تأملات في سور القرآن - الأحزاب


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه، أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

هذه السورة المباركة سورة الأحزاب مدنية باتفاق أهل التفسير، وآياتها ثلاث وسبعون آية، وعدد كلماتها ألف ومائتان وثمانون كلمة، وحروفها خمسة آلاف وسبعمائة وستة وتسعون حرفاً.

وهذه السورة المباركة تكرر فيها النداء لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خمس مرات بلفظ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ[الأحزاب:1]، وهذا من تكريم الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، ففي القرآن ربنا سبحانه ينادي الأنبياء بأسمائهم: يا آدم ، يا إبراهيم ، يا موسى ، يا عيسى ، لكن إذا نادى نبينا عليه الصلاة والسلام فإنه يناديه بوصف النبوة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ[الأحزاب:1]، أو بوصف الرسالة: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ[المائدة:41] أو: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]، يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، حتى إذا خاطب نساءه رضوان الله عليهن يقول لهن: يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ[الأحزاب:30]، فالله عز وجل نادى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم خمس مرات في هذه السورة.

النداء الأول: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً [الأحزاب:1]، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ[الأحزاب:3]، ومعلوم أنه ليس في الدنيا أحد أتقى لله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال عن نفسه: ( والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له )، لكن الله عز وجل يأمره بالثبات على التقوى، كما تقول لإنسان متفوق: لا تكسل! أو لإنسان مجتهد: لا تتراخى، لا تتوانى، أو لإنسان كريم: لا تبخل، فهذا تحصيل حاصل، فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالتقوى، ويأمره بألا يطيع الكافرين والمنافقين، وهو عليه الصلاة والسلام ما أطاع كافراً ولا منافقاً طرفة عين.

ويأمره بأن يتوكل على الله، وهو عليه الصلاة والسلام قد سماه الله: المتوكل، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ( رأيت صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة، عبدي ورسولي محمد، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح، ولن أميته حتى أقيم به الملة العوجاء، وأفتح به أعيناً عمياً، وآذاناً صماً، وقلوباً غلفاً )، هذا هو النداء الأول.

ثم يأتي بعد ذلك الكلام عن اللقطاء، وهم موجودون في كل مجتمع، يوجد من لا يعرف له أب ولا أم، فمثل هذا ينهانا الله عز وجل عن تبنيه، لا نتبناه، ولا نعطيه أسماءنا، لكن نكفله ونرعاه وننسبه إلى أبيه، ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ[الأحزاب:5]، فإذا كنا لا نعلم له أباً، قال الله عز وجل: فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ[الأحزاب:5]، لابد أن نقوم نحوهم بواجب الأخوة من الكفالة والرعاية والعناية، وللأسف قد أخل المسلمون بهذا الواجب العظيم حتى كفل اللقطاء منظمات تنصيرية، تنشئ هؤلاء على عقيدة الثالوث، وهذا لا شك عار وشنار في جبين الأمة كلها.

ثم يأتي النداء الثاني: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً [الأحزاب:28]، فمنصب النبوة منصب جليل، ومنصب عظيم، فيه تكاليف، والنبي عليه الصلاة والسلام لأمته بمنزلة الأب الرحيم، كما قال سبحانه: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ[الأحزاب:6]؛ ولذلك خطب عليه الصلاة والسلام في الناس، فقال:

( أيها الناس! من ترك مالاً فلورثته، ومن ترك ديناً أو ضياعاً فعلي، فأنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ).

والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعيش عيشة الشظف، عيشة القلة، كان يعيش في حجرات كما قال الحسن البصري : دخلتها وأنا غلام فتي، فكنت إذا رفعت يدي نلت سقفها، وإذا مددت رجلي نلت جدارها، ولو اتكأت عليها لسقطت.

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي طاوياً، لا يجد عشاءً، يتقلب على فراشه من شدة الجوع، كانت حياته حياة الزهد والكفاف، وأزواجه -رضوان الله عليهن- كبقية النساء يرغبن في الزينة، ويرغبن في الذهب، ويرغبن في الثياب، وفي الحلي، ويرغبن في أن يتوسعن في العيش، وهذه كلها رغبات مشروعة، لا غبار عليها، خاصة أن بعض زوجاته كن من بنات السادة والتجار وأصحاب الأموال، فـعائشة رضي الله عنها مثلاً أبوها رجل من أثرى أثرياء قريش، الصديق أبو بكر رضي الله عنه، فهؤلاء النسوة يعلمهن الله عز وجل أن البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لابد أن يدفعن ثمنه ولابد أن يكون له مقابل، إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ[الأحزاب:28]، فالتي تريد الدنيا، تريد التوسع تأتي لأمتعها، أي: أعطيها متعة المطلقة، أعطيها مالاً وثياباً وحلياً وأسرحكن سراحاً جميلاً، ويكون الطلاق.

وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً ، والتي تريد الجنة، وتريد رضا الله، عليها أن تصبر على هذا العيش الشديد، حتى يكرمها الله في جنة عرضها السموات والأرض، وقد كانت أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن عند حسن الظن، فما اختارت واحدة منهن الدنيا، كلهن اخترن البقاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على شظف العيش وقلة المتاع.

النداء الثالث: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب:45-46]، كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة، أما محمد عليه الصلاة والسلام فإنه مبعوث إلى الناس كافة؛ للقيام بهذه الوظائف العظيمة: الشهادة على الأمم وعلى النبيين، والتبشير للمؤمنين الطيبين بجنات النعيم، والنذارة للكافرين والمنافقين بدركات الجحيم، والدعوة إلى الله عز وجل ونشر نور الله في هذه الأرض، هذه كلها مهام قام بها نبينا عليه الصلاة والسلام.

ثم جاء النداء الخامس والأخير بذلك الأمر العظيم الذي فيه طهارة المجتمع ونظافة القلوب من دنس الريبة والشهوة: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الأحزاب:59]، فهذه خمسة نداءات موجهة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما المؤمنون فقد وجهت إليهم ستة نداءات، وكان من بينها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ[الأحزاب:53]، الواحد منا لو كان عنده بيت، وهذا البيت فيه أجنحة ومقسم.. جزء لاستقبال الزوار وجزء لإعداد الطعام وجزء للنوم وجزء لكذا، لا يحب أن يأتيه الناس بغير إذن ولا يحب أن يطيلوا عنده المكث، فما بالكم وبيوت النبي صلى الله عليه وسلم كانت حجرات كما قال الحسن البصري : لو رفع يده للمس السقف، وكانت من طين.

هذه حجراته عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك كان بعض المؤمنين الطيبين المتأثرين بأخلاق الجاهلية يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويطيلون المكث عنده وزوجته رضي الله عنها زينب محولة وجهها للجدار؛ لأنه لا يوجد مكان تدخل فيه، حتى إن بعضهم تكلم، وقال: لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات لنكحت بعده عائشة ، فانظروا كم تحمل النبي صلى الله عليه وسلم من الأذى، فنزلت هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ، إناه، أي: نضجه، وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ[الأحزاب:53]، قال الله عز وجل: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً[الأحزاب:53]، أي: أمهات المؤمنين، فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً [الأحزاب:53].

أسأل الله أن يرزقنا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحمد لله رب العالمين.