هذا الحبيب يا محب 51


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فقد انتهى بنا الدرس إلى غزوة بدر، ودرسنا الكثير منها وها نحن في أخرياتها، وكانت غزوة بدر الكبرى قد وقعت في رمضان من السنة الثانية من هجرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكلها عظات وعبر، وفيها من آيات النبوة المحمدية ودلائلها، فهيا بنا نقضي هذه الساعة مع رسولنا صلى الله عليه وسلم.

[صدى هزيمة المشركين في مكة] المشركون هزمهم الله عز وجل؛ إذ مات من صناديدهم سبعون صنديداً، وأسر من رجالاتهم وأطفالهم سبعون أسيراً، فهيا نسمع إلى خبا الهزيمة في مكة عاصمة الكفر يومئذ.

قال: [ودخل مكة أول داخل من المعركة الحسيمان بن عبد الله الخزاعي ] أول من دخل ووصل مكة ليعلن عما تم في المعركة كان المسمى الحسيمان بن عبد الله الخزاعي من قبيلة خزاعة [فسألوه في لهف] ماذا حصل؟ كيف الواقعة؟ [ما وراءك؟ قال: قتل عتبة وشيبة وأبو الحكم وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود ونبيه ومنبه وأبو البختري ، فلما أخذ يعدد أشراف قريش، قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر: والله ما يعقل هذا] أي: كلامه الذي قاله ليس بمعقول ولا مقبول، فكيف يموت هؤلاء كلهم؟! [فاسألوه عني. فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية ؟] حتى يتبينوا هل هو عارف بالمعركة ورجالها أم لا [قال: هو ذاك جالس في الحجر، وقد رأيت أباه وأخاه حين قتلا] فقطع الشك عنهم.

قال: [ولنستمع إلى أبي رافع ] وأبو رافع هذا مولى الحبيب صلى الله عليه وسلم [يحدث بنبأ هزيمة المشركين فيقول: كنت غلاماً للعباس ، وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر] وحقاً أبو لهب ما حضر بدراً [وبعث مكانه العاص بن هشام] ينوب عنه في القتال [فلما جاءه الخبر أقبل يجر رجليه بشر، حتى جلس على طنب حجرة زمزم -أي: طرفها- فبينما هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث قد قدم، فما إن رآه حتى قال له: هلم إلي، لعمري عندك الخبر، فجلس إليه والناس قيام عليه، حتى قال له: يا ابن أخي! أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال: والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا، يقتلوننا كيف شاءوا، ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس، لقد لقينا رجالاً بيضاً على خيل بُلقٍ بين السماء والأرض، والله ما تُليق شيئاً] أي: لا تبقي [ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع : قلت: تلك والله الملائكة، فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة شديدة، وثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض، ثم برك علي يضربني، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة، فأخذته فضربته به ضربة شقت رأسه، وقالت: استضعفته أن غاب عنه سيده؟ فقام مولياً ذليلاً، فوالله ما عاش بعدها إلا سبع ليال فرماه الله بالعدسة] والعدسة قرحة قاتلة [فقتلته. هذه واحدة من صدى الهزيمة ...

وأخرى: وهي أن قريشاً لما فوجئت بالكارثة الشديدة، ناحت نساؤها نوحاً شديداً، ثم رأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذا علموا ذلك شمتوا بهم، فصدر أمر بمنع النياحة] أمر حكومي: ممنوع البكاء [وعدم المطالبة بمفاداة الأسرى] أي: لا تطالبوا بأسراكم [خشية أن يغالي محمد وأصحابه في ثمن الفداء] يعني لا تطالبوا بالفداء واسكتوا، فإنكم إذا طالبتم رفعوا القيمة من الألف إلى العشرين، هذه هي سياستهم.

قال: [ومن غريب ما حصل: أن الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده وهم. زمعة وعقيل والحارث ، فأحب أن يبكي] فما استطاع [وحال دون ذلك قرار المنع الذي صدر عن قريش، فبينما هو كذلك] في ذلك الكرب [إذ سمع نائحة من الليل تنوح] تبكي [فقال لغلام له: اذهب فانظر هل أحل النحب؟] أي: هل أباحوا البكاء فنبكي [أي: هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة -ولده زمعة - فإن جوفي قد احترق، فذهب الغلام وعاد فقال له: إن الباكية امرأة تبكي على بعير لها أضلته] لا إنها تبكي على ميت [فأنشد هو يقول:

أتبكي أن يضل لها بعير ويمنعها من النوم السهود

فلا تبكي على بكر ولكن على بدر تقاصرت الجدود

على بدر سراة بني هصيص ومخزوم ورهط أبي الوليد].

قال: [من أصداء المعركة وآثارها: إن لمعركة بدر أصداءً وآثاراً إنا -وإن كنا قد عايشنا المعركة ورأينا أحداثها داخل الساحة وخارجها- إلا أن لهذه المعركة التاريخية الفاصلة أصداءً وآثاراً ذات مدى قريب أو بعيد، فحسن رؤية ذلك ومشاهدته، وإزاء النقاط السود نذكر ما يمكن ذكره من ذلك: ]

فداء أبي وداعة

قال: [ فداء أبي وداعة : لقد أسر أبو وداعة السهمي فيمن أسر في المعركة، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أو سمع به أنه ضمن الأسرى قال -فداه أبي وأمي-] والحاضرون أجمعون بل والعالم أجمع [( إن له بمكة ابناً كيساً تاجراً ذا مال وكأنكم به وقد جاءكم في طلب فداء أبيه )] قال النبي عنه: إن له ابناً كيساً عنده مال وثروة، فلا تلبثوا أن يأتيكم يطالب بفداء ولده [ولما قالت قريش: لا تعجلوا بفداء أسرائكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه، قال المطلب بن أبي وداعة : صدقتم لا تعجلوا، وانسل هو ليلاً] إلى المدينة [فقدم المدينة ففدى والده بأربعة آلاف درهم، وهكذا يفعل الأكياس البررة بآبائهم، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وكانت آية نبوة].

قصة مفاداة سهيل بن عمرو بعد أسره في بدر

قال: [سهيل بن عمرو ] وهو سفير قريش يوم الحديبية [قدم مكرز بن حفص المدينة في فداء سهيل بن عمرو ] بعد أن أُخذ أسيراً جاء مكرز بن حفص لفدائه [وكان قد أسره مالك بن الدخشم أخو بني سالم بن عوف الأنصاري] وهو من أهل قباء [فلما خاطبهم مكرز في فداء سهيل بن عمرو قالوا له: هات الذي لنا -يريدون من المال- مقابل فداء سهيل. فقال لهم مكرز : اجعلوا رجلي مكان رجله، وخلّوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه] يعني: هو الآن ما عنده شيء، فاربطوني أنا من رجلي مكانه واتركوه هو يعود إلى مكة وسيبعث إليكم بالأموال وإلا فأنا مكانه [فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرز مكانه، وكان سهيل رجلاً أعلم -أي: مشقوق الشفة العليا، وكان خطيباً- فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله! دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو ] حتى لا يفصح بعد ذلك ويخطب [فلا يقدم عليك خطيباً أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا أمثل به؛ فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، وإنه عسى أن يقوم مقاماً لا تذمه عليه )] وكذلك كان، فقد أسلم سهيل رضي الله عنه وأرضاه.

ودعونا نفضح أنفسنا أيها المسلمون! فما زلت أكرر أن العرب في سجونهم يمثلون بالسجناء ويفعلون بهم ما لا يتم -والله- في النار يوم القيامة، وقد صرخنا أربعين سنة فما تغير عندهم شيء، بل يزدادون هبوطاً، وقد جاءنا مرة شخص من بلاد العرب فجلس هنا وقال: انظروا إلى فقد نزعوا أسناني وكسروا ضلوعي!

وأنا لا أعرف كيف أفسر هذه الظاهرة، هل أصبحوا قردة وخنازير؟ والله لا تفعل القردة هذا ببعضها! إلى من نشكو؟ وإلى الآن يمثل بعضهم ببعض؟ والرسول لكسر سن واحدة قال لـعمر : ( لا، أخشى أن يمثل الله بي وإن كنت نبياً )، هل هذا كله سحر اليهود؟! أصبح الناس لا يفكرون ولا يفقهون ولا يفهمون ولا يعرفون، ينكلون بإخوانهم أشد التنكيل ويمثلون بهم تمثيلاً ما عرفته الدنيا. لا إله إلا الله، لولا رحمة الله بهذه الأمة لتهيأت للمسخ كما مسخت أمم قبلها.

قصة مفاداة أبي العاص بن الربيع بعد أسره في بدر

قال: [ أبو العاص بن الربيع : أبو العاص بن الربيع هو ختن النبي صلى الله عليه وسلم] ومعنى ختنه: زوج ابنته [إذ هو زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجه إياها قبل البعثة النبوية برغبة من والدتها خديجة -رضي الله عنهم أجمعين وألحقنا بهم آمين-.

ولما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم آمنت خديجة وكذا بناتها ومنهن زينب ، وبقي أبو العاص على شركه، وخرج مع المشركين إلى بدر، فوقع في الأسر، فبعثت زينب في فدائه بمال] لأن زينب كانت في مكة، فبعثت بمال تفادي به زوجها [وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى بها] أي أن ذلك المال الذي بعثت به كان قلادة من ذهب، هذه القلادة كانت خديجة أدخلت بها زينب على أبي العاص يوم بنى بها، وكأنها تريد أن تذكر أباها بالحادثة.

[فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة] كاد يذوب [وقال: (إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا)] من القائل؟ إنه قائد المعركة، وحاكم البلاد، قال: إن رأيتم أن تردوا عليها مالها فافعلوا، ولم يقل: يجب! أو ردوا عليها!. فأين نحن من هذا؟ أين أخلاقنا وآدابنا ومستوياتنا البشرية الرفيعة؟ إن رسول الله وهو قائد المعركة التي خاضها وانتصر فيها بإذن الله، والحاكم العام والسلطان وقل ما شئت .. وهذا أسيره وزوج ابنته، لم يقل: أطلقوا فلاناً! بل بقي في صهره في الأسر حتى جاء المال الذي يفدى به [فقالوا: نعم يا رسول الله وأطلقوه وردوا عليها الذي لها، وتجلت في هذه آيات الحب الصادق والطاعة الإيمانية، والبشرية المحمدية الطاهرة الرفيعة] الحب الصادق يتجلى في الطاعة الإيمانية، ويبرز هنا أيضاً البشرية المحمدية الطاهرة الرفيعة.

هجرة زينب رضي الله عنها

قال: [هجرة زينب رضي الله عنها] وزينب هي بنت الحبيب صلى الله عليه وسلم، بنت خديجة بنت خويلد ، وهي كذلك زوج أبي العاص رضي الله عنه وأرضاه [لما من النبي صلى الله عليه وسلم على أبي العاص بدون مقابل] بالفداء [كأنه التزم للنبي صلى الله عليه وسلم أن يخلي سبيل زينب لتلتحق بأبيها صلى الله عليه وسلم بالمدينة النبوية. ومن هنا لما وصل أبو العاص بن الربيع إلى مكة] وأطلق سراحه [بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار إلى مكة ليأتيا بـزينب ، وقال لهما: ( كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زينب فتصحباها حتى تأتياني بها )، فخرجا مكانهما وذلك بعد بدر بشهر تقريباً، فلما قدم أبو العاص أمرها باللحوق بأبيها] ذكر موقف الرسول منه وقال: التحقي بأبيك [وبينما زينب تتجهز] تستعد وتتهيأ للسفر [لقيتها هند بنت عتبة ، فقالت لها: يا ابنة محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيكِ؟ فخافتها زينب ]خافت منها [فقالت لها: ما أردت ذلك، فقالت لها: أي ابنة عمي لا تفعلي، إن كانت لكِ حاجة بمتاع مما يرفق بك في سفرك أو بمال تتبلغين به إلى أبيك، فإن عندي حاجتك] الله أكبر! عجيبة هذه المرأة! وهل توجد امرأة من هذا النوع اليوم؟ هذا وهي ما زالت كافرة، تقول لـزينب : اطلبي فقط، تريد أن تساعدها. هذه المرأة تساوي نساء الدنيا كلهم اليوم، ولن تقف امرأة هذا الموقف [فلا تستحي مني، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال] يعني: إذا كان الرجال بينهم عداوات فإن النساء ما من حقهن أن يقع بينهن هذا [قالت زينب : والله ما أراها قالت ذلك إلا تفعل] قالت زينب -في نفسها- والله ما أراها قالت هذا إلا لتفعل [ولكن خفتها فأنكرت أن أكون أريد ذلك] يعني تحققت أن هذا لم يكن إلا وهي تريده، لكن لما خافت أنكرت عليها خروجها. وكذلك أم سلمة -أمكم- خرجت خفية فردت من الطريق، وبقيت بعدها سنة كاملة تبكي طوال النهار في الأبطح وتعود في الليل إلى البيت، وكانوا قد افتكوا منها ولدها كذلك ومزقوه.

قال: [ولما فرغت زينب من جهازها، قدّم لها حموها كنانة بن الربيع بعيراً، فركبته وأخذ هو قوسه وكنانته، ثم خرج بها نهاراً يقود بها وهي في هودج لها على البعير، وسمع بذلك رجال من قريش فلحقوا بها فأدركوها بذي طوى] وهو مكان قريب من مكة [فكان أول من سبق إليها فروَّعها هبار بن الأسود بن المطلب بن أسد إذ أشار إليها بالرمح فخافت فطرحت ما في بطنها، وبرك على الأرض حموها ونثر كنانته، ثم قال لهم: والله لا يدنو مني رجل إلا وضعت فيه سهمي فتراجعوا عنه وانصرفوا، ثم تقدم نحوه أبو سفيان مفاوضاً له فقال له: إنك لم تصب؛ خرجت بالمرأة على رءوس الناس علانية وقد عرفت مصيبتنا ونكبتنا، وما دخل علينا من محمد، فيظن الناس إذا خرجت بابنته علانية على رءوس الناس من بين أظهرنا أن ذلك من ذل أصابنا عن مصيبتنا التي كانت، وأن ذلك منا ضعف ووهن] وأبو سفيان -حقيقة- سياسي رقم واحد!

قال: [ولعمري ما لنا بحبسها عن أبيها من حاجة، وما لنا في ذلك من ثؤرة، ولكن ارجع بالمرأة حتى إذا هدأت الأصوات وتحدث الناس أن قد رددناها فسُلها سراً وألحقها بأبيها، قال: ففعل، فأقامت ليالي حتى هدأت الأصوات خرج بها ليلاً حتى أسلمها إلى زيد بن حارثة وصاحبه فقدما بها على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في قصة هجرة زينب عبرة لأولي الألباب].

إسلام أبي العاص

قال: [إسلام أبي العاص وكيف كان] كيف أسلم زوج زينب ؟

قال:[قبيل فتح مكة خرج أبو العاص بن الربيع بعل زينب بنت رسول لله صلى الله عليه وسلم] وبعل أي: زوج [المهاجرة إلى أبيها بالمدينة، خرج تاجراً إلى الشام] قبل المعركة [وكان رجلاً مأموناً] يضرب به المثل في الأمانة [يأخذ أموال أرباب الأموال ويتجر فيها، وعند رجوعه من الشام اعترضته سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا ما معه من أموال، وهرب فأعجزهم] ما استطاعوا أن يدركوه.

[ووصل المدينة ليلاً مختفياً فدخل على زينب ] امرأته [فاستجار بها فأجارته] قال: أمنيني فقالت: أمنتك. أين اللجوء السياسي؟ لقد عرفه العرب قبل أن تعرفه العجم. سبحان الله! أبو العاص يطلب من امرأة أن تجيره، وإذا أجارته لن يمسه أحد أبداً، ولا ننسى: ( أجرنا من أجرتِ يا أم هاني )، فلما فتح الله تعالى مكة على رسوله والمؤمنين -ولو شاهدتم ذلك المنظر لتقززتم من الصراع والدماء بيننا- بإثني عشر ألف مقاتل تجمعت رجالات قريش وطأطئوا رءوسهم ينتظرون حكم رسول الله فيهم، فنظر إليهم وقال: ( يا معشر قريش! ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء )، لا انتقام ولا سجن ولا غرامة ولا غير ذلك .. وإخواننا أيام الاستعمار ما إن يستقلوا حتى يأخذوا في قتل إخوانهم وذبحهم، يقولون: هذا عميل! هذا صنيع الاستعمار! هذا كذا .. لا إله إلا الله، فأغضبوا الرحمن فسلبهم الخير ومنعهم السعادة، وأصبحوا اليوم يتمنون استعمار الغرب، ولا أن يعيشوا هذه الدويلات الهابطة!!

و أم هاني بنت أبي طالب بنت عم الرسول صلى الله عليه وسلم. كان عفريت من العفاريت ما ترك جريمة إلا فعلها ثم لاذ بجنابها يوم الفتح، فقال: أجيريني يا أم هاني ! فأجارته، فجاء علي يريد أن يقتله فقالت: (لا، لقد أجرته يا ابن أمي)، ثم جاءت تشتكي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن علياً يريد قتل من أجارته فقال لها: ( أجرنا من أجرتِ يا أم هاني ). والآن العرب كلهم لا يجيرون واحداً. لا إله إلا الله. هيا مع صهر الحبيب صلى الله عليه وسلم أبي العاص زوج زينب رضي الله عنهم أجمعين.

قال: [وقد جاء في طلب ماله] جاء المدينة ليطلب المال الذي أخذته السرية؛ لأن مال غيره لا يستطيع أن يصبر عليه، والموقف الأعظم من ذلك أنهم قالوا له: أسلم نرد عليك مالك، فقال: لا. سيقولون: أسلم فقط من أجل المال [فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لصلاة الصبح، وكبر فيها وكبر الناس معه صرخت زينب ] بأعلى صوتها [من صفة النساء: أيها الناس! إني قد أجرت أبا العاص بن الربيع ] أين درست هذه؟ كيف عرفت هذا؟ هي أجارته ولكن ماذا تصنع حتى تحقق هدفها؟ ما كان منها إلا أن تركت الرسول والمؤمنين حتى كبروا لصلاة الصبح فلم يبقى من يرد عليها شيء، فصرخت بأعلى صوتها: إني قد أجرت ابن الربيع فأجيروه. الله أكبر. ما قالت أبي ولا أنا بنت رسول الله ولا هذا زوجي. [( أيها الناس! هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال: أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء من ذلك حتى سمعت ما سمعتم إنه يجير على المسلمين أدناهم )] حتى لا يقال هي مؤامرة من أجل أن يحرر صهره. لا إله إلا الله. أين قرءوا وأين تعلموا؟ والله ما عندنا واحد إلى مائة مما عندهم، فـ(المسلمون سواسية كأسنان المشط يسعى بذمتهم أدناهم )، أين هؤلاء المسلمون اليوم؟ إنهم يأكلون البقلاوة، وتعرفون أسنان المشط ليس فيها طويل وقصير، بل متساوية، ( وهم يد واحدة على من سواهم ). فإذا أجار حلاق أو كناس كافراً يقولون: نعم. هذا حقه، فقد أجاره مسلم.

[ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل على ابنته فقال: ( أي بنية أكرمي مثواه )] أي: مقامه عندكِ، أطعميه وأسقيه وإن كان كافراً [( ولا يخلصن إليكِ؛ فإنكِ لا تحلين له )] أي: لا يصل إليكِ بجماع فإنكِ لا تحلين له. لأنه كافر وهي مؤمنة. الله أكبر! هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه دياره وها نحن في مسجده، ولعل هذا المكان كان بيت زينب .

[ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أفراد السرية] الذين أخذوا أموال أبي العاص [فقال لهم: (إن هذا الرجل منا حيث قد علمتم)] يعني: أجرناه [( وقد أصبتم له مالاً، فإن تحسنوا وتردوا عليه الذي له فإنا نحب ذلك )] رسول الله الحاكم العام يستشير رجاله الذين بعث بهم وجاءوا بهذه الغنيمة ويطلب منهم هذا الطلب. وهذا ما عرفناه نحن أبداً ولا سمعنا به بيننا، فأين آداب النبي محمد صلى الله عليه وسلم؟!

قال: [(وإن أبيتم فهو فيء الله الذي أفاء عليكم)] يعني: إن أحسنتم بها وإلا هذا فيء أفاءه الله عليكم ما نستطيع أن نأخذه [(وأنتم أحق به)] الله أكبر [فما كان منهم إلا أن ردوا عليه كل ماله حتى إن الرجل يأتي بالشنة والآخر يأتي بالشظاظ] والشظاظ: الخشبة الصغيرة، فجاءوا بكل ما أخذوا حتى إن الرجل يأتي بالعود والخيط، ويستطيع أحدهم أن يخبئ شيئاً أو يقول: هذا لا يحتاج إليه أبو العاص ، ولكن ردوا كل شيء أخذوه منه.

قال: [حتى ردوا عليه ماله بأسره، فاحتمله إلى مكة ورده إلى أهله] أما نحن فيشترك معك أحدهم: يقول لك: بدل ما تحط فلوسك في البنك نعملها بها تجارة أحسن، ثم يأخذ الفلوس ويضحك عليك ويقول: والله ما استفدنا شيئاً.

أتدرون لماذا شاع الربا؟ والله بذنوبنا، خنا الأمانات وما أصبحنا أهلاً للأمن والأمان والثقة والصدق والوفاء، فعاقبنا الله بأخذ الربا، ومن شك في ذلك خلا بشخص في قريته أو مدينته وقال له: عندنا قليلاً من المال نريد أن نتجر به ونربح أحسن من أن يبقى عندنا، ثم يعطيه له ويسكت عنه، وبعد سنتين أو ثلاثة يسأله: هل هناك شيء؟ واسمع ماذا يقول، سيقول: ما بقي شيء!!

أعوذ بالله منا! هبطنا. ما سر هبوطنا؟ إنه البعد عن الله، حُرمنا كتاب الله وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ربطونا بالملاهي والمقاهي والألاعيب والأباطيل، أنسونا ذكر الله فكيف ترجو منا أن نصدق أو نفي أو نتكرم أو نتفضل ونحسن؟ كيف يأتي هذا من أمة ماتت؟ ولا ينفع البكاء! ستقولون: دُلنا على الطريق، أليس هو الجهاد؟! آه لهمِّكم وكربكم تحبون الموت، تقولون: هذه الدول كافرة نقتلها ونتخلص منها وندخل الإسلام، والله لا ينفعنا هذا، أقسم بالله الذي لا إله غيره لا يزيد إلا البلاء بلاءً والدمار دماراً، إذاً: ماذا نصنع؟ هل تريدون المصنع الحقيقي الرباني لتخريج الربانيين؟ ليس هناك -والله- إلا أن نعود إلى ربنا وقد أسلمنا قلوبنا ووجوهنا إليه.

والطريقة هي: أن أهل كل قرية من القرى الإسلامية عربية كانت أو عجمية، يقولون: تبنا إليك ربنا وعدنا، فإذا دقت الساعة السادسة مساءً وقبل غروب الشمس بدقائق تطهروا وحملوا نساءهم وأطفالهم إلى بيت ربهم، فلا يبقى رجل ولا امرأة في تلك القرية قط إلا مريض في مستشفى وممرض واقف عليه، ويدرسون ليلة آية من كتاب الله يتغنون بها ويتلذذون بألفاظها وأنوارها فيحفظونها ويفهمون معناها، وتوضع أيديهم على المطلوب منها فيستعدون للعطاء، وليلة أخرى يدرسون حديثاً، وأهل المدن كذلك، فأهل كل حي أو منطقة في المدينة إذا دقت الساعة السادسة مساءً لا تجد منهم رجلاً ولا امرأة ولا طفلاً في الشارع، فالكل في بيت ربه، يتعلمون ليلة آية وليلة حديث، ثم يصلون العشاء ويعودون والأنوار تغمرهم وآمال الملكوت الأعلى تسيطر عليهم وكلهم حب في الله ولقاه، ويوماً بعد يوم وعاماً بعد عام تصبح تلك الديار كأنها كواكب في السماء، وتطهر طهارة كاملة، فلا يصبح -والله- بخل ولا حسد ولا رياء ولا نفاق ولا خداع ولا غش ولا ولا.. كالملائكة في السماء، وما بذلوا شيئاً لا دماء ولا دينار ولا درهم، ولكن فقط صدقوا الله، وقالوا: آمنا بالله فوقفنا بين يديه ووضعنا أنفسنا له -القلوب والوجوه-.

هذا هو الحل، أما حل القتال والتكفير والجهاد فخرافات وضلالات إبليس، والله لا تجزي ولا تنفع، وإنما تجر البلاء وتقضي على البقية الباقية. هل فهمتم أو صعب؟ أعوذ بالله من أن يكون صعباً! إن اليهود والنصارى إذا كانت الساعة السادسة ذهبوا إلى الملاهي والمراقص والمقاصف بنسائهم وأطفالهم، وأنتم لا تذهبون إلى بيت ربكم تسترحمونه ليخلصكم من محنتكم؟ كيف ستقيمون دولة الإسلام وتعيشون في ظلها وأنتم أطهار أصفياء ويرتعد العالم منكم؟ بلّغوا هذا الكلام، أو أنكم لا تستطيعون؟ لأنا محكوم علينا بالموت والهبوط واللصوق بالأرض، أو تشكون في هذا؟ والله الذي لا إله غيره إني لعلى علم وبصيرة، أيُقبل ناس على ربهم فيطردهم؟ والله ما كان، أقسم بالله ما قرع أحد باب الله إلا قال له: ادخل. وأهل قرية -فقط- يجتمعون ويصبحون كتلة من نور لو كادهم أهل الأرض ما استطاعوا أن ينالوا منهم منالاً.

إعلان أبي العاص بن الربيع عن إسلامه بين قريش

قال: [ثم قال: يا معشر قريش! هل بقي لأحد منكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيراً، فقد وجدناك وفياً كريماً، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والله ما منعني من الإسلام عنده إلا تخوف أني إنما أردت أكل أموالكم، فلما أداها الله إليكم وفرغت منها أسلمت] فلو أسلم في المدينة لقالوا: أسلم من أجل الأموال خلاها عندهم!. قال: خفت من هذا الظن السيئ، فعدت كافراً إليكم وأعطيتكم أموالكم، والآن أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله [ثم خرج حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه زينب بعد فترة فرّق الإسلام فيها بينهما لتقدم إسلامها وتأخر إسلامه].

نكتفي بهذا، وصلى الله على نبينا محمد ..