تأملات في سور القرآن - الأسس المعينة على تدبر القرآن


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

تقدم الكلام عن الأسباب المعينة على تدبر كلام الله عز وجل، وعرفنا بأن من هذه الأسباب: الإكثار من تلاوة القرآن مع الإخلاص، وتخير الأوقات المناسبة، واستكمال الآداب الظاهرة والباطنة، وأن يقرأ الإنسان وهو يعتقد بأن الله عز وجل يخاطبه بهذا الكلام، وأنه معني به ابتداء.

وفي هذا الدرس سأتناول بعض الأسس والضوابط التي تعين على تدبر القرآن:

أول هذه الأسس معرفة لغة العرب وأساليبهم في الكلام، فالإنسان إذا عرف لغة العرب يستطيع أن يستبين معاني الآيات وإلا فلو أن الإنسان ما عرف لغة العرب فإنه لن يستطيع أن يفهم الفرق بين قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ[الفاتحة:5]، وبين قول القائل: نعبد الله، وهناك فرق بين التعبيرين.

أو مثلاً لو قرأ في سورة يس: إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ [يس:14-16]، في الأولى قالوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ ، وهنا قالوا: إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ . ولن يستطيع أن يفهم معنى قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ[الإسراء:29].

لن يستطيع أن يفهم الفرق بين قول العبد الصالح لموسى عليه السلام: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الكهف:78]، ثم قوله في آخر الكلام: ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا[الكهف:82]، فلابد أن تتجه عناية المتدبر للقرآن إلى الاهتمام بلغة العرب، ومعرفة نحوها وصرفها وبيانها وبديعها.

ثانياً: الإحاطة بسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي الترجمان للقرآن؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان خلقه القرآن، ولأنه عليه الصلاة والسلام هو المفسر الأول للقرآن، فلو أن الإنسان أحاط بجملة صالحة من سيرته صلوات ربي وسلامه عليه فإنه يستطيع أن يفهم كثيراً من معاني الآيات.

ثالثاً: مما يعين على التدبر معرفة أسباب النزول، فكثير من آي القرآن مرتبطة بأسباب معينة، فبمعرفة هذه الأسباب يستطيع أن يفهم معاني الآيات، فمثلاً قول الله عز وجل: الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ[النور:26]، فلو أن الإنسان قرأ سبب النزول وأن هذه الآيات نازلة في سياق الحديث عن تبرأة أمنا عائشة رضي الله عنها، فإنه يستطيع أن يفهم معنى هذه الآية ويدرك ما يراد بها.

رابعاً: من الأسباب التي تعين على التدبر: قراءة ما دونه المفسرون الأولون والآخرون، فالإنسان يحاول دائماً أن يطلع على ما دونه أهل التفسير الأقدمون بالأصالة، ثم المعاصرون، وكما تقدم معنا الكلام، قد يفتح الله على بعض المعاصرين بما لم يؤته الأولون؛ لأن القرآن لا تنقضي عجائبه، وكما قال علي رضي الله عنه: إلا فهماً يؤتيه الله رجلاً في كتابه.

خامساً: مما يعين على تدبر القرآن تكرار الآية مرة بعد مرة، وتكرار السورة مرة بعد مرة، فالإنسان أحياناً يستوقفه معنى كأنه ما قرأ هذه الآية قبل يومه قط؛ ولذلك لا نستغرب أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مكث ليلة كاملة يردد قول الله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:118] )، وأن أمنا عائشة رضي الله عنها مكثت ليلة كاملة تردد قول الله تعالى: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27]، تردد هذه الآية مرة بعد مرة، هكذا كانت تصنع رضي الله عنها.

سادساً: مما يعين على التدبر أن يحاول الإنسان ربط آي القرآن بواقعنا، فيقيننا نحن المسلمين أن القرآن ما نزل لزمان دون زمان، ولا لمكان دون مكان.

أخيراً: يحرم أن يقول الإنسان في كتاب الله مالا يعلم؛ لأن هذا من الكذب على الله، ومن الكذب على الله عز وجل أن تقول: الله تعالى يريد من هذه الآية كذا، بمجرد الرأي، وفي الحديث: ( من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ )، ولذلك الإنسان لا يقول في القرآن برأيه، وإنما يستعين بما دونه أهل العلم.

أسأل الله سبحانه أن ينفعني وإياكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.