تفسير سورة الواقعة [6]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

فقد بين ربنا جل جلاله في الآيات السابقات حال أصحاب النار، وأنهم في هم وغم وضيق ونكد، يكابدون طعاماً وشراباً وأحوالاً لا تطاق، نسأل الله السلامة والعافية، فقال جل من قائل: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ * فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ [الواقعة:41-42]، وتقدم معنا الكلام في أن السموم هي: الريح الحارة التي تختنق معها أنفاسهم، وسميت السموم سموماً؛ لأنها تخترق المسام، وتجمع السموم على سمائم، فهم في سموم، وهذه الريح التي تهب عليهم ريح حارة، لا يجدون فيها برداً ولا راحة ولا اطمئناناً ولا استقراراً، بل تزيدهم غماً على غم، فهم يقاسون حر النار، ويقاسون حر تلك الريح التي تهب عليهم.

فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ [الواقعة:42]، والحميم هو: الماء الذي تناهى حره، فإذا شربوه فإنه يتلف ظواهرهم وبواطنهم، كما قال ربنا جل جلاله: يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:20]، وكما قال جل جلاله: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ[الكهف:29]، والمهل: هو الزيت الذي تناهى حره.

وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ [الواقعة:43]، أهل النار عندهم ظل، لكن هذا الظل من لهب مصحوب بدخان أسود، شديد السواد، كما قال جل من قائل: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنْ اللَّهَبِ [المرسلات:30-31].

فالريح التي تهب عليهم لا تريحهم، والظل الذي يجدونه لا يظلهم، ثم بعد ذلك: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ [الزمر:16]، فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:42-44].

جرائم أصحاب الشمال التي استحقوا بها العذاب يوم القيامة

وبين ربنا جل جلاله ثلاثة من أجناس الجرائم الكبار التي وقعوا فيها:

الجرم الأول: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45]، أي: كانوا في الدنيا أهل ترف، وأهل إعراض عن الله عز وجل، لا يخافون من عذابه، ولا يشفقون من الوقوف بين يديه، ولا يفكرون في العرض عليه، بل كما قال ربنا جل جلاله عن من أوتي كتابه وراء ظهره، قال سبحانه: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق:13]، كان في سرور وضحك ولعب، وكانوا يسخرون من المؤمنين؛ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين:29-31]، على عكس المؤمنين الطيبين فإنهم في الجنة يقول بعضهم لبعض: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26]، وقال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]، وهناك قال الله عز وجل: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:19-28]، فأهل الجنة في الدنيا كانوا أهل وجل وخوف وشفقة وإخبات وحزن؛ ولذلك إذا دخلوا الجنة يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34].

وأهل النار كانوا في الدنيا أهل فرح وسرور وإعراض عن الله عز وجل، وسخرية من عباده المؤمنين؛ ولذلك ذكر ربنا جل جلاله هذه الجريمة الأولى من جرائمهم: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45].

‏الجرم الثاني: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46]، الجرم الكبير، ومن جرائمهم أنهم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ[النحل:38]، كانوا يحلفون بأنه لا بعث بعد الموت، وإنما يعيشون ثم يموتون ويهلكون ويبيدون، وأنه لا حياة بعد الموت، ولا بعث ولا لقاء بين يدي الله عز وجل؛ ولذلك فإن أحد الكفار، وهو: العاص بن وائل السهمي لما صنع له خباب بن الأرت رضي الله عنه أسيافاً، ثم جاءه يتقاضاه الثمن، فقال له العاص : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد وإله محمد، فقال له خباب رضي الله عنه: والله لا أفعل حتى تموت ثم تبعث، فقال له الكافر متهكماً مستهزئاً: أو إني لمبعوث؟! قال له: بلى، قال له: فاصبر إلى ذلك اليوم حتى أقضيك الثمن، فوالله ما أنت وصاحبك بخير مقاماً عند الله مني، قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً [مريم:77-80]، لن يأتي معه أولاده ولن يأتي معه أمواله، بل كما قال ربنا: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:94]، قال الله عز وجل: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46].

الجرم الثالث: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:47-48]، كانوا يطرحون هذا السؤال الساذج، الذي يدل على خفة العقول وسفه الأحلام، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة:47]، والله عز وجل في موضع آخر من القرآن قال لهم: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً [الإسراء:50]، يعني: لا تكونون تراباً وعظاماً فقط، بل كونوا حجارة أو كونوا حديداً، أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ[الإسراء:51]، أي: مما ترونه عظيماً، فسيقولون: من الذي يعيدنا؟ قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ[الإسراء:51]، أي: فكروا في الخلق الأول، من أجل أن توقنوا أن الذي قدر على أن يخلقكم أولاً، قادر على أن يعيدكم ثانياً، وهذا الدليل قد تكرر في القرآن مراراً.

قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50]، يخبرهم الله عز وجل بأن الجميع، الأول والآخر، المتقدم والمتأخر، آدم وآخر رجل من بنيه، أو آخر أنثى من بناته، الكل مجموع موقوف بين يدي الله عز وجل؛ ولذلك نقرأ في القرآن: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ[آل عمران:9]، ونقرأ في القرآن القسم: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ[النساء:87]، ونقرأ في القرآن: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ[التغابن:9]، ونقرأ في القرآن: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ [المرسلات:38]، ونقرأ في القرآن: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103]، فالكل سيقفون بين يدي الله عز وجل، ونقرأ في القرآن: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47]، لن يفلت أحد ذلك اليوم، الكل سيقف بين يدي الله عز وجل، والكل سيكلمه ربه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ).

ذكر طعام أصحاب الشمال وشرابهم في النار

قال الله عز وجل: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ [الواقعة:51]، يا من ضللتم عن سواء الصراط! يا من كذبتم بالبعث والنشور! ما أسوأ حالكم! وما أقبح شأنكم! وما أسوأ مصيركم في ذلك اليوم، يا أيها الضالون! يا أيها المكذبون! إنكم لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ [الواقعة:52]، وهو أخبث الشجر وأبشعه وأنتنه وأقبحه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم )، فكيف بمن تكون طعامه!

ولكن أهل النار يتزقمون ذلك الشجر الخبيث؛ لأنهم يعانون جوعاً يقطع أكبادهم ويمزق أمعاءهم، فتارة يأكلون من الزقوم، وتارة يأكلون من الضريع، وتارة يأكلون من الغسلين، ثم بعد ذلك هذا الشجر سيغلي في بطونهم، كما قال ربنا جل جلاله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46]، يغلي في بطونهم فيبحثون عن شراب يطفئ الحر الذي يجدونه، والمغص الذي يعانونه، فينادون أهل الجنة: أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ[الأعراف:50]، يستغيثون من أجل أن يجدوا شيئاً من ماء يطفئون به الحر واللهيب الذي يجدونه في أمعائهم وفي بطونهم.

قال الله عز وجل: فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ[الواقعة:53].

قال الله عز وجل: فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنْ الْحَمِيمِ [الواقعة:54]، يشربون ماءً حاراً قد بلغ الغاية والمنتهى في حرارته.

فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ [الواقعة:55]، أي: شرب الإبل العطاش، أو شرب الإبل التي أصابها مرض فلا ترتوي، لا تزال تشرب وتشرب وتشرب حتى تموت.

هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56]، النزل: ما يكرم به الضيف؛ ولذلك قال ربنا جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [الكهف:107]، لكن هاهنا مستخدم للسخرية، والتبكيت، والتقريع، هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56]، أي: هذا هو الإكرام الذي يقابلون به في النار، وفي آخر السورة سنقرأ قول الله عز وجل: فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [الواقعة:93-94]، مثل ما قال الله عز وجل: بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً [النساء:138]، وقال: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]، والعذاب ليس بشارة، وإنما العذاب خبر يسوء المرء ويحمله على أن يدعو ثبوراً، وأن يصرخ ويولول ويستغيث، لكن الله عز وجل يهزأ منهم ويسخر بهم.

وبين ربنا جل جلاله ثلاثة من أجناس الجرائم الكبار التي وقعوا فيها:

الجرم الأول: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45]، أي: كانوا في الدنيا أهل ترف، وأهل إعراض عن الله عز وجل، لا يخافون من عذابه، ولا يشفقون من الوقوف بين يديه، ولا يفكرون في العرض عليه، بل كما قال ربنا جل جلاله عن من أوتي كتابه وراء ظهره، قال سبحانه: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً [الانشقاق:13]، كان في سرور وضحك ولعب، وكانوا يسخرون من المؤمنين؛ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ انقَلَبُوا فَكِهِينَ [المطففين:29-31]، على عكس المؤمنين الطيبين فإنهم في الجنة يقول بعضهم لبعض: قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ [الطور:26]، وقال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]، وهناك قال الله عز وجل: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:19-28]، فأهل الجنة في الدنيا كانوا أهل وجل وخوف وشفقة وإخبات وحزن؛ ولذلك إذا دخلوا الجنة يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [فاطر:34].

وأهل النار كانوا في الدنيا أهل فرح وسرور وإعراض عن الله عز وجل، وسخرية من عباده المؤمنين؛ ولذلك ذكر ربنا جل جلاله هذه الجريمة الأولى من جرائمهم: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45].

‏الجرم الثاني: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46]، الجرم الكبير، ومن جرائمهم أنهم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ[النحل:38]، كانوا يحلفون بأنه لا بعث بعد الموت، وإنما يعيشون ثم يموتون ويهلكون ويبيدون، وأنه لا حياة بعد الموت، ولا بعث ولا لقاء بين يدي الله عز وجل؛ ولذلك فإن أحد الكفار، وهو: العاص بن وائل السهمي لما صنع له خباب بن الأرت رضي الله عنه أسيافاً، ثم جاءه يتقاضاه الثمن، فقال له العاص : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد وإله محمد، فقال له خباب رضي الله عنه: والله لا أفعل حتى تموت ثم تبعث، فقال له الكافر متهكماً مستهزئاً: أو إني لمبعوث؟! قال له: بلى، قال له: فاصبر إلى ذلك اليوم حتى أقضيك الثمن، فوالله ما أنت وصاحبك بخير مقاماً عند الله مني، قال الله عز وجل: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً [مريم:77-80]، لن يأتي معه أولاده ولن يأتي معه أمواله، بل كما قال ربنا: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ[الأنعام:94]، قال الله عز وجل: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:46].

الجرم الثالث: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوْ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:47-48]، كانوا يطرحون هذا السؤال الساذج، الذي يدل على خفة العقول وسفه الأحلام، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الواقعة:47]، والله عز وجل في موضع آخر من القرآن قال لهم: كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً [الإسراء:50]، يعني: لا تكونون تراباً وعظاماً فقط، بل كونوا حجارة أو كونوا حديداً، أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ[الإسراء:51]، أي: مما ترونه عظيماً، فسيقولون: من الذي يعيدنا؟ قُلْ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ[الإسراء:51]، أي: فكروا في الخلق الأول، من أجل أن توقنوا أن الذي قدر على أن يخلقكم أولاً، قادر على أن يعيدكم ثانياً، وهذا الدليل قد تكرر في القرآن مراراً.

قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة:49-50]، يخبرهم الله عز وجل بأن الجميع، الأول والآخر، المتقدم والمتأخر، آدم وآخر رجل من بنيه، أو آخر أنثى من بناته، الكل مجموع موقوف بين يدي الله عز وجل؛ ولذلك نقرأ في القرآن: رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ[آل عمران:9]، ونقرأ في القرآن القسم: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ[النساء:87]، ونقرأ في القرآن: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ[التغابن:9]، ونقرأ في القرآن: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ [المرسلات:38]، ونقرأ في القرآن: ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود:103]، فالكل سيقفون بين يدي الله عز وجل، ونقرأ في القرآن: وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف:47]، لن يفلت أحد ذلك اليوم، الكل سيقف بين يدي الله عز وجل، والكل سيكلمه ربه، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة ).


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الثالث 2768 استماع
تفسير سورة نوح [3] 2765 استماع
تفسير سورة النور - الآية [31] الرابع 2664 استماع
تفسير سورة النور - الآية [3] الأول 2652 استماع
تفسير سورة النور - قصة الإفك [5] 2534 استماع
تفسير سورة يس [8] 2522 استماع
تفسير سورة يس [4] 2477 استماع
تفسير سورة يس [6] 2467 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [23-26] 2235 استماع
تفسير سورة النور - الآيات [27-29] الرابع 2224 استماع