط يجعلها الإسلام للنساء وهن يؤدين شعيرة من شعائر الدين كالصلاة، مع أمرهن وحثهن على عدم الخروج؛ وإن كان الخروج جائزاً في حقهن للصلاة، فما بالك هل يتصور مع ذلك أنه يتوضأ الرجال والنساء جميعاً؟! هذا ضرب من المحال، لكن لابد من التنبيه؛ لئلا يغتر بذلك أحد أو يسمع احتجاج بعض مرضى القلوب به.

إذاً: حديث ابن عمر : ( كان الرجال والنساء في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضئون جميعاً )، يدل على جواز اغتراف الرجل والمرأة من إناء واحد.. جواز اغتراف الزوج وزوجه من إناء واحد.

والدليل الرابع: هو ما روته أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة )، وهذا الحديث متفق عليه، ومثله روت عائشة رضي الله عنها في المتفق عليه قالت: ( كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة نغترف منه جميعاً -تقول رضي الله عنها- فيبادرني أي: يعاجلها الرسول صلى الله عليه وسلم ويسبقها إلى أخذ الماء -وهذا في رواية البخاري - فأقول: دع لي دع لي ) تستبقي منه شيئاً من الماء لغسلها، وفي رواية النسائي : ( فيبادرني وأبادره، حتى أقول: دع لي دع لي، ويقول صلى الله عليه وسلم: دعي لي دعي لي )، وهذا والله أعلم نوع من الملاطفة بين الزوجين، والتي كان الرسول صلى الله عليه وسلم قدوة للمسلمين فيها، كما هو قدوة لهم في كل شيء، فهذا نوع من تبسُّطه مع أزواجه صلى الله عليه وسلم حتى في مثل هذه الحال.

فهذه الأحاديث كلها تدل على جواز اغتسال أو وضوء الزوج مع زوجه من إناء واحد يغترفان منه جميعاً.

وهذا القول نقل أربعة أئمة الإجماع على جوازه، ومن الطريف أن هؤلاء الأئمة الأربعة الذين نقلوا الإجماع على جوازه يمثلون المذاهب الأربعة، فكل واحد منهم من مذهب، فقد نقل الإجماع القرطبي وهو مالكي، ونقل الإجماع الطحاوي وهو حنفي، ونقل الإجماع النووي وهو شافعي، ونقل الإجماع شيخ الإسلام ابن تيمية وهو حنبلي، فنقل هؤلاء الأئمة الأربعة الإجماع، وان كان قد يعكِّر على نقل هذا الإجماع ما ذكره ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه كره ذلك، وحكاه ابن عبد البر عن قوم لم يسمهم: أنهم كرهوا ذلك، وهذا قد لا يعكِّر في الإجماع بالضرورة؛ لأن الكراهة لا تنافي الجواز، حتى القول بالكراهة بعيد جداً مع توافر النصوص الكثيرة على فعل النبي صلى الله عليه وسلم له، وفعل الصحابة، وعدم وجود نص يدل على الكراهة، اللهم إلا أن يكون من ذهب إلى الكراهة أخذها من الأحاديث السابقة في نهي الرجل أن يغتسل بفضل المرأة؛ لأنهم قد يعتبرون أن الماء الذي شرعت المرأة في الوضوء منه أو الغسل قد يعتبرونه فضلاً لها فيشملونه بالحكم السابق، ولكن كما سبق نقل أربعة من الأئمة الإجماع على الجواز، ولا شك أن هذا الأمر جائز بلا كراهة.

حكم فضل وضوء المرأة

المسألة الرابعة التي تؤخذ من الحديث: هي حكم فضل وضوء المرأة، وهذا صورة من صور مسألة قد سبقت معنا، فما حكم فضل وضوء المرأة، الماء الذي فضل في الإناء بعد وضوئها أو غسلها ما حكمه؟

القول الأول: أنه طهور؛ وذلك لأدلة، منها ما سبق من اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بفضل ميمونة، وبفضل بعض أزواجه في حديث ابن عباس، وفي حديث ميمونة نفسها.

ومن الأدلة على أنه طهور: قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس : ( إن الماء لا يجنب )، جواباً لها حين قالت رضي الله عنها: (إني كنت جنباً)؛ ولذلك فهذا التعليل: بأن الماء لا يجنب، يدفع قول من قال بالخصوصية؛ لأن بعض العلماء قالوا: إن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم خاص به فلا ينافي أمره العام للأمة، فنقول: إن قوله عليه الصلاة والسلام: ( إن الماء لا يجنب ) خرج مخرج التعليل، والتعليل يدل على عموم الحكم للرسول عليه الصلاة والسلام ولغيره من الأمة، وهو دليل على أن الماء الباقي بعد وضوئها أو غسلها طهور، وأيضاً مما يدل على ذلك ما سبق في بحث أقسام المياه، وأن الأصل في الماء هو الطهورية، وأن الماء لا ينقل عن الطهورية إلا بدليل، وأن القول الراجح أنه لا ينتقل عن الطهورية إلا إلى النجاسة.

فهذه خمسة أدلة تقريباً تدل على أن الماء الباقي بعد المرأة طهور:

منها: قوله: ( إن الماء لا يجنب ).

ومنها: وضوءه صلى الله عليه وسلم بفضل ميمونة في حديث ميمونة، وفي حديث ابن عباس، هذه ثلاثة.

الرابع: ما سبق من أن الأصل في المياه الطهورية، وأنها لا تنقل عن الطهورية إلا بدليل، ولا يوجد دليل ينقلها عن الطهورية الآن.

الخامس: ما سبق من أن الراجح أن الماء لا ينتقل عن الطهورية إلا إلى النجاسة، ومن المعلوم أن الماء هاهنا ليس بنجس، وإنما هو متردد بين الطهورية أو بين الطهارة.

القول الثاني: أن الماء الباقي بعد فضل المرأة طاهر وليس بطهور.

والحقيقة هذا القول لا يمكن أن ننسبه إلى كل الذين قسموا الماء إلى ثلاثة أقسام، بل إن غالبهم يعتبرونه طهوراً حتى ممن يقسمون الماء إلى ثلاثة أقسام، وإنما القول بأنه طاهر رواية ضعيفة في مذهب الإمام أحمد، والرواية القوية عنه رضي الله عنه أنه طهور كسائر قول الجمهور.

لماذا يقول أكثر أهل العلم حتى ممن يقسمون الماء إلى ثلاثة أقسام لماذا يقولون: إن الباقي بعد المرأة طهور؟ غير الأدلة السابقة، لماذا يعتبرونه طهوراً؟

المقصود أنهم يمنعون اغتسال الرجل فيه، وهو غير مستعمل الآن، هو ماء باق في الإناء بعدما توضأت المرأة أو اغتسلت، فهذا الماء الباقي غير مستعمل، فهم يقولون بمنع اغتسال أو وضوء الرجل فيه، لكن هل يقولون بمنع وضوء المرأة فيه؟ لا، هل يقولون بمنع وضوء الخنثى مثلاً؟ لا، هل يقولون بمنع وضوء الصبي فيه؟ أيضاً غالبهم لا يقولون بذلك، فدل هذا على أنهم يمنعون الرجل أن يتوضأ فيه للنص، وإلا فالماء باق على طهوريته، حتى عند من يقسمون الماء إلى ثلاثة أقسام.

ولذلك مثلاً في المذهب لما ذكر أقسام الطهور ذكر منها ماذا؟ الطهور اليسير الذي خلت به امرأة، فقال كما درستم في زاد المستقنع : ولا يرفع حدث رجل طهور يسير خلت به امرأة لطهارة كاملة عن حدث، فوضعوا هذه الشروط، ثم إذا توفرت هذه الشروط: أن خلت به امرأة، وهو يسير، ولطهارة كاملة عن حدث، قال: لا يرفع حدث الرجل، لكن مفهوم العبارة: أنه يرفع حدث المرأة مثلها، ويرفع حدث الخنثى، ويرفع حدث الصبي؛ ولذلك قال أكثر العلماء حتى ممن يقسمون الماء إلى ثلاثة أقسام: بأن الماء الذي فضل بعد وضوء المرأة أو غسلها طهور.

هذه أهم المسائل الموجودة في هذا الحديث، وممكن ننتقل للحديث الذي بعده. كم بقي؟

مداخلة: ...

الشيخ: خمس دقائق. طيب نقف إذاً، وإن شاء الله في الأسبوع بعد القادم نحفظ الحديث العاشر والحادي عشر والثاني عشر؛ وذلك لأن الحديث العاشر والحادي عشر مر شرحهما الآن، أما الحديث الثاني عشر وهو حديث ولوغ الكلب فسيكون هو موضوع الحلقة أو الدرس بعد القادم، أما في الأسبوع القادم فليس هناك درس؛ وذلك لأنني مضطر إلى أن أسافر إلى الرياض، فأرجو منكم أن تعذروني، وأسأل الله أن نلتقي بكم في الأسبوع الذي يليه.

ننتقل إلى الحديث الذي بدأنا فيه أيضاً في الأسبوع الماضي، أخرجه أيضاً -مع من ذكرهم المصنف- الطحاوي في شرح معاني الآثار، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأخرجه الطيالسي في مسنده، وأخرجه البيهقي .

فيكون مجموع من ذكر في تخريج الحديث ستة أئمة: النسائي، وأبو داود، والإمام أحمد، والطيالسي، والبيهقي، والطحاوي.

وقال المصنف رحمه الله هاهنا: (وإسناده صحيح). وقال في فتح الباري أيضاً: رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية.

وقبل أن نمضي مع كلمة الإمام الحافظ ابن حجر هاهنا مسألة وهي: هل هناك فرق بين قول الإمام في حديث ما: رجاله ثقات، وبين قوله: إسناده صحيح؟

الأمر الأول: أنه يحتمل أن يكون الحديث شاذاً أو معللاً، ويحتمل أن يكون منقطعاً، يحتمل أن يكون الإسناد منقطعاً، رجاله ثقات لكن لم يرو بعضهم عن بعض؛ ولهذا فقوله هاهنا: إسناده صحيح أقوى من قوله هناك: رجاله ثقات؛ لأن الحكم بصحة الإسناد يعني ثقة الرجال ويعني ثانياً اتصال الإسناد وعدم انقطاعه، فهو يقول في الفتح : رجاله ثقات ولم أقف لمن أعله على حجة قوية.

والذين أعلوا الحديث وعناهم الحافظ بكلمته هذه هم رجلان: الأول البيهقي والثاني ابن حزم، فأما البيهقي فقد أعلَّ الحديث بأنه في معنى المرسل؛ وذلك لأنه عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذه الدعوى مردودة لسببين:

الأول: أن جهالة الصحابي لا تضر، فعلى فرض أنه في معنى المرسل فكأنه في معنى مرسل الصحابي، وقد سبق أن جماهير العلماء على قبول مرسل الصحابي، وإنما الذي حكم العلماء بضعفه هو مرسل التابعي، وسبق الفرق بين مرسل الصحابي ومرسل التابعي .

فقوله: ( عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم )، لا يضر أن لا يكون هذا الصحابي معلوماً بشخصه وعينه.

الوجه الثاني: أن راوي الحديث عن الصحابي وهو حميد بن عبد الرحمن الحميري قال: ( عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة )، فعرفنا بذلك أن هذا الصحابي هو في منزلة أبي هريرة من حيث الصحبة للنبي، وبذلك فهو صحابي على جميع التعريفات للصحابي، فهو قد لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به وليس لقاءً عابراً بل لقاءً طويلاً استمر أربع سنين، وقد روى عنه أحاديث، فهو بمنزلة أبي هريرة في طول الصحبة؛ ولذلك فلا يضر ألا نعرف من هو هذا الرجل ما دام قد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين كما صحبه أبو هريرة ؛ وبذلك زالت دعوى البيهقي في تضعيف الحديث أو إعلاله بالإرسال.

أما ابن حزم رحمه الله فقد ضعف الحديث وقال: إن راوي الحديث عن حميد بن عبد الرحمن الحميري هو داود الأودي فقال ابن حزم : داود هذا هو داود بن يزيد الأودي وهو ضعيف. هكذا قال ابن حزم قال: إن داود هذا هو ابن يزيد الأودي وهو ضعيف.

ويرد عليه: بأن داود ليس ابن يزيد وإنما هو ابن عبد الله الأودي وهو ثقة، داود بن عبد الله الأودي وهو ثقة، وقد صرح عدد من الأئمة باسمه في الإسناد، فصرح باسمه أبو داود في إسناده، والإمام أحمد والطحاوي، كلهم قالوا: عن داود بن عبد الله الأودي عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن رجل، فبذلك تبين أن داود ثقة وليس بضعيف كما زعم ابن حزم .

وهذا أيضاً يعطينا فائدة في موضوع تخريج الأحاديث: أحياناً الطالب وهو يبحث عن رجل في إسناد الحديث يلتبس عليه هذا الرجل من هو، هل هو فلان أو فلان، فيرجع مثلاً إلى كتاب تقريب التهذيب أو تهذيب التهذيب من كتب الرجال فيجد ربما عشرين أو أكثر من عشرين كلهم يشتركون في الاسم الأول وفي النسب، فيستشكل من هو الرجل الموجود في هذا الإسناد، فلمعرفة الرجل وتحديده طرق كثيرة ليس هذا موضوع ذكرها، ولكن منها:

جمع أسانيد الحديث، لأنك إذا جمعت أسانيد الحديث من جميع المصادر وجدت أن هذا الرجل الذي ذكر اسمه ونسبه ولم يذكر اسم أبيه مثلاً في إسناد الإمام أحمد ذكر اسمه واسم أبيه واسم جده، ونسبه في سند أبي داود فزال عنك الإشكال.